رد: الندوة (22): حكم إجبار البنت على الزواج: دراسة فقهية واقعية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقول : استدل الشافعي رحمه الله على جواز إجبار الصغيرة بالنص والقياس ، أما النص فكما تقدم سابقاً (الأيم أحق بنفسها ، والبكر تُستأذن في نفسها وإذنها صماتها) فقوله (الأيم أحق بنفسها) يدل بمفهومه على أن البكر ليست كذلك وإلا لم يكن معنى لتخصيصها ولا للفرق المذكور إذ الجميع يستأذن والجميع أحق بنفسه ولا ينفذ للولي مع أيهما أمر.
وأيضاً حديث عائشة رضي الله عنها قالت : «نَكَحَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنَةُ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَبَنَى بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ»
فإنها رضي الله عنها لم يكن لها أمر حين تزوجت فهو يدل على المدعى من جهتين :
الأول : أن البكر لا أمر لها ونستصحبه إلى ما بعد بلوغها ، ويوضحه أن البكر إن لم يصح نكاحها حتى تستأمر لوجب أن لا تزوج حتى يكون لها أمر في نفسها كما في المولود يقتل أبوه يحبس قاتله حتى يبلغ ولا يجعل الأمر لوليه كما قاله الشافعي رحمه الله في (اختلاف الحديث) ، فدل رد الأمر فيها إلى وليها وعدم انتظار بلوغها أنها ليست كهو وأن أمرها إلى وليها ، ولا فرق بين ما قبل البلوغ وبعده ، وبخاصة إذا عرفت أنه ربما بلغت بنت تسع ولم تبلغ بنت أربعة عشر ، فكيف تخير الأولى دون الثانية ؟
وقد ذكر ذلك في الأم 6/43-44 ط دار الوفاء بعبارة أوضح فقال : "قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ... «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ نَكَحَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنَةُ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَبَنَى بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ» ... قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَمَّا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْجِهَادَ يَكُونُ عَلَى ابْنِ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فِي الْحُدُودِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْيَتَامَى فَقَالَ {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ إلَّا ابْنَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً أَوْ ابْنَةَ خَمْسَ عَشَرَةَ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ أَوْ الْجَارِيَةَ الْمَحِيضَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُمَا أَمْرٌ فِي أَنْفُسِهِمَا دَلَّ إنْكَاحُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَةَ سِتٍّ وَبِنَاؤُهُ بِهَا ابْنَةَ تِسْعٍ عَلَى أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِالْبِكْرِ مِنْ نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ بِكْرًا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ أَشْبَهَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ عَلَيْهَا حَتَّى تَبْلُغَ فَيَكُونَ ذَلِكَ بِإِذْنِهَا" انتهى. والاعتراض عليه بحديث (والبكر تستأمر) فيه ما تقدم من أن تخصيص الثيب بملكها أمرها ما يدل على أن البكر ليست كذلك ، فيكون استإمارها من باب الاستحباب لما فيه من تطيب خاطرها وما فيه من كونه أوفق لها على حد قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا المخطوبة (فإنه أوفق أن يؤدم بينكما)
والوجه الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها الخيار بعد البلوغ . والله أعلم.
وقال الشافعي رحمه الله : (زَوَّجَ نعيم بن النحام ابنته فكرهت ذلك أمها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "آمروهن في بناتهن" وكانت ابنته بكراً ) قال رحمه الله : (ولا اختلاف أن ليس للأم شيء من إنكاح ابنتها مع أبيها ، ولو كانت منفردة ، ولا من إنكاح نفسها إلا بوليها) انتهى.
وهكذا استدل بقوله سبحانه {وشاورهم في الأمر} وهذان الإستدلالان ـ فيما يظهر ـ ليس في كون البكر لا خيار لها ، بل في أن المشاورة للاستحباب .
لكن مجرد جواز الحمل على استحباب لا يعني أنه في الحديث للاستحباب ، وإنما اشتهد بذلك بعد بيانه لما يقتضي جواز تزويج البكر بغير رضاها ، ثم احتج بالآية وحديث بنت نعيم النحام على أن الأمر هنا محتمل ، وما دام محتملاً فلا يصلح لصرف الدلالة الظاهرة في قوله (الأيم أحق بنفسها) إلا متى بطلت دلالته.
ويدل عليه أيضاً الحديث المتقدم (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلمفقال : يا رسول الله ، عندنا يتيمة قد خطبها رجلان : موسر ومعسر، وهي تهوى المعسر، ونحن نهوى الموسر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم يُر للمتحابيْن مثل النكاح"
فلو كان أمر هذه المذكورة في الحديث إلى نفسها بحيث لا يصح النكاح بغير رضاها لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم "لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح" كبير فائدة ، فسواءً كانا متحابين أو غير متحابين فما دامت لم ترضَ الأول فلا يثبت نكاحه ، فدل على أن نصيحته صلى الله عليه وسلم هنا إرشادية. والله أعلم.
أقول هذا كبداية رجاء أن أجمع شتات أمري.
ولتعذروني على بعض الشدة التي لعلكم قد اعتدتموهما مني فأقول :
بعض الكلام هنا لا ينبغي أن يذكر في مجال يبحث فيه المسلم عن حكم الشريعة ، فإن مصادرها الكتاب والسنة لا الكلام العاطفي ، وفي كلام شيخنا با جنيد القيود التي ربطت بها ولاية الأب في تزويج ابنته البكر بحيث لا تسلب حقها ، وكما قد تحصل تجاوزات في الولايات تحصل بلاوي زرقة في مقابله ، ولا أشك أنكم أو بعضكم على الأقل سمع عن زيجات كان أساسها حب الكليات أخسها أن تتعلق بكر بنصراني يعتقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواه النبوة ، ومن جملتها اختيار البنات باسم الحب لشاب لعل بعضنا لا يحب أن يراه الناس معه فضلاً عن أن يكون من جملة خياراته لكرائمه أو بناته ، ولو كانت من جنس الخيارات المرفوضة. ومع ذلك ـ وبخاصة في مجتمع لا تكاد تجد فيه سلطة للتقاليد أو المجتمع الملتزم ـ ترى كثير من الفتيات يصررن ويهددن بأنها إن لم تتزوج به فعلت كيت وكيت.
وهذه التعللات محلها القصص والمسلسلات ، لا الفقه وطرق استنباطه.
وإذا ابتدأنا بالقول : (بغض النظر عن أقوال الفقهاء) فينبغي أن يكون هذا منتهى النظر ولا يعتني المرء بما تحته.
ونستمحيكم عذراً.
والله جل وعلا أعلم بالصواب.