العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

إغلاق باب الاجتهاد - الدوافع والنتائج

إنضم
23 فبراير 2008
المشاركات
48
التخصص
دراسات إسلامية
المدينة
الإسكندرية
المذهب الفقهي
حنبلي مع عدم التقيد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم من مسائل دينهم، وكان النبي صى الله عليه وسلم يجيبهم عنها، إما بالوحي، أو باجتهاده صلى الله عليه وسلم الذي يقره عليه الوحي بعد ذلك، أو يصوبه.
ولما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى صار الصحابة يتتبعون سنة النبي صلى الله عليه وسلم من بعضهم البعض، ولو كلفهم ذلك ترك الأهل والأوطان، فالسنة لم تكن قد جُمعت في كتاب واحد، ولكنها متناثرة بين صحابة النبي صلى الله عليه، لذلك لم يكن الأمر يسيرًا في بادىء الأمر.
ولكن مع تجدد الحوادث وتشابكها صار الصحابة مضطرين إلى إعمال الرأي والاجتهاد ليصلوا من خلال ذلك إلى الحكم الشرعي في هذه النوازل، ومن الضروري نتيجة لذلك أن تختلف الأنظار والرؤى، فالاجتهاد عملية نسبية تختلف باختلاف صاحبه، مهما كانت الأصول التي يُبنى عليها واحدة.
ولم ير الصحابة رضي الله عنهم أنهم ملزمون باتباع رأي فلان من الصحابة أو علان، بل كان كل واحد منهم يذهب إلى ما أداه إليه اجتهاده، إن كان من أهل الاجتهاد، أو يسأل أحد المجتهدين، إن لم يكن من أهل الاجتهاد، دون أن يُلزم نفسه باتباع واحد بعينه.
ثم جاء التابعون فساروا على هذا المنوال، وشهد هذا العصر حرية فقهية حقيقية، فلكل مجتهد الحق في التعبير عمّا أداه إليه اجتهاده، ومن حق العامي اتباع من يطمئن إليهم من المجتهدين، دون أن يكون لهذا الاختلاف أثر سلبي بل عُد هذا الاختلاف ثروة ضخمة تدل على خصوبة العقلية المسلمة وسعة نتاجها.
وتمخض هذا التنوع المثري فيما بعد بتكون مدارس فقهية، لكل مدرسة منها خصائصها المميزة لها عن غيرها، ومع ذلك رأينا أئمة هذه المدارس ينهون تلاميذهم عن تقليدهم، ويأمرونهم بالنيل من المعين الأول، وبالتزام ما أدّاه إليهم اجتهادهم، ولذلك رأينا الأجيال الأولى من تلاميذ هؤلاء الأئمة بعيدين عن التقليد الأعمى والتعصب المقيت، بل وجدنا عكس ذلك تمامًا.
فعلى سبيل المثال رأينا الإمام إسماعيل بن يحيى المُزني تلميذ الإمام الشافعي يبدأ مختصره الذي ذكر فيه فقه إمامه الشافعي يقول:[1] "اخْتَصَرْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِلْمِ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ فِيهِ لِنَفْسِهِ"
ورأينا صاحبي أبي حنيفة أبا يوسف ومحمد بن الحسن يخالفان إمامهما في كثير من آرائه واجتهاداته كما هو معروف لدى المطلعين على الفقه الحنفي.
إلى غير ذلك من الأمثلة التي يطول الكلام بذكرها، وكلها شاهد صدق ودليل حق على أنّ الطبقات الأول من تلاميذ هؤلاء الأئمة قد امتثلوا أمرهم في عدم التقليد الأعمى، بل نظروا إلى تراث أئمتهم نظرة تأمل وتدقيق فما وافق اجتهادهم قبلوه، وما خالف تركوه، ولم يعد ذلك سوء أدب تجاه إمامهم، بل هو الأدب نفسه حيث كان منهم الامتثال لهم.
ومع تتابع السنوات حاد من حاد عن هذا النهج القويم، وصار اتباع هؤلاء الأئمة غاية لا وسيلة، وأصبح غاية المنى شرح كلام الأئمة وتفسيره وتوضيحه، أما النقد له فغدًا شيئًا مستنكرًا، يُشنع على صاحبه أيما تشنيع!
وبدلًا من أن يُنظر إلى هذا النهج المحدث على أنه انحراف عن المسار الصحيح، إذا بنا نجد تأصيلًا لذلك تحت اسم "إغلاق باب الاجتهاد" فصار هذا الشيء المخالف لما كان عليه الأوائل هو الصراط المستقيم الذي لا يجوز العدول عنه بحال.
وفي هذه الورقات القليلات أردت أن أتناول الدوافع والنتائج التي أدّت إلى ذلك، محاولًا قدر الإمكان أن ألتزم الإنصاف والدقة والموضوعية.
وقبل أن أبدأ أود أن أبين نقطة في غاية الأهمية، وهي أن المقصود ب "إغلاق باب الاجتهاد" هو إغلاقه على من يملك أدوات الاجتهاد لا على العوام، فالعوام ممنوعون من الاجتهاد منذ عهد النبوة، فلا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنها دعوة للجهال على اقتحام ما ليسوا له بأهل، بل محل الخلاف هو منع من ملك آلات الاجتهاد من الاجتهاد، ولذلك رأينا ابن عبد البر بعد أن ساق كلامًا كثيرًا عن ذم التقليد يقول:[2] "وَهَذَا كُلُّهُ لِغَيْرِ الْعَامَّةِ؛ فَإِنَّ الْعَامَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَقْلِيدِ عُلَمَائِهَا عِنْدَ النَّازِلَةِ تَنْزِلُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَيَّنُ مَوْقِعَ الْحُجَّةِ وَلَا تَصِلُ لِعَدَمِ الْفَهْمِ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ دَرَجَاتٌ لَا سَبِيلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَاهَا إِلَّا بِنَيْلِ أَسْفَلِهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ طَلَبِ الْحُجَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدَ عُلَمَائِهَا وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ[3] "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"
والشيء ذاته صنعه العز بن عبد السلام، فعلى الرغم من أنه قد حمل على المقلدين، وبين خطأ مسلكهم إذا به يقول:[4] " ويستثنى من ذلك العامة، فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي للحكم".
فليست الدعوة إلى الاجتهاد دعوة إلى الفوضى العلمية وإرخاء العنان لكل من هب ودب، ولكنها دعوة لرد الحق لأصحابه، فالمجتهدون قد سُلب منهم في وقت حقهم الشرعي في الاجتهاد، وآن أوان رده!

نشأة هذه الظاهرة
لم تكن هذه الظاهرة، أعني ظاهرة التقليد ممن يملك أدوات الاجتهاد، موجودة في سلف الأمة:
قال ابن عبد البر:[5] "يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ: لِمَ قُلْتُ بِهِ وَخَالَفْتَ السَّلَفَ فِي ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا".
وإنما بدأت هذه الظاهرة في القرن الرابع الهجري، كما نص على ذلك ابن حزم حيث قال:[6] "فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم عملوا به واعتقدوه ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم".
الدوافع حول نشأة هذه الظاهرة:
وسوف أقسم هذه الدوافع إلى نوعين:
- دوافع سامية
- دوافع غير سامية
أولًا: الدوافع السامية:
1 – الجبن العلمي:
وقد تأثرت في وضع هذا المصطلح بالفقيه ابن جماعة رحمه الله حيث قال:[7] " إحالة أهل زماننا وجود المجتهد يصدر عن جبن ما ، وإلا فكثيرًا ما يكون القائلون لذلك من المجتهدين، وما المانع من فضل الله واختصاص بعض الفيض والوهب والعطاء ببض أهل الصفوة؟".
حيث يجبن العالم عن الاجتهاد، رغم أنه ممتلك لأدواته، ويكون الورع دافعًا إلى ذلك التصرف.
ولكن الورع إن أدى إلى اختلال فروض الكفايات كان في غير محله!
فلو تورع مثلًا جميع الناس عن منصب الإمامة العظمى، لكان أمر الناس فوضى لا نظام له ولتعطلت كثير من الواجبات الشرعية المنوطة بالإمام!
ولو تورع جميعهم عن القضاء لضاعت العدالة، ولساد منهج الغاب.
فالورع لا بد أن يُضبط بميزان الشرع حتى لا يؤدي إلى خلل، والشيء إذا زاد عن حده آل إلى ضده كما هو معلوم.
فهذا التورع أدّى إلى كثير من العواقب السيئة كما سنبين في نتائج هذه الظاهرة إن شاء الله تعالى.
بل هذا التورع أدى إلى نقيضه، فلئن كان الداعي لهذا التورع الخوف من القول في الدين بجهل، فقد أدى ذلك إلى التقليد الأعمى، وهو عين الجهل!
ولذلك شبه الغزالي حال هؤلاء بحال من" يَقْتُلُ نَفْسَهُ عَطَشًا وَجُوعًا خِيفَةً مِنْ أَنْ يَغَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ يَشْرَقَ بِشَرْبَةٍ لَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ، وَكَالْمَرِيضِ يَتْرُكُ الْعِلَاجَ رَأْسًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعِلَاجِ، وَكَمَنْ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَالْحِرَاثَةَ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ صَاعِقَةٍ فَيَخْتَارُ الْفَقْرَ خَوْفًا مِنْ الْفَقْر"[8].
أيضًا فإنه يجب التنبيه إلى أنه لا يزال في هذه الأمة مجتهدون حتى يقبض الله تعالى العلم من الأرض، ولا يصح ادعاء أن الأرض قد خلت من مجتهدين بعد انتهاء القرون الأولى.
قال ابن عرفة المالكي:[9] " قال شيخنا ابن عبد السلام ،يعني أحد أئمة المالكية، : لا يخلو الزمان عن مجتهد إلى زمن انقطاع العلم".
وقال ابن دقيق العيد:[10] " والأرض- لاتخلو من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لابد فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله".
وقال السيوطي:[11] " ذهبت الحنابلة بأسرهم إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد لقوله - صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله رواه الشيخان وغيرهما قالوا لأن الاجتهاد فرض كفاية فيستلزم انتفاؤه اتفاق المسلمين على الباطل".
2 – الخوف من اتباع الهَوى:
لا شك أنه كلما تأخر الزمان زادت الأهواء، وقلت الديانة، فمن أجل ذلك رام بعض العلماء إغلاق باب الاجتهاد حتى يسدوا على أهل الهوى باب التلاعب بالشريعة المطهرة.
ولكن على الرغم من نبل هذا المقصد فإن هذه الوسيلة لن تحقق هذا المقصد؛ لأن التلاعب كما يأتي من الاجتهاد غير المنضبط، فإنه يأتي أيضًا من التقليد غير المنضبط.
فاتباع زلات العلماء الذي حذر منه العلماء يُعد شكلًا واضحًا من أشكال التلاعب بأحكام الشريعة، وصاحب هذا الصنيع لم يدّع لنفسه حق الاجتهاد، فهل لذلك يجوز لنا إلغاء الاجتهاد والتقليد في آن واحد لنقطع الباب على المتلاعبين؟!
ومن الطرق التي سلكها علماء عصرنا للحذر من هذا التخوف هو إنشاء فكرة "الاجتهاد الجماعي"، يقول الدكتور مصطفى الزرقا:[12] "وإذا كانت المخاوف السابقة إذ ذاك من الاجتهاد الذي كان يمارسه الأفراد قد أوجبت ذاك التدبير الوقائي بإقفال بابه، كما سبق بيانه، فإن العلاج، فإن العلاج في نقله من عهدة الأفراد إلى عاتق الجماعة، فيصبح الاجتهاد جماعيًا يمارسه فقهاء العصر الثقات بطريق الشورى فيما بينهم بعد أن كان فرديًا يمارسه كل فقيه بمفرده. فبذلك تتحقق ثمرات الاجتهاد، إذ لا يمكن للفقه أن يلبي حاجات العصور دونه، وتنتفي محاذير الاجتهاد الفردي التي دعت إلى إقفال بابه".
3 – الخوف من تغيير مناهج الاستدلال:
فلا شك أن قضية " مناهج الاستدلال" لها أهمية خاصة لأنها تحفظ النصوص الشرعية من التلاعب بها، ولذلك وضع أئمتنا علم "أصول الفقه" الذي يبين المنهج الواجب اتباعه في التعامل مع النصوص الشرعية.
ولقد قام علم أصول الفقه على استقراء طرق السلف في التعامل مع النصوص الشرعية، ووضع هذه الطرق في قواعد صالحة للتطبيق، فالخروج عليها يعد خرقًا لإجماع السلف الذين لم يتعدوا هذه الطرائق والمناهج.
لذلك أغلق بعض العلماء باب الاجتهاد خوفًا من اللعب بهذه الأصول التي حُفظت بها الشريعة.
ولكن فات هؤلاء العلماء أن مقصودنا بالاجتهاد هو ما كان قائمًا على وفق هذه الأصول، فهو كخياط علّم تلاميذه كيفية الخياطة، فصار كل تلميذ يخيط ثوبًا بالطريقة التي أرشدهم إليها أستاذهم، مع اختلاف شكل المَخيط في نهاية الأمر.
قال ابن برهان:[13] " أصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها".
وبهذا يتبين لنا أن هذا القلق لا مبرر له بعد أن اتفقنا على الالتزام بالأصول
ثانيًا: الدوافع غير السامية:
1 – التعصب المذهبي:
فالمتعصب يعز عليه أن يخالف من يتعصب له، ويشق عليه أن يرى رأيًا يخالف إمامه، رغم أنه لو تعقّل في الأمر لعلم أن حبه لإمامه هو طاعته في نهيه عن التقليد المذموم.
2 – الرغبة في تولي القضاء أو التدريس:
كان مذهب الأمير أو السلطان يؤثر على سير العملية الاجتهادية في نطاق سلطانه، وذلك لأنهم في كثير من الأحيان يقصرون الولايات من قضاء وتدريس ونحو ذلك على أتباع مذهبهم، فلهذا يُحجم كثير من العلماء في الاجتهاد أملًا في الحصول على ولاية.
3 – الخوف من السلطان أو الجماهير:
فلا يخفى ما تعرض له الإمام تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله من سجن وتشهير وتضييق، وذلك لأنه خالف آراء الجمهور في بعض المسائل.
فلئن كانت لدى هذين الإمامين الشجاعة في إظهار ما يرونه، مهما خالف الاجتهاد السائد في عصرهم، فقد كان هناك كثير غيرهم لا يتجاسرون على مثل ذلك، ويرون أن السلامة لا يعدلها شيء.
ومن النصوص التي تبين كيف أن سلطة الجماهير أو المذهب السائد قد تمنع العالم من اختيار ما يراه حقًا، هذا النص للإمام القرطبي رحمه الله – على جلالة قدره – حيث يقول بعد أن ذكر مذاهب الفرق في تفسير صفات الله تعالى:[14] "وأظهر هذه الأقوال، وإن كنت لا أقول به ولا أختاره، ما تظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، هذا جملة مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الصفات".
وهذا الغضب الجماهيري في غالب أحيانه لا يكون قائمًا على أساس علمي، بل يكون سببه كراهية مخالفة المعتاد، بغض النظر عن قوة الدليل أو ضعفه، وكم رأينا من آراء أُنكرت بشدة على قائليها، ثم ما لبثت حتى صارت سائدة في كثير من البلاد ويفتي بها كثير من المفتين!
قال ابن برهان: [15]" قد جعل الله المذاهب دولًا والآراء نوبًا، ولذلك المعنى يحدث في كل زمان مذهب تصغي إليه الأفئدة وتميل نحوه الأنفس".
4 – الكَسل العلمي:
فلقد كان الاجتهاد أمام المتقدمين ضرورة لا يمكنهم الانفكاك عنها؛ إذ إن اجتهادات من قبلهم لم توف لهم بما جدّ من حوادث، فمن ثم لا مناص عن أن يُعملوا فكرهم واجتهادهم؛ رغبة في الوصول إلى الحكم الشرعي في تلك الوقائع والنوازل.
أما المتأخرون فقد وجدوا أمامهم دواوين كثيرة من اجتهادات من قبلهم، ووجدوا فقهًا افتراضيًا قد وفى لهم بكثير من نوازلهم، فكأن المتقدمين كانوا يجتهدون لهؤلاء المتأخرين! ومن الطبعي أن همة الإنسان إلى الصعب تفتر عند توفر ما هو أسهل منه، وإلا فمن يطيق الآن السفر بالجمال مثلًا بعد أن صارت لدينا الحافلات والبواخر والطائرات؟!
ولننظر مثلًا إلى العلامة ابن بدران الحنبلي وهو يلوم أهل مذهبه الذين عكفوا على متن "منتهى الإرادات" وهجروا غيره، حيث يقول:[16] " فعكف الناس عليه وهجروا ما سواه من كتب المتقدمين، كسلًا منهم ونسيانًا لمقاصد علماء هذا المذهب الذي ذكرناها آنفًا".
فإن كان الكسل قد صرفهم عن مجرد القراءة، فكيف سيكون الحال مع الاجتهاد؟!
وبعد أن بينا مجموعة كافية من الدوافع التي حالت بين المتأخرين وبين الاجتهاد، حُقّ لنا أن نتساءل ونقول: هل كان لهذا التوقف نتائج على الحركة الفقهية؟
وللإجابة عن هذا فإننا نقول: إن هذا التوقف قد كانت له نتائج سلبية خطيرة، يمكن تلخيصها في الآتي:
1 – اتباع زلات العلماء:
فلا شك أن الأئمة – مهما علت أقدارهم – هم بشر يصيبون ويخطئون ويؤخذ منهم ويترك فلقد توقفت العصمة بموت المعصوم صلى الله عليه وسلم.
والواجب تجاه زلات العلماء شيئان:
1 – التماس الأعذار لهم وعدم الطعن عليهم بسببها.
2 – عدم اتباعهم عليها.
قال ابن القيم:[17] "" مَعرفة فضل ائمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول قالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم. فهذا طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما"ولكن عدل متعصبة المقلدة عن ذلك فأبوا إلا تقليد إمامهم في كل شيء، ومن ثمّ صارت هذه الزلات التي كان من المفترض أن تندثر، صارت حية باقية يتوارثها جيل عن جيل بسبب هذا التقليد غير المنضبط.
2 – ازدياد التعصب:
فكلما علا كعب الإنسان في العلم، اتسع صدره، وزاد حلمه؛ إذ إنه يتسع أفقه ويرى أن هذا الرأي الذي توصل إليه ما هو إلا اجتهاد قد يصيب وقد يخطىء؛ لعلمه بسعة دلالات اللغة، و كثرة الوجوه في التصحيح والتضعيف....إلخ ولذلك قال قائلهم:[18] " من لم يعرف اختلاف العلماء لم يشم أنفه الفقه".
أما المتعصبون الذين لم يطلعوا إلا على رأي واحد فكلٌ يظن أن الحق محصور في رأي واحد، أو في مدرسة واحدة، فيضيق صدره بكل ما يخالف قوله، وهذا التعصب الذي بدأ تعصبًا علميًا بدأ ينتقل إلى أشكال أخرى تأخذ طابعًا سلوكيًا، فصرنا نسمع من يقول إن الصلاة منفردًا أفضل من الصلاة خلف الحنفي[19]، ولم يكن هذا مجرد كلام نظري بل وجدنا أن المسجد الحرام مثلًا كانت تقام به أربع جماعات على عدد المذاهب المعروفة، وبهذا أصبح المسلمون شيعًا وأحزابًا بعد أن كانوا أمة واحدة.
3 – تطويع نصوص الوحيين للآراء المذهبية:
لما قام المتأخرون بالتقليد في كل شيء، وجدوا نصوصًا من الكتاب والسنة تخالف ما عليه أقوال أئمتهم، فلم يكن هذا دافعًا ليعطوا لفكرهم فرص في محاولة الاجتهاد للوصول إلى الرأي الأرجح، ولكنهم انطلقوا من قناعة لا تقبل الشك وهي أن قول الإمام هو الصواب، وأن هذا النص ينبغي تأويله – ولو بتعسف –ليوافق قول الإمام، ومن ثمّ صار كل فريق يجعل أقوال إمامه هي المعيار التي عليه يُفسر القرآن الكريم والسنة المطهرة.
قال العز بن عبد السلام:[20] "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلد فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودأ على تقليد إمامه، بل يتيح لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مقلده".
وقال ابن دقيق العيد:[21] " وأما أن يُجعل الفرع أصلًا يُرد النص بالتكلف والتحيل، ويحمل على أبعد المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل، ويُركب في تقرير الآراء الصعب والذلول، ويعمل من التأويلات ما تنفر عنه النفوس، وتستنكره العقول، فذلك عندنا من أسوأ مذهب، وأردأ طريقة، ولا يُعتقد أنه تحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة".
4 – فتح الباب أمام استبدال القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية:
فمع تجدد الحوادث التي تشهدها الدول والجماعات، كان الأمراء وأرباب السياسة يسألون العلماء عن الحكم الشرعي فيما جدّ لهم من نوازل، فكان العلماء يُهرعون إلى كتب مقلَّديهم فإن وجدوا الإجابة فبها ونعمت، وإلا حاروا ساكتين، وربما نقلوا فتوى لعالم متقدم، لكن حيثيات الفتويين غير متطابقة، ومن ثمّ لا تصبح فتوى المتقدم صالحة لزمان المتأخر.
فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، ولذلك لا يُناسب أبدًا الجمود على فتاوى بعينها؛ لأن هذه الفتاوى لن تكون كافية لهذا الوضع الجديد الذي قد يحوي قدرًا كبيرًا من التشابك والتعقيد.
فعندما عجز العلماء عن إمداد الأمراء بما يحتاجون إليه لجأ الأمراء إلى الساسة ممن هم خِلو من العلم الشرعي الصحيح، فكان الساسة يشيرون على الأمراء بما يحقق لهم مرادهم، ولكنه يخالف شريعة الله عز وجل، فصار الأمراء بين مأزقين؛ إما اتباع فتاوى غير صالحة للتغيرات الزمانية أو المكانية، وإما الخروج عن الشريعة بالكلية في هذه المسألة، وكان كثير من الأمراء يميلون إلى اختيار الثاني، ولم يعلموا أنه شر الشرين!
ومع أننا لا نبرر لهؤلاء الأمراء فعلتهم المنكرة، فإن العلماء رحمهم الله الذين جمدوا كانوا السبب وراء هذه الورطة التي عمّت بلاد المسلمين بعد ذلك، فالشر يؤدي إلى مثله، والشر يولد صغيرًا ولا يزال يكبر حتى يصير كالجبل العظيم لا يكاد ينزاح عن مكانه.
قال ابن القيم رحمه الله:[22] "وَهَذَا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ، وَهُوَ مَقَامٌ ضَنْكٌ، وَمُعْتَرَكٌ صَعْبٌ، فَرَّطَ فِيهِ طَائِفَةٌ، فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ، وَجَرَّءُوا أَهْلَ الْفُجُورِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مُحْتَاجَةً إلَى غَيْرِهَا، وَسَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيذِ لَهُ، وَعَطَّلُوهَا، مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا أَنَّهَا حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهَا لَمْ تُنَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ نَافَتْ مَا فَهِمُوهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ: نَوْعُ تَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَتَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ، وَتَنْزِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا رَأَى وُلَاةُ الْأُمُورِ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرُهُمْ إلَّا بِأَمْرٍ وَرَاءَ مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشَّرِيعَةِ، أَحْدَثُوا مِنْ أَوْضَاعِ سِيَاسَاتِهِمْ شَرًّا طَوِيلًا، وَفَسَادًا عَرِيضًا فَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ، وَعَزَّ عَلَى الْعَالِمِينَ بِحَقَائِق الشَّرْعِ تَخْلِيصُ النُّفُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِنْقَاذُهَا مِنْ تِلْكَ الْمَهَالِكِ.
وَأَفْرَطَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَابَلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةَ، فَسَوَّغَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا يُنَافِي حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ".
فهذا النص الرائع من ابن القيم يوقفنا على سبب خطير لأكبر مصيبة تتعرض لها أمتنا، وهي تنحية الشريعة عن حياة الناس، وفيه إنذار خطير لكل من تسول له نفسه أنّ الاجتهاد لا بد أن يتوقف.
5 – عدم الالتزام بالشروط الشرعية في بعض المسائل
فمع عدم الاهتمام بتحصيل آلات الاجتهاد، صار الأمراء والقضاة من غير المجتهدين، وبهذا تخلف شرط من الشروط التي يجب توافرهما فيهما.
قال إمام الحرمين الجويني:[23] " من شرائط الإمام أن يكون من أهل الاجتهاد، بحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث وهذا متفق عليه".
فهذا الشرط المتفق عليه – كما قال الجويني – قد تم تعطيله لمّا تعطل الاجتهاد، وإن كانت الضرورة أجازت التخلي عن هذا الشرط، فإن الخروج من هذه الضرورة يجب السعي إلى تحصيله، وإلا صرنا كمن أباحت له الضرورة أكل الخنزير فاستلذ ذلك، وتكاسل عن طلب الحلال.
وبعد هذه النتائج التي ذكرنا يمكننا القول إن إغلاق باب الاجتهاد مصيبة كبيرة حلّت بالأمة الإسلامية، ولكن منّ الله علينا فأدرك علماء هذا العصر خطورة ذلك، فأبوا هذا الإغلاق، وثاروا عليه، وأطلقوا لأنفسهم العنان للاجتهاد المنضبط، وصارت الاجتهادات تفي بجميع نوازل العصر، وقرارات المجامع الفقهية خير شاهد على ذلك، وصارت كثير من المصارف والمؤسسات تستعين بالعلماء ليصححوا لها معاملاتها وفق الشريعة الإسلامية، فلعل فتح باب الاجتهاد يكون الخطوة الأولى إلى عودة حاكمية الشريعة، كما كان إقفاله هو الخطوة الأولى في تنحية الشريعة!
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.






[1] مختصر المزني ص7، طبعة دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1419 – 1998.

[2] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص989 – تحقيق حسن أبي الأشبال – طبعة دار ابن الجوزي.

[3] النحل 43

[4] قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام ج2 ص274 – 275 – طبعة دار القلم – دمشق، الطبعة الأولى 1421 – 2000.

[5] جامع بيان العلم وفضله ج2 ص494.

[6] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج6 ص142 – 143 – تحقيق الشيخ أحمد شاكر – طبعة دار الآفاق الجدية - بيروت

[7] الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي ص67 – طبعة مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة.

[8] المستصفى للغزالي ج4 ص143 – تحقيق الدكتور حمزة بن زهير حافظ – طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

[9] الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي ص28.

[10] شرح الإلمام بأحاديث الأحكام لابن دقيق العيد ج1 ص23 – تحقيق عبد العزيز بن محمد السعيد – طبعة دار أطلس للنشر والتوزيع – الرياض.

[11] الرد على من أخلد إلى الأرض ص26 – 27.

[12] الفقه الإسلامي ومدارسه للدكتور مصطفى الزرقا ص114 – 115 – طبعة دار القلم – دمشق، والدار الشامية – بيروت، الطبعة الأولى 1416 – 1995.

[13] الرد على من أخلد إلى الأرض ص39

[14] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ج2 ص132 –طبعة دار الصحابة للتراث – طنطا – الطبعة الأولى 1416 – 1995.

[15] الرد على من أخلد إلى الأرض ص76.

[16] المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران ص434 – طبعة مؤسسة الرسالة – الطبعة الثانية 1401 – 1981.

[17] إعلام الموقعين ج5 ص235.

[18] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص815.

[19] كفاية الاختصار في حل غاية الاختصار لتقي الدين الحصني الشافعي ص211 – طبعة دار الضياء – دار المنهاج – الطبعة الثانية 1429 – 2008.

[20] قواعد الأحكام ج2 ص274 – 275.

[21] شرح الإلمام ج1 ص22

[22] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ج1 ص30 – 31 – تحقيق نايف بن أحمد الحمد – طبعة دار عالم الفوائد.

[23] الإرشاد للجويني ص426 – تحقيق د محمد يوسف موسى و د علي عبد المنعم عبد الحميد – طبعة مكتبة الخانجي 1369 – 1950.
 
التعديل الأخير:
إنضم
27 ديسمبر 2011
المشاركات
8
التخصص
علوم الشريعة
المدينة
كفر كما
المذهب الفقهي
حنفي
رد: إغلاق باب الاجتهاد - الدوافع والنتائج

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,
بارك الله فيك أخي الكريم.
لا شك أن باب الاجتهاد مفتوح وأنه لا يخلو زمان من مجتهد، لكن السؤال ما المقصود بالاجتهاد الذي ندعو إليه؟ هل هو المجتهد المطلق؟ أم طالب درس الفقه على مذهب معيّن وأصول معروفة حتى برع فيه وبلغ مرتبة الاجتهاد من خلال قواعد وأصول إمامه؟ هل كل ممارس للفقه يصل إلى رتبة الاجتهاد؟ لا بدّ أن يكون الأمر أكثر جدّيا, فإننا نرى المنتسبين للمذاهب على درجات ومراتب في المذهب نفسه وليس كل أحد يتجاسر على الاجتهاد المطلق من خلال النّصوص بفهمه الخاص.
لذلك حتى يتأسّس لدى طالب العلم الملكة الفقهية فلا بد له من دراسة منهجية على مذهب معيّن حتى يتكوّن لديه أولا التصورات للمسائل الفقهية ومن ثم معرفة التعليلات والاستدلالات للمسائل والأصول وممارسة الافتاء من خلال رسم المفتي وهكذا يترقى درجته العلمية حتى يصل إلى رتبة الاجتهاد في المذهب والنظر في الأدلة.
العلماء عندما قالوا –أي من قال منهم- بغلق باب الاجتهاد كلامهم كان موجها للعلماء أنفسهم ولم يقصدوا العوام, فاليوم ما نراه أن كثيرا من الطلبة يجترئون على الافتاء والاجتهاد حسب فهمهم والترجيح بين المذاهب والنظر في الأدلة, فالسؤال هو: هل هؤلاء مؤهلون لذلك؟ ومن أذن لهم بذلك؟ ومن شهد لهم بالأهلية؟ بخلاف السلف أنهم كانوا يتوقفون عن هذا ولم يخوضوا في هذا إلى بعد إذن الأئمة والعلماء لهم. فاليوم كل من أصبح مشهورا وحمل الشهادة العليا يكون مجتهدا فهل يعقل هذا؟ ومن شهد لهم بالأهلية؟
لا أدعو إلى التقليد الأعمى فإن التأمل والفهم مطلوب ومحمود ولكن لا بد من الحذر فيه لأن الكلام هنا كلام في دين الله تعالى وتوقيع عن الله سبحانه وتعالى.
والله أعلم.
 
أعلى