العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مقاصد العقوبات في الإسلام

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

مقاصد العقوبات في الإسلام



المقصد العام من العقوبات "حفظُ نظام الأمة، وليس يُحفظ نظامُها إلا بسدّ ثلمات الهرج والفتن والاعتداء، وأن ذلك لا يكون واقعا موقعه إلا إذا تولَّته الشريعة ونفذته الحكومة، وإلا لم يزدد الناس بدفع الشرّ إلا شرًّا."[1] ويمكن تلخيص أهم مقاصد العقوبات في الإسلام في العناصر الآتية:

1- تعليم الإنسان المسؤولية عن أفعاله: العقوبة تجعل الشخص يذوق العواقب المؤلمة لفعله السيء، فيتعلَّم تحمُّل مسؤولية أفعاله، ويرتدع عن العودة إليها. قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة: 95).
وقد عبَّر ابن عاشور عن هذا المقصد بالتأديب الراجع إلى إصلاح الفرد.[2]

2- إرضاء المجني عليه، ومنع وقوع الثأر الذي يؤدي إلى العدوان والفوضى عند عدم معاقبة الجاني.[3] ولذلك لم يجعل الشرع تطبيق العقوبات لآحاد الأفراد، بل جعلها للدولة عن طريق نظام القضاء. فإذا قامت الدولة بمعاقبة الجاني، ورأى المجني عليه ذلك، تحقق إرضاؤه، فلا يجد في نفسه بعد ذلك داعيا للثأر، كما يتحقق العقاب العادل للجاني من سلطة محايدة لا تجد في نفسها غضبا وثورانا يدفعها إلى الثأر بغير عدل كما يحصل لو تُرِكَ أمرُ العقاب للمجني عليه.

3- زجر الناس عن ارتكاب الجرائم: عندما يعرف الشخص أن فعلا من الأفعال السيئة تترتب عليه عقوبة قانونية، ويرى تطبيق تلك العقوبة على المجرمين، فإن ذلك يبعث في نفسه الرهبة من الوقوع في تلك الأفعال، وبذلك تكون العقوبة وازعا ماديا يدعم الوازع الذاتي الناتج عن الإيمان والتقوى. وقد شرع الإسلام إقامة بعض العقوبات علانية زيادة في تحقيق ذلك الزجر، قال تعالى: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2).

4- توفير الأمن والبيئة الصالحة: إن استقرار حياة الناس يحتاج إلى الأمن، حتى يأمن الناس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم. فمثلا: عقوبة الردة لتوفير الأمن الديني، حتى لا يعمل المرجفون على تشكيك عامة الناس في دينهم من خلال إظهار الردة والطعن في عقائد الإسلام وشرائعه. وعقوبة القصاص لتوفير الأمن على النفوس، فلا يتجرأ الناس على القتل. والقصاص أفضل وسيلة للحفاظ على الحياة، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179). وعقوبة السرقة ليأمن الناس على أموالهم، فلا يتجرأ الناس على سرقة أموال غيرهم. وعقوبة القذف ليأمن الناس على أعراضهم، فلا يتجرأ الناس على اتهام غيرهم بالفاحشة والطعن في أنسابهم.

5- قصر العقوبة وآثارها على الجاني قدر الإمكان: لقد جاءت الشريعة بعقوبات يقتصر أثرها على الجاني ولا يتعدى إلى أفراد أسرته أو إلى المجتمع بصفة عامة. ولذلك نجد أن العقوبات الواردة في القرآن الكريم والسنّة النبوية تتركَّز على العقوبات الجسدية التي يقتصر أثرُها على الجاني. أما العقوبة بالسجن فهي ليست عقوبة أصلية في النظام الإسلامي. نعم، ورد في القرآن الكريم عقوبة تشبه عقوبة السجن، وهي حَبْس المرأة التي ترتكب الفاحشة في بيتها، وذلك في قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا) (النساء: 15)، ولكنها نُسِخَت وشرعت عقوبة الجلد بدلا منها. وفضلا عن كونها نُسِخَت، فهي تختلف عن عقوبة السجن المطبَّقة في العصر الحديث، فهي مجرد إقامة جبرية في البيت بحيث لا تُفصل المرأة في حبسها عن أسرتها، فلا تتضرر أسرتها بفصلها عن بيتها.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب أحدا من الجناة بالحبس، وما يذكره الذين يكتبون في عقوبة السجن من حبس النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأسرى في المسجد أو في مكان آخر ليس من باب العقوبة بالحبس، وإنما هو احتجاز مؤقت لأولئك الأشخاص في انتظار البتّ في مصيرهم.

وقد حصلت واقعة في زمن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- مع الشاعر الحطيئة (جرول بن أوس العبسي) الذي كان سليط اللسان كثير الهجاء، حيث شكاه أحد الذين هجاهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر بحبسه.
فلما أرسل إليه الحطيئة قصيدة مطلعها الأبيات الآتية:
ماذا تـقول لأفراخ بذي مَرَخٍ زُغْب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقَيْتَ كاسِبَهُم في قَعْر مُظْلِمَة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أدرك عمر أن آثار عقوبة الحبس تعدّت الجاني إلى أُسْرته فأمر بإطلاق سراحه. ويروى أنه دفع له مبلغا من المال مقابل الكفّ عن أعراض المسلمين، وأخذ عليه عهدا ألا يعود إلى هجاء أحد.

لقد أجاز الفقهاء الأوائل الحبس المؤقَّت للمدين المماطل الذي يرفض دفع ما عليه من دين للضغط عليه للوفاء بدينه، أو حبس المتَّهَم في تهمة خطيرة في انتظار التحقيق والبتّ في أمره، وليس ذلك من باب تشريع الحبس عقوبة على فعل من الأفعال.

وقد أُدْخِلَت عقوبة السجن في التاريخ الإسلامي على يد الحكام الظَّلَمَة المستبدِّين الذين كانوا يسجنون من ينتقدهم ويعترض على فسادهم واستبدادهم، ثم أصبحت جزءا أساسيا من النظام العقابي الحديث عندما نُقِلَت القوانين الغربية إلى العالم الإسلامي. وهي عقوبة كلُّها سوءٌ واعتداء على الحقوق: ففيها اعتداء على حقوق الزوجة والأولاد بحرمانهم من راعيهم وعائلهم. وفيها تضييع لوقت السجين في غير فائدة، وتضييع لطاقات المساجين وخبراتهم دون عائد. وفيها إفساد لأخلاقهم، وتعليم الإجرام حين يلتقي السجناء الذين ليس لهم رصيد سيء في الإجرام بالمجرمين المحترفين فيتعلمون منهم فنون الإجرام. وفيها إهدار لأموال الدولة بالإنفاق على مئات الألوف من السجناء. وقد بدأ الأوروبيون يقلصون من عقوبة السجن في الجرائم غير الخطيرة ويعوضونها بعقوبة "خِدْمَة المجتمع".

قد يكون الأوروبيون معذورين حين أدخلوا عقوبة السجن والغرامة المالية بدلا من العقوبات الوحشية التي شرعها القانون الروماني! ولكننا لسنا معذورين في تقليدهم في تعميم تلك العقوبات؛ لأن العقوبات الموجودة في شريعتنا متناسبة مع الجرائم التي وُضِعَت لها، وآثارها قاصرة على المجرم غير متعدية إلى غيره. إن الحجة التي يقدمها أنصار عقوبة السجن بأن العقوبات الجسدية فيها إهانة لكرامة الإنسان هي حُجَّةٌ داحضة! فمن ذا الذي يزعم أن السجن ليس فيه إهانة لكرامة الإنسان؟ وأي إهانة أكبر من أن يُرمَى الشخص في زنزانة وتُضيّع حياتُه في غياهبها؟ أيهما أقل إهانة: إن تجلد الشخص عددا من الجلدات ليذوق وبال جريمته ويتأدب، ثم تتركه يذهب وشأنه ليعيش حياته ويَعُول أسرته وينفع مجتمعه، أم أن تسجنه شهورا أو سنوات طوال فتُضيِّع حياته ووقته الثمين وتحرمه من أسرته، وتحرم أسرته منه، وتضيِّع أولاده وزوجته، وتُقيِّد حريته، وتمنع المجتمع من الاستفادة من طاقاته وخبراته؟ لا شك أن الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للسجن أكبر بكثير من آثار العقوبة الجسدية، ولا يوجد مبرِّر حقيقي لسجن الشخص إلا إذا كان مجرما محترفا شُغْلُه الإجرام، ولا مناص من كفّ شرِّه عن المجتمع إلا بسجنه.[4]

[1] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص381.
[2] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص381.
[3] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص382.
[4] للدكتور يوسف بن عبد الله الأحمد مقال مفيد بعنوان: التعزير بعقوبة (السجن بالـمُدَد) هل لها أصل في الإسلام؟ موجود على موقع "صيد الفوائد" على الرابط الآتي: http://www.saaid.net/Doat/yusuf/50.htm
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
أعلى