العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

عبد الحميد عبد الرحمان بوخشبة

التخصص
أصول الفقه
الوظيفة
إمام أستاذ
المدينة
المنيعة
المذهب الفقهي
المالكي
ملخص رسالة الماجستير
إن معرفة مناهج الأئمة وأصولهم لتكتسي أهمية بالغة، ذلك أن الجهل بهذا الأمر يوقع الباحث في اضطراب كبير، وربما وصل الأمر إلى حد الطعن في الأئمة ، وهذا ما يقتضي وجوب تجلية الأصول والقواعد التي بنى عليها الأئمة الأعلام فقههم. وأعتقد أن القواعد المتعلقة بكيفية التعامل مع أخبار الآحاد لتُعدُّ من أهم ما ينبغي بيانه من مناهج الأئمة وقواعدهم.
وفي هذا الإطار يأتي هذا البحث بياناً لمنهج واحد من الأئمة ، وهو الإمام مالك ~، ذلك أنه كان مجتهداً بلا خلاف بين العلماء، وقدره العالي في الفقه والحديث لا يخفى عن العلماء، ومع ذلك فقد خالف طائفةً من الأحاديث، بل إن بعضها مما رواه في موطئه، وهذا مما يقوي في النفس أنه لم يكن جاهلاً- على الأقل- بأغلبها، ولضبط مسار هذا البحث طرحت التساؤلات التالية:
هل مخالفة مالك ~ لتلك الأحاديث كانت عن جهل بها، أو لأصلٍ عنده ومنهج سلكه في استنباطه؟ وإذا كان لأصلٍ عنده، فما هو هذا الأصل؟ وما هي ملامحه وضوابطه؟
وإذا صح الحديث، فهل يجب إلزام المجتهد بالأخذ به اعتماداً على أنه أصلٌ من أصول التشريع؟ أم أن لمدى العمل به كثرة وقلة أثرا في ذلك؟
ثم ما هي أسباب ترك العمل ببعض الأحاديث عند السلف؟ وهل يصحُّ التمسك ببعض الأحاديث نظراً لصحتها حتى ولو كان غالب عمل السلف على خلافها؟
ثم ما مدى شيوع هذا الأصل عند الإمام مالك ~ ؟ وما مدى تطبيقه له في فقهه؟
وهل هذا الأصل هو نفسه عمل أهل المدينة، أو هو غيره؟ وإذا كان غيره، فما علاقته بعمل أهل المدينة؟
وقد وضعت الفرضيات التالية للإجابة عن هذه التساؤلات:
أ‌- أن للإمام مالك ~ منهجا واضحاً في التعامل مع السنة ينبغي الوقوف عليه وبيانه.
ب‌- هذا المنهج يتلخص في كونه يُراعي العمل الأغلبي والمستمر، ولا يلتفت إلى قلائل ما نُقل، ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير.
ت‌- أن قلة العمل ببعض الأحاديث ترجع إلى أحد الأسباب الرئيسة التالية: إما أن يكون بياناً للجواز، أو قضية عينية، أو مقيداً بحال الضرورة، أو هو مما نُسخ وتُرك به العمل جملةً، أو هو مما اختُلفَ في ثبوته أصلاً، أو هو فعل من أفعال الصحابة التي لم يُتابعوا عليها.
ولمعالجة الإشكالية المطروحة قدمت لهذا البحث بمبحث تمهيدي، سميته أسباب ترك العمل بالحديث، وذلك حتى تكون للقارئ نظرة شمولية للموضوع، فيتصور موقع هذا البحث، والمسار الذي يسير فيه، وقد تناولت فيه حيثيتين:
الأولى: ضوابط الأئمة في العمل بالحديث.
والثانية: بيان معنى إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وقد تبين لي من خلال البحث أنه لا أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله  في شيء من سنته صغير أو كبير، لكن لو وُجد شيء من ذلك، فمرده في الأعم الأغلب إلى منهج ذلك الإمام، وكيفية تعامله مع أخبار الآحاد، بل إنه ما من عالم إلا وقد خالف من كتاب الله وسنة رسوله  أدلة كثيرة، ولكن لمعارض راجح عنها عند مخالفتها.
ثم تناولت في الفصل الأول تحديد المصطلحات والمفاهيم، أقصد بذلك المصطلحات الواردة في عنوان البحث، وهي: الترجيح، والسنة، والسلف، والعمل الأغلبي، والمذهب المالكي، وهي مبينة بشكل مفصل في هذا البحث في مواضعها.
ولعل أهم مبحث في هذا الفصل هو المتعلق بالعمل الأغلبي، أي بمفهومه، وتأصيله عند علماء المالكية، وقد تبين لي أن الترجيح بالعمل الأغلبي الذي نتحدث عنه، هو نوعٌ من الترجيح غير ما يذكره الأصوليون في مباحث الترجيح بالأمر الخارج كعمل أهل المدينة أو الخلفاء الأربعة أو عمل أكثر السلف، لأنه وإن كان بخارج أيضاً، إلا أنه يكون عمله عليه الصلاة والسلام وأصحابه معه أو بعده كان على وفق خبر ما في الغالب، ولم يخالفوه إلا لأسباب اقتضت ذلك، وأهم تلك الأسباب التي اقتضت مخالفة النبي  والصحابة معه أو بعده للعمل الغالب هي: كون ذلك العمل القليل كان بياناً للجواز، أو قضية عينية، أو كان في حال الضرورة، أو هو مما نُسخ وتُرك به العمل جملة، أو هو مما اختلف في ثبوته أصلاً، أو لكونه فعلاً من أفعال الصحابة التي لم يتابعوا عليها.
والذي أراه أن هذا النوع من الترجيح هو نوع من أنواع عمل أهل المدينة، ذلك أنه لا ينطبق إلا على المسائل التي خالف فيها العمل أخبار الآحاد التي لم يصحبها عمل كثير، بل لم يُعمل بها إلا قليلاً للأسباب التي ذكرناها، ولهذا كان نوعا من أنواع عمل أهل المدينة، ولم يكن هو عمل أهل المدينة، لاشتمال عمل أهل المدينة على عدة أنواع كما تقرر في البحث.
وعلى هذا فأحد الأسس التي بُنيَ عليها عملُ أهل المدينة هو كونه أكثر عمل النبي  والصحابة وغالب عملهم، ومن هنا فإن مسائل عمل أهل المدينة التي بنيت على هذا الأساس هي التي اصطلحنا على تسميتها بالعمل الأغلبي، وإنها لتمثل جزءاً هاماً من عمل أهل المدينة، فإذا درسناها وفق هذا الأساس أعطتنا تصوُّراً واضحا ودقيقاً لعمل أهل المدينة، كما أنها تفيدنا بشكل ظاهر في معرفة أسباب ترك العمل ببعض الأحاديث عند مالك ~، كما أن له فائدة كبيرة في معرفة منهج مالك ~ في التعامل مع الأخبار، وتقديمه العمل عليها.
وفي الفصل الثاني بحثت تلك الأسباب المذكورة آنفا من الناحية النظرية والناحية التطبيقية أيضا.
فالسبب الأول هو بيان الجواز، والمقصود به أن يواظب النبي  في فعله على وفق حديث ما، ثم يخالفه أحياناً بقول أو عمل ليبين جواز خلافه، أو ينهى عن شيء، ويستمر على ذلك، ثم يخالفه أحياناً بياناً للجواز، أي أن يكون خلافه مكروهاً تنزيها، أو خلاف الأولى، ومثال ذلك تغليس النبي  بصلاة الصبح، فإنه كان مواظبا على ذلك، ولم يخالف في ذلك إلا أحياناً، بيانا لآخر الوقت الاختياري الذي لا يُتعدى.
والسبب الثاني هو ورود ذلك الفعل في قضية عينية خاصة، وقضايا الأعيان المرادُ بها: أن يُنقل حكم النبي  في قضية معينة خاصة بصحابي بعينه، ويقوى جانب التخصيص به لمخالفة ذلك القواعد. والعلماء مختلفون في الاحتجاج بها ما بين مضيق وموسع، ومالك ~ ممن يضيق في الاحتجاج بها ما لم يعضدها دليل آخر، خلافاً للشافعي ~ ومن وافقه. ومثال ذلك أمر النبي  لسليك الغطفاني بأن يركع ركعتين ورسول الله  يخطب على المنبر، فقد عده مالك ~ قضية عينية خاصة بسليك  ، لكونه عملاً قليلاً على خلاف ما عليه غالب العمل إلى عهد مالك ~ .
والسبب الثالث هو حالة الضرورة، والمقصود بها: تلك الأعذار والمشقات اللاحقة بالمكلف من حيث كونها سبباً في التخفيف، حتى جاز له في حالة الاضطرار ما لم يجز له في حالة الاختيار.
وإن الإمام مالكاً ~ يفهم كثيراً من الأحاديث المخالفة للعمل الأغلبي في هذا الإطار، ذلك أنه قد يواظب النبي  على عملٍ ما، ثم يخالفه أحياناً، فيأتي به على غير سنته اضطراراً لا اختياراً، فيفرق مالك ~ بين حالة الاضطرار وحالة الاختيار، فيكون سبب قلة العمل في مثل هذه الأحاديث هو حالة الضرورة التي طرأت على النبي  أو الصحابة ، وعلى هذا يراعى في الأخذ بهذا الحديث الحالة التي ورد فيها، وهي حالة الضرورة، فيتقيد بها.
ومثال ذلك مسح النبي  على العمامة، فإنه ثابت في الأحاديث الصحيحة، لكنه لمخالفته العمل الغالب عند النبي  لم يأخذ به مالك ~ إلا في مثل الحالة التي ورد فيها، وهي حالة الضرورة، خاصة وأنه كان في السفر، وهو مظنة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، ترك كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار.
والسبب الرابع من أسباب قلة العمل ببعض الأحاديث هو النسخ، ذلك أنه من السنن ما عُمل به قليلاً ثم نسخ، فتُرك به العمل جملة، فلا يكون حجةً بإطلاق، فكان الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام، وهو العمل الغالب عند السلف.
وإن النسخ قد يتفاوت في وضوحه، وهذا الضابط مهمٌّ جداً فيما خفي منه، بل إن من أهم أسباب اعتماد مالك ~ على عمل أهل المدينة بوجه عام، والعمل الأغلبي بوجه خاص، هو تحديده لآخر ما تركهم عليه رسول الله  واتصل عملهم به، ولا يمكن أن يتصل العمل عند السلف بخلاف الحديث المرفوع إلا وقد علموا النسخ فيه، وقامت عندهم الحجة بتركه.
وإن الفقهاء قد أعياهم وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله  من منسوخه، إلا أن مالكاً ~ حين أخذ بهذا الأصل الذي ذكرناه انضبط له الناسخ والمنسوخ على يسر.
ومثال ذلك: الصيام عن الميت، فإنه مع ثبوته في الحديث الصحيح، لم يُنقل استمرار عمل به ولا كثرة، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس، وهما أول من خالفاه، مما يدل على ترك العمل بهذا الحديث، وأنه مما عُمل به قليلاً ثم نسخ، فتُرك العمل به جملة.
السبب الخامس هو الاختلاف في صحة الحديث وقلة العمل به، ذلك أن من الأحاديث ما قد حصل الاختلاف فيها تصحيحاً وتضعيفاً، وفي الحقيقة يُعدُّ هذا سبباً كافياً للإمام مالك ~ في ترك العمل بتلك الأحاديث، خاصة وأنه كان شديد التحري فيمن يروي عنهم، فإذا أضيف إلى ذلك قلةُ العمل على وفقها كان هذا أقوى في الدلالة على مرجوحية تلك الأحاديث، والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط ترك ذلك، والعمل على وفق العمل الأغلب.
ومثاله: سجود الشكر، فإنه إن فرضنا ثبوته عن النبي ، فإنه لم يُداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه، والنعم التي اسبغت عليه، فلم يُنقل عنه مواظبة على ذلك، ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة، مثل كعب بن مالك إذ نزلت توبته، فكان العمل على وفقه تركاً للعمل على وفق العامة منهم.
السبب السادس: بعض أفعال الصحابة التي لم يتابعوا عليها، والمقصود به أن يكون العمل القليل رأياً لبعض الصحابة لم يتابع عليه، إذ كان في زمنه  ولم يعلم به، فيجيزه أو يمنعه، لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد.
ومثال ذلك غسل داخل العينين بالماء، فإنه قد ورد ذلك عن ابن عمر { في غسله للجنابة، ومع ذلك فإنه لم يتابعه أحد على هذا الفعل، مما يدل بشكل واضح على مرجوحية الأخذ به.
والحاصل أن أخذ مالك ~ بهذا الأصل الذي بيناه مبنيٌ على شدة تحريه لعمل السلف، وخوفه الشديد من الشذوذ عمن سلف، ويظهر ذلك جلياً في موطئه الذي أراد أن يبين فيه منهجه الفقهي، ومن ثَمَّ كان يورد الأحاديث، ثم يُتبعُ ذلك بالآثار عن الصحابة والتابعين ليُبيِّن كيف كان تلقي السلف الصالح لتلك الأحاديث، وعلى أي وجه كان قبولهم لها، ومن هنا كان يعتمد على العمل العام والكثير على أي وجهٍ كان، ولا يلتفت إلى ما نُقل من أعمال قليلة وأفعال نادرةٍ إذا عارضها الأمر العام والكثير.
موضوع أطروحة الدكتوراه
المقارنة بين المشهور والراجح
المذهب المالكي نموذجا

متابع

المتابِعون

أعلى