العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

إتحاف ذوي الذكاء والمعرفة

مركز نجيبويه

:: متابع ::
إنضم
12 أغسطس 2009
المشاركات
32
التخصص
مخطوطات
المدينة
مصر
المذهب الفقهي
مالكى
يصدر -قريباً- عن دار المذهب للطباعة والنشر والتوزيع وهي المخولة (منذ تأسيسها في نواكشوط بالجمهورية الإسلامية الموريتانية) بنشر إصدرات مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث كتاب: " إتحاف ذوي الذكاء والمعرفة؛ بتكميل تقييد أبي الحسن، وتحليل تعقيد ابن عرفة"، وهو كتاب: "تكميل التقييد وتحليل التعقيد"، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن غازي العثماني المكناسي المالكي، المتوفى سنة 919هـ.
وهذا الإصدار يشتمل على قسم العبادات من الكتاب المذكور، وهو بتحقيق أ. د.أحمد بن عبد الكريم نجيب، وهو في مجلدين مجموع صفحاتهما (1268) صفحة من القطع الكبير.
=== === ===
وقد جاء في مقدمة التحقيق - بين يديَ النصُّ المحقق- ما نصه:
=== === ===
أقول - مستعيناً بالله تعالى - بعد حمده كما ينبغي لجلاله، والصلاة والسلام على نبيِّه المصطفى وصحبه وآله:
لا تخفى – على فقيهٍ أو مُتَفقِّه- مكانة المدونة الكبرى في الفقه المالكي، فهي أم الأمهات، وفيها أوثق الروايات، وقد عكف العلماء عليها قديماً وحديثاً؛ إسناداً وتهذيباً وتعليقاً واستنباطاً.
ومما قيدته -سابقاً- عن المدونة الكبرى وأهميتها ومكانتها، وعناية العلماء بها، بعنوان: (المدوَّنة الكبرى... من عصر التدوين إلى عصر الطباعة) أقتبسُ:
المدونة عَلَمٌ لكتابٍ، منقولٌ من اسم مفعول؛ دَوَّنتُ الكتبَ تدويناً؛ أي جمعتُها، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها مسائلُ مجموعةٌ .
وإذا أطلقت المدوَّنة على كتاب انصرفت إلى ما لخصه ورتبه واستدل له بالآثار والفتاوى الإمام سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي من مسائل الأسدية التي استند أسد بن الفرات في تقريرها بعد رجوعه من العراق إلى شيخه عبد الرحمن بن القاسم العُتَقي، عن الإمام مالك بن أنس - رحم الله جميعهم ورضي عنهم.
قال ابن أبي زيد رحمه الله: «الكتبُ المدونة من علم مالك وأصحابه وما أضيف إليها من الكتب المسماة بالمختلطة، هذه الكتب أشهر دواوينهم، وأعلى ما دُوِّن في الفقه من كتبهم، وأكثر ما جرى به على أسماع الناقلين لها من أئمتهم» .
***
ولتأليف المدوَّنة حكايةٌ يوردها السادة المالكية في كتب التراجم والطبقات، وغالباً ما يقدِّمها شُرَّاحُ المدوَّنة ومختصروها بين يدي مصنَّفاتهم، حتى ذاعت وشاعت مع اختلافٍ يسير فيها.
قال أبو الحسن الزرويلي رحمه الله: «... أقام ابنُ القاسم متغرباً عن بلده في رحلته إلى مالك عشرين سنةً، حتى مات مالك رحمه الله، ورحل - أيضاً - سحنون إلى ابن القاسم، فكان ممن قرأ عليه مسائل المدونة والمختلطة ودوَّنها... وكانت مؤلفةً على مذهب أهل العراق، فسَلَخَ أسدُ بنُ الفرات منها الأَسئلة، وقدم بها المدينة؛ ليسأل عنها مالكاً رحمه الله، ويردها على مذهبه، فألفاهُ قد مات، فأتى أشهب؛ ليسألَه عنها، فسمعه يقول: أخطأ مالك في مسألة كذا، وأخطأ في مسألة كذا، فتنقَّصَه بذلك وعابَه، ولم يرضَ قولَه فيها، وقال: ما أُشَبِّهُ هذا إلا كرجل بال إلى جانب بحرٍ، فقال: هذا بحرٌ آخر، فنزل على ابن القاسم، فأتاه فرغب إليه في ذلك، فأبى عليه، فلم يزل به حتى شرح الله صدره لما سأله، فجعل يسأله عنها مسألةً مسألةً، فما كان عنده فيه سماعٌ من مالك قال: سمعتُ مالكاً يقول كذا وكذا، وما لم يكن عنده عن مالك إلا بلاغٌ. قال: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً، وبلغني عن مالك أنه قال فيه كذا وكذا، وما لم يكن عنده فيه سماعٌ ولا بلاغٌ، قال: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً، والذي أراه فيها كذا وكذا، حتى أكملها، فرجع إلى بلده بها، فطلبها منه سحنون، فأبى عليه فيها، فتحيَّل عليه حتى صارت الكتب عنده، فانتسخها، ثم رحل بها إلى ابن القاسم، فقرأها عليه، فرجع منها عن مسائل، وكتب ابنُ القاسم إلى أسد ابن الفرات أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون، فأنِفَ أسدُ من ذلك وأباه، فبلغ ذلك ابنَ القاسم فدعا عليه ألا يبارَكَ له فيها - وكان مجاب الدعوة - فأجيبت دعوته، ولم يُشْتَغَل بكتابه، ومال الناس إلى قراءة المدونة، ونفع الله بها» .
ولعل من بركة عرض سحنون مسائل المدونة على ابن القاسم ودعاء ابن القاسم له، أنَّ عرض مسائلها أضحى سنة تتبع عند العلماء من بعده جيلاً بعد جيل، يتلقونها روايةً، ويعرضها اللاحق على السابق، والناسخ على الأصل المنسوخ منه، وهكذا.
قال أبو بكر ابن أبي جمرة الأندلسي (ت 559هـ) في كتابه «إكليل التقليد»: تكرر من الشيوخ عَرْضُ «المدونة» فأَنِسَتْ نفوسُهُم إليها بعد أن ألِفَت معانيها، واستَحْكَمَت عندهم صحَّةُ أصولِها وفروعِها، وما سَبَقَ إلى النَّفس أَلِفَتْهُ، وما ألِفَتْهُ عسُر عليها الانفصالُ منه والعُدُولُ عنه، هذا مُدرَكٌ بالعادة، صحيحٌ بالخبر، فاكتسبوا من العُكُوفِ وكثرَةِ الدرس لها، والتفقُّهِ فيها خصالاً محمودةً، مع الدراية في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام. اهـ» .
ثم إن سحنون رحمه الله لم يكتف بعرضها على ابن القاسم وتصحيحه لمسائلها، بل أمعن الفكر فيها، ومضى ينقحها ويصححها – وفعل ذلك في أكثرها - بعد رجوعه بها إلى القيروان.
قال عياض في «التنبيهات»: «... ثم إنَّ سَحنون بن سعيد نظر فيها نظراً آخر وبوبَّها، وطرح مسائل منها، وأضاف الشكل إلى شكله - على رتبة التصانيف والدواوين - واحتجَّ لمسائلها بالآثار من روايته من موطأ ابن وَهْب وغيره، فسميت تلك الكتب المدوَّنة ، وبقيت منها بقية لم ينظر فيها ذلك النظر إلى أن توفي، فبقيت على أصلها من تأليف أسَد فسمِّيَت بـالمختلطة؛ لاختلاط مسائلها، وليفرق بينها وبين ما دون منها، وهي كتبٌ معلومةٌ» .
***
قلتُ: هذا الكلام مؤدَّاه أن المختلطة هي الأسديَّة عينُها، ثم قُصِر المعنى المراد بها على الكتب التي لم ينقحها سحنون من كتب الأسدية بعد عرضها على ابن القاسم، وخصِّصَت بذلك.
وإعمالاً لقاعدة تقديم الخصوص على العموم نصير إلى القول:
إنَّ الأسديَّة هي أصل سماع أسد بن الفرات من ابن القاسم وما عرضَه عليه من الكتب المدوَّنة على مذهب الإمام مالك.
والمدوَّنة هي ما راجعه ونقَّحه سحنون من كتب الأسديَّة - بعد عرضها على ابن القاسم – ثم أعاد النظر فيها فزاد عليها، ونقص منها، وألحق بها من الأخبار والآثار ما شاء الله له أن يُلحِق.
والمختلطة هي كتُب الأسديَّة التي عرضها سحنون على ابن القاسم، وصحَّحها عليه، ولكنه لم ينظر فيها النظرة الأخيرة التي ذكرها عياض وغيره، وهي نظرة التمحيص والتحقيق التي أسفرت عن اعتماد النصِّ الذي تناقله ورواه عن سحنون الأئمةُ الأثباتُ المسنِدُون جيلاً بعد جيل.
ومما يفيده كلام القاضي عياض المتقدِّم أن الكتب التي ظلَّت على اختلاطها معلومةٌ له، وإن لم يسمِّها في كتبه.
وفي ترتيب المدارك - له - أن أبا أيوب سليمان بن عبد الله بن المبارك - المعروف بأبي المشتري - هو من بوَّبَ الكتب المختلطة التي لم ينقِّحها سحنون في المدونة.
ولم أجد في تحديد تلك الأبواب التي بقيت على اختلاطها في المدونة إلا ما بلغني منقولاً عن طرَّةٍ وُجدت على نسخة خطيَّة لنكت عبد الحق الصقلي على المدوَّنة يحفظ أصلها في خزانة ابن يوسف بمراكش الحمراء، وفيها ما نصُّه: «تسمية المختلطة من كتب المدونة: الصيد، الذبائح، الحج الثالث، الأقضية، الشفعة، القسمة، الغصب، حريم البئر (أو الآبار)، الرهون، اللقطة، الضوال، الوديعة، العارية، الهبات، الجراحات، السرقة، المحاربين، الرجم، القذف، الديات».
ووقفتُ في «التنبيهات» على قول القاضي رحمه الله: «والمسائل المختلطة من مسائل إقرار المديان إلى مسألة الصبي يدفع إليه سلاح ثابتةٌ في كثير من النسخ، وكانت ثابتة في كتاب ابن عتاب، وكتب عليها: لم يقرأها سحنون، وقد قرأها ابن وضاح، وكانت ثابتة في كتاب ابن المرابط، وقرأناها على ابن عتاب».
وفي هذا الكلام إشارة إلى أن المسائل المختلطة هي ما لم يقرأه سحنون بعد رجوعه بها مصححةً على ابن القاسم، وأنَّ مسائل المختلطة ظلَّت في المدوَّنة يقرؤها رواتها، وتقرأ عليهم قريباً من عصر تدوينها.
***
قلتُ: إن صحَّ أن يوصَف بالمحنة ما وقع عند تدوين المدوَّنة على يد أسد بن الفرات ابتداءً، ثم عرضها على ابن القاسم فتنقيح معظمها على يد سحنون ابن سعيد التنوخي انتهاءً، وما تخلَّل ذلك مما يكثر وقوعه بين الأقران، وما أعقبه من بقاء بعضها على اختلاطه من غير تنقيح، فلن تكون هذه الحال المحنة الوحيدة التي تعرَّضت لها المدوَّنة الكبرى، بل ثمَّة ما لحق بها بعد أن استقرَّ حالُها وتناقلها العلماء مسندةً إلى مصنِّفها، وهو ما كتب عنه بعض المعاصرين تحت عنوان «محنة المدوَّنة» .
والمحنة التي يعنون هي ما لحق بالمدونة خاصةً وبسائر كتب الفروع الفقهية عامة أيام حكم الموحِّدين للمغرب، حيث سعى الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي، المتوفى سنة 558هـ، إلى صرف الفقهاء عنها، والاستعاضة عنها وعن غيرها من الأمهات بكتاب جديد سُمِّيَ بـ «أعز ما يطلب» ، ولكنه لم يفلح فيما أراد، حتى خلفه ابنه أبو يعقوب يوسف، المتوفى سنة 580 هـ، فأمر بإحراق المُدَوَّنة وسائر كتب الفروع بدعوى عدول الناس عن الكتاب والسنة إلى ما فيها من روايات وأقوال الرجال، ولكن أمرَه لم ينفُذ إلا في عهد يعقوب المنصور، المتوفى سنة 594 هـ، فأحرقت المُدَوَّنة، وابتلي الفقهاء في ذلك أشد البلاء، وقد وصف الحال التي آلت إليها الأمور عبد الواحد المراكشي، فقال: «وفي أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد، كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد، وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها، لقد شَهِدتُ منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال وتوضع وتُطلَق فيها النار، وتَقدَّم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيءٍ منه، وتوعَّد يعقوب على ذلك بالعقوبة الشديدة» ، وتكررت عملية الإحراق في عهد ولده محمد الناصر، المتوفى سنة 610هـ، فأمر بإحراق ما لم تلتهمه النيران في عصر والده من نسخ المُدَوَّنة.
***
ولم يعد للمدونة مجدها السالف - كما ينبغي - إلا بعد أن أمر السلطان محمد بن عبد الله، المتوفى سنة 1203هـ باعتمادها إلى جانب والمصنفات المكملة والمقربة لها حصراً للتدريس في جامع القرويين؛ قاصداً بذلك إحياء المذهب والعودة به إلى أصوله المعتمدة وينابيعه الصافية.
هذا عن مدونة سحنون من عصر التأليف إلى عصر الاستقرار مروراً بمرحلة المحنة التي تعرضت لها في عهد الموحِّدِين.
***
ويحسُن أن أختم الحديث عن المدونة بكلمة موجزة عن طبعاتها في العصر الحالي فأقول مستعيناً بالله تعالى:
في سنة 1323هـ - حين كانت الطباعة في المغرب الأقصى حجرية في الغالب - ظهرت في مصر الطبعة الأولى للمدونة الكبرى، فتلقاها العلماء بالقبول، وتواصوا بها؛ نظراً لقوة الأصل المخطوط الذي اعتمدت عليه، ولمكانة من جلب ذلك الأصل ووقف على طباعته، وفي ذلك يقول فقيه المالكيَّة في مصر إذ ذاك الشيخ سليم البشري رحمه الله:
«... اطلعنا على نسخة المدونة التي استحضرها من المغرب الأقصى، وطبع عليها بنفقته حضرة الحاج محمد أفندي الساسي المغربي التونسي، فإذا هي مظنة الصحة والضبط، جديرةٌ بالاعتماد عليها، والركون - في إجراء الطبع والتصحيح إليها - دون سواها؛ لقدم عهد كتابتها، وكثرة تداولها بأيدي علماء المالكية المتقدمين، ولما على هوامشها من التقارير والفوائد لبعض أكابر المالكية، كالقاضي عياض، وابن رشد، وغيرهما من الأئمة الأعلام المتقدمين، وهي مكتوبة في رَقِّ غزالٍ بخطٍ مغربي واضح، كتبها عبد الملك بن مسرة بن خلف اليحصبي في أجزاء كثيرة جداً، وتاريخ كتابتها سنة 476هـ» .
وقد أعيد نشر هذا الطبعة مراراً – بالتصوير – في دار صادر للطباعة والنشر، ولا تزال الأكثر تداولاً واعتماداً عند متفقهة زماننا.
وتقع هذه النسخة في ستة عشر جزءاً، أصدرتها مكتبة السعادة في ثمان مجلدات، ونشرتها دار صادر في ستة مجلدات بعد ضم بعض الأجزاء إلى بعضٍ في المجلد الواحد.
ثم تلتها طبعة المكتبة الخيرية بالقاهرة سنة 1324هـ في أربعة مجلدات بهامشها كتاب «المقدمات الممهدات»، للقاضي أبي الوليد ابن رشد رحمه الله.
وقد أعادت دار الفكر نشر هذا الطبعة – بالتصوير – في بيروت سنة 1398هـ.
وفي نفس الحجم - أيضاً - نَشَرَت المدونةَ دارُ الكتب العلمية في بيروت، سنة 1415هـ في طبعةٍ قيل إنها محققة، ونسب تحقيقها إلى زكريا عميرات.
ثم ظهرت طبعة المكتبة العصرية في صيدا بلبنان سنة 1419هـ، في تسعة مجلدات محققة تحقيقاً لم يعتقها من أخطاء النسخ والضبط، فلم تُرو غليلاً، ولم تشف عليلاً، وهي أقل طبعات المدوَّنة اعتماداً في مصادر التحقيق عند المشتغلين بكتب المذهب.
إلى أن ظهرت في اثني عشر مجلداً طبعةُ المدونة الأشهر والأتم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان نشرها سنة 1422هـ، بتحقيق السيد علي ابن السيد عبد الرحمن الهاشمي وعلى نفقة رئيس الدولة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله.
وتجاوزت هذه الطبعة كثيراً من المآخذ على الطبعات السابقة، ولو طبعت طبعة تجارية لعم نفعها الطلاب والمتفقهة، ولكنها طبعت ووزعت وقفاً على طلاب العلم وأهله، وأكثرهم لم يصل إليها، ولم يقف عليها، فحرم الإفادة منها.
***
وإننا لنأخذ على عاتقنا -بعون الله وتوفيقه- إن طال بنا العمر، وعادت إلينا الصحة والعافية، أن نضع المدونة في قائمة أولوياتنا لخدمتها وإتاحتها لكل من يحتاجها.
***
ووفاءً بهذا الالتزام كان إخراجنا التنبيهات المستنبطة على كتب المدونة والمختلطة، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، المتوفى سنة 544هـ، ومن بعده مصحف المذهب «الجامع لمسائل المدونة والمختلطة» لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي، المتوفى سنة 451هـ، واختصار المدونة والمختلطة، للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المتوفى سنة 386هـ، وتعليقة الوانوغي على تهذيب البراذعي للمدونة، وتكملة المشدالي على التعليقة.
وثَمَّة خطوات أخر نخطوها للوفاء بالتزامنا تجاه المدونة وما كتب عليها؛ وقد شرعنا في بعضها مثل العمل على تحقيق ونشر «التقييد الأوسط على تهذيب البراذعي»، وهو من تأليف أبي الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي الفاسي، الشهير بالصُّغَيّر، المتوفى سنة 719هـ.
واليوم نقدم للفقهاء والمتفقهة على مذهب إمام دار الهجرة كتاباً نفيساً من تآليف أبي عبد الله ابن غازي العثماني، المتوفى سنة 919 هـ، بعنوان: «تكميل التقييد وتحليل التعقيد»، على ما سمَّاه مؤلفه في خطبته ، وفي فهرسته ، بينما سمَّاه بعض مفهرسي المخطوطات – ونحن منهم ومعهم - المكدَّسة في المكتبات بـ "إتحاف ذوي الذكاء والمعرفة بتكميل تقييد أبي الحسن وتحليل تعقيد ابن عرفة" ، وقد حصلت من خزانة مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء على صورة مخطوط يُحفظ أصله فيها تحت رقم (85)، وقد جاء في آخره ما نصُّه: (كمل السفر الثاني من إتحاف ذوي الذكاء والمعرفة بتكميل تقييد أبي الحسن وتحليل تعقيد ابن عرفة، للشيخ الفقيه الإستاذ المقرئ... أبي عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني، أمتع الله المسلمين ببقائه، ونفعنا بصالح دعائه، بحمد الله تعالى، وحسن عونه، وصلى الله على مولانا ونبينا محمد وعلى آله... على يد عبد الله تعالي أحمد بن علي بن أحمد بن محمد المستنجادي لطف الله به وبحاله، وغفر له ذنوبه، ولوالديه... آمين، بتاريخ أواخر شوال عام تسعة وسبعين وتسعمائة) .
وجاء في هامش وجه اللوحة الأولى من نسخة الشيخ محمد عبد الحي الكتاني، التي يحفظ أصلها في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم (822ك) ما نصه: (تكميل تقييد أبي الحسن الصغيّر وتحليل تعقيد مختصر ابن عرفة).
وقد وهِم قوم – من المعاصرين- وأوهم كلامُهم القرَّاءَ بأن "التكميل" غير "الإتحاف"؛ وممن وقع في هذا الوهم الدكتور مصطفى الطوبي في كتابه "من أجل دراسة حفرية" غفر الله له، وأقال عثرته.
ومما قاله ابن غازي – عن هذا الكتاب قبل أن يُتمَّه- في فهرسته: "تكميل التقييد وتحليل التعقيد على المدونة" فإن كان في العمر فسحة وأعاننا الله تعالى على إتمامه فسيخرج إن شاء الله تعالى في عدة مجلدات، وأرجو أن تكون منفعته عظيمة بحول الله وقوته .
وقد حبَّس المؤلف كتاب "التكميل" على ولديه أحمد ومحمد وعلى أعقابهما - من الذكور- وأعقاب أعقابهما ما تناسلوا؛ وذكر الأستاذ محمد العابد الفاسي وجود نص هذا التحبيس على ظهر أول ورقة من السفر الأخير من الكتاب، وهو الثامن الموجود حتى اليوم بالخزانة بخط المؤلف ... ورقمه بخزانة القرويين (1126) .
وهو كتابٌ كمَّل به تقييد أبي الحسن الزرويلي على المدونة ويشير بحل التعقيد لكلامه على مشكل ابن عرفة في مختصره.
ويُنقل عن بعض معاصريه الفاسيين قوله عن هذا الكتاب: «أما التكميل فقد كمَّله وأما التعقيد فما حلله» .
***
ولنا سالف عهد مع ابن غازي رحمه الله في خدمة آثاره؛ حيث كان من بواكير إصدارت مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث - بتحقيقنا- حاشيته على المختصر الخليلي التي استكمل فيها تحقيق ما تركه الشيخ بهرام في شرحه الصغير، وقد سمى ابن غازي حاشيته -هذه- بـ«شفاء الغليل في حل مقفل خليل» .
***
وما نقدمه اليوم من «التكميل والتحليل» هو قسم العبادات منه – ويعادل ربع الكتاب تقريباً- متضمناً الكتب التالية: (الطهارة- الصلاة الأول- الصلاة الثاني- الجنائز- الصيام- الاعتكاف- الزكاة الأول- الزكاة الثاني - الحج الأول- الحج الثاني- الحج الثالث)، وقد حال دون إكمال تحقيق باقي أبواب الكتاب ونشرها الإصابة التي ألمّت بي نتيجة لاستهداف كلاب بشار الأسد لي أثناء وجودي في رفقة صحب كرام بمدينة حلب الشهباء في شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1433هـ، وقد فقدت نتيجة لتلك الإصابة بصري ، وعقد لساني، وضعفت قدرتي على الحركة والتحكم بجميع قواي البدنية.
وقد كنت قبل الإصابة قد قطعت شوطاً كبيراً في العمل على تحقيق ما بعد قسم العبادات؛ فلا عَدِمْتُ أخاً كريماً يتم المسيرة، ممن لهم –على تراث الأئمة- الحرص والغيرة، وسيجد مني كل المساعدة والمساندة في سبيل إكمال هذا المشروع، وتقديمه إلى المكتبة الإسلامية على الوجه اللائق به.
***

وقد اعتمدت في تحقيق هذا القسم من "التكميل والتحليل" على أربع نسخ خطية ، أعرف بها فيما يلي:
النسخة الأولى المرموز لها بالرمز (ع):
يحفظ أصلها في الخزانة العامة، بالرباط، تحت رقم (822ك)، بعد أن نقلت إليها من مكتبة الشيخ محمد عبد الحي الكتاني رحمه الله، وتقع في (250 ) لوحة من القطع الكبير جميعها داخلة في قسم العبادات الذي نحققه، عدد مسطراتها 25سطراً في كلِّ لوحة، وهي مكتوبة بخط مغربي مُتقَن أسود المداد عدا رؤوس المسائل وعناوين الكتب والأبواب والرموز التي أشار بها إلى مصادره فمدادها أحمر.
تبدأ هذه النسخة بخطبة موجزة مطلعها: (... يقول الشيخ الفقيه العالم العلامة الفذّ الأوحد الشهير القدوة البركة الخطيب البليغ المتكلم الفصيح، نسيج وحده، وفريد دهره أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي، أبقى الله بركته: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على النبي الأمي سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، أما بعد: فهذا تكميل التقييد وتحليل التعقيد، ومن الله أستوهب المزيدَ، فهو حسبي ولا أزيد ...)، ثم كتاب الطهارة، وتنتهي هذه النسخة قبل نهاية كتاب الاعتكاف بقليل.
النسخة الثانية المرموز لها بالرمز (ق):
يحفظ أصلها في خزانة جامع القرويين بفاس، تحت رقم (341)، وتقع في (302)لوحة من القطع الكبير، ومقدار ما يعنينا في قسم العبادات منها يبلغ (153) لوحة، عدد مسطراتها 37سطراً في كلِّ لوحة، وقد أثرت فيها الرطوبة - قليلاً- والأرضة - كثيراً-، وهي مكتوبة بخط مغربي دقيق مقروء أسود المداد.
هذه النسخة مبتورة الأول بمقدار لوحة، ويبدأ القدر الموجود منها بقول المؤلف رحمه الله: (... في طهارة بول مأكول اللحم) من كتاب الطهارة، وتنتهي بنهاية كتاب العدة وطلاق السنة.
وقد جاء في آخر هذه النسخة: (كمل كتاب العدة وطلاق السنة بحمد لله تعالى وحسن عونه، ويتلوه في الثالث كتاب الأيمان بالطلاق إن شاء الله تعالى وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين).
النسخة الثالثة المرموز لها بالرمز (ح1):
يحفظ أصلها في الخزانة الحسنية، بالقصر الملكي، بالرباط تحت رقم (1260)، وتقع في (167) لوحة من القطع الكبير، ومقدار ما يعنينا في قسم العبادات منها يبلغ (18) لوحة، عدد مسطراتها 34 سطراً في كلِّ لوحة، وهي مكتوبة بخط مغربي حسنٍ واضحٍ أسود المداد عدا رؤوس المسائل وعناوين الكتب والأبواب والرموز التي أشار بها إلى مصادره فمدادها أحمر، وقد أثرت الأرضة في بعض لوحاتها.
تبدأ هذه النسخة بكتاب الجهاد وتنتهي بنهاية كتاب العدة وطلاق السنة.
النسخة الرابعة المرموز لها بالرمز (ح2):
يحفظ أصلها في الخزانة الحسنية، بالقصر الملكي، بالرباط تحت رقم (8934)، وتقع في (159) لوحة من القطع الكبير، ومقدار ما يعنينا في قسم العبادات منها يبلغ (11) لوحة، عدد مسطراتها 34 سطراً في كلِّ لوحة، وهي مكتوبة بخط مغربي دقيق مقروء أسود المداد عدا رؤوس المسائل، والرموز التي أشار بها إلى مصادره فمدادها أحمر، وقد أثرت الأرضة فيها كثيراً، وفي حواشي بعض لوحاتها تصحيحات وتعليقات.
تبدأ هذه النسخة -كسابقتها- بكتاب الجهاد وتنتهي بنهاية كتاب العدة وطلاق السنة.
وقد جاء في آخر هذه النسخة: (كمل كتاب العدة وطلاق السنة بحول الله وقوته، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه وأولاده وأزواجه كثيراً أثيراً إلى يوم الدين).
النسخة الخامسة المرموز لها بالرمز (م):
يحفظ أصلها في خزانة ابن يوسف العامة، بمراكش الحمراء، تحت رقم (520)، وتقع في (232) لوحة من القطع الكبير، ومقدار ما يعنينا في قسم العبادات منها يبلغ (16) لوحة، عدد مسطراتها 28 سطراً في كلِّ لوحة، وهي مكتوبة بخط مغربي دقيق مقروء أسود المداد، وقد أثرت الأرضة والرطوبة فيها كثيراً.
تبدأ هذه النسخة من منتصف كتاب الحج الثاني وتنتهي بنهاية كتاب العدة وطلاق السنة.
وقد جاء في آخر هذه النسخة: (كمل كتاب العدة وطلاق السنة بحول الله وقوته، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، بلغت المقابلة على قدر الاستطاعة بحمد لله، وحسن عونه، من أصل مؤلفه الفقيه المتفقه العالم العلامة فريد عمره، وقدوة أهل زمانه سيدنا وبركتنا سيدي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن غازي العثماني تغمده الله برحمته، وجعل أعلى عليين مقرّاً له، مجاوراً لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم... آمين يا رب العالمين).
***
وفيما يلي أوجز أهمَّ معالم عملنا في التحقيق ومنهجنا في التخريج والتوثيق:
1- رقَمنا الكتاب وَفْقَ قواعد الإملاء العصريَّة، وصحَّحنا ما وقعَ فيه النسَّاخ من أخطاء إملائية، ثم قابلناه حرفاً حرفاً على النسخ التي اعتمدناها في التحقيق، وسلكنا في إثبات الفروق الواقعة بين النسخ منهج النصّ المختار، فأثبتنا في المتن ما رأيناه أولى بالتقديم على غيره، وأشرنا في الهوامش السفلية إلى ما كان مرجوحاً أو مخالفاً للصواب.
2- أثبتنا أرقام المخطوطات بالاعتماد على نسخة المرموز لها بالرمز (ق)، والتي يحفظ أصلها تحت رقم (341) في خزانة جامع القرويين بفاس المحروسة.
3- ميَّزنا كلام البراذعي في تهذيبه بوضعه ضمن إطار مستقل.
4- كتبنا الآيات القرآنية وأجزاءها بالرسم العثماني، وعزوناها إلى مواضعها في كتاب الله تعالى، بذكر اسم السورة ورقم الآية التي وردت فيها، بدءاً بالسورة ضمن معكوفتين، هكذا: [السورة: رقم الآية]، وجَعلنا ذلك عقب ذكر الآية مباشرةً، وليس في الحواشي.
5- خرجنا الأحاديث التي أوردها المؤلف في النص، أو أحال عليها أو أشار إليها دون إيراد نَصِّهَا من دواوين السنة المعتبرة مع التزام ما يلي في التخريج:
أ- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فلا نتوسع في تخريجه، ونكف عن بيان درجته، اكتفاءً بما تفيد رواية أحد الشيخين له من الجزم بصحته.
ب- إذا لم يكن الحديث في أيٍّ من الصحيحين فنخرّجه من دواوين المحدثين المعتبرة بتقديم السنن الأربعة، ثم بقية المصادر مرتبةً حسب الأقدم تصنيفاً، ونورد كلام العلماء فيه، مع التفصيل في بيان حال رجال الإسناد المُتكلَّم فيهم، وعلله إن وُجدت، وتوثيق ذلك كلِّه، وما أنا في الحكم على الحديث إلاَّ ناقلٌ عن المُتقدِّمين، أو مُستأنسٌ بآراء المُتأخِّرين.
ج- أثناء العزو إلى الكتب الستة نذكر الكتاب والباب الذي ورد فيه الحديث، مع ما يسهل الرجوع إليه من رقم الحديث التسلسلي، أو رقم الجزء والصفحة، أو جميع ما تقدم.
د- عند عزو الحديث أو الأثر إلى غير الكتب الستة نكف عن ذكر اسم الكتاب والباب اكتفاءً بالإشارة إلى موضع النص بالجزء والصفحة أو الرقم التسلسلي أو هما معاً.
6- أضفنا عناوين لما لم يعنون له المؤلف رحمه الله في بعض المواطن، وجعلنا ما أضفناه محصوراً ضمن معكوفتين.
7- عزونا ما تيسر عزوه من النُّقول والأقوال التي أوردها المؤلف إلى مصادرها، بالرجوع إلى ما أتيح لنا الرجوع إليه من المصادر المخطوطة والمطبوعة.
8- علَّقنا -في هوامش الكتاب وحواشيه السفلية- كثيراً من الفوائد المنثورة في كتب المذهب، وعلى بعض مسائل الكتاب حين الاقتضاء على وجه الإيجاز.
9- أوردنا تراجم وافية كافية لمعظم أعلام السادة المالكية المذكورين في الكتاب، وجعلنا ترجمة كلٍّ منهم عند أوَّل ذِكرٍ له.
10- ذيلنا الكتاب بثبت المصادر التي اعتمدناها في التحقيق والتوثيق، وفهرس للموضوعات.
***
هذا؛ ولا يفوتني وقد آن أوان رفع القلم أن أقرَّ بالفضل لأهله، وأتوِّج الإقرار بإسداء الشكر لمستحقه، وأخص من أعان على تحقيق هذا الكتاب ونشره، وكلَّ من أدلى في أيِّ مراحل العمل فيه بدلوه، أو تعهدني بشيءٍ من توجيهه ونصحه ورأيه، أو أسهم في التحقيق بفكره وقلمه، فأشكرهم شكر من لا يدعي شيئاً من جهدهم لنفسه، ولا يتشبَّع بما لم يُعطَ من مُعطيه.
والحمد الله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.

رباط الفتح بالمملكة المغربية
في الخامس وعشرين من جماد الآخرة سنة 1434هـ.
الموافق الخامس من نيسان (مايو) سنة 2013م.

* * *
تطلب هذه الطبعة-حصرياً- من:
مكتبة وتسجيلات ابن القيم الإسلامية
Tel: (971)26412233-506715770
Fax: (971)26417667
أبوظبي
دولة الإمارات العربية المتحدة
 

المرفقات

  • اتحاف ذوي الذكا&#1.jpg
    اتحاف ذوي الذكا&#1.jpg
    1.2 MB · المشاهدات: 0
أعلى