العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

اختلاف المالكية في "حكم الماء المتغير بالملح": هل يبقى طهورًا أم لا؟!

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحَمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيّد الأنبياء والمُرسلين، نبيّنا مُحمد وعلى آلهِ وصحبه أجمعينَ، وبعدُ:

فإن هذه المسألة من فروع التطبيق على قاعدة: ’’الشيء إذا اتصل بغيره هل يُعطى له حكم مباديه أو حكم محاذيه؟‘‘ وهي من القواعد المُختلف فيها عند المالكية..
معنى القاعدة ودليلها:
هذه القاعدة أوردها الونشريسي بهذا اللفظ [إيضاح المسالك (ص 72)، قاعدة رقم (19)] وصاغها المقري بلفظ: "إذا اختلف حكم الشيء بالنظر إلى أصله وحاله فقد اختلف المالكية بماذا يعتبر منها" [قواعد المقري (1/ 256)، قاعدة رقم (30)].
وبيان معنى القاعدة:
أنه إذا كان للشيء أصلان يتجاذبانه، أحدهما باعتبار خلقته ومنبته ونشأته التي أنشأه الله عليها، والآخر باعتبار ما طرأ عليه بعد ذلك من زيادة أو نقصان أو تغير في الخلقة والخصائص؛ فهل يُراعى في الأحكام المتعلقة به أصله الأول دون النظر إلى ما طرأ عليه، أم يراعى عليه من تغيير فيؤخذ ذلك في الاعتبار عند الحكم عليه بأحكام الشرع؟
ويشهد لاعتبار النشأة تذكير الله تعالى عباده في آيات كثيرة بنشأتهم الأولى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون} [الحجر: 28] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12].
أما اعتبار الحال التي آل إليها الأمر والحكم عليه بحاله التي صار إليها دون نظر إلى أصله، فيشهد له قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]، فأباح الله اللبن خالصًا دون النظر إلى الأصل الذي كان عليه من الفرث والدم. [انظر: تطبيقات قواعد الفقه عند المالكية، د. الصادق الغرياني (ص 80، 81)].
وما أحسن ما قاله ابن العربي في معنى الآية الكريمة: "نبّه الله تعالى على عظيم القدرة بخروج اللبن خالصًا من بين الفرث والدم، بين حمرة الدم وقذارة الفرث، وقد جمعها وعاء واحد، وجرى الكل في سبيل متحدة فإذا نظرت إلى لونه وجدته أبيض ناصعًا خالصًا من شائبة الجار، وإذا شربته وجدته سائغًا عن بشاعة الفرث، يريد: لذيذًا، وبعضهم قال: سائغًا، أي لا يغصُّ به، وإنه لصفته، ولكن التنبيه إنما وقع على اللذة وطيب المطعم، مع كراهية الجار الذي انفصل عنه في الكرش وهو الفرْث القذر، وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة". [أحكام القرآن، لابن العربي (3/ 131-132)].
وهذه المسألة (مسألة حكم الماء المتغير بالملح) تندرج في الكلام على أحكام الماء المتغير بقراره، ومفادها: أن الماء إذا تغير بالأرض التي هو بها أو التي يمر بها وكان بها ملح أو كبريت أو نحاس أو حمأة [هو الطين الأسود المنتن] وغير ذلك؛ فإن ذلك لا يؤثر في طهوريته سواء تغير بذلك القرار أو صنع منه إناء فتغير منه الماء - أقرب المسالك مع بلغة السالك، للشيخ الدردير (1/ 26).
والدليل: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: (جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ) -أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، حديث رقم (197)، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، فتح الباري (1/ 361)، وأبو داود في كتاب الطهارة حديث رقم (100) باب الوضوء في آنية الصفر، سنن أبي داود (1/ 25)-.
وجه الدلالة: أن التوْر: قِدْر كبير يُصنع من الحجارة ونحوها، والصفر: هو الذي تعمل منه الأواني، ضرب من النحاس [عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي (1/ 120)، ط.2، دار الكتب العلمية سنة (1992 م)]، قال في فتح الباري (1/ 361): "التوْر كان من صفر، أي نحاس جيد"، وفي الحديث دليل على جواز التوضؤ من النحاس الأصفر بلا كراهية [عون المعبود (1/ 120)، ومعلوم أن الإنباء -كما وصفه شراح الحديث- يغير طعم الماء. وكان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يسخن له الماء في الصفر [الذخيرة للقرافي (1/ 169)].
ومحل الخلاف في حكم: ما طرح قصدًا، وأمَّا ما أقلته الريح؛ فإنه لا خلاف أنه لا يضر [مواهب الجليل (1/ 57-58)، الذخيرة (1/ 169)، بلغة السالك (1/ 126)]، فإذا قصد عمدًا إلى إلقاء شيء في الماء ما هو من جنس قراره -كالتراب والملح-؛ فقد اختلف المالكية: هل يسلب الطهورية من الماء أم لا؟
وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول/ أن ذلك لا يسلبه الطهورية ولو كان الطرح قصدًا، وهذا هو المشهور في المذهب [المراجع السابقة، قال القرافي: "ولا فرق بين ما تغير بالمعادن الجاري عليها والآنية المصنوعة منها"]، وذهب إليه ابن أبي زيد (القيرواني) [أحد فقهاء المغاربة]، وابن القصار.
ووجهه: أن الملح كالتراب؛ لأنه أصله فلا يضر التغير به وفي هذا مراعاة للمبدأ، أي: أصل الشيء. [تطبيقات قواعد الفقه عند المالكية، د. الصادق الغرياني (ص 81)].
القول الثاني/ أن ذلك يسلبه الطهورية إذا كان الطرح قصدًا، حكاه المازري وغيره، ونقله ابن عرفة، واختاره ابن يونس.
ووجهه: أن الماء منفك عن هذا الطارئ. [مواهب الجليل (1/ 58)، الذخيرة للقرافي (1/ 169)].
جاء في مواهب الجليل (1/ 58): "ابن يونس رجَّح القول بسلب طهورية الماء بالملح المطروح فيه، فإنه قال بعد أن ذكر الخلاف في الملح، والصواب: لا يجوز الوضوء به؛ لأنه إذا فارق الأرض صار طعامًا لا يجوز التيمم عليه فهو بخلاف التراب؛ لأن التراب لا يتغير حكمه ولا تخلو بقعة فيها الماء منه. انتهى، والله أعلم".
القول الثالث/ الفرق بين المعدني فلا يسلب الطهورية والمصنوع فيسلب، ونَسَبَه "سَنَد" للباجي، وقيل: لم يجزم الباجي به وإنما ذكره على سبيل الإجمال. قال "سَنَد" والأولى عكسه. يريد: أن المعدني يضر؛ لأنه طعام، والمصنوع لا يضر؛ لأن أصله تراب. [مواهب الجليل (1/ 58)].
وفي الذخيرة للقرافي (1/ 170): "قيل: المعدني كالتراب؛ نظرًا إلى الأصل، والمصنوع كالطعام؛ لإضافة غيره إليه غالبًا".
علاقة الفرع بالقاعدة:
بعد عرض الخلاف بين الفقهاء في حكم هذا الفرع وهو: الماء المتغير بالملح هل يبقى طهورًا أمْ لا؟ نلاحظ أن منهم من راعى المبدأ فجعل الملح كالتراب؛ لأنه أصله فلا يضر التغير به ومن راعى ما حاذاه وهي الحالة التي عليها الملح من كونه كالطعام لاستعماله فيه وإلحاقه بالربويات - قال بعدم الطهورية. [تطبيقات قواعد الفقه عند المالكية (ص 81)].
ويُراجع في ذلك: كتاب "أثر الخلاف الفقهي في القواعد المختلف فيها" للدكتور محمود إسماعيل مشعل، الصفحات (337-340).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
أعلى