العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

محمد إدريس حيدرا

التخصص
مقاصد الشريعة
الوظيفة
أستاذ جامعي
المدينة
باماكو
المذهب الفقهي
المالكي
موضوع أطروحة الدكتوراه
علم المقاصد عند الإمام ولي الله الدهلوي
ملخص أطروحة الدكتوراه
ازدياد العناية بمقاصد الشريعة أمر لا يخفى على أحد من المتابعين المهتمين بالعلوم الشرعية في العصر الراهن، ويظهر للمتتبّع أن بوادر هذه العناية المتزايدة تعود إلى بدايات الصحوة الإسلامية في العصر الحديث بعد أن شهد المسلمون خلال عدّة قرون مختلف أشكال الانحطاط والتقهقر في شتى المجالات، سواء في مشارق الأرض أو مغاربها، وهذا مما يؤكّد لنا أن ازدهار أمر الدّين منوط بالأخذ بالشريعة على ضوء مقاصدها ومراميها.
ومن أجل اعتماد فقه المقاصد وتعزيز مراعاته فقد بُذِلت جهود علمية أكاديمية جبّارة -ولا تزال-، وتصبو هذه الأطروحة إلى الإسهام بلُبينة متواضعة في إقامة صرح فقه المقاصد.

إشكالية البحث وأهميته
تكمن إشكالية هذه الدراسة في الانتداب للإجابة، أو السعي لتقديم بعض عناصر الإجابة، عن مجموعة من التساؤلات العريضة في الدرس المقاصدي المعاصر، ومن أهمّها ما يلي:-
- هل توقّف في الواقع العطاء المقاصديّ الجادّ في فترة ما بين الإمام الشاطبي والعصر الحديث؟
- ما مدى صحّة القول بأن الشاطبي هو المعوَّل عليه في المقاصد بالنسبة لكل من أتى بعده؟
- لماذا لم يحظ الإمام الدِّهلويّ باهتمام ٍكبيرٍ في الدراسات المقاصدية؟
- ما حقيقة ما أسهم به الإمام الدِّهلويّ في مجال المقاصد؟ وما قيمته العلمية؟
- ما هي تأثيرات الفكر المقاصدي للدّهلوي على من بعده؟

وأحسب أن من خلال إثارة هذه التساؤلات -وتساؤلات أخرى مندرجة تحتها- ينكشف مدى أهمية موضوعنا، وتنجلي جدارته واستحقاقه بأن يُصرَف في معالجته جهد أكاديميّ، لاسيّما من حيث تعلّقه بإبراز تراث مقاصدي فريد عاش صاحبه في حقبة كثيرا ما توصَف بأنها عقيمة في تاريخ مقاصد الشريعة.

خطّة البحث
لقد تمّ تصميم البحث في خمسة فصول بين مقدِّمة وخاتمة.
فاحتوت المقدّمة على إبراز أهمية الموضوع وجدارته بالدراسة، والإعراب عن الدوافع الحاملة على اختياره، وكذلك الإشارة إلى الدراسات السابقة فيه، كما تضمّنت بيان المنهجية المتّعبة في معالجة الموضوع، إضافة إلى ذكر الصعوبات التي اعترت سيْر العمل فيه.
أما الفصل الأوّل، فاهتمّ بعرض "لمحة عن عصر الإمام الدِّهلويّ وحياته"، وجاء محتواه في مبحثين:-
فتكفّل المبحث الأوّل بإعطاء نظرة عامّة عن أوضاع العالم الإسلامي في "عصر الإمام الدّهلوي"، إلى جانب حديث موجز عن الظروف السياسية والاجتماعية والدينية بالهند موطن الإمام.
ودار المبحث الثاني حول "حياة الإمام الدِّهلويّ ودعوته الإصلاحية"، حيث تمّ التعرّضّ أوّلا لحياته الشخصية المتمثّلة في اسمه ونسبه، وولادته ونشأته وتعلّمه، وشيوخه وتلاميذه، ووفاته، ثمّ انصبّ الحديث على ما بذله من جهود في إصلاح مجتمعه، إن في المجال السياسي والاجتماعي أو في المجال الديني والثقافي، ثمّ تمّ تقديم رؤية شاملة عما خلّفه من تراث علمي.
وأما الفصل الثاني، فقام بنيانه على مسائل تمهيدية تحت عنوان "مدخل إلى علم مقاصد الشريعة عند الإمام الدِّهلويّ"، وتوزّع مضمونه على مبحثين:-
فاشتمل المبحث الأوّل على "مقدِّمات تمهيدية في مقاصد الشريعة لدى الإمام الدِّهلويّ"، بدءً بالحديث عن مفهوم المقاصد لغةً واصطلاحاً، ثمّ إبرازا لأهمية معرفة مقاصد الشريعة، قبل الوقوف عند بعض المحطّات المهمّة في تاريخ علم المقاصد.
واعتنى المبحث الثاني بدراسة أهمّ المسائل الحائمة حول "تعليل الشريعة بالمصالح لدى الإمام الدِّهلويّ"، انطلاقا من إثبات خضوع الأعمال والأحكام الشرعية للتعليل المصلحيّ، فتعرّضا لمسألة التفريق بين العبادات والمعاملات في التعليل، ثمّ الحديث عن فكرة إنكار التعليل وارتباطها بعلم الكلام، مع بيان بعض تأثيراتها على إمامنا.
وبالنسبة للفصل الثالث، فركّز على فحص "القضايا الأساسية في علم المقاصد لدى الإمام الدِّهلويّ"، والتي تمّ تناولتها في مبحثيْن:-
فتمحور الحديث في المبحث الأول حول "الكليات الكبرى للمقاصد الشرعية"، بدءً بعرض نظرة عامّة عن كليات المقاصد لدى غير الدِّهلويّ من علماء الشريعة، ليتبع ذلك بسط الكلام في بيان القواعد الكلية للمصالح الشرعية عند الإمام الدِّهلويّ.
واختصّ المبحث الثاني بدراسة طرق معرفة مقاصد الشريعة تحت عنوان "كيفية فهم المعاني الشرعية"، وذلك بتقديم خطوط عريضة عن سبل إدراك المقاصد عند غير الدِّهلويّ من علماء الشرع، قبل التصدّي لتوضيح مسالك الكشف عن مقاصد الشرع عند الدِّهلويّ.
وفيما يتعلّق بالفصل الرابع، فتوخّى انتقاء "نماذج من التعليلات والتحليلات المصلحية لدى الإمام الدِّهلويّ"، وكان تصنيفها في ثلاثة مباحث:-
فاحتوى المبحث الأول "مجال المعتقدات"؛ إذ أُورِدت فيه إيراد جملة صالحة من تفسيرات الدّهلوي وتوجيهاته المقاصدية المتعلِّقة بالإيمان، والقرآن الكريم، والنبوّة والرسالة، وكذلك المرتبطة بالإحسان.
واستأثر المبحث الثاني بسوْق مجموعة معتبرة من تحليلاته المصلحية في "مجال العبادات"، خصوصا في أبواب؛ الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ.
واحتضن المبحث الثالث "مجال المعاملات"؛ حيث تمّ فيه ذكر أمثلة من تعليلاته المقاصدية لبعض القضايا المتّصلة بتأسيس الأسرة وتنظيمها، وكذلك لبعض المسائل المتعلّقة بوجوه اكتساب الرزق.
وأما الفصل الخامس والأخير، فأقبل على "تقييم عام لجهود الإمام الدِّهلويّ في علم مقاصد الشريعة"، وورد مضمونه في ثلاثة مباحث:-
فاتّجه المبحث الأول إلى بيان أهمّ ما انجلى للباحث من "إسهامات الدِّهلويّ في بناء علم المقاصد"، وتركّز الحديث فيه على مسألة استقلال علم المقاصد، ثمّ على طريقة الدِّهلويّ في تقعيد كليات المصالح الشرعية، وكذلك على تصنيفه المصالح الشرعية من حيث جهة رجوعها.
وحام المبحث الثاني حول ما لاح للباحث من معالم "استثمار علم المقاصد في إنجاز مشروع الإصلاح" لدى الدِّهلويّ، حيث شهد تجلية بعض آثار علم المقاصد في دعوته إصلاحه، كما تمّ الحديث فيه عن اعتراضه على فكرة انسداد باب الاجتهاد، وعن قيامه بالاجتهاد في مجموعة من المسائل، ثمّ اختتم المبحث بإبراز بعض ما كان يسعى إليه الدِّهلويّ من تقليص هوّة الخلاف وتخفيف حدّته في المسائل الدينية بواسطة الالتفات إلى مقاصد الشريعة، بل اعتمادها في معالجة هذه القضايا.
وأما المبحث الثالث والأخير، فاستأثر ببيان"تأثيرات الدِّهلويّ على من بعده" في علم المقاصد، واشتمل الحديث على بعض من توقّع الباحث استفادتهم من الإمام الدِّهلويّ إلى من تأكّد له تأثّرهم به.
وبالنسبة للخاتمة، فتكفّلت برصد أهمّ النتائج المتوصّل إليها من خلال هذه العمل المتواضع.

نتائج البحث
أما النتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة البسيطة فيمكن استخلاص أهمّها في النقاط التالية:-
• إرجاع عدم تقدير الدِّهلويّ حقّ قدره من قِبَل كثير من الباحثين في مقاصد الشريعة إلى سيْره على نهج مقاصدي غير مألوف لديهم، هذا من جانب، ومن جانب ثان يعود إلى عدم التزامهم بمعيار واضح ومضبوط في تحديد كبار الأعلام المقاصدية، واتّكاء بعض اللاحقين منهم على ما ذكره السابقون دون تبيُّن ولا تحقُّق، وينضاف إلى هذا وذاك امتزاج المنحى المقاصدي لدى الدِّهلويّ بالنزعة الصوفية وتلوّنه بها في منطلقاته ومصطلحاته، وذلك لتفاعله وتأثّره بالبيئة التي عاش فيها.
• البرهنة على بطلان الدعوى العريضة التي يردّدها بعض الباحثين بكل ارتياح، ومن دون تثبُّت ولا تحفّظ، والتي مفادها أن التصنيف الجادّ والتدوين المستقلّ في مقاصد الشريعة قد توقّف بعد الشاطبي إلى أن مجيء ابن عاشور، مع الاعتراف بأن العناية بالمقاصد في التآليف الشرعية قد شهدت على العموم في الفترة المعنيّة نوعا من الفتور والركود.
• إيضاح استفادة الدِّهلويّ في فكره المقاصدي ممن قبله من العلماء، خصوصا منهم أبي حامد الغزالي وعزّ الدِّين بن عبد السلام، مع تقرير أنه استطاع أن يعتصر مما أخذه من المتقدِّمين نظرية مقاصدية متميّزة تنبّئ بعدم اطّلاعه على أبي إسحاق فضلا عن تأثّره به، أعني الإمام الشاطبي الذي عليه التعويل في الدراسات والبحوث المقاصدية المعاصرة.
• بيان أن الدِّهلويّ من أوائل علماء العصر الحديث الذين اعتبروا معرفة مقاصد الشريعة عِلماً مستقلاًّ، وأنه يمكن عدُّه من أقدم المتعرِّيضين لتعريف هذا العِلم، مع توضيح أن دعوة ابن عاشور إلى استخلاص مباحثَ من علم أصول الفقه لتأسيس علم يُسمَّى "علم مقاصد الشريعة" لا تقوى دليلا ولا تصحّ حجّة للحكم بأنه هو أوّل من تحدّث في استقلال علم المقاصد.
• توضيح أن من أجلّ مميّزات الدّهلويّ في علم المقاصد سلوكه لنهج جديد في تأسيس القواعد الكلية التي تدور في فلكها المصالح المرعية في الأحكام الشرعية، وقد ارتأينا تصنيفها إلى نوعيْن:-
أ/ القواعد الكلية التمهيدية، وتحتوي على مباحث:
- التكليف والمجازاة.
- المجازاة دنيوية وأخروية.
- الارتفاقات.
- والسعادة.
ب/ القواعد الكلية الأساسية، وتتمثّل في مبحثيْ:
- البِرّ والإثم.
- والسِّياسات المِلِّية.
• بيان أن مما يستحقّ تقييده في سجلّ إضافاته في علم المقاصد تصنيفُه للمصلحة الشرعية من حيث جهة رجوعها إلى ثلاثة أقسام:-
أ/ ما يعود إلى الأفراد؛ بتربية نفوسهم وتهذيبها.
ب/ ما يؤول إلى المجتمع؛ بتدبير شؤون الناس وانتظام الحياة.
ج/ وما يرجع إلى الشريعة نفسها؛ بإشاعة كلمة الحقّ مع تمكينها وإعلائها.
• الخلوص إلى أن التعرّف على مقاصد الشرع في فكره المقاصديّ يتمّ بشكل إجمالي عبر مسلَكَيْن رئيسَيْن:-
أوّلهما وأهمّهما: صِيَغ النصوص الشرعية.
والآخر: إمعان النظر في موارد تلك النصوص وملابساتها.
• تجلية أن إسهام الدِّهلويّ في علم المقاصد لم يقتصر على مجرّد التنظير الذهني، بل لقد سعى خير سعي لتجسيد أفكاره المقاصدية وترجمتها على أرض الواقع من خلال دعوته الإصلاحية على تعدّد مجالاتها، وتمّ إبراز ذلك في المقامات التالية:-
أ/ تعميم دعوة الإصلاح لمختلف طبقات المجتمع؛ بإيقاف كل شريحة اجتماعية على أمراضها الواقعة أو المتوقّعة، مع اقتراح سبل للعلاج وطرق للوقاية.
ب/ الدفاع عن استمرار الاجتهاد الذي تستلزمه صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؛ وذلك بالإقدام عليه -أي الاجتهاد- في العديد من القضايا، مع الإشارة إلى أن الالتفات إلى المقاصد كان يمثِّل عنصرا أساسيّا في عمله الاجتهاديّ.
ج/ السعي لتقليل الخلاف في مسائل الدِّين؛ حيث كان شديد الحرص على التنقيب عن الأسباب الاختلاف كما كان كثير التأكيد على وجوب نبذ التعصّب والتقليد الأعمى، وذلك لتمييز المقبول من الخلاف من المذموم منه من جهة، ومن جهة أخرى للتقريب بين الآراء والمذاهب.
• عرض بعض مظاهر تأثير تراثه المقاصدي -بشكل مؤكَّد أو محتمل- على عدد من المتأخّرين عنه، وهم؛ محمد صدّيق خان القنوجي، ومحمد عبده، ومحمد الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، وجمال الدّين عطية.

هذا، ولا ندّعي لهذه الأطروحة الكمال ولا التمام، فهي من دون شكّ غير مستوعبة ولا مستوفية للفكر المقاصديّ عند الإمام الدّهلوي، وغاية رجائنا أن تشكّل الدراسة لبنات تحفّز العلماء الأجلاّء والباحثين المهرة إلى استغوار تراث هذا الإمام العبقري، وأن تفتح النتائج المتوصَّل إليها آفاق لمزيد من البحث والفحص والتحليل والتحرير لهذا الكنز المقاصدي النفيس.
أعلى