رد: باب تأليف القرآن أو تأليف القلوب!
أحبك الله عز وجل وبارك فيك وجمعني وإياك على محابه ومراضيه كموطن ينكأ فيه عدو لله أو يعز فيه وليٌ له
وهاك جوابي في إشارات خاطفة:-
-لو كان ثم رجل لم يترك معصية إلا واقعها ثم جاءنا يقول:أنا مستعد لترك تعاطي الدخان, فلا أحد عاقل يقول :لا..
بل نرحب ونشجعه ,فالمقصود إذن شيءٌ آخر
- يقول الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ثم عقب ذلك بقوله: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) وهو مشعر أنه لا يسوغ ترك شيء من الدين بعد هذا الإعلان الإلهي إلا على سبيل الاضطرار,
-إذا تقرر هذا فهناك فرق بيّن بين المسلم الذي نشأ على الإسلام وعرفه ثم نحن نوافقه على ترك شيء مما أمر الله أو ركوب شيء مما نهى عنه على معنى التدرج الإقراري وبين الكافر الذي تدل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتألف بعضهم كما في الحديث الذي ذكرته ورواه الإمام أحمد وقبل منه النبي ألا يصلي سوى صلاتين فهذا لا يقاس عليه المسلم المفرط لأن إقراره على نحو ذلك لا يخلو من تمييع للدين وتبديل للشريعة والترخص بما لم يأذن به الله إذ ليس صاحبه متصفاً بجنس العذر الذي عند الكافر ,ألا ترى أن المسلم يقتل إذا ارتد وليس هذا الحكم للذمي؟
-وهذا الذي قالته أم المؤمنين بتدرج تحريم الخمر لا يعلم أن أحداً من خلفاء الإسلام
فعل نحوه بعد استقرار التنزيل لأن موجب العمل به عدم جلد شارب الخمر مادمنا أقررناه على شربها بحجة التدرج, كما أن الصحابة لم يقرهم الله على شربها بعد نزول النص القاطع"فاجتنبوه" ولا تجوز أحد منهم بهذه الحجة,بل الواقع أن منهم من كان مدمنا عليها إلى وقت نزولها فما هو إلا أن سمعوها حتى أهراقوها ,يدل عليه ما أخرجه ابن جرير الطبري عن بريدة رضي الله عنه, قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ، ونحن نشرب الخمر حلاً إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر ( يا أيها الذي آمنوا الخمر والميسر ... إلى قوله تعالى منتهون) فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً ، وبقي بعض في الإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا ، انتهينا ربنا " وبهذا يُعلم أن العبرة كانت عند ذلك القرن بـ"سمعنا" و"أطعنا" قبل أي اعتبار آخر ,فقد بقوا على شربها حتى نزول الأمر الجلي -على الأقل ثلة منهم وهم أقل درجة في الجملة ممن عفت نفسها عنها بفهمه المغايرة بين السكر والرزق الحسن أو ببيان الإثم الكبير
بخلاف ترك تطبيق بعض الشريعة لعدم القدرة فهذا منحى آخر
-وقال الله عز وجل "وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً"
فتأمل نص هذه الآية القاطع في سلب الخيار عن المتصف بأصل الإيمان..وفي إقراره -وهو ابنٌ للإسلام- منحٌ لبعض الخيرة
-وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"وهذا كالآية في تعليق الأمر على الاستطاعة واستثناء الاضطرار , والمفارقة فيه بين الأمر والنهي ظاهرة
-قال الحافظ ابن رجب: (
والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال مالا طاقة لهم به ، وقد أسقط عنهم كثيراً من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم ، ورحمة لهم ، وأما المناهي ، فلم يعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات ، بل كلفهم تركها على كل حال ، وأن ما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة لا لأجل التلذذ والشهوة ، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد : إن النهي أشد من الأمر.انتهى
-قول الله عز وجل : (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) ومعلوم أن القران نزل منجما مقرونا بحوادث كان ينزل عقيبها كثير من الآيات الموجهة للجماعة التي في طور تلقي الدين, وفي استعمال كلمة "الناس" هنا دون المسلمين أو المؤمنين ,مع كونه دالا على عموم الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام,غير أنه يدل أيضا على ما سلف من التفريق بين الكافر والمؤمن الفاسق
-وفرق بين ترك الإنكار لمعنى التدرج في البيئات التي تفشو فيها الجاهلية وبين إقرار المسلم على تركه بعض الدين بدعوى التدرج فالأول فيه اعتبار مصلحة ظاهرة وهي السكوت عن الإنكار في بعض المواضع توصلا بذلك إلى إقامة الشريعة في نفوس من دانوا بها شيئا فشيئا والثاني يتضمن تبديل الشريعة أو يقتضيها أو يلزم منها والغاية النبيلة لا تسلك في الإسلام بوسيلة فاسدة
وعوداً على سؤالكم:
في مقام الدعوة : يقال له نعم صل وصم.. خيرٌ ,وعسى الله أن يوفقك للتوبة من الخمر لأنها حرام..إلخ
لكنه إن تعاطاها جلدناه
هذه إلماحات عابرة لتوضيح مرادي في المقام الأول وليس هي من قبيل الرد على كلامك فيغلب على ظني أنك توافق في الجملة على ما قلت, والله أعلم