العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الإجتهاد المقاصدي في عصر التابعين

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
السلام عليكم...

هذا هو المبحث الرابع من مباحث "كتاب الإجتهاد المقاصدي : حجيته وضوابطه" لنور الدين الخادمي ,
وعنوانه : الإجتهاد المقاصدي في عصر التابعين ...
أنقله هنا لأهميته القصوى - من وجهة نظري- إذ إن البحث عن دور المقاصد في الفكر الإجتهادي عند التابعين لازال متخلفا ...
ويبدو لي - والله أعلم- أن البحث فيه بتعمق ضمان لمنع "الإنزلاق" الخطير الذي وصل إليه المسلمون باسم المقاصد ...

***

عصر التابعين امتداد لعصر الصحابة وتواصل له، فقد عايش التابعون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثوا منهم مروياتهم وأقضيتهم وفتاواهم واجتهاداتهم ومسالك استنباطهم، وفهموا تعليلاتهم المقاصدية والمصلحية وغير ذلك، مما أعانهم وساعدهم على مواكبة عصرهم وبيان أحكامه المختلفة (3).‏

وقد كان العمل بالمقاصد الشرعية الأصيلة والاعتداد بها من قبل التابعين، أحد الأمور التي استندوا إليها واعتمدوا عليها في عملية الاجتهاد، ويتمظهر ذلك في الأمور التالية : ‏

‏* وراثتهم لعلم الصحابة وهدي النبوة : ‏

إن القول: بأن التابعين قد ورثوا من الصحابة مسالك استنباطهم ومروياتهم وفتاواهم وأقضيتهم، والتي كان جزء منها مستندا إلى العمل بالمقاصد واعتبار المصالح، إن ذلك القول يفيد بجلاء تام قبول التابعين للمقاصد والمصالح التي عمل بها الصحابة وعولوا عليها، وهو يفيد كذلك استلهامهم للهدي النبوي الذي تناقلوه بواسطة الصحابة، ولجوانبه المقاصدية والمصلحية المعتبرة. ‏

‏* أخذهم بالنص والمصلحة والقياس : ‏

نقل عن التابعين أنهم كانوا يعودون عند عدم النص إلى المصلحة والقياس وغير ذلك من ضروب الرأي وأنواعه، فقد: ( نظروا فيما كانوا يراعونه من مصالح ). (1).‏

وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول: ( إن أحكام الله تعالى لها غايات، هي حكم ومصالح راجعة إلينا ) (2) . ‏

‏* الطابع المقاصدي لمدرستي الحجاز والعراق : ‏

إن كلا من مدرسة الحجاز ومدرسة العراق وغيرهما من المدارس التشريعية التي عرفها عصر التابعين (1)، استند في عملية الاستنباط إلى عدة أمور، منها العمل بالمقاصد، واعتبار المصالح، ونفي المفاسد، ودليل ذلك فيما يلي : ‏

ما نسب إلى المدرستين من أنهما يعتمدان من حيث المبدأ والعموم على الرأي، وإن اختلفا في المقدار والكم (2).. والعمل بالرأي لدى المدرستين، معناه العمل بضروبه ومجالاته والتي منها الأخذ بالمقصد والتعويل عليه. ‏

‏- إن مدرسة الحجاز أو مدرسة الأثر قد انبنت -وفضلا عن القرآن والسنة- على فتاوى واجتهادات عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وقضاة المدينة وغيرهم (3) رضي الله عنهم، وهذا يدل دلالة صريحة وبدهية على أنها تشبعت بنصيب وافر من الحقيقة المقاصدية لتلك النصوص والفتاوى والآثار والاجتهادات، وذلك على مستوى جهتين : ‏

الجهة الأولى: إن استنادها إلى القرآن والسنة دليل على استنادها إلى ما انطوى عليهما من المعلومات والمعطيات المقاصدية المختلفة، على أساس اتصاف كل من القرآن والسنة بالخاصية المقاصدية جملة وتفصيلا، ودعوتهما إلى اعتبار المقاصد الشرعية والتعويل عليهما في بناء الأحكام وتنفيذ الأعمال (1).‏

الجهة الثانية: إن استنادها إلى فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه دليل على تأييدها لخاصية الاجتهاد العمري المرتكز على النظر المصلحي المقاصدي المضبوط (2)، وقد ذكر أن أكثر الرأي في المدينة يطلق على معنى المصلحة بخلاف رأي العراق الذي يعنى بالقياس (3)، كما روي عن أهل المدينة أنهم كانوا يأخذون عند عدم النص بالأقوى والأرجح بحسب موافقة القياس أو تخريج صريح من الكتاب والسنة ونحو ذلك (4) . ‏

والمهم من كل ما ذكر، أن العمل بالرأي والمقاصد لدى مدرسة الحجاز ظل أحد المستندات التي قام عليها الاجتهاد في تلك المدرسة، وإن كان أقل وأدنى مما هو عليه الأمر في مدرسة العراق من حيث الكم والتفريع.. إن مدرسة العراق أو مدرسة الرأي، قد انبنت على الرأي بصورة أكبر مما كان عليه الوضع في المدينة لعدة أسباب، منها: بعدها عن المدينة مهبط الوحي المدني، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومستقر أغلب الصحابة رضي الله عنهم، وبساطة عيشها وسلامة اللسان العربي من الاختلاط والانحراف وغير ذلك، وهذا بخلاف العراق الذي شهدت بيئته ظهور الفرق وحدوث الفتنة، والتزيد في الحديث وضعا وتعسفا، وقلة رواية الحديث بسبب كثرة الاشتغال بالقرآن وشدة الاحتياط في الرواية، واختلاط اللسان العربي بلغات أخرى، وتعقد الحضارة، وطروء المشكلات والحوادث المستجدة، التي تحتم إعمال الرأي واعتبار روح الشرع ومقاصده المعتبرة . ‏

ثم إن اتصاف مدرسة العراق بالرأي لا يعني عدم استنادها إلى الأثر (1)، بل يعني إعمال الرأي المعزز بالأثر الصحيح والمؤيد بتعاليم الكتاب والسنة وفقه السلف، صحابة وتابعين، والمدعم بمراعاة المصالح والأعراف الحسنة . ‏

فقد كان العراقيون إذن يعتبرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى الأمة (2)، وكانوا يستندون إلى فتاوى وأقضية علي بن أبي طالب الذي ازدادت به مدرسة الرأي قوة ومكانة (3)، وعبد الله بن مسعود الذي كان قد نهج نهج عمر ابن الخطاب في الاستنباط بالرأي عند انعدام النص وفيما لم يترجح لديه (1)، والذي كان أحد الأربعة الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم (2)، باعتبار كونه أعلم من غيره بمواضع النزول وملابساته وأسبابه وظروفه، وهذا في حد ذاته يدل على ما نحن بصدده من التأكيد على تشبع مدرسة العراق بالعمل المقاصدي والنظر المصلحي في ضوء تعاليم نصوص الوحي المتلو والمروي. ‏

كما كانوا يستندون إلى قضايا إبراهيم النخعي الذي يعتبر الباعث الأول لمدرسة الرأي في العراق (3) ، والذي كان يقول: ( إن أحكام الله تعالى لها غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا ) (4)، والذي كان تلميذا لعلقمة بن قيس تلميذ عبد الله بن مسعود الملازم له والمتأثر به، لذلك يلاحظ التأثر الواضح للنخعي إزاء ابن مسعود الصاحب البار برسول الله عليه الصلاة والسلام (5) . ‏

ومما قيل في منهج النخعي الاجتهادي: إنه منهج يقوم على عدم الوقوف على ظواهر النصوص، ووجوب إدراك معانيها وبواطنها وعللها، لأن الألفاظ لم توضع إلا للتعبير عن هذه المعاني، فهو يأخذ من النص مبدأ فقهيا يطبق على ما لا يحصى من الحوادث، لا حكما فقهيا يطبق على حادثة معينة، وقد سمي صيرفي الحديث، لما خبره من نفوذ خبرته إلى حقيقة المعدن، ولا يغره الظاهر، ولذلك أيضا كان يحدث بالمعاني، لأن العبرة عنده للمعاني لا للألفاظ والمباني (1).. كما أنه كان يعتد بالاستحسان، وكان واقعيا في اجتهاداته وفتاواه، ومتأثرا تأثرا واضحا لمجالس القضاء التي كان يقيمها شيخه شريح (2)، والتي كان لها التأثير الجلي على منهجه في الاجتهاد وفهم النفوس وخفاياها وما يصلح بها . ‏

كما كان العراقيون يستندون إلى قضايا شريح الذي دعاه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في رسالته الشهيرة إلى وجوب القضاء بما في الكتاب، فإن لم يجد فبما في السنة، وإن لم يجد فبما قضى به الصالحون من قبل، وفي رواية فبما أجمع عليه الناس (3).. وهذا يشير إلى أن قضاء الصالحين من قبل، يقصد به فتاوى وفقه من سبق شريحا من الصحابة الذين شاهدوا الوقائع واجتهدوا فيها وفق النصوص والحمل عليها، وبمقضتى ما اعتبروه من مصالح جلبا ومفاسد دفعا.. ومما يؤيد هذا الأمر، أن الرسالة كانت صادرة من عمر الذي اتسم منهج استنباطه بالفهم العميق للنوازل والمستجدات، وبالنظر المصلحي المقاصدي الأصيل (1)، لا سيما وهو يعلم أن بيئة مثل بيئة العراق في حاجة ملحة لذلك المنهج وقيمته . ‏

‏* اختلاف عصرهم عن عصر الصحابة :‏

إن طبيعة تطور الحياة، واختلاف عصر التابعين عن عصر الصحابة من حيث ظهور الحوادث واختلافها، بموجب اتساع الحضارة الإسلامية والاختلاط مع الحضارات الأخرى، وما يترتب على ذلك من أمور كثيرة لا تقدر ظواهر النصوص والمرويات على معالجتها وبيان طبائعها وأحكامها، إن ذلك كله يحتم العمل بالرأي والأخذ بدور الاجتهاد الشرعي البناء في التعرف على الأحكام الشرعية لتلك الحوادث والنوازل، قال الشيخ علي الخفيف: ( ولقد كان موقفهم من النصوص الموقف السليم الذي يتطلبه العقل الحكيم، فعرفوا أن الأحكام لم تشرع عبثا، وأنها إنما شرعت لعلل ومقاصد يطلب تحقيقها، ولابد من تعرفها... كما كان من نتائجه أن آمنوا بأن الأحكام التي تدل عليها النصوص، عرضة للتغير بمرور الزمن واختلاف البيئة، تبعا لتغير عللها التي أدت إليها، أو لأن المقاصد التي أريدت من شرعها أصبحت لا تتحقق إلا بأحكام أخرى، لتغير الزمن وأحواله، ومن ثم رأينا منهم فهما عميقا للنصوص، وعملا على الإحاطة بمقاصد الشريعة، وقد حفظ لنا الرواة والتاريخ من ذلك أحكاما تتفق مع النصوص في روحها، وتخالفها في ظاهرها ) (1). ‏

‏* اجتهادهم في النوازل:‏

إن كثيرا من الأمثلة الفقهية التي تبناها التابعون، سواء بنقلها عن الصحابة، أو ببيانها من قبلهم، تدل بجلاء تام على اهتمامهم البالغ، وتعويلهم الكبير على المقاصد الشرعية في معالجة النوازل وتأطير الحوادث والمستجدات، ومن تلك الأمثلة: تضمين الصناع، وإجازة التسعير، وإمضاء الطلاق الثلاث، وعدم قبول توبة من تاب بعد تكرار التلصص وقطع الطريق (2)، وإبطال نكاح المحلل، وغير ذلك مما هو مبسوط في مصادره ومظانه، وقد أورد الأستاذ شلبي في كتابه ( تعليل الأحكام ) ، أمثلة كثيرة عمل فيها التابعون بالمصلحة والمقاصد (3).‏

‏* إنكارهم للحيل:‏

إن إنكار الحيل (4) من قبلهم دليل على اعتدادهم بالمقاصد، ذلك أن تلك الحيل منافية لتلك المقاصد ومعارضة لها في حقيقة الأمر، وذلك على نحو تمكين المبتوتة في مرض الموت من الإرث معاملة للزوج بنقيض مقصوده، والنهي عن بيع العينة... وغير ذلك كثير.‏

المبحث الخامس: الاجتهاد المقاصدي في عصر أئمة المذاهب

عصر أئمة المذاهب الفقهية هو امتداد لعصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وهو حلقة اكتملت بموجبها سلسلة التشريع الناصعة، وتبلورت بمقتضاها مسيرة الاجتهاد النيرة، وتدعمت بوجودها أصالة المنظومة الفقهية الثابتة، فقد شهد هذا العصر الزاهر بروز نوابغ الفقهاء والمجتهدين، ونشاط حرية الرأي في ضوء الأصالة الإسلامية، وظهور المذاهب الفقهية المتعددة، وانبعاث حركة التدوين، وغيرها (1).‏

فقد كان الاجتهاد الفقهي أحد مقومات الحياة الإسلامية في هذا العصر، وكان يقوم على استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة والتابعين، ومن القواعد الكلية والمبادئ الشرعية المعتبرة، إما عن طريق الحمل على النص، أو عن طريق الإدراج ضمن المقاصد والمصالح الشرعية المعلومة (2) . ‏

فقد كان الأئمة الأعلام يلتفتون إلى المقاصد ويعملون بها إذا لم تسعفهم النصوص والنقول، أو إذا كانت تلك النصوص والنقول قد تزاحمت عليها معان كثيرة تحتاج إلى تحديد وترجيح أقربها لمراد الشارع وألصقها به. ‏

والمتتبع لأحوال أولئك الأعلام وآثارهم، ليدرك تمام الإدراك مدى اهتمامهم بضرورة الأخذ بالمقاصد والتعويل عليها -بالإضافة إلى النصوص والإجماع ومرويات السلف- في العملية الاجتهادية، وفي التصدي لمشكلات عصرهم وحوادثه المختلفة، وذلك لما رأوه من أن الشريعة معقولة المعنى، وأن لها أصولا عامة نطق بها القرآن العزيز، وأيدتها السنة الشريفة (1) . ‏

ويمكن أن نبرز مظاهر ذلك في المسائل التالية:‏

‏ -وراثتهم للهدي النبوي وعلم السلف:‏

‏ إن هؤلاء الأعلام لم ينطلقوا في اجتهادهم من فراغ، وإنما بنوا مسيرة علومهم على ما استلهموه واستفادوه من الثروة التشريعية الزاخرة التي سبقتهم، والمتكونة من تعاليم الكتاب والسنة وهديهما، ومن نقول السلف ومروياتهم وفتاواهم ومناهج اجتهادهم ومسالك استنباطهم، والتي كان التشبع بالروح المقاصدية والطابع المصلحي أحد مستنادتها ومسلماتها (1).‏

فاستناد أولئك الأعلام إلى تلك الثروة، استناد إلى جانبها المقاصدي.. وقبولهم بالنصوص وتسليمهم بها، قبول بأحكامها ومقاصدها المنوطة بها.. واقتفاؤهم لآثار سلفهم، قبول منهم لمنهجهم في الاجتهاد القائم على الجمع بين الأثر والنظر، بين النصوص والمصالح، وغير ذلك. ‏

فقد ذكر أن الرأي عند مالك، توفيق بين النصوص والمصلحة، وأن تكوينه قد تلقاه من أعلام متفاوتين من حيث الاعتداد بالرأي والأثر (2).. وذكر أن الشافعي قد جمع بين فقه الحجاز والعراق، حيث أخذ من الموطأ وأخذ من محمد بن الحسن الروايات العراقية التي لم تشتهر عند الحجازيين (3).‏

‏- أصولهم في الاستنباط:‏

أصول الاستنباط ومصادر التشريع التي كان الأئمة يستعملونها في معرفة الأحكام الفقهية، والتي كانت تجمع بين الأثر والنظر، بين النص والاجتهاد، بين ظاهر الدليل ومعناه ومقصده ومراده، تلك الأصول والمصادر تبرهن بما لا يدع مجالا للشك والتأويل على أن النظر المقاصدي الأصيل ظل مقوما مهما من مقومات اجتهادهم واستدلالهم.. ونحن في هذا الصدد لا نريد بيان وعرض الأصول المستعملة لدى الأئمة والتعليق عليها، وإنما نريد فقط إبراز النواحي المقاصدية لها بصورة إجمالية وعامة.‏

ومن الجدير بالذكر أن تلك الأصول قد تفاوت الاهتمام بها لدى أولئك الأعلام من حيث المبدأ والعموم من جهة أولى، كما هو الحال في الاستحسان الذي رفضه الشافعي وأخذ به الحنفية والمالكية وغيرهم، وكذلك القياس الذي رفضه الظاهرية والشيعة، ومن حيث المقدار والكم من جهة ثانية كما هو الحال في أمثلة وشواهد المصلحة المرسلة والذرائع وغيرها (1). ‏

فما هي إذن الجوانب المقاصدية لتلك الأصول والمصادر؟‏

‏* مقاصدية الكتاب والسنة:‏

قد تبينت النواحي المقاصدية للكتاب الكريم والسنة الشريفة فيما سبق ذكره (2).‏

‏* مقاصدية الإجماع :‏

الإجماع هو دليل تثبت بمقتضاه الأحكام وعللها ومقاصدها ابتدائيا، أو انتقالا من الظن إلى القطع، أي أن الإجماع قد يثبت ما لم يثبته النص مباشرة، أو أنه يثبت بصورة قطعية ما أثبته النص على سبيل الظن والاحتمال، فيكون دور الإجماع عندئذ متمثلا في تقوية الحكم الظني والقطع به وإخراجه من دائرة الاحتمالات والتأويل (1) . ‏

فالإجماع كما ذكرنا دليل لمعرفة الأحكام ومعرفة عللها ومقاصدها المنوطة بها، وهو أحيانا يثبت ما هو قطعي يقيني من تلك العلل والمقاصد، إذ يخرجها من دائرة الظنون والاحتمال إلى دائرة القطع واليقين والتسليم، وأوضح شاهد على ذلك جمع القرآن الكريم وكتابته لمقصد حفظه من الضياع وصيانته من التحريف، وجواز الاستصناع لما فيه من المنافع العائدة على المستصنع والمستصنع له، ولزوم الولاية التزويجية للصغيرة . ‏

والخلاصة من كل ذلك، أن العمل بالإجماع هو عمل بالمقاصد والعلل والحكم، التي انعقد الإجماع على أحكامها، ويضاف إلى ذلك طابع القطع واليقين لتلك المقاصد والعلل والحكم، باعتبارها قد صارت وثبتت بالإجماع عليها، والاتفاق على أنها حجة معتبرة وحق مقطوع به . ‏

‏* مقاصدية مستند الإجماع : ‏

للإجماع جوانب مقاصدية أخرى من جهة مستنده أو سنده، تتمثل فيما جوزه بعض أعلام العصر (1) من إمكانية استناد الإجماع إلى القياس والمصلحة المرسلة وغيرها من الأدلة، بناء على حجية تلك المصادر وشرعيتها، وعلى أن الإجماع يعمل على قطعيتها والتسليم بها وإبعاد الخلاف إزاءها أو تقليصه وتنقيصه (2).‏

فاستناد الإجماع إلى القياس والمصلحة المرسلة وغيرها، برهان ساطع على مراعاة ما يتعلق بتلك الأدلة من علل ومقاصد ومنافع.. فالإجماع على تحريم شحم الخنزير، قياسا على لحمه، مراعاة لنفس حكمة تحريم اللحم، والتي هي تجنب النجاسة والقذارة والضرر.. والإجماع على منع القضاء زمن الجوع، قياسا على منعه زمن الغضب، والتي هي درء ما يشغل القاضي عن تحقيق العدل والوقوع في الظلم والتعدي.. وكذلك الحكم بقتل الجماعة بالواحد، عملا بمصلحة حفظ النفوس، إذ التهاون بقتل الجماعة المشتركة في قتل واحد من الناس ذريعة إلى هتك حياة الناس، وإزهاق أرواحهم (3). ‏

فكل تلك الإجماعات وغيرها التي استندت إلى القياس والمصلحة المرسلة، إنما أقرت نفس مقاصد ذلك القياس وتلك المصلحة، وزادتها طابع القطع واليقين، أو غلبة الظن الغالب والراجح .‏

كما تتجلى الناحية المقاصدية للإجماع، من خلال اعتماده على قاعدة: ( أقل ما قيل )، باعتبارها ضربا من ضروبه التي يجوز انعقاد الإجماع عليها، ومفاد تلك القاعدة أن العلماء إذا تفاوتوا في أمر وتراوحت أقوالهم بين الأخذ بالأكثر وبالأقل، وبما بين الأكثر والأقل، لزم الأخذ بالأقل المجمع عليه (1) ، فالإجماع على الأقل تثبيت لمبدأ براءة الذمة، وأصلية التخفيف، ورفع الحرج عن المكلفين، وملازمة الاحتياط في الدين والنفوس والأعراض والأموال، ومنع التكليف بما زاد على الأقل بدون دليل.‏

‏* مقاصدية القياس : ‏

تتمثل الناحية المقاصدية للقياس في أنه:‏

أصل معقول يقابل النصوص والآثار، ويعالج الحوادث والقضايا غير المتناهية بحملها على أمثالها وأشباهها بموجب الاشتراك في علة ما، أو حكمة ما، أو مقصد ما، فهو بذلك يفيد أهمية فهم ماورائية النصوص في مقابل ظاهرها، ويدعو إلى اعتبار عللها وحكمها ومصالحها (1).‏

وتزداد أهمية الناحية المقاصدية للقياس، في الأخذ بالقياس الموسع أو القياس الكلي، الذي هو إلحاق الواقعة بنظائرها بجامع مقصد كلي، كمقصد حفظ الدين والعقل، أو نفي الضرر والغرر، وغير ذلك (2).‏

‏* مقاصدية الاستحسان :‏

تتمثل الناحية المقاصدية للاستحسان في أنه التفات إلى المصلحة والرخصة والتيسير والعدل، وإبعاد للحرج والضيق والمشقة غير المعتادة، وتقرير للأعراف والعادات الحسنة في حدود الضوابط والمبادئ الشرعية (3).. وأمثلة ذلك معروفة في مظانها، وهي غير قليلة، وليس هنا ما يدعو إلى عرضها أو التعليق عليها تجنبا للتطويل بلا موجب .‏

‏* مقاصدية المصلحة المرسلة:‏

وهي المصدر الذي يلاحظ فيه شدة التصاقه وعمق اتصاله بالمقاصد الشرعية، وهي تدور جملة وتفصيلا حول تقدير المصالح واعتبارها فيما لم ينص أو يجمع عليه، على مستوى أعيان الأحكام وأفرادها.. أما مستوى الأجناس والقواعد الكلية، فمعلوم أن الشرع تناوله بالبيان والتحديد، ولذلك فإن المجتهد يجتهد في تلك الأعيان والأفراد على وفق أجناسها البعيدة وقواعدها العامة، ومن ثم فقد شكلت المصلحة المرسلة ميدانا رحبا لدى أئمة الفقه في اعتبار المقاصد في عملية الاستنباط ودراسة القضايا والنوازل.. والأمثلة الكثيرة، التي عمل فيها الأئمة بمبدأ الاستصلاح المرسل، دليل على ما نقول.‏

‏* مقاصدية العرف : ‏

تتمثل الناحية المقاصدية للعرف في:‏

‏- أنه يقرر قواعد التيسير ورفع الحرج، فمن باب التيسير والتخفيف في المعاملات، ابتناء كثير من الأحكام على العرف الصحيح شرعا (1).‏

‏- أنه تأكيد لمحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق التي نادى بها الإسلام منذ نزوله، وعمل العلماء والفقهاء على تجليتها وإبرازها، والتي عبر عنها ابن رشد الحفيد بأخلاقية الإسلام، واعتبرها من أعظم المقاصد وأرقاها، ومدارها إصلاح النفوس كما يهدف الطبيب إلى إصلاح الأبدان (2)، ومن شواهد ذلك القسامة، والإجارة، والسلم، والكفاءة بين الزوجين، وغيرها.‏

‏- أنه تحقيق للمصلحة ودرء للمفسدة، وهو غاية العمل بالعرف ومرماه، وذلك أن العرف الصحيح يراعي أحوال الناس، ويساير أوضاعهم، ويجاري طباعهم ومألوفهم، ويسهل معاملاتهم، دون معارضة لنصوص الشرع وروحه (1). ‏

‏- أنه طريق للعمل على تحقيق الامتثال الأكمل لتعاليم الشرع ونصوصه، إذ كلما كان القانون معبرا عن أوضاع الناس وحاجياتهم، كان أقرب إلى نفوسهم، وكلما كان قريبا من نفوسهم كانت مخالفتهم له أقل وامتثالهم له أكثر (2) ولن يكون هذا حاصلا إلا بفهم الطبائع والعادات الحسنة التي تشكل إحدى مكونات الواقع المعيش المزمع إصلاحه وتوجيهه.. والناظر بعمق في المقاصد الشرعية ليدرك غاية الإدراك أن السعي إلى الامتثال الأكمل بتهيئة ظروفه والحرص على نجاحه، يعد مقصدا من مقاصد الشرع المعتبرة (3). ‏

‏* مقاصدية الذرائع: ‏

تتمثل ناحيتها المقاصدية في أنها وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، سدا وفتحا (4)، وكذلك وضعت لتحقيق سلامة القصود والنيات وسلامة الأعمال والأقوال، بنفي التحايل والمغالطة والتلاعب بالألفاظ والقرائن والأعمال.‏

وليس هناك شك في أن من المقاصد الشرعية المعتبرة، تخليص النوايا مما يقدح في إخلاصها، وتخليص الأعمال مما يعطل آثارها، فينبغي أن يكون قصد المكلف موافقا لقصد الشارع ومصلحة الناس، وإلا كان العمل باطلا مردودا. ‏

والخلاصة، أن الاعتداد بتلك الأصول والمصادر الاستنباطية المتنوعة، يعد مسلكا موسعا، ومجالا خصبا للنظر المقاصدي المصلحي البناء، وليس هذا مبررا للقول باستقلالية المقاصد والمصالح عن الأدلة والنصوص الشرعية، كما يدعي ذلك من كان نظره قاصرا عن معرفة حقيقة ذلك واكتفى بظاهر الأمر، وإنما هذا دليل على ارتباط المقاصد بأدلتها وضوابطها، وتعلق الأحكام بمناطاتها وعللها (1). ‏

‏* مقاصدية النوازل التي اجتهد فيها الأئمة: ‏

هناك الكثير من الحوادث والنوازل التي اجتهد فيها أئمة المذاهب بمقتضى النصوص والآثار والقواعد العامة والمقاصد المعتبرة، والتي دلت بوضوح ويقين على عمق فهمهم للأدلة ومقاصدها ومناطاتها، وتلك الحوادث والنوازل مبسوطة في كتبها ومصادرها بسطا مستفيضا ومطنبا، وقد تناولها الأولون والمتأخرون ببيانها ومناقشتها، في ضوء أدلتها وآراء الفقهاء وحججهم، وغير ذلك (1). ‏

ونحن في هذا السياق نذكر منها عددا قليلا جدا على سبيل الإجمال دون تعليق أو تدليل أو عرض لكلام الفقهاء واختلافهم، سعيا منا للاختصار المفيد، وتجنبا لتكرار ما هو معلوم ومدون وميسور التناول والاطلاع. ‏

ومن الأمثلة نورد ما يلي (2) : ‏

‏- ضرب المتهم بالسرقة للاستنطاق عند مالك، والمقصد هو حمله على عدم الإنكار المفضي إلى زجر الجناة وحفظ المال، وقد خالفه غيره، وبين أن المقصد هو تفويت مصلحة المضروب لاحتمال برائته، ولأن ترك الضرب أهون من ضرب برئ . ‏

‏- كراهة صيام ستة أيام من شوال عند مالك، والمقصد هو درء بدعة اعتقادها جزءا من رمضان، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغب فيها، فقد نظروا إلى مقاصدها (1)، فحكم الصيام مبني على مناطه ومقصده، فإذا كان القصد من صيام ستة أيام من شوال الاقتداء بما رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حسن، وإن كان المقصد تكملة رمضان واعتقاد الوجوب في ذلك فإن الأمر يعد غير جائز، علما بأن احتمال اعتقاد وجوب الصيام في شوال نادر وقليل، وإن وجد في بعض الأحيان فهو لا يقدح في مشروعية الصيام في شوال باعتباره ترغيبا نبويا مهما. ‏

‏- ضمان الخياط، ومقصده هو عينه مقصد الاستصناع، وهو يتمثل في حفظ الحقوق من الضياع، وعدم تعطيل مصالح الناس بسبب التلف بدون ضمان. ‏

‏- الحجر على المدين وبيع ماله جبرا عند جمهور الأئمة، والمقصد هو حفظ حقوق الدائن وزجر المماطلين، وقد رأى الحنفية أن يجبر على الأداء بالملازمة والحبس والإكراه البدني لأنه ظالم، دون أن يحجر عليه . ‏

‏- اشتراط الولي في الزواج، والمقصد هو ضمان حسن الاختيار، وحفظ كرامة الأسرة وصيانتها من العار والتجريح وغيره . ‏

‏- المرأة الممتدة الطهر التي تطلق وهي حائض إذا انقطع حيضها ولم تبلغ سن الإياس بعد، فإنها تبقى مدة الحمل الغالبة وهي تسعة شهور وتنتظر ثلاثة أشهر، وبعد ذلك تنتهي عدتها، والمقصد هو نفي الضرر عن المرأة لأنها لو بقيت تنتظر الحيض أو سن اليأس لتضررت في ذلك كثيرا (1). ‏

جواز اكتحال المرأة المتوفى عنها زوجها بغرض التداوي من الرمد، والمقصد هو نفي الحرج عنها (2). ‏

‏- إعطاء الزكاة لبني هاشم لما تغيرت بيت المال، والمقصد هو المحافظة عليهم من الضياع. ‏

‏* مقاصدية التدوين:‏

عصر أئمة المذاهب كما ذكرنا، كان تتويجا لمسيرة الاجتهاد الشرعي في العصر النبوي وعصر الصحابة والتابعين، فقد تبلورت الآراء والمناهج والمدارس الفقهية لتأخذ طابع التدوين والتأليف، فبرزت المذاهب الفقهية، وظهر منهج استنباط الأحكام الذي اصطلح على تسميته بعلم أصول الفقه، وظهرت الاصطلاحات الفقهية، وبعض القواعد الشرعية الكلية، ودونت السنة الشريفة وبعض مباحث لغة القرآن الكريم على نحو العروض والنحو، وغير ذلك (3). ‏

إن الغرض من حركة التدوين، هو وضع المنهج الإسلامي الصحيح -فهما وتطبيقا- في تثبيت دعائم الشريعة وغرس جذورها وبناء أركانها، فقد جدت في ذلك العصر عدة عوامل وحوادث يحتمل أن تحدث بعض الأخلال والنواقص في التعامل مع المنهج الإسلامي، سواء بالتعسف في فهمه واستيعابه وتأويله والوقوف على حافتي الإفراط والتفريط والمبالغة في الظاهر والإغراق في التأويل بما لا يستجيب لغاياته ومقاصده ومراميه، أو بتعمد إبطاله وتعطيله وتمييعه تحت مسميات كثيرة وادعاءات مختلفة ليس لها أدنى ما يزكيها ويصدقها من الوجهة الشرعية والاعتقادية. ‏

فقد دونت السنة لمواجهة عمليات الوضع، وتمكين دورها في التشريع ومكانتها بين المسلمين، ودون أصول الفقه لضبط معيار استنباط الأحكام، شرعا ولغة، وعقلا ومقصدا، ولمواجهة احتمال نتائج ضعف اللسان العربي بسبب اختلاطه بألسنة أخرى، وما يترتب على ذلك من أخلال في فهم النصوص الدينية التي نزلت وفق العربية وأساليبها وخصائصها، ومن إهدار لمعانيها ومدلولاتها وأغراضها ومقاصدها.. وأيضا فقد وضع منهج الاستنباط لمواجهة الحوادث المتكاثرة والأقضية المتعددة التي حصلت بموجب كثرة الفتوح واتساع الدولة الإسلامية، وترامي أطرافها وضخامة أعمالها وأعبائها، فقد كان من اللازم وضع القواعد الكلية والأسس العامة، ورسم منهج التأويل والاستنباط، للتصدي لكل ذلك وتأكيد صلاحية الإسلام لكل عصر ومصر. ‏

‏* مقاصدية عدم التدوين : ‏

قد يبدو وجود التناقض بين هذا العنصر والذي قبله، إذ هما متعارضان في المحل الواحد وهو التدوين، غير أن تحقيق ذلك يزيل التعارض الملحوظ ويعطي لكل عنصر مدلوله المتعلق به. ‏

فقد كان عصر أئمة المذاهب يحتاج إلى تدوين ما ينبغي تدوينه، كمنهج الاستنباط الأصولي، وعلم السنة والعروض، وغير ذلك مما كان في تدوينه مصلحة معتبرة للمسلمين في زمانهم وفي غير زمانهم.. وهذا بخلاف بعض المسائل التي لم تدع الحاجة إلى تدوينها، بل تعينت الضرورة عند البعض على الأقل إلى عدم تدوينها، لما فيه من المصلحة المعتبرة العائدة على الناس في كل زمان وحين، فقد روي عن الإمام مالك كراهته لكتابة العلم، وامتناعه عن تلبية دعوة أبي جعفر المنصور في وضع مدونة للفقه والأحكام، كما ذكر أنه لم يدون منهجه في الاستنباط كما فعل الشافعي، وأنه كان يدعو إلى تحاشي التنظير المبالغ فيه وإلى تأكيد واقعية الفقه -دعها حتى تقع- وإلى معالجة ما يقع من المسائل في ميدان الواقع لا فيما يتخيله الذهن ويفترضه، كما هو الحال في الفقه الذي اشتهر بكثرة الافتراضات والاحتمالات، والذي عرف بالفقه الافتراضي أو التقديري أو الأرأيتي . ‏

وليس كل هذا إلا دليلا على أن تدوين الفقه والفتاوى في ذلك العصر، قد يؤدي إلى تجميد الفقه نفسه، وإلى تعطيل حركة الاجتهاد وقتل روح الإبداع، وإذابة السمات الواقعية والحيوية والثراء لمنهج الاستنباط، والتعامل مع المستجدات والتحولات المختلفة، التي لا تقدر الفتاوى المنقولة والمجردة من أدلتها ومناطاتها على فهم طبائعها وبيان أحكامها، كما يؤدي إلى تضييق دائرة السعة والرحمة التي مثلتها مختلف المدارس الفقهية وآراء الفقهاء المتوزعين في الأمصار والمتفاوتين في الفهوم والقرائح والاجتهادات، وفيما وصلهم من سنن ومرويات وآثار، وفيما أدركوه من حوادث وأعراف وأقضية . ‏

فقد بدا لبعض أعلام ذلك العصر مصلحة عدم تدوين الفتاوى والأحكام، بخلاف الأصول والقواعد والسنة وغيرها، وقد يعود ذلك أساسا إلى القدرة العالية لأولئك الأعلام والأئمة في الاجتهاد والاستنباط من غير العودة إلى ما هو مدون ومكتوب، بموجب قربهم لحظوظ الفهم (1) ، وإلى مراعاة الخلاف المعتبر، ومراعاة اختلاف البيئات والظروف فيما جوز فيه الاختلاف وغير ذلك، مما يترجح فيه عدم التدوين على التدوين نفسه . ‏

كما قد يعود إلى خشية اختلاط السنة بالفقه، أو تقديم كلام الفقهاء على كلام الله ورسوله، لا سيما والسنة تواجه تحديات الوضع والتحامل والتعسف الخطيرة، لطمسها وتشويهها وتحريفها . ‏

وعلى أي حال فإن تدوين الأحكام والفتاوى أمر خلافي، من حيث المصلحة وعدمها، تباينت فيه الأنظار والآراء، وتفاوتت فيه التقديرات والتصورات، بحسب الاعتبارات والقرائن والظروف التي يتنزل فيها ذلك التدوين أو عدمه، فقد يكون التدوين مفيدا وصالحا، وقد لا يكون، وهذا راجع إلى ما ذكرنا من الاختلاف في التقدير والاعتبار والحيثية، والله أعلم بالصواب

المصدر : http://www.islamweb.net/newlibrary/...0&ChapterId=10&BookId=265&CatId=201&startno=0
 
أعلى