رد: الآثار الواردة في لزوم البيوت في الفتن لـ د. حميد بن أحمد نعيجان
945. ثنا إبراهيم بن سعيد، حدثني يحيى بن صالح، ثنا مالك بن أنس، ثنا يحيى بن سعيد قال: "كان أبو جهيم الأنصاري([1]) بدريّا، وكان لا يجالس الناس، وكان يعتزل في بيته، فقالوا له: لو جالست الناس وجالسوك، فقال: وجدت مقارفة الناس شرا، وكان عبد الله بن عمرو أكثر الناس مجالسة له، وكان يحدثه عن الفتن، فلما كان من أمر عبد الله بن عمرو ما كان بالشام([2])، قال: تحدثني ما تحدثني – وكان هذا من أمره- لله علىّ ألا أكلمه أبدا"([3]).
946. حدثني محمد بن هارون، حدثنا الفريابي، حدثنا سفيان قال: "كان طاووس يجلس في البيت، فقيل له: لِمَ تجلس في البيت؟ قال: حيف الأئمة وفساد الناس"([4]).
947. حدثني محمد بن عباد بن موسى قال حدثنا كثير بن هشام قال: كان سفيان الثوري قاعدا بالبصرة فقيل له: هذا مساور بن سوار يمر – وكان على شرطة محمد بن سليمان- فوثب فدخل داره، وقال: "أكره أن أرى من يعصي الله ولا أستطيع أن أغيّر عليه"([5]).
948. حدثنا روح بن حاتم، حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن شريك، عن ليث عن الحكم، عن أبي البختري، عن عليّ قال: "طوبى لكل عبد نُوَمَة([6])، عرف الناس ولم يعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئئك مصابيح الدجى، تُجلى عنهم كل فتنة مظلمة، أولئك ليسوا بالمذاييع([7]) البُذُر([8])، ولا الجفاة المرائين، قال سمعت ابن الأعرابي يقول: النومة: الذي لا يدخل مع الناس فيما هم فيه"([9]).
949. وبه حدثنا يحيى بن سليم قال: سمعت شب بن عبّاد قال: سمعت أبا الطفيل قال: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "أظلتكم فتنة عمياء متسكِّنة، لا ينجو منها إلا النومة، قيل: يا أبا الحسن، وما النومة؟ قال: الذي لا يعرف الناس ما في نفسه"([10]).
950. حدثني محمد بن إسحاق الباهلي، حدثنا سفيان رحمه الله قال: كنا عند الأعمش، فذكروا قتل زيد بن علي، فقال: "أنا لكم النذير العريان، كفَّ رجل يده وأمسك لسانه وعالج قلبه"([11]).
951. حدثني علي، عن محمد بن الحسين قال: حدثني حكيم بن جعفر قال: حدثني عصام بن طليق، عن شيخ من أهل البصرة، عن أبي الجلد قال: "لقيني رجل من أهل العجم، فشكا إلى سلطانه وما يلقى منه من الظلم، فقلت له: ألا أدلك على أمر إن أخذت به وتركت ما سواه كفيت أمر السلطان وغيره، قال: بلى، قلت: ارجع إلى أهلك وتوكل على الله في أمرك كله، فإنك إن تفعل تجد ما أقول لك، قال: فلقيني بعد ذلك فجعل يشكرني ويقول: إني والله رجعت يومئذ إلى أهلي وتوكلت على الله فلم ألبث أن جاءني ما أحب"([12]).
التحليل والتعليق
========
تضمنت الآثار السابقة موقف المسلم عند هيجان الفتن، واضطراب أمور الناس أو استشراء ظلم الحكام وبطشهم بالرعية، وانتشار المنكرات العلنية ويتلخص هذا الموقف في:
لزوم البيوت:
وهو ما عبرت عنه الآثار عن كثير من البدريين الذين لم يخرجوا من بيوتهم بعد موت عثمان رضي الله عنه إلا إلى المقابر والجنازات، ووصية بعضهم لمن سأله عن المخرج بأن يكونوا أحلاس بيوتهم، وإذا اشتد الخطب لم يحضروا ترك الجمعة والجماعات، وهكذا الأمر عند حيف الأئمة وانتشار الظلم والمنكرات كانوا يلزمون بيوتهم خشية التأثم من رؤية المنكر وعدم إنكاره.
عدم الخوض في شيء من الفتن:
ومن هنا مدحوا النُّوَمَة، وفسروه بأنه الذي لا يدخل مع الناس فيما هم فيه، أو الذي لا يعرفون ما في نفسه، وكلاهما متلازمان، وأمروا بكفّ اليد وإمساك اللسان ومعالجة القلب، بل هذه نصيحتهم حتى لغير المسلمين.
ولا شك أن هذين المسلكين من أهم ما يحفظ المسلم به نفسه من الفتن، فيَسلم ويُسلم منه، فلا يكون وقودا لنارها، ولو سلك الناس هذان المسلكان لماتت الفتن في مهدها، ولوُئدت قبل استهلالها، ولهذا عقد العلماء في كتبهم عدة أبواب في لزوم البيوت في الفتن وذكروا النصوص الواردة فيه، فقد عقد الآجري باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخويف العقلاء على قلوبهم أن يهووا ما يكرهه الله عز وجل، ولزوم البيوت والعبادة لله عز وجل وقال: "ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه؛ فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة، نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام باتباعهم الهوى، وإيثارهم الدنيا، فمن أراد الله تعالى به خيرا فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم الحجة الواضحة السواد الأعظم، ولم يتلوّن في دينه، وعبد ربّه عز وجل فترك الخوض في الفتنة؛ فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير"([13]).
قال القرطبي بعد ذكره من اعتزل الفتنة من الصحابة والتابعين: "هذا وكانت تلك الفتنة والقتال بينهم على الاجتهاد منهم، فكان المصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر، ولم يكن قتال على الدنيا، فكيف اليوم الذي تسفك فيه الدماء باتباع الهوى، طلبا للملك والاستكثار من الدنيا، فواجب على الإنسان أن يكف اليد واللسان عند ظهور الفتن، ونزول البلايا والمحن"([14])، وكلما كان المسلم أعلم بهذه النصوص كان أقرب إلى العصمة من الوقوع في الفتن، وهذا ما حصل لمن اعتزل القتال من الصحابة فمن بعدهم، كما قال شيخ الإسلام: "الذين رووا هذه الأحاديث من الصحابة مثل: سعد بن أبي وقاص، وأبي بكرة، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وأبي هريرة وغيرهم، جعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك، بل جعلوا ذلك أول قتال فتنة كان في الإسلام، وقعدوا عن القتال، وأمروا غيرهم بالقعود عن القتال، كما استفاضت بذلك الآثار عنهم"([15]).
[1] هو أبو جهيم بن الحارث بن الصِّمَّة بن عمرو الأنصاري، مختلف في اسمه، صحابي معروف، وهو ابن أخت أبي بن كعب، بقي إلى خلافة معاوية، الإصابة (7/73)، التقريب (8025).
[2] وذلك أنه رضي الله عنه قاتل مع معاوية، وكان حامل رايته في صفين، ثم ندم ندما شديدا، وكان يقول: "ما لي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني مت قبل هذا بعشر سنين" ثم يقول: "أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، ولوددت أني لم أحضر شيئا منها، وأستغفر الله عز وجل عن ذلك وأتوب إليه"، انظر الاستيعاب (1/292-293).
[3] إسناده حسن؛ يحيى بن صالح هو الوحاظي صدوق التقريب(7618)، العزلة والانفراد (54) رقم (10) ورقم (28)، ونحوه رقم(7)، وابن المبارك في الزهد رقم (17)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/707).
[4] إسناده صحيح، مداراة الناس (105) رقم (127)، العزلة والانفراد رقم (108) وانظرالذي بعده، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (4/4)، والمزي في تهذيب الكمال (3/496)، وابن كثير في البداية والنهاية (9/242).
[5] إسناده حسن، شيخ المصنف صدوق يخطئ، التقريب (6033)، كتاب الورع (67) رقم (74).
[6] هو الخامل الذكر الذي لا يُؤْبَه له، وقيل: الغامض في الناس الذي لا يَعرف الشر وأهله، انظر النهاية في غريب الحديث (5/273).
[7] جمع مذياع، مِن أذاع الشيء إذا أفشاه، وقيل: أراد الذين يُشيعون الفواحش وهو بناء مبالغة، لسان العرب (8/98).
[8] رجل بَذور وبذير: يذيع الأسرار ولا يكتم سرا، والجمه بُذُر، يبذرون الكلام وينشرونه ويفشونه كما تبذر الحبوب، لسان العرب (4/50).
[9] إسناده لين، فيه ليث بن أبي سليم، والأثر حسن بطرقه، التواضع والخمول (105-106) رقم (10)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/100) رقم (34497)، وهناد في الزهد (2/437) رقم (861)، وأبو نعيم في الحلية (1/76)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/110) رقم (9671)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (42/492)، وانظر سنن الدارمي في تفسير النومة أيضا (1/70).
[10] إسناده لين؛ يحيى بن سليم صدوق سيء الحفظ، التقريب (7613)، وانظر الذي قبله، التواضع والخمول (115) رقم (27)، وذلك لشدة تحفظه في منطقه واعتزاله عن الناس، حتى لا يعرف ما في نفسه.
[11] إسناده لين؛ شيخ المصنف لم أجده إلا ضمن الرواة عن محمد بن عبد الله بن عثمان الخزاعي في تهذيب الكمال (6/377)، كتاب الصمت وآداب اللسان (279) رقم (622)، وأخرجه الخلال في السنة (1/134) رقم (91) من طريق سفيان عن الأعمش لكن بلفظ مخالف، وهو أن ذلك كان لما قتل الوليد بن يزيد، حيث قال خلف بن حوشب: اجمع بقية من بقي، واصنع طعاما، فجمعهم فقال لهم ذلك، وذكر بعده عن أحمد قوله: "انظروا إلى الأعمش ما أحسن ما قال، مع سرعته وشدة غضبه"، والذي يظهر لي والله أعلم أن رواية المصنف أولى فإن الوليد كان خليفة يوم قتل، وكان بالشام مقر ملك بني أمية، وقد تولى عزله والخروج عليه بعض أولاده، وهذا يجعل كونه المراد في القصة بعيدا، أما زيد بن علي فقد كانت الحادثة في الكوفه كما في السير (5/389)، وهي الأقرب إلى موطن الأعمش فهو كوفي، لا سيما وأنه ذكر عنه أنه فيه تشيع كما في تهذيب الكمال (3/303)، فلعله فعل ذلك حتى يقطع دابر الفتنة، ويخمد محاولة الثأر، ويحقن دماء المسلمين فلا يقول متقول أو يتمنى متمن أن يصدر من الأعمش شيئا، ولهذا كان تعليق الإمام أحمد- الذي عرف عنه نهيه الشديد عن السيف- تعليقا قويا فيه إشادة بهذا الموقف الحاسم في مثل هذا الوقت العصيب، وأن شدة غضب الأعمش وسرعته لم تمنعه أن يلجمها بلجام الشرع، ويحكمها بحكم الدين، وهكذا العلماء الربانيون يضبطون عاطفتهم ويحكِّمون فيها شرع الله، ولا يجعلونها تسوقهم سوق ناقة هوجاء بلا زمام ولا خطم.
[12] إسناده ضعيف، فيه عصام بن طليق صعيف كما في التقريب (4614)، كتاب التوكل (91) رقم (56).
[13] الشريعة (1/50)، وانظر السنن الواردة في الفتن (1/363).
[14] التذكرة (629) تحت باب الأمر بلزوم البيوت.
[15] منهاج السنة (8/525- 526).