العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق لـ عبد السلام البلتاجي.

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق

الأستاذ محي الدين عبد السلام البلتاجي
المصدر: موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق الفقهية

المصدر: موقع الألوكة


http://www.alukah.net/articles/1/authorarticles.aspx?authorid=1658

قبل أن نصوِّر موقف الإمام مِن مدرسة العِراق، يَتَعَيَّن علينا بادئ ذي بدء، أن نحدِّد المنحى الاجتهاديَّ له، ذلك أنه ما لم تتحدَّد لنا معالِم منحاه، يصبح منَ الصعب تصوير موقفه من مدرسة العراق أو غيرها أيضًا، فإنه على ضوء هذا المنحى ستبرز معالِم الخلاف أوِ الموافقة التي تُشَكِّل جوانب هذا الموقف، ويمكن تحديد منهج الإمام إجمالاً، وبصورةِ شديدة الإيجاز في تلك الكلمات المُسْتَخْلَصة من مواضع مختلفةٍ من رسالته الأصوليَّة، وهي قوله: "الأصل قرآن وسنَّة، فإن لم يكن فقياسٌ عليهما، وإذا اتَّصل الحديث عنِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصَحَّ الإسناد منه - فهو سُنَّة، والإجماع أكبر منَ الخبر المفرد، والحديث على ظاهِره، وإذا احتمل معاني فما أشبه منها ظاهره أَوْلاها به، وإذا تكافأتِ الأحاديثُ فأصَحُّها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيَّب، ولا يُقاس أصلٌ على أصل، ولا يقال للأصل: لِمَ؟ وكيف؟ وإنما يقال للفرع: لِمَ؟ فإذا صَحَّ قياسه على الأصل، صَحَّ وقامتْ به الحجَّة".


ومن خلال هذا الموجَز الذي روعيَ فيه القصد ما كان إلى القَصْد سبيلٌ، نستطيع أن نُحَدِّد بعض الخصائص التي ينفرد بها الإمامُ عن غيره؛ ذلك أنه بتحديد هذه النِّقاط التي تُشَكِّل في مجموعها المنهجَ الذي اتَّخَذَه، قدِ استبان لنا منحاه، ويمكن القولُ أيضًا بأنَّ الرُّؤية قدِ اتَّضَحَتْ أمامه بصورةٍ دقيقةٍ، مِن خلال تحصيل دائبٍ، ومعاناةٍ طويلةٍ، واتصال واعٍ بمختلف الاتجاهات الفِقهيَّة، التي تعاصَرَتْ في زمنه، وقبل زمنه؛ بل ومن خلال ملابسته لِفُقهاء هذه الاتجاهات، ومناقشته لهم ولِطُرُق بَحْثهم واجتهادهم، كل ذلك انتهى به إلى أن يُحَدِّدَ موقفه منهم جميعًا تحديدًا دقيقًا واضِحًا، وأن يرسمَ لنفسه مسارًا محددًا، لا يخرج عليه إلاَّ في النذر اليسير، الذي يعرضه الضعف البشري، الذي يقصر بالناس، وتغايره مع موقف الكوفيينَ، كما لمس موقف المدنيينَ منَ القياس - أيًّا كانوا - مِن بلوغ الكمال؛ فقد لمس موقف المدنيين منَ الحديث والرأي، وتغايُره مع موقف الكُوفيين، ورأى مثل ذلك في إجماع أهل المدينة وإجماع العلماء عامَّة، وتلمَّس مساره بين كلِّ هذا، مُحاوِلاً إيجاد الضوابط التي تُحَدِّد هذا المسار، وهذا نَقَلَه بالتالي منَ الفُرُوع إلى الأُصُول، وكانت تلك بلا شك خُطوةً جديدةً في التفكير الفقهي بعامةٍ، وفي تفكير الإمام بخاصَّة، وانتهى به ذلك - كما قلنا - إلى تحديد مساره بحدودٍ دقيقةٍ، ثم عرض بعد ذلك للنتاج الفكري الفقهي بأصوله وفروعه في الاتجاهات المتعاصرة في زمنه، فما وجده مخالفًا لما انتهى إليه من قواعد هاجَمَهُ، لا يُفَرِّق في ذلك بين اتجاهٍ وآخر، وغير متأثِّر في ذلك بأيِّ عاملٍ منَ العوامل الذاتيَّة أو البيئيَّة.


ومهما يكن الأمرُ في تقييم المنهج الذي انتهى إليه الإمامُ، ومهما كان رأيُ الناقدين لأثره وقيمته، أو لمبلغ ما حقق للفقه الإسلامي مِن تَطَوُّر، فإن الذي لا شكَّ فيه أنَّ الإمام كان أولاً وقبل كلِّ شيءٍ يُمَثِّل أوَّل مجددٍ بين فقهاء المسلمين في عَصْرِه، فقدِ امتاز بالنظرة الشامِلة، وكانتْ جُلُّ عناية مُعاصِريه تَتَّسِم بالصيغة الجزئيَّة، وانتهَتْ جُهُودُه الخاصَّة إلى وضع منهجٍ كليٍّ يستغرق شَتات الفُرُوع المُتَفَرِّقة، ويُخضعها لأصولٍ ثابتةٍ مُوَحّدة، ثم يعرض للاجتهادات المختلفة، ويَعْرِضها على تلك الأُصُول، وهي لديه صحيحة ما استقامَتْ لِشُروطِه وحدودِ مَنهَجِه - الذي اعتقد أنه الصواب - وينبُذ ما تَخَالَفَتْ مع حدود هذا المنهج، وما افْتَقَرَتْ لتلك الشُّروط.


وَيَتَعَيَّن علينا قبل أن نُمثِّل لعمل الشافعي فيما سبق به القول، أو نلفت إلى سبقِه في هذا المضمار، مما جَعَلَهُ على رأس قائمة واضعي أصول الفقه مِن علماء المسلمين، والواقعُ أن معاناة وضع أصول الفقه تقف بالأصول أمام طريقين: الأول: أن يضعَ قواعد تُعين المجتهدَ على استنباط الأحكام مِن مصادر التشريع المُتَّفق عليها، وهي: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقِياس، والثاني: استِخْراج القواعد العامَّة الفقهيَّة لكل بابٍ مِن أبواب الفِقه، ومناقشتها، وتطبيق الفُرُوع عليها؛ لينتهيَ مِن ذلك لتحديد القواعد التي تعالِج جوانب حياةِ الجماعة الإنسانيَّة المختلفة؛ مثل: قواعد البيع والإيجار وغيرها، مع تحديدها، وتبيين مسالك التطبيق عليها، وكلا الطريقينِ يصح أن يطلق عليه أصول الفقه.


وقد مَزَج الإمامُ في منهجِه بين الطريقتينِ، فنحن نجده في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه "الرسالة" يضعُ القواعد التي يُستَعان بها على الاستنباط منَ الأُصُول، ثم يحاوِل مناقشة تلك القواعد وتطبيقها على الفُرُوع، ويُبَيِّن مسالك التطبيق؛ بل ويتجاوز ذلك فيعرض لأوجه المخالفة ليناقشها؛ ويبرز جوانب الخَطَأ فيها، وهذا الذي نجده في "الرسالة" نجده أيضًا في مواضع عديدة من كتابه "الأم"، في صحيفة 250 وما بعدها[1]، ونجده أيضًا في الفصل الذي يعقده لإبطال الاستحسانِ في الجزء السابع منَ "الأم" صحيفة 267 وما بعدها؛ فقد عرض لأشتاتٍ منَ الفروع، وانتهى إلى أصول متفرقة ثمَّ قَعَّدَ لها، ثم جرَّد تلك القواعد ورتَّبَها، ويتَّضِح ذلك في تنظيمه للإجماع، وتنظيمِه للقياس، ووَضْع قواعد له، وتقسيمه، وتوضيح عِلله ومواضع جوازِه ومنعِه.


وقد أَكْسَبَهُ هذا السَّبْق، وتلك القدرة على المُعالَجة مكانةً اعترَف له بها الأَقْدَمُون، يقول الفخر، فيما أورده صاحب "طبقات الشافعيَّة": "واعلم أنَّ نِسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطوطاليس إلى علم المنطق، وكنِسبَة الخليل إلى عِلم العروض؛ وذلك لأنَّ الناس كانوا قبل أرسطوطاليس يستدلُّون ويعترضون بمجرد طباعهم السَّليمة، لكن ما كان عندهم قانون مُلَخَّص في كيفية ترتيب الحُدُود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مُشَوَّشة ومضطرِبة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعنْ بالقانون الكلي قلَّما أفلَح، فلما رأى أرسطوطاليس ذلك اعتزل عنِ الناس مدَّة، واستخرج علم المنطق، ووَضَع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة ترتيب الحُدُود والبراهين، وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارًا، وكان اعتمادهم على مجرد الطَّبع، فاستخرجَ الخليل عِلْمَ العروض، فكان ذلك قانونًا كليًّا في معرفة مصالح الشِّعر ومفاسده، فكذلك - هاهنا - الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يَتَكَلَّمُون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانونٌ كليٌّ مرجوعٌ إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفيَّة معارضتها وترجيحاتها، فاسْتَنْبَطَ الشافعي - رحمه الله - علم أصول الفقه، ووضع قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلَّة الشرع، فثبت أنَّ نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطوطاليس إلى علم العقل"[2].


ومِن هنا يمكن القولُ بأن الشافعي بدأ فقيهًا، وانتهى أصوليًّا، ثم جمع في أُخْرَياته بين الاثنينِ حين نزل مصرَ، وأعاد النظر في كتبه الفقهيَّة على ضوء ما انتهى إليه، بعد تحديد مساره من خلال تراثٍ فقهيٍّ ضخم، تَحَكَّمَتْ في توجُّهه اتجاهات مختلفة؛ ولذا فإن "الأم" يُطالعنا بالاتجاهينِ معًا، وهو يُشَكِّل مجموعة أماليه على تلاميذه بِمِصْر.


وقد آنَ الآن أن نعرض لطريقته، وهو يحدِّد هذا المسار في معرض معالَجة أصل من الأصول المهمة، وهو الحديث، لقد وجد الإمامُ جماعة يقفون منَ الحديث موقفَ المفكر، وجماعةً يقفون موقفَ المتردد المتشكك، يضعون له شروطًا قد تصل إلى حد التَّعَسُّف لإِعماله، وجماعة يعملون به في سهولةٍ ويُسر، وآراء متعددة متباعِدة لا سبيل إلى التوفيق بينها؛ بل ووجد أن المطلوب ليس التوفيق بينها، وإنما المطلوب هو ابتداعُ طريقةٍ جديدة تخلص إلى قاعدةٍ كلية تُعْرَض عليها تلك الآراء المختلفة، ويُحْتَكَم إليها، فيما وصلت إليه هذه الآراء - وهي بعد ذلك منتهِية إلى أحدِ أمرين، إمَّا أن تستقيمَ لهذه القاعدة، فتندرج تحتها وتُثبت صحتها وسلامتها، ويبرز الأدلة على تلك الصحة والسلامة، ولا تستقيم، فتنبذ وينبري الإمام لمهاجمتها، ويبرز الأدلة على خطئها وبُعدها عن الصواب، وقد بدأ عند معالَجَته للحديث يُنَفِّذ هذه الطريقة، فنجده يضع القاعدة الكلية على هيئة بنودٍ تستغرقها على الوجه التالي:
أ - إذا حَدَّثَ ثقةٌ عن رسول الله، ولم يكن هناك حديث يُخالفه، عَمِل به.
ب - إذا تخالفت الأحاديثُ نَظَر:
1 - هل فيها نَاسِخ ومنسوخ؛ كأن يتأخر أحدها في الزمن، ويثبت بدليل ما أن الأخير ينسخ الأول، فيعمل الأخير.
2 - فإن لَم يتأكدْ وقوع النَّسخ، نَظَر في أوثق الروايات، من حيث الصِّحَّة، مستعينًا بعِلم الرواية، فعَمِل بها.
3 - فإن تَكَافَأَتِ المرويات، عُرِضَتْ على الكتاب وعُمُوم السنة الثابتة، وعَمِل بما كان منها أقرب إلى ذلك من غَيْرِه.
ج - إذا ثَبَتَ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يَعْدِلُه شيءٌ مِن رأيٍ، أو قياسٍ، أو أَثَرٍ مرويٍّ عن صحابيٍّ أو تابعيٍّ.


وبعد أن وضع الإمام القاعدة الكلية، معتمدًا على ما تؤدي إليه مِن معارف وعلوم عصره، ومسترشدًا بِمِرَاسِه الطويل في ميدانِ الفقه، ومُسْتلهِمًا الصوابَ من يقِينه ورُوح الشريعة، وما حواه أصلُها من تحديدٍ لمكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحديثِه، يبدأ في عرض الاتجاهات السَّائدة في عصره حِيال الحديث على تلك القاعدة الكُلِّيَّة التي انتهى إليها.


فإذا ما انتهينا مِن ذلك التعميم، ونزعنا إلى التخصيص تبيَّن موقف الإمام مِن مدرسة العراق - في شيءٍ منَ الإجمال - بالنِّسبة لهذا الأصل بعد أن عرضنا لمنهجه فيه بالتفصيل، فنجده يهاجمُ أعلام المدرسة؛ أولاً: لأنهم يشترطون لإِعْمال الحديثِ أن يكونَ المشهور على اختلاف مفهوم في ذلك الحين، ثم لأنهم يُقَدِّمُون القياس على خبر الآحاد، وإن صح سنده، ثانيًا: ولأنهم يتركون بعض الأحاديث؛ لأنها غير مشهورة، ويعطون أحاديث أخرى لم تصح عند علماء الحديث؛ بدعوى أنها مشهورة، ثالثًا: إذًا فالشافعي لم يعترض على منحى العراقيين إلا حينما تخالف مع القاعدة التي انتهى إليها، وكذلك مع غيرهم فعل.
وإذا ما انتقلنا إلى أصلٍ آخر مثل القياس، نجد أيضًا أنَّ الإمام كان يقف حيال اتجاهين متعاصرين، اتجاه المدنيين، واتجاه العراقيين، فقد كان المدنيون يَتَشَدَّدون فيها أيَّما تَشَدُّد، بينما توسَّع فيه العراقيون، وأَوْغلوا فيه أيما إيغالٍ، وهنا يلجأ الإمام - كعادته - إلى وضع القاعدة الكلية؛ ليعرضَ عليها كلا الاتجاهين، ويُخَلِّص القاعدة على الوجه التالي:
"إن جهة العلم الكتابُ، والسنةُ، والإجماع، والقياس، ولا يقيس إلاَّ مِن جَمَع الأدلَّة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله - عَزَّ وجَلَّ - فرضِه، وأَدَبِه، وناسخه، ومنسوخه، وعامِّه، وخاصِّه، ولا يجوز لأحدٍ أن يقيسَ حتى يكون عالمًا بما مضى قبله منَ السُّنَن، وأقاويل السَّلَف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيسَ حتى يكونَ صحيحَ العقل، وحتى يفرِّقَ بين المشتبه ولا يعمه بالقول دون التَّثَبُّت، ولا يمتنع منَ الاستماع ممن خالفه؛ لأنه يتنبه بالاستماع لِتَرْك الغفلة، ويزداد به تثبُّتًا فيما اعتقد منَ الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه؛ حتى يعرفَ من أين قال ما يقول، وترك ما يترك؟"[3].


إنَّ الإمامَ هنا يضع القاعدة الكليَّة التي انتهى إليها، وضمَّنها منَ الشروط ما رآه كَفِيلاً بتوجيه المجتهد إلى عدم الخُرُوج على الأصل عند التفريع، ثم يُحَدِّد موقفه من مدرسة العراق في ضوء تلك القاعدة الكليَّة، فتراه يأخذ عليهم ذلك التَّوَسُّع في إعمال القياس، وهو أصلٌ لاحقٌ مع وجود الأصول الثابتة المُتَقَدِّمة عليه مرتبة، مثل تقديم القياس على خَبَر الآحاد، مع توافُر الأدلَّة على ثُبُوته، أو تقديم القياس على الحديث، الذي لا يخضع لسلسلةٍ منَ الشروط المتعسِّفة - في بعض الأحيان - التي أحاطه بها العراقيون دون مُبَرِّر، أو تقديم القياس على الحديث قبل أن يقلِّبَ على الوجوه التي أَوْرَدَها في شروط قَبُوله وإعماله، أو تقديم القِياس على الحديث؛ لِجَهْل القائسِ بوجُود الحديث المتضمن الحكم المُغنَى عنه، أوِ السَّعي إلى القياسِ في فروضٍ لم تقع بها الأحداثُ، ويهاجِم الإمام هذه الطُّرُق؛ إذِ القياس عنده أصل لاحِق، لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة المُلحَّة، وحال افتقادِه الحكم في أيٍّ منَ الأصول التي تعلوه مرتبة، وإذا دعتِ الحاجة فلا بدَّ من شروطٍ تتوافر لإعماله؛ منها:
أن يكونَ القياس قياسَ فرعٍ على أصل عند توافُر المشابهة، لا أصل على أصل، وتلك شروط موضوعيَّة، نَجِد إلى جوارِها شروطًا ذاتيةً، تتعلق بالقائسِ نفسه، لا بدَّ أيضًا من توافُرها؛ إذ هي في نظره ضرورية؛ حتى لا ينتهي الاجتهاد إلى تناقضٍ؛ نتيجَة لتردُّد المجتهد بين الأخذ بالعلم تارة، وبالخاصِّ تارة أخرى، وإلى الأخذ بالدلالة القطعيَّة مرَّة، وإلى الأخذ بالدلالة الظنيَّة أخرى عن حسن قصد لجهل فيه، أو أن يعوقَه عدم توافر آلة القياس له عنِ الإصابة، أو عدم الإحاطة بالموضوع، إلى غير ذلك منَ القصور الذاتي.


ولذلك نجدُه يطوق التفريعات القياسية لمدرسة العراق بقاعدته تلك العامة بشقَّيْها: الموضوعي، والذاتي، فإن سايرتها فبِها ونِعْمَت، وإن لم تسايرْها هاجَمَ القائلين بها، وعدها خروجًا على حدود الشريعة، ومخالفةً لما كان عليه السَّلَف، وأيًّا كان مقدار الصِّحَّة في منطق الإمام، فهو مُقَنن وضع قوانين تحكم موضوع عمله، حيث إنها أصلح ما تكون لهذا الأمر.


وإذا ما انتقلنا إلى أصلٍ آخر - وهو عراقي النشأة - مثل الاستحسان، نجد أن الإمام ينكره إنكارًا مُطلقًا، ويهاجم القائلينَ به، وخلاصة نَظْرته إلى الاستحسان، أنه لا يخرج عن كونه مجرد رأيٍ متجردٍ منَ الاستناد إلى أصلٍ شرعيٍّ، وبذلك يعده لا يَمُتُّ إلى التشريع الإسلامي بصِلَة، فهو أقرب إلى التشريع الوضعيِّ منه إلى السماوي؛ ولذلك نراه يُقَرِّر أن من استحسن فقد شرَّع؛ باعتبار أن: الاستحسان مجرد رأيٍ لا ينتسب إلاَّ لصاحِبه، فهو غيرُ مؤسَّس على قاعدةٍ شرعية، مهما تحكَّمتْ في توجيه صاحبه روحُ الشريعة، وبذلك فهو ليس نوعًا من القياس، وما دام كذلكَ، فهو ليس أصلاً مِن أصول الشريعة التي سبق أنْ حَدَّدَها، وهي: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس عليها، ومن هنا أنكره وهاجم القائلين به، ومُنْشِئيه العراقيين.


ونعود مَرَّة أخرى؛ لِنُحَدِّد موقف الشافعي منَ الاتجاهات المتعاصرة في زمنه، فنجد أنه قد تَوَسَّع في استعمال الحديث والاستدلال أكثر منَ العراقيين، ومن الحجازيين أنفسهم، وقد بالَغ في ذلك، فأخذ في بعض الأحيان بآحاد مُنكَرة، وأخذ بمراسيل دفعتِ البعض لمتابعته فيها، وإظهار بطلانها، ومن جانب آخر نجده يضيق مِن دائرة القياس والرأي، وخاصة الرأي غير المستند لأصلٍ شرعي، والذي يطلق عليه الاستحسان، ومع ذلك لم ينكرهما جُملةً.


ونخرج من ذلك بأن أهمَّ ما يميز مدرسة الشافعي أنها كانتْ تَقِف من تلك الاتجاهات موقفًا وسطًا، فهيَ تأخذ بالحديث بما يرضي الحجازيين، وتأخذ بالقياس بما لا يغضب العراقيين، وتُقَعِّد له القواعد، وتضع له الشروط، وقد لَفَتَ إلى ذلك الفخر حين قال: "إنَّ الناس قبل الشافعي كانوا فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، أمَّا أصحاب الحديثِ فكانوا عاجزينَ عنِ المُناظَرة والمجادَلة، عاجزين عن تزييف طريق أصحاب الرأي، فما كان بسببهم قوة في الدِّين، ونُصرة الكتاب والسنة، وأما أصحاب الرَّأي فكان سَعْيُهم وجهدهم مصروفًا إلى تقرير ما استنبطوه برأيهم، ورَتَّبُوه لفكرهم، فجاء الشافعي وكان عازمًا بالنصوص منَ القرآن والأخبار، وكان عازمًا بأصول الفقه وشرائط الاستدلال، وكان قويًّا في المناظَرة والجدل، فرجع عن قول أصحاب الرأي أكثرُ أنصارهم وأتباعهم"[4].


وإلى هنا يَبْرُز سؤال مهم يفرض نفسه على الحديث هو: هل كان مذهبُ الشافعي مذهبَ توفيق وتقريب بين المذاهب التي سَبَقَتْه والتي عاصَرَتْه، أو بعبارةٍ أخرى: هل كان هدف الإمام الشافعي هو التقريبَ بين الاتجاهات المُتعاصِرة في زمنه، فانصرفَ جُهده إلى انتهاج طريق وَسَط بينها، يُخَفِّف من حدَّة الخلاف الذي كان قائمًا بينها، وبذلك أرضى أصحاب الاتجاهات على اختلافِ منازعهم، مع تفاوُت نسبة ذلك الرِّضا عن عمله ذاك؟
إن الإجابة عن هذا السؤال؛ بل تلك التساؤلات تقتضي منَّا أن نُقَوِّمَ منهج الإمام؛ لنحكمَ هل كان الشيخُ مجددًا؟ أو كان مجرد مصنِّفٍ، جمع ورتَّب ووَفَّق بين اتجاهات فقهيَّة، عاشتْ في عصره وما قبل عصره؟


إنَّنا نُقَرِّر هنا - استنادًا للاستقراء لمنهج الشافعي -: أنَّ الإمام كان مُجدِّدًا - هذا إذا ما تغاضَينا عنْ شهادة مُعاصِريه له بذلك - فلم يكنْ هناك علمٌ للأصول قبل الشافعي؛ بل ولم تكنِ العقلية ذات النظرة الشاملة التي تَمَيَّزَ بها الشافعي، والتي جعلتْهُ ينظر إلى التُّراث الفقهي الإسلامي ككلٍّ، يجب تبويبه وإخضاعه لأصول الإسلام العامة، بِصُورة منتظمة ودقيقة وثابتة، والتي انتهتْ به إلى أن يكونَ صاحب علم الأصول، وواضع أول تقنين له، وهذا العمل لا يمكن لقائل أن يَدَّعِي أنه يستهدف مجرد التوفيق بين اتجاهات متخالِفة، وإنما هو عمل إبداعيٌّ تنظيمي يدرج الفروع المتشابهة تحت قاعدة مُوَحَّدة، ثم يجرد القاعدة لتصبحَ قانونًا عامًّا، يخضع لها كل ما يدخل في باب التفريع على الأصل؛ سابقِه ولاحقِه.


غير أنَّ القواعد التي انتهى إليها الإمامُ جاءت تلقائيَّة، تُمَثِّل الموقفَ الوَسَط، ليس بين القواعد التي كانت موجودة آنذاك - لأنَّه لم تكن هناك قواعد أصوليَّة، وإنما بين مجموعات - الاجتهادُ التي كانتْ تعيش لذلك العصر، والتي كان كلٌّ منها يأخذ في الغالب سمتًا مُعَيَّنًا، يَجْعله في موقف متخالف مع الآخر، وليس على الإمام بأسٌ إنِ انتهى به المنهج الأصولي إلى قواعد وسط؛ وإنما المهم أنَّ التوفيق بين وجهات النظر المتعارِضة لم يكن هدفُه من هذا العمل؛ ولذلك ما يجب أن نُقَرِّرَه ونثبته له، فالتوفيق ما كان لِيجبرَه على وَضْع القواعد المُجَرَّدة؛ وإنما كان يدعو إلى المُقارَنة بين القولين أوِ الاجتهادينِ؛ ليخرجَ بقول أو أن ينتهي إلى اجتهاد ثالث، يجمع في ثناياه ظاهرةَ التوفيق بينهما، وقد يتبادر ذلك إلى ذهنِ المُتَتَبِّع للفُروع التي عالَجَها في مجموعة أماليه في مصر، والتي أطلق عليها كتاب "الأم"، ذلك أن الصورة السريعة التي يُفاجَأ بها القارئ مِن خلال مطالعته توهمُه أن ذلك كذلك، بل وطريقة العَرْض التي - ألقيتْ بها تلك الأمالي، توحي أيضًا بشيءٍ من هذا القبيل، فالإمامُ يعرض لأراء العِرَاقيين في المسألة الواحِدة، ثم رأي الحجازيينَ فيها، ثم يخلص في غالبِ الأحيان إلى رأيٍ منفردٍ، وفي بعض الأحيان إلى مُوافَقة أحد الرأيين ورفض الآخر، غير أنَّ النَّظْرة الفاحِصة والدراسة الدقيقة تنتهي إلى أن الإمام قد وضع من قبلُ قواعد عامة، وأنه يعرض تلك الاجتهادات في كل مسألة، مما تندرج تحت موضوعٍ فِقهيٍّ واحد على تلك القواعد العامة، ويقر منها ما استقام معها، ويرفض ما لم يستَقِمْ، أو يرفضها جميعًا ما لم تخضع لها، ويخرج بالاجتهاد الأمْثلِ مِن وجهة نظر قواعده، وقلَّمَا خانَهُ التوفيق في عملِه هذا.


ويجمل بنا أن نشيرَ هنا إلى أنَّ الإمام كان قد وضع أصوله، وجَرَّدَ قواعده قبل أن يصلَ إلى مصرَ، ويبدأ في إملاء تلك الفُصُول الفِقهيَّة التي أطلَقَ عليها "الأم"؛ إذِ المعروف أنَّ أهم أثر أصولي نسب له قد صنف قبل تلك الفترة، وإنْ كانتْ بعض الروايات تشير إلى أنه أعادَ النَّظَر في مُصنَّفِه الأصولي بعد استقراره بمصرَ، واتصاله بفقه الليثِ بن سعد الفقيه المصري المعروف.


إن الإمام استعرض فقه الحجازيين، واتَّصل به عن كثْبٍ، خلال ملازمته للإمام مالك، الذي يُمَثِّل التقاءً لكافَّة الاتجاهات الحجازية في عصره، واتَّصل بالفقه العراقي عن كثْبٍ أيضًا من خلال كُتُب محمد بن الحسن الشَّيْباني، التي تعتبر أهم سجلٍّ للفقه العراقي، واتصل بالفقه المَكِّيِّ مِن خلال تلامذة ابن عباس، ممن عاصرهم خلال مقامه بمكة، ولابَس الفقه اليمني من خلال سنوات قضاهَا في اليمن مفتيًا ومجالسًا لفُقَهائه، واتَّصل بالفِقه الشامي مِن خلال تلامِذة الإمام الأَوْزَاعِي، ممَّن تَمَّ له لقاؤهم في اليمن، واتَّصل أخيرًا بفقه الليث بن سعد خلال إقامته بمصر، من خلال تلامذة الليث وكُتُبِه، ثم استَعْرَض تراث كلِّ بيئة من خلال القواعد الكليَّة التي انتهى إليها، وعلى ضوءٍ من هذا جميعِه، حَدَّد موقفه مِن كلِّ تراث بصفة قاطعة، وكانتْ له خلافات مع موروث كلِّ بيئة؛ إلاَّ أن خِلافه مع موروث العراقيين كان أوضح؛ ذلك أنَّ منهج الإمام الشافعي يُعتبر تخليصًا للفِكْر الفِقْهِي الإسلامي مِن شوائب لَحقَتْه، وهو يُساير تَطَوُّر الحياة الإسلامية، أبعدت ما بينه وبين الأصول الأولى التي وجهتِ الحياة في صدر الإسلام.


والعراقيون كانوا أكثر اندفاعًا مع تيار الحياة الجارِف تجديدًا وإبداعًا في ميدان الفقه لِمُلابساتٍ احتفت بالبيئة التي عاشوا فيها، ترتبط بماضيها، وتساير حاضرها.


ورغم أن هذا الاندفاع التفريعي قد أثرى الفقه الإسلامي ثراءً لا يختلف اثنان على كبير أَثَرِه في تنمية واتساع قاعدته؛ بحيث أصبحتْ تملك منَ المقومات ما تستغرق به مراحل زمنيَّة لاحقة مِن تطوُّر وتغيُّر قِيَم الحياة ومفاهيمها؛ إلا أن هذا الاندفاع كان في بعض الأحيان يخرج بها عنِ الخطوط التي كانت تحددها الأصول الإسلاميَّة إلى إطار الشريعة، مما يجعل كل ما يتفرع عنها يبدأ منها، وينصرف إلى تحقيق غاياتها، ورأى الإمام الشافعي أن يحدَّ من هذا الاندفاع بأن يردَّ كلَّ ما نجم من تفريعات - وبعضها يباين الأصول - إلى الاندراج تحت تلك الخطوط المُحَدَّدة، وذلك مع إبرازٍ لِمَواطن العِلل التي تبعدها عنِ المسار الصحيح للتَّطَوُّر الطبيعي، في ظل تلك الأصول التي قَرَّرَها الشارع هديًا للناس.


وتأسيسًا على هذا، فإنَّ موقف الإمام الشافعيِّ مِن مدرسة العراق انْحَصَرَ فيما أثاره حول ثلاثة أصولٍ مهمة؛ اثنان منها معترفٌ بهما في جميع البيئات الفقهيَّة، وأعني بهما السُّنَّة والقياس، والثالث مِن ابتداع المدرسة العراقية، وأعني به الاستحسان.
أمَّا بالنسبة للسُّنَّة، فقد انحصر مآخذه على العراقيين في عدَّة نقاط، تَتَحَدَّد في أنهم عند إعمالهم السُّنن لَمْ يتجاوزوا بها إلى ما هو أدنى منَ المشهور، والمشهورُ هو أول أقسام الآحاد، وهو ما له طُرُق محصورة بأكثر من اثنين[5]، أو هو ما وراء الصحابة عدد لا يبلغ حد التَّواتُر، ثم تواتَرَ في عصر التابعين، وهو بذلك في مرتبةٍ لاحقة للمُتَوَاتِر.


وقد أَدَّى بهم تتبُّع المشهور إلى الأَخْذ بما ظنوه مشهورًا، مما لم يستوفِ الشروط للشُّهْرة وإعماله مع ترك مشهورٍ أجمع علماءُ الحديث على شُهرته، وقد تَتَبَّعهم الإمامُ في مواضع كثيرةٍ من كتابه "الأم"، وأبان عن مزالق أَخْذِهم، كما أخذ عليهم أيضًا تقديمهم القياسَ - وهو أصل لاحقٌ للسنة مرتبة - على خبر الآحاد غير المشهور، وإن صَحَّ سندُه مع إعمال السَّلَف له، وأخذهم به، وهو عنده أعلى منَ القياس ما ثبتت صحته مبرأ منَ العلل المُوهِنة، ولعلَّ أغلب هجومِ الإمام على المدرسة العراقيَّة يَنْصَبُّ أساسًا على هذه النقطة، وهي ناشِئةٌ مِن اندفاع نحو القياس، حاول الشافعي أن يحدَّ منه بإعمال خبر الواحد، فبرزت بينهما المخالَفة في تلك الصحائف الضخمة منَ "الأم"، ومن "الرسالة" أيضًا.


إن موقف الإمامِ منَ المدرسة العراقيَّة حيال موضوع القياس، يعتبر امتدادًا لِمَوْقفه منها حيال تَرْك بعض السُّنن، وعدم إعمال خبر الواحد - إنْ صَحَّ سندُه - واللُّجوء إلى القياس والحال غير مُلجئةٍ إليه، إذ لا سبيل إلى إعماله إلاَّ مع افتقاد الحكم في النصوص الصحيحة الثابتة، وخبر الواحد له تلك المنزلة ما ثبت، أما العراقيون فيقفون عند المشهور أول الآحاد؛ بل ولا يُعملون بعضه إلاَّ بشروط وَضَعُوها، واشتدوا في تطبيقها، فسقطتْ منهم بعض مشاهير الأحاديثِ؛ نتيجة لذلك رغم وجود شِبه إجماعٍ على شهرتها.


وإلى نَفْس النُّقطة أيضًا - نقطة عدم إعمال بعض السُّنَن، واللجوء إلى القياس - استند الإمامُ في مهاجمة المدرسة وأُسس المهاجَمة على نقاطٍ رئيسة ثلاث، ترتبط أساسًا بتوافر المفهوم الذي يتحدد به وجودُ إعمال السنن، بما لها من حجيَّةٍ تجعلها تحجب القياس؛ وأول هذه النِّقاط: أنَّ السُّنَّة المروية عن ثقة، وحَدَّثَ بها ثقة عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكنْ لها معارض مِن درجتها - يثبت لها التَّقَدُّم على ما عداها منَ الأصول اللواحق، وثاني النِّقاط: أن السنة المرويَّة عن ثقة، وَحَدَّثَ بها ثقةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولها معارض مِن دَرَجَتِها - فإنَّ وجود المعارض لا يخرج بها عن أحد أمور ثلاثة:
أولها: وجود الناسخ، ووجود الدلالة على وقوع النسخ، وإعمال الناسخ، والحال كذلك واجب؛ لما له من حجيَّة جواز النَّسخ، وثبوت وقوعه في الشريعة، وجريان العمل به في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووجود الدلالة على ذلك في الكتاب.
وثانيها: معالجة السَّنَد بطريق المعالَجة المعروفة، والترجيح يثْبُت لأوثق المرويات، وإعمال الراجح، والحال كذلك واجب؛ لما له من حجيَّة يستمدها مِن تحقُّق الثِّقة في الطريق المؤدِّية إليه، وهي السبيل المعتمدة للعلم به.
وثالثها: أن تَتَكَافَأَ المرويات ثقةً مع وجود التعارُض في الظاهر، وهنا يُعرَض المتعارض على الكتاب (الأصل الأول)، وعلى المقطوع بثقته منَ السُّنَن (الأصل الثاني)، فما وافقتْها وَجَب إعماله، بما له من حجية ناتجة من مطابقته للأصوليين.
أما ثالث النِّقاط، فهو تفريع على المعالَجة السابقة للقضية؛ بل ويعتبر أول نتائجها، ومؤدَّاه: أنه إذا ثبتتِ السُّنَّة بطريق منَ الطُّرُق السابقة، فلا يُعَد لها قياس أو أثر مرويٌّ لصحابي أو تابعي، وبذلك فقد حصر الإمام خلافه حيال القياس العراقي في موضوع تقديمه - في بعض الأحيان - على سننٍ توافَرَ لها الثبوت والصحة، من خلال تلك القواعد التفصيليَّة.


إذا قلنا: إنَّ القياس هو انسحابُ حكمٍ سابقٍ على حادثة لاحِقة؛ لاشتراكهما في العلة الموجبة للحكم، فإن الحكم السابقَ يستند بلا شك إلى أحد الأصول الثابتة استنادًا مباشرًا، والمشابَهة وحدها هي التي وَجَّهت انسحابه على الحادثة اللاَّجئة، وبذاك فإنَّه يندرج تحت مفهوم التفريع على الأصل الأول المتضمن الحكم، وقد تختلف دلالة المُشابَهة التي تربط بينهما، وهذا يتوقَّف على الفقيه، ومدى تصوُّره الفقهي عند التِماس الدلالة التي تربط بين الأصل المقيس عليه، والفرع محل القياس، ويرتبط بمدى توافر آلة القياس له، وقدراته الذاتيَّة على الاستنباط.


وليس كذلك الاستحسانُ، فإن الحنفيَّة يُعَرِّفُونه بأنه: قياس خَفِيتْ علَّتُه بالنسبة إلى قياس ظاهرٍ متبادر، بمعنى أن يكونَ في المحل ظاهرة توجب له حكمًا؛ إلحاقًا بأصلٍ ووصفٍ آخرَ خفيٍّ، يقضي بإلحاقه بأصلٍ آخر؛ وبذلك يكون الترجيح بالخفاء أوِ الظُّهور، ومن هنا نظر إليه الإمام الشافعي على أنه مجرد رأيٍ لا يستند إلى قاعدةٍ شرعيةٍ معينةٍ، وإن استلهمت فيه رُوح الشريعة المستهدفة تنظيمَ مصالح الناس في معاشهم ومعادهم؛ ولذا فقد أبطله واعتبره تشريعًا؛ إذ يرى أنه لا استحسان إلاَّ للشارع، ولا قياس إلا على استحسان الشارع، ولا قياس على استحسان المجتهد، وذلك أن الاستحسان في رأيه لا يرتبط بدلالة ظاهرة مستمدة من أصل، وهو بهذه الصورة يصبح مجرد رأي لصاحبه، ما دامت دلالته التي تربطه بالأصل غير واضحة.


وقد عَرَّفَ الاستحسان بعضهم بأنه: قياسان؛ أحدُهما: جليٌّ ضعيف أَثَرُه، فسمِّيَ قياسًا، والآخر: خفيٌّ قوي أَثَرُه، فسمِّيَ استحسانًا؛ أي: قياسًا مستحسنًا، فالترجيح بقوة الأثر أو ضعفه، لا بالخفاء أو الظهور، ومن هنا هاجَمَ ابن حزم القياسَ جميعه، قال: "إن كان هاهنا قياس، يوجب ترك قياس آخر ويضاده ويبطله - فقد صَحَّ بطلان دلالة القياس، وصَحَّ بالبرهان الضروري إبطال القياس كله جملةً بهذا العمل؛ لأن الحق لا يتضاد، ولا يُبْطِل بعضُه بعضًا، ولا يضاد برهان برهانًا أبدًا"[6].


ووقف بعض الفقهاء موقفًا وَسَطًا، فقالوا: إنَّ الفقيه يرى في الاستحسان تحقيق مصلحة أكثر مما يَتَحَقَّق بطريق القياس، ولكن علَّة ذلك تكون في خلده؛ ولذا فقد أطلق عليه القياس الخفيّ، أو إنَّ الاستحسان قد يحقق مصلحةً جزئيَّةً، من خلال مصلحة كليةٍ يقرُّها القياس.
ولكن السؤال الآن: ما الضرورة الملجِئة إلى الاستحسان ذي الدلالة الخفيَّة، طالما وُجِدَ القياس ذو الدلالة الظاهرة؟ وطالما أن الفقيه قد ساعَفَتْه قدرته الاستنباطيَّة على التَّوَصُّل إلى دليل منَ الدِّقَّة، بدرجة أنه خفي على غيره، فلماذا لم تساعفه بالدليل الظاهر القريب والطريق لا شك إليه أقل عناءً؟ وما دُمنا نساير روح الشريعة، فما الذي يلجئنا إلى الخفاء، والشارع - سبحانه - لم يلجأ إليه فيما استنَّ للناس، وما شرع لهم.


وإذا كان القياسُ نوعًا منَ الاجتهاد الفردي يبطله ألا يكون قائمًا على مشابهة أصل مع وضوح الدلالة، فكيف الحال بالاستحسان، وقد خفيت دلالتُه التي تربطه بالأصل؟


هذه تساؤلات لا شك عرَضَتْ لكل مَن عارض الاستحسان، وعلى رأسهم الإمام الشافعي، ومن خلالها يمكن أن نستَشِفَّ اتجاهه لإبطال الاستحسان، ومعارضته الشديدة للقائلين به، فالاستحسان عراقيُّ النشأة، وهو يُعَدُّ درجة في تطوُّر القياس، من وجهة النظر العراقية، ولكن الإمام الشافعي - كما قلنا - قد أقام القياسَ على مجرد توافر المشابهة، مع تحقق الدلالة بصورة ظاهرة، وجعل ذلك شرطًا لقَبوله باعتباره تفريعًا على الأصل، تفرضه أحداث الحياة المتجددة، يلجأ إليها عند افتقاد الحكم في الأصل؛ إذ المعلوم أنَّ الأصول إنما تحمل من القواعد الكلية ما يستغرق الفواصل الزمنيَّة والحدود المكانية، ولكنها لا تستغرق جزئيات الحياة التي يطالع بها الناس كل يوم، وكل جزئية منها تنطوي على حدَث أو أكثر يحتاج إلى ما يحتاج إليه ويربطه بالقوانين الإسلاميَّة، وقد ترك أمر ذلك للناس تيسيرًا منَ الشارع، دون ما قيد؛ سوى عدم الخروج على مقتضى تلك القواعد الكلية الواردة في الأصول العامة للشريعة.


وإذا كان الأمر كذلك، فالقياس في رأي الإمام يفي به، ولا حاجة للناس إلى الاستحسان، فإن الحجة في القياس متَحَقِّقة متى سلم واتضحت دلالته، وإذا ظهر التخالف فيه فالتعرف على مواطن الخطأ ميسور؛ لأن الطريق إليه محدود، والدلالة ظاهرة، أما الاستحسان ذو الدلالة الخفية، فإن التحقق من صحته غير ميسور، بل ويكاد يكون مستحيلاً، ومقياس تحقُّق الناس فيه يختلف باختلاف نظرة المجتهد الخاصة، ومدى تقديره الفردي على أساس من تلك النظرة يستحسن أو لا يستحسن، وتلك سلطة قد تُعطى لمشروع وضعي؛ ولكنها لا تُعطى لمن يعالج التفريع على تشريع سماوي، ومن هنا قال الإمام الشافعي: مَنِ استحسن فقد شرَّع؛ أي: أعطى لنفسه سُلطة المشرع، الذي ليس لأحد غيره أن يستحسنَ أو لا يستحسن، وهاجم المدرسة العراقية، ووقف منها موقفًا مُتَشَدِّدًا في اعتبارها للاستحسان وإعماله.


[1] طبعة الكليات الأزهرية، تحقيق محمد زهري النجار.
[2] "طبقات الشافعية"؛ لتاج الدين السبكي جـ 1 من 100 وما بعدها.
[3] كتاب "الرسالة" ص 70 تحقيق أحمد شاكر.
[4] "طبقات الشافعية"؛ لتاج الدين السبكي جـ 1 ص 243.
[5] "شرح نخبة الفكر"؛ لابن حجر العسقلاني ص 5.
[6] "الإحكام في أصول الأحكام" جـ 5 ص 760 تحقيق أحمد شاكر.​
 

أحمد بن فخري الرفاعي

:: مشرف سابق ::
إنضم
12 يناير 2008
المشاركات
1,432
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
باحث اسلامي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
شافعي
جزاكم الله خيرا ، ونفع بكم
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.

أحمد بن فخري الرفاعي

:: مشرف سابق ::
إنضم
12 يناير 2008
المشاركات
1,432
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
باحث اسلامي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
شافعي
وإياكم شيخنا الكريم.
ولعلك تعطينا رأيك عن هذا الكتاب إن كنتَ اطلعتَ عليه.
فالمقال والله أعلم مستخلص من كتابه.

حياكم الله شيخنا فؤاد وبارك فيكم

لم اقرأ الكتاب كاملا ، لكنني قرأت المقال ، والمقال بجملة طيب جزى الله الشيخ خيرا ، لكن الشيخ بارك الله فيه اعتمد منهجا يقوم على التغليب في الاستنباط والتحليل . وهذا المنهج غالبا لا يكون دقيق النتائج .

وأنا أعتبر المدرسة الحنفية من المراحل المهمة في بناء شخصية الامام الشافعي الفقهية ، وهي تمثل المرحلة الثالثة من مراحل نموه الفقهي بعد المدرستين المكية والمدنية ، ولقد استفاد الامام من لقائه بالامام محمد الحسن الشيباني فوائد لا تقل عن ما استفاده من المدرستين الأخريين .
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
نفع الله بكم شيخنا الكريم
 
أعلى