العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع ج 12 التقية

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
التَّقيّة: الفكرة والدوافع

في نهاية التسعينات جاء إلى الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا إيراني من رجال الدين الشيعة الذين ينتسبون إلى سلالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتقدم بطلب التسجيل لمرحلة الدكتوراه، وكان موضوع رسالته تحقيق مخطوط لعالم من علماء أهل السنّة. ولما اقترب من الفراغ من دراسته ذهب إلى عميد كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية وأخبره أنه ترك التشيّع وأصبح من أهل السنة والجماعة، وبعد ذلك بفترة تقدم بطلب للتوظيف بالجامعة، وتم توظيفه وأصبح مدرسا بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي والحضارة بالجامعة. وبعد سنوات قليلة تفاجأ العميد عندما علم أن ذلك الرجل قد ترك التدريس بالجامعة وأصبح الملحق الثقافي بالسفارة الإيرانية بماليزيا المسؤول عن نشر التشيّع. يقول العميد: التقيت به بعد فترة فقلت له: يا دكتور حسن ماذا حصل لك؟ لقد قلت إنك تركت التشيُّع! يقول: فابتسم الرجل ومضى! وهي ابتسامة التّقيّة. هذا مثال يعطينا صورة حية عن عقيدة التقيّة عند الشيعة، فهو كذب في ادعاء ترك التشيّع تقيّة من أجل الحصول على مركز يمكِّنه بعد ذلك من نشر التشيُّع.


مفهوم التَّقيّة وأصلها

التقيّة في اللغة الحذر والخشية والخوف، يقال: توقّيتَ الشيءَ إذا حَذِرْتَه وخشيتَهُ. واتّقى الشيءَ: حَذِرَهُ وتجنَّبَه. وفي الاصطلاح: تظاهر الشخص بغير ما يَعتَقِدُ فيه، سواء خوفا من البطش أم بغرض المخادعة.
أصل التقية في القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).([1])

ومما له صلة بالتقية المداراة، وهي: أن تُظْهِرَ لشخصٍ الاحترامَ والمودَّة وأنت في الحقيقة لا تحبُّه في قلبك، وإنما تفعل ذلك تجنُّباً لِمَا قد يصيبك من ظُلْمِه أو شَرِّهِ إذا أنت أظهرت له عدم حبِّك له، خاصة إذا كان صاحب سلطة وجاهٍ. عَنِ عَائِشَة أَنَّ رَجُلا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَلانَ لَهُ الْقَوْلَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ! قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ".([2]) والفُحْشُ: القبيح من القول والفعل.


الفَرْقُ بين أهل السنّة والشيعة في مسألة التقية: أنّ أهل السنّة جعلوا جواز التقية من باب الضرورة التي تبيح المحظور فقط، فلا يلجأ الإنسان إليها إلاّ في حال الضرورة، ولا يكذب باسم التقيّة من أجل تحقيق مصالحه، كما أنها لا تصير بأيّ حالٍ من الأحوال فضيلة من الفضائل، أو عبادة من العبادات.


أما الشيعة الإثني عشرية فقد توسّعُوا فيها توسُّعاً كبيراً وجعلوها هي الأصل، بل وصل التوسُّع فيها إلى جعلها جزءا أساسيّا من الإيمان؛ فلم تَعُدْ رخصةً من الرُّخَصِ الفقهيّة، بل دخلت باب العقيدة. وتصلُ المبالغة قِمَّتَها عندما يَنْفِي الشيعة الإيمانَ عن الذي لا يعمل بالتقيّة! فتنقلب الأمور ليصير الصِّدق معصيّةً وكفراً! والكذبُ والتقيّة عبادةً وإيماناً!
روى الكليني بسنده عن معمر بن خلاد أن أبا الحسن أخبره أن أبا جعفر قال: "التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقيّة له".([3])
كما جعل الشيعة التقيّة عبادةً من العبادات، بل جعلوها أفضل العبادات! روى الكليني بسنده عن هشام الكِنْدِي قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ...والله مَا عُبِدَ اللهُ بشَيْءٍ أَحَبَّ إليه مِن الخَبْءِ، قلت: وما الخَبْءُ؟ قال: التّقيّة".([4])
وروى الكليني بسنده عن حبيب بن بشر أنّ جعفر الصادق أخبره أنه سمع أباه محمد الباقر يقول: "لا والله ما على الأرض شيءٌ أحبّ إليّ من التقيّة، يا حبيب إنّه من كانت له تقيّة رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقيّة وَضَعَهُ الله...".([5])

والتقيّة عندهم ليس لها حدود، فكلّ شيء يحتاج إليه الشيعيّ يجوز له أن يستعمل فيه التقية. روى الكليني بسنده عن أبي جعفر قال: "التّقيّة في كلِّ شيء يَضْطَرُّ إليه ابن آدم فَقَدْ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ".([6])

بواعث التقيّة عند الشيعة
يَتَّضِحُ من دراسة النُّصوص الواردة في أصول الكافي عن التَّقيَّة وما يُكَمِّلُها في "باب الكِتْمَان" أنّ التنظير للتّقيّة كان من مستلزمات المنهج السري الذي اتَّبعه الشيعة في العمل السياسيّ، ومحاولة لدفع التناقضات التي أفرزها التطور الفكري والحراك الاجتماعي والسياسي للتيار الشيعي، حيث رأى مُنَظِّرُو ذلك التيار أن التَّوسُّع في التقية يعين على حلّ ما نتج عن ذلك من إشكالات.
ولما كانت التقية توسعا كبيرا في الكذب المحرم شرعا، وهو أمر قد يبعث في نفوس أنصار التيار الشيعي تحرجا من ذلك، عمد منظّرو ذلك التيار إلى وضع نصوص تُشَرِّعُ التقيّة، وتَرْفَعُ الشّعور بالحرج عن ممارستها لدى أتباع المذهب، ونسبوها إلى بعض أئمتهم. وقد أَحْسَنَ الكليني صُنْعاً عندما لم يَنْسِبْ في كتابه أصول الكافي أيّ رواية من الروايات الواردة في باب التّقيّة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل الروايات كلّها مَنْسُوبَة إمّا إلى محمد الباقر أو إلى ابنه جعفر الصادق،([7])
هذا يشير إلى أن وضع الأخبار المتعلقة بالتقيّة بدأ في عصر جعفر الصادق (توفي 148هـ) أو بعده. وتتلخص الأسباب التي دفعت الشيعة إلى اعتماد مبدأ التقيّة، وإعطائها أهميّة كبيرة إلى درجة جعلها أساس الإيمان وأفضل العبادات، فيما يأتي:

1 - تبرير سكوت أئمتهم عن المطالبة بالحكم
الناظر في مسيرة الأشخاص الذين نصّبهم الشيعة الإثني عشرية أئمة لهم يجدها مختلفة الأطوار من حيث الموقف من السلطة الحاكمة ومجالات الاهتمام.
فعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على الرغم من أنه كان يطمح إلى تولِّي الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنه لم يَسْعَ إلى طلب ذلك، وقَبِلَ بخلافة الخلفاء الثلاثة الذين كانوا قبله، فلمّا أُسْنِدَت إليه الخلافة دافع عنها.

أما الحسن فقد بايعه أتباع عليّ رضي الله عنه بعد مقتل أبيه وأسندوا إليه أمر الخلافة، ولكنه رأى أنّ جيشَهُ مهزومٌ، فتخلّى عمّا أُسْنِدَ إليه، ونَصَحَ أتباعه بمبايعة معاويّة وتوحيد السلطة السياسية للمسلمين. وقد جلب هذا الموقف على الحسن بن عليّ نِقْمَةَ الشيعة؛ حيث صار اسمه لا يكادُ يُذكر في كتبهم إلاّ عرضاً، ولولا الخوف من خَرْقِ سلسلة الإمامة التي قام عليها المذهب بسقوط حلقة من حلقاتها وانعدام التواصل بين عليّ والحسين -مما يؤدي إلى انهيار النظريّة والمذهب من الأساس- ربَّمَا لأُسْقِطَ الحسن بن عليّ من سلسلة الأئمة.
كما أنّ هذا الموقف الذي وقفه الحسن دفع الشيعة الإثني عشرية إلى حرمان ذريته من أيّ حقّ في الإمامة، فحصروها في ذريّة الحسين فقط.


وأمّا الحسين فقد غلبت عليه الجرأة فثار على ما رآه من ظلم وانحراف، وقد أغراه على ذلك عَرْضُ أهل الكوفة بمبايعته والقتال دونه، فكان ضحيّتهم كما كان والدُه.


ولم يقم أيّ أحد من أئمة الشيعة الإثني عشرية بعد الحسين بالثورة على السلطة الحاكمة، ولا جَاهَرَ بالمطالبة بالسلطة أو القول بأحقيّته بالخلافة. بل إنّ بعضهم كانت علاقاته مع السلطة الحاكمة علاقة قويّة وصلت إلى درجة المصاهرة، حيث تزوج علي بن موسى (الرضا) -وهو الإمام الثامن للشيعة الإثني عشرية- بنت الخليفة العباسي المأمون.([8])
ولَمّا كان عدم مطالبة أئمة الشيعة الإثني عشرية -ما عدا الحسين- بالخلافة، وعدم ثورتهم على السلطة القائمة، يمثّل أَقْوَى دليل على أنَّهم لم يكونوا يعتقدون أنّ الخلافة محصورةً فيهم شرعاً بالنصّ، ولا أنّهم أَوْلَى بها من غيرهم من المسلمين في كلّ الأحوال، فإن ذلك يعد هدماً للمذهب الشيعي الذي قام أصلاً على قضيّة أولويتهم بالخلافة بالنص الشرعي، ولذلك كان لابد من تبريرٍ مُقْنِعٍ لذلك السكوت عن المطالبة بالحكم، بل مبايعتهم للسلطة الحاكمة.
وكان الحلّ الأفضل هو القولُ بأنَّهم إنَّما فعلوا ذلك تقيّة، وكان هذا التبرير من أهم الدوافع التي دفعت الشيعة إلى جعل التقيّة أصلا من أصول دينهم.

2 - دفع التناقضات الداخلية
لقد أَفْرَزَ تطوُّرُ المذهب الشيعي من خلال ما مَرَّ به من مراحل للصِّراع السياسي والفكري تناقضاتٍ ومبالغاتٍ كثيرة، وقد صار ذلك يمثِّل مصدرَ إحْرَاجٍ شديدٍ لأتْبَاعِ المذهب الشيعي عندما يعجزون عن تبرير تلك المبالغات والتناقضات التي نتجت عن السعي الـمُستميت في الدفاع عن المذهب وتفضيله على غيره من المذاهب. كما أن كتب الشيعة قد روت كثيراً من النصوص التي تطعن في الأركان الأساسيّة للمذهب الشيعي وتخالفها، وتثبت أنّ مَنْ يَنْتَسِبُ إليهم الشيعة ويجعلونهم أئمةً لهم أبريَّاء من كثيرٍ مِمّا ينسبه إليهم أتباع المذهب الشيعي. وهنا يجد أتباع المذهب الشيعي أنفسهم في موقف ضعف، حيث أن تلك النصوص التي روتها مصادرهم الأساسية يمكن أن يستدلَّ بها مخالفوهم على بُطْلانِ المبالغات والزيادات التي نُسِبَتْ إلى أئمتهم.
وأمام تلك المواقف المحرجة وجد الشيعة أنّ التقيّة تمثِّل أفضلَ الوسائل وأسهلها لدفع تلك التناقضات والمبالغات، فَتُنْسَبُ الأقوالُ التي تُحْرِجُ أتباعَ المذهب إلى التقيّة، ويزعمون أنّ أئمتهم وعلماءهم إنما قالوها من باب التقية، وكلَّما ظهر لهم قولٌ -في كتبهم- يخالفُ أركانَ مذهبهم وينقضها قالوا إنه صدر من باب التقيّة!
ولا تجد هناك معياراً واضحاً لما يُعَدَّ من التقيّة وما لا يُعَدَّ منها سوى رغبات واختيارات أَتْبَاعِ المذهب الشيعي.

روى الكليني بسنده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر قال: "قال لي: يا زياد! ما تقول لو أفتينا رجلاً ممن يَتَوَلاَّنَا بشيء من التقيّة؟ قال: قلت له: أنت أعلم جُعِلْتُ فداك، قال: إنْ أَخَذَ به فهو خيرٌ له وأعظم أجراً. وفي رواية أخرى: إنْ أَخَذَ به أُوجِرَ وإنْ تَرَكَهُ والله أَثِمَ."([9])
وروى الكليني أيضاً بسنده عن نصر الخثعمي قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من عرف أنَّا لا نقول إلاَّ حقّاً فَلْيَكْتَفِ بما يَعْلَمُ مِنَّا، فإنْ سَمِعَ منَّا خلافَ ما يعلمُ فَلْيَعْلَمْ أنّ ذلك دفاعٌ مِنَّا عنه."([10])
وروى الكليني بسنده عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر قال: "سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! رجلان من أهل العراق من شيعتكم قَدِمَا يسألان فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة! إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم."([11])

الواقع أنّ هذه الأقوال لا يمكن أن تصدر عن محمد الباقر (أبو جعفر)، ولا جعفر الصادق (أبو عبد الله)، فهما معروفان بالعلم، وليس من المعقول لمن هو في مقامهما من العلم أن يتلاعب بأحكام الدين ويضلِّل الناس بهذه الصورة التي تصوِّرُها هذه الروايات. وإنما هي أقوال من وضع بعض مُنَظِّري المذهب الشيعي لتبرير التّعارض الموجود بين الروايات الموجودة في المصادر الشيعية. وهي تناقضات نتجت عن تعدُّدِ الـمُنَظِّرِين للمذهب الشيعي؛ فكلُّ مُنَظِّرٍ يَضَعُ نصوصاً تناسب متطلبات بيئته والمشكلات التي واجهها التيار الشيعي في وقته وينسبها إلى إمام من الأئمة، وربما اختلفت المشكلات من بيئة مُنَظِّرٍ إلى بيئة مُنَظِّرٍ آخر، ومن عصر مُنَظِّرٍ إلى عصر مُنَظِّرٍ آخر فتُوضَعُ نصوصٌ مختلفة للتعامل مع تلك المشكلات، وبذلك يكثر تعارض الأقوال المنسوبة إلى إمام واحد، فكانت الحاجة إلى القول بأن بعض تلك الأقوال إنما صدر من باب التقية فقط.

3 - المحافظة على أسرار التنظيم وحماية أفراده
من مقتضيات العمل السّري الكِتمان والتّمويه للمحافظة على أسرار التنظيم وخططه، وقد كان هذا واحدا من مبررات القول بالتقية. وكان لابد من وضع نصوص منسوبة إلى الأئمة البارزين تُلزم أفراد التيار الشيعي بالمحافظة على الأسرار.
روى الكليني عن عِدَّةٍ من أصحابه بسنده أن جعفر الصادق قال لِمُعَلَّى بن خنيس: "يا مُعَلَّى اكتم أمْرَنَا ولا تُذِعْه، فإنّه من كَتَمَ أَمْرَنَا ولم يُذِعْه أعزّه الله به في الدنيا وجعله نوراً بين عينيه في الآخرة، يقوده إلى الجنة. يا مُعَلّى من أذاع أمْرَنَا ولم يكتمه أذلّه الله به في الدنيا ونزع النور من بين عينيه في الآخرة وجعله ظلمةً تقوده إلى النّار، يا مُعَلّى إنّ التقيّة من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له. يا مُعَلّى إنّ الله يحبّ أن يُعْبَد في السّرّ كما يحبّ أنْ يُعْبَد في العلانية. يا مُعَلَّى إنّ المذيع لأمرنا كالجاحد له".([12])
هذا نصّ صريح في بيان أنّ هدف منظِّري المذهب الشيعي من فَرْضِ التقيّة على الأتباع هو كِتْمَان أسرار التّنظيم ومبادئه وأفكاره، خاصّة وأنه كان من سلبيّات الشخصية الشيعيّة في تلك المرحلة عدم المحافظة على أسرار التّنظيم.

وروى الكليني أيضاً عن رجل أنهم دخلوا جماعة على محمد الباقر (أبو جعفر) فقالوا: "يا ابن رسول الله إنَّا نريد العراق فَأَوْصِنَا، فقال أبو جعفر عليه السلام: لِيُقَوِّ شديدُكُم ضعيفَكُم، وليَعُد غنيُّكُم على فقيرِكِم، ولا تَبُثُّوا سِرِّنا ولا تُذِيعُوا أَمْرَنَا".([13])

ومن مقتضيات المعارضة السريّة أيضا لجوء أفراد التنظيم إلى إخفاء انتمائهم، والتقيّة تُعَدُّ من أفضل الوسائل لتحقيق ذلك.
روى الكليني بسنده عن مُعَمَّر بن خلاد قال: "سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: التقيّة من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقيّة له".([14])

4- الحصول على العطايا المالية
الحال عادة في الأنظمة الاستبدادية أن يُبْخَس الـمُعارِضُ للسلطة حقوقه، حيث يُربط -عادة- الحصول على العطاء الذي تمنحه الدولة لأفراد المجتمع بمبايعة الشخص للسلطة الحاكمة.
وقد كان عامة الشيعة لا يرغبون في مبايعة خلفاء الدولتين الأموية والعباسية؛ لأنهم يرون أنّ أئمتهم من أفراد البيت العلوي أَوْلَى وأحقّ بالخلافة، ولكنّهم كانوا في حاجة إلى ذلك؛ لأن الامتناع عن إعطاء البيعة قد يُعَرِّضُ صاحبَه للحرمان من العطايا المالية التي تقدمها الدولة لأفراد المجتمع، وقد كانت التقيّة خيرَ وسيلة لذلك؛ فهي تسمح بإعطاء الولاء الظاهري للسلطة الحاكمة لينال به حقوقَه الماليّة والسياسيّة، وفي الوقت ذاته يحجب الشخص ولاءَه القلبي والروحي عن تلك السلطة ويعطيه لمن يعتبرهم أئمته وزعماءه.
روى ابن سعد في طبقاته عن الأسود بن قيس حواراً بين محمد بن عليّ بن أبي طالب ورجل من شيعة العلويين في خراسان جاء يسأله عن أشياء تقال عن آل عليّ بن أبي طالب ويستفتيه في الثَّوْرة على السلطة الأمويّة، فكان جواب محمد بن عليّ بن أبي طالب: "وأمّا قولُك لقد هَمَمْتُ أنْ أخْرُجَ مع أقوامٍ شهادتُنَا وشهادتهم واحدة ]يعني الخوارج[ على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون ونقيم، فلا تفعل، لا تفارق الأمّة، اتَّقِ هؤلاء القوم ]يعني بني أمية[ بِتَقِيَّتِهِم، ولا تُقَاتِلْ معهم. قال: قُلْتُ: وما تَقِيَّتُهُم؟ قال: تُحْضِرُهم وجْهَك عِنْدَ دعوتهم فَيَدْفَعُ اللهُ بذلك عنك عن دَمِكَ ودِينِكَ، وتُصِيبُ مِن مالِ اللهِ الذي أَنْتَ أحقُّ بِهِ مِنْهُم".([15])

5- تجنُّب إحراج أتباع الفِرقة
يجد أتباعُ الفِرق الدينية التي تكون لها أفكار وعقائد غريبة حرجاً في إظهار تلك الأفكار والعقائد -خاصة في مرحلة النشأة والتطور- فيلجأون إلى التَّكَتُّمِ عليها، وعدم الخوض في نقاشات تتعلّق بها، وتحقّق هذه السياسة للفِرقة ثلاثة أهداف:

أولها: حماية أتباع الفِرقة مما قد يتعرَّضُوا له من سوءِ سُمْعَةٍ أو إحْرَاجٍ أمام الناس. روى الكليني بسنده عن هشام الكِنْدِي قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إيّاكُم أنْ تَعْمَلُوا عملاً يُعَيِّرُونَا به، فإنّ وَلَدَ السُّوءِ يُعَيِّرُ والِدَه بِعَمَلِه. كُونُوا لِمَن انْقَطَعْتُم إليه زَيْناً ولا تَكُونُوا عليه شَيْناً، صَلُّوا في عَشَائِرِهِم، وعُودُوا مَرْضَاهم، واشْهَدُوا جَنَائِزَهُم، ولا يَسْبِقُوكُم إلى شَيْءٍ من الخير فَأَنْتُم أَوْلَى بِه مِنْهُم. والله مَا عُبِدَ اللهُ بشَيْءٍ أَحَبَّ إليه مِن الخَبْءِ، قلت: وما الخَبْءُ؟ قال: التّقيّة".([16])
وروى الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنه ليس مِنْ احْتِمَالِ أَمْرِنَا التّصدِيقُ لَهُ والقبولُ فقط، مِنْ احْتِمَالِ أَمْرِنَا سَتْرُهُ وصيّانَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، فَأَقْرِئْهُم السلامّ وقُلْ لهم: رَحِمَ اللهُ عبداً اجْتَرّ مودّةَ الناسِ إلى نفسه، حدثوهم بما يعرفون واسْتُرُوا عنهم ما يُنْكِرُون، ثم قال: والله ما النّاصب لنا حرباً بأشدّ علينا مؤونة من النّاطق علينا بِمَا نَكْرَه، فإذا عَرَفْتُم من عَبْدٍ إذاعةً فامشوا إليه وردّوه عنها، فإن قَبِلَ منكم وإلاّ فَتَحَمّلُوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإنّ الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تُقْضَى له، فألطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم، فإنْ هو قَبِلَ منكم وإلاّ فادفنوا كلامه تحت أقدامكم ولا تقولوا إنه يقول ويقول، فإن ذلك يحمل عليّ وعليكم ...".([17])

والثاني: إحاطة عقائد الفِرْقة وأفكارها بهالة من التّقديس وإعطاء أتباعها شعوراً بالخصوصيّة؛ فهذا التّكتّم والانغلاق يجعلهم يشعرون بأنّهم يحملون شيئاً خاصا لا يملكه غيرهم من الناس مما يعطيهم قوّة في الاعتزاز بتلك الأفكار والثّبات عليها وعدم الذّوبان في التيّار العامّ للمجتمع الذي يعيشون فيه.
روى الكليني بسنده عن أبي عبد الله قال: "اتَّقُوا على دينكم فاحجبوه بالتقيّة فإنّه لا إيمان لمن لا تقيّة له، إنّما أنتم في الناس كالنّحل في الطير، لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النّحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم، ولنحلوكم في السّرّ والعلانيّة، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا".([18])

والثالث: توفير الجوّ المناسب لقبول كلِّ الأفكار التي يُوَلِّدُهَا مُنَظِّرُو الفِرْقَة لتطوير منظومتها الفكرية أو تحقيق أهداف مرحليّة أو استراتيجية للفِرقة؛ فمثل هذا الجوّ لا يسمح بمناقشة تلك الأفكار وتمحيصها، وليس أمام الأَتْبَاع إلاّ قبولها والتّصديق بها مهما كانت غريبة ومُنْكَرَةً.
روى الكليني بسنده عن أبي عبيدة الحَذَّاء قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أَوْرَعَهُم وأفْقَهَهُم وأَكْتَمَهُم لحديثنا، وإنّ أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم لَلَّذِي إذا سمع الحديث يُنْسَبُ إلينا ويُرْوَى عنّا فلم يَقْبَلْهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وجَحَدَهُ وكَفَّرَ مَنْ دَانَ بِهِ وهو لا يَدْرِي لعلَّ الحديثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَج وإلينا أُسْنِد، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا".([19])
هكذا يجب على أتباع المذهب الشيعي أنْ يُصَدِّقُوا بكلّ ما يُنْقَل إليهم منسوباً إلى الأئمة حتى ولو كان لا يقبله العقل ولا يصدّقه الواقع، ويجب على كلّ شيعي أن يستحضر دائماً أنه إذا أنكر شيئا مما يُنتجه المطبخ الفكري للشيعة فسيكون خارجا عن ولاية الأئمة، والخروج عن ولايتهم هو الهلاك في النار!

([1]) آل عمران: 28.
([2]) مسلم. صحيح مسلم. كتاب البر والصلة والأدب. باب مداراة من يُتَّقى فحشه. ج4. ص2002.
([3]) الكليني. أصول الكافي. ج3. ص311.
([4]) الكليني. أصول الكافي. ج3. ص311.
([5]) المرجع نفسه. ج3. ص308.
([6]) المرجع نفسه. ج3. ص313.
([7]) الكليني. أصول الكافي. ج3. ص307-314؛ ج3، ص314 وما بعدها.
([8])
اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص182.
([9]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص84.
([10]) المرجع نفسه. ج1. ص85.
([11]) المرجع نفسه. ج1. ص84-85.
([12]) المرجع نفسه. ج3. ص317.
([13]) المرجع نفسه. ج3. ص315.
([14]) المرجع نفسه. ج3. ص311.
([15]) ابن سعد. الطبقات الكبرى. ج5. ص71.
([16]) ابن سعد. الطبقات الكبرى. ج3. ص311.
([17]) المرجع نفسه. ج3. ص315-316.
([18]) ابن سعد. الطبقات الكبرى. ج3. ص309.
([19]) المرجع نفسه. ج3. ص317.
 
التعديل الأخير:
أعلى