العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

إعادة النظر في نازلة وسائل منع الحمل الحديثة (الحبوب واللولب) في ضوء آلية عملها الطبية

إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
78
الكنية
أبو محمد
التخصص
الفقه
المدينة
مكة
المذهب الفقهي
---
بسم الله الرحمن الرحيم

من نوازل الطب المعاصرة نازلة الأدوية والأدوات المانعة للحمل, وقد تكلم فيها العلماء من حيث حكم تنظيم النسل أو منعه من حيث الأصل, كما تكلم بعضهم في اللولب خصوصاً باعتبار ما شاع من أنه يقتل البويضة الملقحة أو يمنع انغراسها بجدار الرحم, فيكون فيه شبه بالإجهاض, ومن هنا منعه بعضهم.

وقد بحثت في قاعدة بيانات medline الطبية الشهيرة عن آلية عمل اللولب لأتحقق من مدى صحة كونه يجهض, ووجدت بعض الأبحاث الجيدة وصدمت بما فيها من معلومات, من جهة مخالفتها لما هو شائع عن اللولب بل وحبوب منع الحمل أيضا, وفي هذا المقال سألخص أهم ذلك لعله يثير إعادة النظر الفقهي في المسألة من جديد, لا لحكم اللولب فقط بل حتى لحكم حبوب منع الحمل أيضا.

اللولب هل يجهض؟

من أهم الكتابات التي وجدتها دراسة مراجعة (Review sudy) نشرت في العام 2007م[1], وراجعت كل ما كتب من دراسات مراجعة سابقة, إضافة لتفحص الزعم بوجود آلية إجهاض في عمل اللولب من خلال أربعة طرق, وهذه أبرز ما رأيت أنه يهم في تصور المسألة والحكم عليها:

1. أجريت أول دراسة لآلية عمل اللولب على الفئران في الستينات الميلادية, ووجد أن آلية العمل تعتمد على تدمير البويضة المخصبة, وهذا ما أوجد الاعتقاد الشائع بأن تلك هي آلية عمل اللولب, ولكن دراسات أخرى أظهرت أن آلية العمل تختلف من حيوان لآخر, بل لنفس السلالة ونفس الحيوان في أوقات مختلفة, مما ينفي إمكانية استنتاج آلية عمله في المرأة من الثديات الأخرى.
2. هدف الدراسة تحديد الآليات في المرأة وما دور كل آلية في منع الحمل من حيث بيان نسبة المنع من خلال أي آلية منهم, بحيث يميز الآلية المعتادة من الآلية التي تحصل نادراً.
3. اللولب يسبب ردة فعل جسدية موضعية مما يقلب المنطقة لمنطقة قاتلة للأجنة تزيد فيها بعض الخلايا كالخلايا المناعية,وتحور أيض بعض الخلايا, وبالنسبة للولب الهرموني فتحصل تغيرات كبيرة في عنق الرحم وفي الأنسجة. ولهذا شاع حتى بين المختصين أن اللوالب تقتل الأجنة وأن تلك هي الآلية المعتادة لها.
4. الاستنتاج السابق يبدو منطقيا لكنه مبني على افتراضات غير محررة, وكلها تحتاج لإثبات ليمكن إثبات هذه الآلية المفترضة. فإذا كانت هذه هي الآلية الأساسية فلا بد أن تنتج الأجنة وتتطور بشكل طبيعي قبل دخولها لتجويف الرحم بسرعة يمكن مقارنتها بما يشهد في غير مستخدمي اللوالب. ويجب – علاوة على ما سبق - وصولها لتوجد ضمن تجويف الرحم قبل أن تضيع. (توضيح: يبدو لي أن وجه الاستلزام أن يمكن عزو منع اللولب للحمل لتدمير الأجنة, لأنها إذا لم تنتج وتتطور بشكل طبيعي وتصل بالسرعة المطلوبة فلن تصل لمرحلة الدخول لتجويف الرحم حيث تنغرس في جداره ويستمر تطورها طبيعيا, فلا يمكن أن نفترض أن اللولب يتدخل هناك بمنعها من الانغراس أو تدميرها ).
5. تركز هذه الدراسة المراجعة على أربعة طرق تتصل بالسؤال السابق: أولا تحصيل الحيونات المنوية من منطقة التخصيب, وثانيا رصد مواد تنتج من الأجنة في سوائل الأم, وثالثا استعادة البيضات من المجاري التناسلية, ورابعا الحالة البيولوجية لهذه البيضات من خلال تفصح خواصها المميكروسكوبية. وخلاصة نتائج كل طريقة جاءت كما يلي:
6. في الطريقة الأولى لم توجد حيوانات منوية أو وجدت بأعداد قليلة أو وجدت وهي مدمرة في منطقة التخصيب, واستعرضت الدراسة كثيرا من الدراسات جاءت نتائج أغلبها وفق النتيجة المذكورة, وشرحت الدراسة آليات قتل الحيوانات المنوية, وخلصت من كل ذلك إلى أن الدراسات تشير إلى حصول تعويق ومنع وصول الحيوانات المنوية لمنطقة التخصيب بشكل كبير, ولو أخذنا بالاعتبار انخفاض نسبة التخصيب عموما فسيكون من المستبعد بشكل كبير حدوث التخصيب مع وجود اللولب.
7. الطريقة الثانية هي رصد مواد تنتج من الأجنة في سوائل الأم في وقت مبكر يسبق انغراسها في جدار الرحم, ورغم أن الدراسات المجراة لرصدها غير دقيقة بالشكل الكامل, إلا أنها تشير إلى قلة رصد المواد المذكورة مقارنة بالمرأة التي لا تستعمل اللولب, حيث وصل الفرق للضعف أو لأضعاف في بعض الدراسات, والدراسات غير حاسمة لكنها تشير إلى انخفاض معدل التخصيب في من يستعملون اللولب مقارنة بمن لا يستعملونه.
8. الطريقة الثالثة هي محاولة رصد البويضات في الرحم: هل تصل بنفس المعدل أو لا تصل؟ ففي بعض الدراسات لم تصل, وهناك فرق في معدل الوصول عندما تصل حيث تكون أبطأ في اللولب المصنع من مادة الكوبر, ولم يوجد فرق بالنسبة للولب الهرموني. ومن هنا يبدو أن آلية عمل لولب الكوبر أوسع فتشمل خارج الرحم.
9. الطريقة الرابعة هي أخذ البويضات من الأنبوب قبل وصولها للرحم, حيث وجد أن القليل من البويضات تكون مخصبة والأغلب تكون غير مخصبة, والتي خصبت تكون غير طبيعية مما يفسر عدم وصولها للرحم وهي سليمة لتنغرس في جداره ويستكمل نموها كجنين, مما يدل على أن اللولب يؤثر في تكوين البويضات لتتشكل بشكل غير طبيعي ولا تستمر.
10. الخلاصة أن اللوالب تسبب ردة فعل في غشاء الرحم والمكونات الأخرى الخلوية ومكونات السوائل والأنسجة في تجويف الرحم, واعتمادا على الخصائص التشريحية والفسيولوجية التي تمثل استراتيجية الحمل لكل فصيل من الفصائل الحية تكون الآثار المترتبة على ردة الفعل هذه إما محصورة ضمن الرحم أو منتشرة في المسالك التناسلية أو حتى تؤثر على أعضاء بعيدة. المواد النشطة المنتجة من اللوالب مع المنتجات المشتقة من التفاعل الالتهابي الموجودة في بعض السوائل ومن مجاري المسالك التناسلية تكون سامة بالنسبة للحيوانات المنوية والبويضات مما يمنع وجود أمشاج صحية أو تكون أجنة يمكن أن تعيش. والمعلومات الحالية لا تشير إلى تكون الأجنة في مستعملي اللوالب بمعدل يمكن مقارنته بغير مستعمليها, والاعتقاد الشائع بأن الآلية الاعتيادية للوالب في النساء هي تدمير الأجنة في الرحم لا يوجد لها أدلة علمية تجريبية تسندها, وركام الأدلة يشير إلى أن تداخل آلية اللولب بعد حدوث التخصيب شيء نادر في وجود اللولب الهرموني أو لولب الكوبر, وأن الآلية المعتادة هي منع التخصيب أصلا.

دراسات أخرى عن اللولب:

هناك دراسات أخرى أقدم قرأتها وكلها خلصت لنفس النتيجة: التأثير الرئيسي للولب يكمن في منع التخصيب ( من خلال آليات متعددة كتعويق أو تدمير الحيوانات المنوية أو البويضات ) لا منع الانغراس للبويضة المخصبة في جدار الرحم, مع أن الأخير احتمال موجود نظريا لكنه لم يثبت بشكل علمي وليس آلية رئيسة غالبة لعمل اللولب[2]. ولكن هناك ملاحظة مهمة وهي: يبدو من طريقة استنتاج هذه النتيجة وبنائها على وجود آليات تمنع التخصيب أن منع الحمل لا يتضمن تدمير البويضة المخصبة في الغالب بل يمنع التخصيب من الأساس, ولكن موقع uptodate الشهير كتب الآتي:

" اللوالب تعمل أساسا عبر منع التخصيب, ولا تعمل كمجهضات ( مع تعريف المجهضات بأنها ما يقطع حملا منغرسا ) "(4). والملفت في هذا النص أن ما بين القوسين يوحي من مفهومه أنه قد يقع قطع للحمل غير المنغرس, أي تدمير بويضة مخصبة غير منغرسة بجدار الرحم. لكن هذا المفهوم لا يعارض المنطوق الذي رأيته في الدراسات الأخرى أيضا, وال>ي صرح فيه بأن الآلية الأساسية منع التخصيب لا قتل البويضة المخصبة.

حبوب منع الحمل هي هي بعيدة عن شبهة الإجهاض؟

المفاجأة بالنسبة لي هي أنّ حبوب منع الحمل لها آليات متعددة منها آلية تؤثر على جدار الرحم بحيث تمنع الانغراس نظريا, ولكن كاللولب لا تعتبر هذه هي الآلية الرئيسة – حسبما ما تشير الأدلة - بل آليات أخرى من أبرزها كبح التبويض وتدمير الحيوانات المنوية[3].

المقارنة بين اللولب والحبوب:

آلية عمل اللولب والحبوب لم يفهمها العلماء بشكل جيد بسبب عوائق إجراء الدراسات اللازمة, ولكن في الوسيلتين يعتقد العلماء بناء على ما توفر من أدلة وفهم وافتراضات أن الآلية الرئيسة ليست منع الانغراس بل منع التخصيب, ولم أجد مقارنة صريحة بين الوسيلتين يمكن من خلالها أن يقال بأن أحدهما أبعد من منع الحمل عبر منع الانغراس.

الأسئلة الفقهية:

في ظل عدم وجود أساس علمي لافتراض أن اللولب يجهض البويضة الملقحة غالبا, وفي ظل وجود الاحتمال في كل من حبوب منع الحمل واللوب, تبدو الحاجة لإعادة النظر فيها هذه النازلة والتأمل في بعض الجوانب:

1- هل يبنى على الغالب فيما يبدو من دراسات الأطباء ويقال بجواز الوسيلتين لمنع الحمل ( خصوصا مع عدم اعتبار جانب كشف العورة في تثبيت اللولب إذا كان الكشف محتاجاً إليه لسبب آخر وركب اللولب في نفس الكشف, وهنا يمكن الترخيص في تطويل الكشف قليلا لأنه استدامة لكشف العورة لا ابتداء ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالاً), أو يقال بمراعاة الاحتمال غير المثبت وغير الغالب هنا ومنع الوسيلتين بناء على احتمال الإجهاض ( مع تخريج المسألة على حكم أخذ الدواء لإلقاء الحمل مع كونه الاحتمال البعيد ).
2- هل تبنى المسألة على قاعدة استصحاب الحل والبناء على أن الآلية المستبعدة عارضة محتملة يمكن هدر اعتبارها.
3- هل يبقى لدينا أساس شرعي للتفريق بين الوسيلتين كما يصنع بعض الفقهاء بعد إظهار الدراسات غلط الافتراض بأن اللولب يمنع الحمل أساسا بالإجهاض؟ (يبقى كشف العورة فقط).

هذا ما توصلت له وما أحببت طرحه وأتمنى من طلاب العلم التفاعل في مناقشة المسألة وإثارتها مع الفقهاء المعاصرين لتصحيح وإعادة النظر فيها. والله أعلم

وكتبه: أبو محمد طارق عنقاوي الحسني



[1]
Copper-T intrauterine device and levonorgestrel intrauterine system: biological bases of their mechanism of action. Ortiz ME, Croxatto HB. Contraception. 2007 Jun;75(6 Suppl):S16-30. Epub 2007 Mar 29.


[2]
· The mechanism of action of hormonal contraceptives and intrauterine contraceptive devices. Rivera R, Yacobson I, Grimes D. Am J Obstet Gynecol. 1999 Nov;181(5 Pt 1):1263-9.
· The intrauterine contraceptive device: an often-forgotten and maligned method of contraception. Dardano KL, Burkman RT. Am J Obstet Gynecol. 1999 Jul;181(1):1-5.


[3]
· The mechanism of action of hormonal contraceptives and intrauterine contraceptive devices. Rivera R, Yacobson I, Grimes D. Am J Obstet Gynecol. 1999 Nov;181(5 Pt 1):1263-9.
· The intrauterine contraceptive device: an often-forgotten and maligned method of
contraception. Dardano KL, Burkman RT. Am J Obstet Gynecol. 1999 Jul;181(1):1-5.

]4[
http://www.uptodate.com/contents/overview-of-intrauterine-contraception#H2
 
أعلى