العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فساد الدعوة إلى استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
السلام عليكم...

هذا هو المبحث الرابع من الفصل الثالث من كتاب "الإجتهاد المقاصدي حجيته وضوابطه " للخادمي.
عنوان المبحث : فساد الدعوة إلى استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية
***

قد امتلأت كتب الأولين والآخرين بالأجوبة الكافية والبيانات الشافية -تأصيلا وتمثيلا وتدليلا وتعليلا- المحققة لهذا كله، ولغيره مما يقال ويحاك، فارجع إليها إن شئت ليتأكد ويتحرر لديك بطلان ما زعم، وفساد ما قيل، وليرسخ عندك يقينا وجزما صحة ما صار إجماعا قطعيا من أن المقاصد بجلب المصالح ودرء المفاسد ليست دليلا مستقلا تثبت بمقتضاها الأحكام الشرعية، وإنما هي معان مستخلصة من عموم الأدلة وخصوصها، وانفراد جزئياتها واجتماعها، وتحقق الكليات وتطبيقاتها: ‏

غير أن ذلك لا يغني عن الإشارة الموجزة لبيان شرعية تلك المصادر والقواعد، وانبثاقها من الأدلة والتصرفات الشرعية، ويكون ذلك بإيراد ما يتعلق بإبطال تعسفهم في فهم مسميات تلك المصادر والقواعد وتعاريفها وتطبيقاتها، وهو ما نبينه فيما يلي: ‏

‏- إبطال التعسف في فهم التسميات:‏

تسمية غير النص والإجماع بالمصادر العقلية والمصلحية والاجتهادية، تسمية اصطلاحية علمية، اقتضتها أمور منهجية وترتيبية، وليست مبنية على منابع الأحكام ومحل نشوئها، فيقال مثلا: إن هذا الحكم عقلي لأن العقل أنشأه، وأن هذا شرعي لأن الشرع أنشأه . ‏

فالأحكام كلها قد أنشأها الشرع، إما بالنص أو الإجماع أو الاجتهاد على أساسها، وسواء كان الحكم مصرحا به أو مشارا إليه في النص، أو موجودا في الإجماع، أو مستخلصا عن طريق القياس والحمل على النص والإلحاق به، والإدراج ضمن القواعد الشرعية العامة، فإن ذلك الحكم منشأه الشرع ومنبعه الدين، مع وجود التفاوت في د رجة وضوحه، من حيث التصريح والتلميح والإشارة والتضمن والتعلق. ‏

ثم إن إطلاق أوصاف العقلية والاجتهادية والمصلحية على تلك المصادر، له دلالة ما على أن تدخل العقل في الاجتهاد والاستصلاح على ضوء تلك المصادر، ملحوظ بصورة أكبر وكيفية أعمق مما عليه الأمر في الاستنباط من النصوص والإجماعات، أي أن دوره في الفهم والاستيعاب والإلحاق والموازنة والتفريع والترجيح إزاء الاستحسان والمصلحة والعرف وغيره، ملحوظ بشكل أكبر مما هو عليه في النص والإجماع، الذين يستخلص الحكم منهما بطريقة أيسر من حيث الفهم والاستيعاب والاستنتاج المباشر ووضوح المعنى وبيان المراد. ‏

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نسمي المعاني المفهومة من القرآن والسنة والإجماع وكلام الناس، بالمعاني العقلية، بناء على أن العقل هو الذي فهمها وأدركها؟! ثم إن تسميتها العقلية، لا يلغي شرعيتها وربانيتها، وإنما يبرز حجم تدخل العقل في الفهم والإدراك والاستنتاج، ذلك الحجم الذي تتفاوت ضروبه وصوره، قلة وكثرة، بحسب الأدلة وما دلت عليه من أحكام بطريقة صريحة أو ضمنية، عامة أو خاصة، مجملة أو مبينة، معللة أو غير معللة، منطوقة أو مفهومة، وغير ذلك. ‏

وبناء عليه، فإن جميع الأحكام الشرعية المستفادة من النص والإجماع، هي أيضا أحكام عقلية، أي فهمت بالعقل وليست خارجة على ذلك، وهذا لا يعني أنها مستقلة عن الهدي الشرعي، بل يعني ببساطة أن العقل هو الذي فهمها، والشرائع ما نزلت إلا لتفهمها العقول المكلفة والراجحة. ‏

ولذلك فإن تسمية بعض المصادر بالعقلية، كالقياس والمصلحة والاستحسان، لا يعني أنها منفصلة عن الشرع وبعيدة عنه، بل يعني مجرد مصطلح ،ولا مشاحة في الاصطلاح. ‏

وهذا الأمر ليس موجودا في الدراسات الشرعية فحسب، بل هو مقرر في سائر الدراسات والمناهج المعرفية المختلفة، فإطلاق مصطلح العلوم الصحيحة على المباحث العلمية والمخبرية التي تقبل التجربة والاختبار وغيرها، لا يدل بداهة على أن غير تلك العلوم التجريبية ليست صحيحة، مثل العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والسياسية، وإنما يدل فقط على أن مجال التجربة في العلوم التجريبية أوسع رحبا وأقرب نظرا، وعلى أن صفة الصحة المطلقة على تلك العلوم تعني تحقق ما يعرف بالحتمية العلمية، وترتب النتائج على ضوء الأسباب دائما أو غالبا، في حين أن العلوم الأخرى كعلم الاقتصاد والنفس تكون فيها الحتمية أقل وضوحا وملاحظة مع أنها صحيحة ومعقولة، فهي تأتي على وفق طبيعتها وماهيتها المعيارية والاعتبارية والإضافية. ‏

كما نجد في دوائر القضاء والقانون التنصيص على دور القاضي في إصدار الأحكام تحت عناوين فقه القضاء، واجتهاد القاضي، ومراعاة العرف العام والعرف التجاري، وتقدير المصلحة، وغير ذلك من هذه العناوين التي يكون فيها دور القاضي أوسع نطاقا في إصابة الحكم الأعدل في ضوء دستور وقانون الدولة التي هو عضو في محاكمها.. بل إنه من يقول عكس ذلك، يعد ساذجا ومارقا قد تطوله طائلة ذلك القانون المتعسف عليه. ‏

‏- إبطال التعسف في فهم التعاريف:‏

التعسف في فهم تعاريف المصادر والقواعد التشريعية الاجتهادية الاستصلاحية، الذي وقع فيه أربابه، يمكن أن نرد عليه ببيان شرعية تلك المصادر والقواعد، واستنادها إلى هدي الشارع ومراده وتعاليمه، ويكون ذلك على النحو التالي: ‏

شرعية المصالح المرسلة: ‏

المصالح المرسلة كما هو معلوم، هي المصالح التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار أو بالإلغاء، وانعدام الشهادة الشرعية بالاعتبار أو الإلغاء على مستوى عين المسائل، وليس على مستوى كلياتها وأجناسها وقواعدها، لأنها لو انعدمت الشهادة في عين الحكم وفي ما يدرج فيه من أجناس وكليات وقواعد، لكان ذلك تركا لتحكيم الشرع في المشكلات والنوازل، وهذا محال. ‏

فالمصلحة المرسلة هي إذن المصالح الملائمة لتصرفات الشارع، والعائدة إلى أصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به، والراجعة إلى جنس اعتبرته الشريعة (1). ‏

فالمصالح المرسلة ولئن لم يعتبرها الشارع تفصيلا، فقد اعتبرها جملة ضمن المصالح المعتبرة، فهي عند التحقيق ليست مرسلة، وإنما هي مصلحة معتبرة من الشارع ولكن جملة لا تفصيلا (1).‏

ومن ثم فإن الاستصلاح المرسل هو استناد إلى القواعد والأجناس الشرعية المعتبرة، وليس عملا عقليا مستقلا ومنفردا ليس له ضوابط ولا قيود.. والنوازل التي لم تتبين أحكامها، والتي يراد إحالتها على الاستصلاح المرسل قصد معرفة أحكامها، لا تخرج من حالتين: ‏

‏- حالة إلغائها، لوجود شاهد أو دليل كلي يلغيها، لمعارضتها للشرع وتعاليمه. ‏

‏- حالة اعتبارها، لوجود ما رجحها واعتبرها، وعندئذ تصبح شرعية لاندراجها ضمن الدليل الكلي المرجح لها. ‏

وأمثلة ذلك كثيرة جدا وهي مبثوثة في مظانها من كتب الفقه والأصول، والقواعد، والخلاف، والسياسة الشرعية، وتاريخ الفقه والتشريع وغيرها، وهي تتفاوت تعليلا وتدليلا وبيانا للأدلة الشرعية التي اعتبرتها، وقد ذكرنا جانبا من ذلك في هذه الدراسة فارجع إليه (2) . ‏

شرعية الاستحسان: ‏

الاستحسان على خلاف تعاريفه ومعانيه (1)، هو دليل راجع إلى الأدلة الشرعية وليس مستقلا عنها، وإن بدا حسب ظواهر التعريفات على غير ذلك. ‏

وبرهان ذلك فيما يلي: ‏

شرعية تعريف الاستحسان: ‏

ما ينقدح في ذهن المجتهد هو دليل شرعي أو معنى من دليل شرعي معتبر، وليس مجرد خاطرة أو شهوة أو مزاج.. وكل أمثلة الاستحسان من هذا القبيل.. أما ما يتعذر التعبير عنه فهي راجعة إلى خفاء المعنى ودقته في مقابل القياس الجلي الواضح لدى الجميع، وقد يكون أمرا خاصا بالمجتهد دون أن يجادل به غيره، فلا قدح إذن في شرعيته، ولا نزاع في أنه دليل معتبر في حقه، ولابد أن يكون في جوهره دليلا من الكتاب والسنة أو القياس، وفوق هذا كله فإنه لا يمكن أن يتعسف المرء في تأويل قول-ولا يمكن التعبير عنه- بأنه تحكيم لغير الشرع، لأنه أمر باطني لم يعرف بعد حتى نقول إنه شرعي أو غير شرعي (1). ‏

شرعية أنواع الاستحسان: ‏

‏* يستند الاستحسان في بعض أنواعه إلى النص، أي أنه يخرج عن مقتضى القياس العام أو الدليل الكلي للمصلحة، التي يعينها النص وليس لمجرد المصلحة المطلقة التي لا شاهد لها ولا دليل عليها. ‏

ومثال ذلك: الوصية الخارجة عن مقتضى القياس، لأنها تمليك مضاف لما بعد الموت، والأصل أن التمليك لا يضاف إلى زمن زوال الملك، إلا أنها استثنيت من نظائرها بأدلة الكتاب والسنة. ‏

ومثاله، من قال: إن مالي كله صدقة على المساكين، فإنه يتصدق بمال الزكاة فقط، اعتمادا على العرف الشرعي الذي يطلق المال ليشمل مال الزكاة . ‏

ومثال أيضا: بيع السلم المستثنى من عموم النهي عن بيع ما ليس عند البائع، والذي رخص فيه لسد الحاجة ونفي الضرر، وهذه المصلحة قد ثبتت بالنص النبوي المرخص في بيع السلم، والذي خصص عموم النهي النبوي عن بيع ما ليس عند الإنسان (1).. فالحكم هنا شرعي، وعمل بين دليلين بحمل العام على الخاص . ‏

ومثال ذلك أيضا القرض فإنه ربا في الأصل، لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين

وكذلك بيع العرية بخرصها تمرا، فإنه بيع الرطب بيابس، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى، ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الإعراء (2). ‏

ومثال ذلك أيضا: الإجارة والتي هي عقد على منفعة غير موجودة وقت العقد، وهذا حسب قواعد العقود غير صحيح إلا أن السنة أجازته استحسانا.. ومثله أيضا: الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وصلاة الخوف، والترخيص في النظر إلى المخطوبة، وغير ذلك مما ثبتت شرعيته ومقاصديته بالنص القرآني أو النبوي، وليس بمجرد الهوى والرأي والتلذذ والتشهي. ‏

‏* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى الإجماع.. ومثاله: عقد الاستصناع (1)، ودخول الحمام من غير تعيين لمدة المكث ولا للماء المعد للاستعمال، وشرب الماء من يد السقاء من غير تعيين لكمية الماء وعوضها، وغير ذلك من الأمثلة التي ثبتت بالاستحسان المبني على الإجماع والاتفاق، والمعلل برفع المشقة والحرج، والتجاوز عن الغرر اليسير، لملازمة الرفق والتخفيف . ‏

‏* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى العرف، ومثاله: دخول الحمام، ورد الأيمان إلى العرف، وإطلاق لفظ المال على مال الزكاة فقط لمن قال: إن مالي كله صدقة، عملا بالعرف الشرعي، وغير ذلك من الأمثلة التي انبنت على العرف وعدل بها عن نظائرها وأشباهها.‏

ومعلوم أن اعتماد العرف في الاجتهاد، سواء في قيام الاستحسان عليه واستناده إليه، أو في عملية الاستنباط العام وفي غير موضوع الاستحسان، ليس على إطلاقه وعمومه، وإنما هو واقع في ضوء شروطه وحدوده، ومن تلك الشروط أن لا يعارض العرف المعتمد أصلا قطعيا أو مقصدا معتبرا.‏

فشرعية الاستحسان المبني على العرف، مستمدة من المعتبرات الشرعية والضوابط الدينية، لصحة العرف وقبوله في نظر الشارع، وليس في نظر العقل المجرد أو الواقع المتبدل (1) . ‏

‏* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى المصلحة، ومثاله تضمين الأجير المشترك

والمصلحة التي انبنى عليها الاستحسان ليست مطلقة عن القيود الشرعية، كما ذكرنا ذلك قبل قليل في شرعية المصلحة المرسلة، بل هي مشهود لها بأحد الأدلة الكلية والقواعد العامة. ‏

‏* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى الضرورة، ومثاله الحكم بطهارة الحياض والآبار من سباع الطير التي تشرب منها، وهذا بخلاف سباع البهائم، فإن سباع الطير تأخذ الماء بمناقيرها وهو عظم جاف، والعظم من الميت طاهر، فمن الحي أولى، كما أن التصاق المنقار بالماء أقل تأثيرا من التصاق اللسان به، والتحرز من سباع البهائم أيسر من سباع الطير، لأن الأولى تسير في البر، فيمكن مطاردتها، والثاني تنقض من الفوق، ولأن ورودها كثيرا على تلك الحياض بسبب قرب مستقرها أو بكثرة المرور، فقد أدى هذا كله إلى استثناء الحكم بطهارة سؤر سباع الطير والعدول به عن مقتضى قياسها عن سؤر سباع البهائم، ومقصد ذلك رفع الحرج عن الناس بسبب الضرورة القاهرة، وكذلك الحكم بأن وقوع النجاسة من سباع الطيور أمر مظنون ظنا يسيرا، والعبرة بالقطع أو الظن الغالب، أما النادر فلا عبرة له. ‏

فأنت تلحظ أن الاستحسان المبني على الضرورة ليس عملا بمجرد الرأي المطلق، بل هو مستند إلى الضوابط الشرعية، سواء من جهة مراعاة عموم الضرورة الشرعية المعتبرة بأدلتها ومظانها، أو من جهة مراعاة المظنة الغالبة أو الراجحة المعتبرة بأدلتها كذلك، أو من جهة بعض التعليلات الأخرى التي لها اعتبار ما في بيان الحكم ومقصده كتحقيق مناط سؤر سباع الطير من حيث حصول النجاسة أم لا. ‏

ومن خلال المثال السابق فيمن قال إن مالي كله صدقة، فإنه لا يخرج إلا مال الزكاة، للعرف الشرعي من ناحية، ولنفي الضرر والضرورة المتأتية بسبب إنفاق المال كله. ‏

‏* الاستحسان ليس عدولا عن القياس، وإنما هو تحقق من أن ذلك القياس لم تتوفر علته حتى نجريه، لذلك فإن القياس متروك لانتفاء علته التي سيستند إليها، وليس إلى تغليب المصلحة على النص الذي قيس عليه، فعلة بيع المعدوم والمجهول، والعقد على منفعة مجهولة، هي الغرر والضرر المترتبين على الجهالة وليس العدم أو الجهل في ذاتهما، ففي أمثلة أجرة الحمام والشرب من يد السقاء ليس هناك غرر أو مظنته، إذ المقدار المشروب وعوضه، وكذلك المكث في الحمام ومقدار الماء، كلها أمور معروفة في الجملة ولا تفضي إلى الغرر والضرر (1) . ‏

‏* الاستحسان هو تقرير لقاعدة الاستثناء الشرعية المعتبرة، فقد أقرت الشريعة الإسلامية كثيرا من الاستثناءات على خلاف القواعد العامة والمبادئ الكلية، وذلك لأن جريان العموم في الأفراد والمسائل المستثناة مضيع لمصالح أهم من مصالح بقائها في قواعدها العامة، أو موقع في مفاسد أعظم من مفاسد استثنائها.. جاء عن العز ابن عبد السلام قوله: ( اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربو على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد الدارين أو في أحدهما، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربو على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم، ويعبر عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصرفات ) (2). ‏

والخلاصة، أن الاستحسان ليس دليلا خارجا عن الأدلة الشرعية، قال الشاطبي: ( فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظر في لوازم الأدلة ومآلاتها ) (1).. وقال أيضا:( فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة، في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك ) (2). ‏

شرعية العرف:‏

العرف يستند إليه في الاجتهاد، وهو أنواع: منها ما اعتبرها الشارع ومنها ما لم يعتبرها.. العرف المعلل بمقاصده ومصالحه المعتبرة، هو العرف المقبول شرعا، وليس عموم أي عرف، فالعمل بالعرف ليس مبررا لاعتبار المصلحة مستقلة عن التشريع، بل هي متضمنة فيه، لما قلناه من أن العرف المعول عليه هو العرف المقبول. ‏

وبالنظر إلى حقيقة العرف المقبول في الشريعة الإسلامية، سواء من حيث أنواعه، أو من حيث ثبوت حجيته بالنصوص الشرعية أو غير ذلك، يمكن القول: بأنه ليس مبنيا على الهوى والرأي ومستجدات الواقع واختلاف البيئات بلا ضابط وحد كما يقال ويزعم. ‏

‏* العرف المقبول شرعا يستند من حيث المبدأ إلى شواهد من القرآن والسنة القولية والفعلية والتقريرية، التي أقرت بحجيته وحقيته في الاحتجاج والاستدلال والاجتهاد، من ذلك قوله تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف )، وغير ذلك من أدلة القرآن والسنة (1) . ‏

ـ العرف في كلام الفقهاء واصطلاحهم، هو الذي ثبت اعتباره شرعا بأوجه عديدة، منها

أن يكون العرف نفسه دليلا أو حكما شرعيا بأن أوجده الإسلام ابتداء، أو كان موجودا فيهم وأقره وأثبته، ومثال الأول: القسامة والدية والطواف بالبيت وستر العورة، ونفقة الزوج على الزوجة والقصاص والحدود في الجنايات.. ومثال الثاني: أحكام الطهارة والحجاب والمضاربة (2) . ‏

‏- أن لا يكون حكما شرعيا، ولكن كان مناطا متعلقا بالحكم الشرعي، وهو يشمل ما تعارفه الناس في أقوالهم وأفعالهم، فالأعراف القولية هي أقوال الناس الشائعة المحمولة عند الإطلاق بلا قرينة على المتبادر منها، والتي تدور عليها العقود والتصرفات وجودا وعدما، ومثالها: لفظ الدينار، فإنه يطلق على النقود المستعملة في بلد التعامل وليس على حقيقته الشرعية أيام نزول التشريع. ‏

والأعراف العملية: هي جملة الأفعال والمعاملات العادية التي اعتادها الناس في تصرفاتهم كوسائل قبض المبيعات، ووقت قبض المهر وتقسيمه إلى مقدم ومؤخر، والفصل بين مدة العقد والدخول، وغير ذلك (1).‏

‏-أن لا يكون العرف حكما شرعيا ولا مناطا لحكم شرعي، وهو لا يخلو من حالتين:‏

أ- عدم معارضته للشرع. ‏

ب- أن يعارض نصا، فينظر وقت وروده، فإذا كان قد ورد مقترنا مع النص، فهو على الجملة حجة (2)، ويفسر النص على ضوئه لأنه يتنزل منزلة اللغة التي يفهم بها النص، وإذا كان وروده متأخرا عن النص فلا عبرة به ولا حجة له (3). ‏

‏* ضوابط العرف دليل على شرعية العرف، فالعرف كما هو معلوم على سبيل القطع واليقين ليس مقبولا بإطلاق، وإنما يعتد به بشروط وضوابط، منها عدم معارضته للنصوص والقواطع والمقاصد وغير ذلك مما هو مبين في موضعه (1) . ‏

والخلاصة من كل ما ذكر، أن العرف المستخدم بغرض تحقيق المصالح، ليس مبنيا على الهوى، وليس دليلا على تسويغه للمصلحة المجردة من الأدلة والنصوص، فتلك المصلحة مبنية على العرف، والعرف مبني على اعتبار الشرع له، فتكون المصلحة إذن مبنية على الشرع ومعتبراته. ‏

شرعية اعتبار المآل والذرائع ومنع الحيل:‏

مبدأ اعتبار المآل يستند إلى عدة أمور شرعية، نذكر منها:‏

‏* قيام سد الذرائع من حيث المبدأ، له شواهده من القرآن والسنة، على نحو منع قول: (راعنا)، وإبداله بقول: (انظرنا)، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، وإعادة بناء البيت، وعدم نهر الأعرابي الذي تبول في المسجد، وغير ذلك (2).. ويدل عليه أيضا الإجماع والاتفاق على اعتباره ومراعاته (3). ‏

‏* قيام مبدأ نفي التحايل على معتبراته الشرعية، النصية والإجماعية والاجتهادية، وذلك على نحو استنكار عمل اليهود وتحايلهم في تحليل المحظور، كما جاء في مثال الصيد يوم السبت، ومثال إذابة شحوم الخنازير، وعلى نحو منع نكاح التحليل، وبيع الآجال، وتطليق الزوجة في مرض الموت لحرمانها من الميراث، وهبة المال قبل الحول للفرار من الزكاة، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتبه ومصادره. ‏

شرعية قاعدة: المشقة تجلب التيسير: ‏

تقوم القاعدة على أحكام التيسير والرخص الشرعية الثابتة باستقراء وتتبع الجزئيات الفقهية والاستخلاص من القواعد والمبادئ الكلية، وليست مبنية على ما يمليه العقل ويبينه الهوى، فهي شرعية في نشأتها، حيث قامت على استقراء الجزيئات كما ذكرنا، وشرعية في منتهاها، حيث لا تستخدم إلا في مواطنها وميادينها الشرعية. ‏

ثم إن المشقة الجالبة للتيسير هي المشقة غير المعتادة، التي لا يقدر عليها المكلف، أما المشقة المعتادة فلا مناص منها، وهي من طبيعة الحياة ومستلزمات أي فعل بشري خيرا أو شرا، منفعة أو مضرة . ‏

شرعية قاعدة: الأمور بمقاصدها: ‏

معنى القاعدة أن جميع أو أغلب الأقوال والأفعال تراعى فيها النيات والقصود من ناحية، ولزوم تطابق مآلاتها لمقاصد الشارع ومصالح الناس من ناحية ثانية، وتستند شرعيتها إلى ما ذكرناه قبل قليل إزاء شرعية اعتبار المآل، وإلى استنادها إلى الحديث الشريف: ( إنما الأعمال بالنيات ) (1)، وإلى عموم الأدلة الداعية إلى تخليص النيات وتصحيح القصود وغير ذلك (2) . ‏

شرعية قاعدة: تبدل الأحكام بتبدل الزمان والمكان والحال: ‏

القاعدة ليست على ظاهرها، بل هي محمولة على أن الأحكام مرتبطة من أصلها بما قد يتبدل من الظروف والأمكنة والأحوال، ويتغير بتغير أعراف الناس ومصالحهم وحاجاتهم ومتطلباتهم التي لم يحكم فيها، كأمثلة الأعراف القولية والعملية والمسائل المرتبطة بعللها ومناطاتها، والمتوقفة على ما نيطت وارتبطت به وجودا وعدما . ‏

فتغير الأحكام ليس راجعا إلى تغير الشرع نفسه وبطلانه ونسخه، فذلك محال لانتهاء زمن النسخ منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو راجع إلى أن لتلك الأحكام أوجها ودلالات مرتبطة بما ارتبطت به من علل وأعراف وأساليب ووسائل موصلة إلى غاية الشرع ومراد الشارع (3).. وقد ذكر البوطي تدقيقا وجيها لذلك بقوله: ( كل ما جاء به من الشارع حكم غير معلق تعليقا واضحا منضبطا على شيء، فإنما يجب أن يكون سير الزمن نفسه منضبطا به لا العكس، وذلك بإجماع عامة المسلمين ) (1) . ‏

وبناء على ما ذكر، فإن تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال هو عمل شرعي في غاية الشرعية، ومنتهى ملازمة تعاليم الوحي وهديه، لأن الذي غير تلك الأحكام في الحقيقة هو الشارع، وذلك عندما أمر بتغيير الأحكام إذا تغيرت الأحوال والظروف، فكل ما يطرأ من تغيير فهو عائد إلى تنفيذ ما أمر به الشارع، وتطبيق لما دعا إليه من جعل بعض الأحكام تدور مع المكان والزمان والحال، لتحقيق الصلاحية الإسلامية والدوام الشرعي، أحكاما ومصالح ومقاصد . ‏

إبطال التعسف في استيعاب التطبيقات : ‏

إن التطبيقات المقاصدية لأعلام الفقه والاجتهاد، ليست كما يدعي بعضهم من أنها تأتي في سياق معارضة النصوص والإجماعات وتقييدها أو تخصيصها، بصورة تجعل منها مبررا منطقيا وسببا وجيها للقول باستقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية، وانفلاتها من دائرة التعاليم والقواعد الشرعية. ‏

وقد تأول أولئك الكثير من الشواهد والأمثلة التي أعمل فيها النظر المقاصدي والتفسير المصلحي من قبل علماء الأمة، سلفا وخلفا، ولا سيما من قبل كبار الصحابة والتابعين كعمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وابن مسعود والنخغي وربيعة الرأي وغيرهم رضي الله عنهم من أفاضل الرعيل الأول وخيار كافة أجيال الأمة، لقربهم -فهما ومعايشة وخبرة وصلاحا- من عهد الرسالة المباركة والصحبة النبوية الشريفة. ‏

والرد المبدئي على ذلك الادعاء، هو أن تلك التطبيقات لم تكن لتشذ عن طبيعة المنهج الإسلامي الأصيل وقواعده العامة، ولم تكن لتبرر القول بالاعتماد المطلق على المصلحة من غير ضوابط وقيود، وإنما كانت مندرجة ضمن طبيعة الاجتهاد الشرعي الأصيل، من حيث تدقيق النظر وعمق الفهم، ورسوخ العلم بحيثيات النصوص ومراميها، وبملابسات الوقائع وقرائنها، وبدقائق النفس وخباياها. ‏

والاجتهاد المصلحي في تلك التطبيقات، لا يكون مبنيا على غير ثلاثة أمور: ‏

أن يكون النص ظنيا يحتمل عدة مدلولات ومعان، فيكون تحديد إحداها أو بعضها بناء على ما فيها من مصالح ومنافع، وفي هذه الحالة ليس هناك ما يدعو إلى القول بأن المصالح قد نشأت من فراغ أو هوى أو نزوة . ‏

‏- أن يكون النص منوطا بعلة أو وصف أو حكمة أو أي أمر يدور معه وجودا وعدما، فيكون العدول عن النص بموجب انتفاء ذلك الأمر، وليس من قبيل تعطيل النص بلا موجب ومقتضى، بل إن تطبيق النص بدون أمره المتوقف عليه هو عين التعطيل وذات الانحراف والشذوذ والزيغ . ‏

‏- أن يكون المناط الخاص أو العام غير متحقق، وأن تكون النازلة التي يراد تطبيق الحكم عليها غير متلائمة مع ذلك الحكم لسبب من الأسباب أو قرينة من القرائن، أو أي أمر يكون فيه تطبيق ذلك الحكم على تلك الواقعة موقعا في التعسف والتشويش والاضطراب والاهتزاز . ‏

وقد تعاقب العلماء الخلص على دراسة كل ذلك وتمحيصه وتحقيقه حتى تبقى شريعة الله باقية ودائمة وصالحة في كل الأطوار والأعصار، وحتى تدرأ عن الأفهام والعقول المزاعم والريب والشبه، وبغرض تحذير وتأكيد تكامل البنيان الشرعي وقمة تناسقه وروعة تكامله واستحالة ما يبدو ظاهرا من تعارض وتناقض وتضارب . ‏

وقد كان من ضروب ذلك تحقيق تلك التطبيقات من وجهة شرعيتها وتطابقها مع الأدلة والقواعد الشرعية، ونفي الزعم بمعارضتها للمنصوص والمجمع عليه، وغير ذلك مما تناوله العلماء بالبيان والتحقيق، ومما تكون إعادة عرضه وبيانه في هذا السياق من ضروب التكرار الممل والحشو الذي ليست له فائدة ترجى (1) . ‏

غير أن التأكيد المهم يتعلق بوجوب إقبال أهل العلم لجرد وتتبع سائر الشواهد والأمثلة التي عمل فيها بالنظر المقاصدي منذ عصر النبوة إلى العصر الحالي، لتحقيقها ورفع الالتباس عنها، وتأكيد دورانها في دائرة الشرع وحدوده، وهذا الأمر جدير بزيادة العمل فيه على الرغم من الأشواط التي قطعت فيه، وحقيق بأن تتضافر فيه الجهود الجماعية المباركة، وليس أن تتجاذبه المنازع الفردية على أهميتها . ‏

فما دور العقل في الاجتهاد المقاصدي إذن؟‏

من البديهي أن يطرح تساؤل مهم إثر البيانات السابقة المتعلقة باعتبار المقاصد أمرا مستخلصا من الأدلة الشرعية وليس خارجا أو مستقلا عنها، هذا التساؤل هو: ما هو دور العقل ومهمته إذن في العملية المقاصدية كلها؟ وهل يستساغ القول بمراعاة المقاصد والتعويل عليها في غياب العقل الإنساني، وتهميشه وتحجيمه أمام هيمنة النصوص والأدلة الشرعية على الأحكام ومقاصدها ونوازلها ومناطاتها وعللها؟ وهل يجوز القول: بأن للعقل حرية ونشاطا وإبداعا، وهو لا يمارس سوى التسليم للنصوص والخضوع للأدلة، والجري وراء العلل والمصالح والحكم التي تحددت وتبينت دون أن يكون للعقل فيها دور؟‏

إن كل تلك الاستفسارات وغيرها، تطرأ على مسيرة الحياة الفكرية من حين لآخر، وقد اتخذت في أوقات كثيرة سبيلا للتحامل والتشويه والنيل من القواطع والثوابت والمقدس تحت شعار العقلانية المبدعة التي حملت على غير محملها، وطوعت لقتل الإبداع العقلاني الأصيل، وإماتة الوسطية الإسلامية المعتبرة بإهدار عنصر الثبات والقطع فيها، والإيقاع في مجال الميوعة العقلية والانحلال الفكري والتيه السلوكي والحضاري. ‏

ويمكن أن نزيل هذه البدعة الحضارية الخطيرة جملة وعموما في هذا السياق، على أن نبين ذلك تفصيلا في المباحث القادمة (1).. لنقول إطلاقا كما ذكرت: إن كل المنظومة الشرعية، بأحكامها ونصوصها وتعاليمها وقرائنها ومقاصدها وأوصافها وعللها، لم تنزل إلى الوجود الكوني، ولم يترتب عليها الجزاء والنعيم الأبدي بجوار رب العالمين، ولم ينتظم على وفقها نظام الحياة وبناء الحضارات وغير ذلك، إن كل تلك المنظومة لم تنزل وتشرع إلا ليفهمها العقل، ويتحملها تنظيرا وممارسة، ولن يكون ذلك ميسورا إلا بإجراء عمل عقلي بناء، وفعل ذهني رائع، يمارس بتناسق وتنسيق مختلف ضروب ذلك الفعل العقلي من فهم واستنتاج، وتسوية وقياس، ومقارنة وموازنة، وترجيح وتنقيح، واستخلاص وإدراج، وتقعيد وتفريع، وغير ذلك من ضروب العمل العقلي والإبداع الذهني الذي نشهد آثاره مجسدة في ما وصل إليه البناء الحضاري العام من قيام النظم القانونية والقيمية والاجتماعية، ومن انبعاث لمحيط أرضي رائع بتشابك عمرانه ونمو مزروعاته، وثورة اتصالاته، وانتظام شبكة علاقاته المختلفة. ‏

وليس تنزل منظومة الأحكام على مسرح الحياة في شتى نواحيها ومشكلاتها، إلا دليلا على تدخل العقل في صياغتها وتنفيذها بما قام به من أدوار معتبرة في الفهم والتحصيل والترتيب والتنسيق بين الأدلة نفسها، وبين تلك الأدلة والأوضاع المتنزلة فيها والناس المخاطبين بها. ‏

المصدر :http://www.islamweb.net/newlibrary/...5&ChapterId=15&BookId=265&CatId=201&startno=0
 
أعلى