د. محمد بن عمر الكاف
:: قيم الملتقى الشافعي ::
- إنضم
- 20 مايو 2009
- المشاركات
- 326
- التخصص
- فقه
- المدينة
- المدينة المنورة
- المذهب الفقهي
- شافعي
هذه من المسائل التي يكثر الخلط واللبس فيها من كثيرين كتبوا عن الإمام الشافعي ومذهبيه القديم والجديد ، فيتصور أن الشافعي غير مذهبه كاملا ، أو أن المجتمع المصري أثر على آرائه الفقهية.. إلى غير ذلك من التصورات الخاطئة ..
* مذهَبُ الشَّافِعِيِّ واحدٌ :
تُوهِمُ عباراتُ كثيرٍ ممن أرَّخُوا للشافعيِّ أنَّ القولَ الجديدَ والقولَ القديمَ مذهبانِ مُستَقِلانِ ، أو أنَّ الشافعيَّ أملى كُتُباً جديدةً مستقلةً عن الكتبِ القديمةِ ، وقد استكثرَ بعض الكُتَّابِ أن تكونَ السنواتُ الأربعِ التي أقامها الشافعيُّ بمصرَ كافيةً لتأسيسِ مذهبٍ جديدٍ وتصنيفِ كتبٍ جديدةٍ ، ولكن عندَ التدقيقِ يظهرُ أن مذهبَ الشافعيِّ في الحقيقةِ واحدٌ ، وأنَّ القولَ الجديدَ امتدادٌ للقولِ القديم وتطويرٌ له ، والكتبُ الجديدةُ هي تمحيصٌ وزيادةٌ للكُتُبِ القديمةِ ، فكتابُ « الحجة » هو نفسُهُ كتابُ « الأم » ، ولم يسمِّهِما الشافعيُّ بهذينِ الاسمين بل سمَّاهما مَنْ رَواهما ، والشافعيُّ استنسخَ كتابه القديمَ وأضافَ إليه في الجديدِ وعدَّلَ وحَذَفَ ، ذلك لأنَّ الشافعيَّ طالما كان يفحَصُ آراءَهُ كما يفحَصُ آراءَ غيره ، ثم يكرِّرُ وزنَها على ما يستخرِجُ من أصولٍ فيُبقِي أو يُعَدِّلُ ، وهذا شأنُ الباحِثِ الذي يطلُبُ الحقَّ لا يبغِي سواه ، والمجدِّدُ الحيُّ في تفكيرِهِ واجتهادِه .
يُؤكِّدُ هذا البيهقيُّ(ت458هـ) في « مناقب الشافعي »([1])حيث يقول : (ثم أعادَ تصنيفَ هذه الكتبِ في الجديدِ غيرَ كُتُبٍ معدودةٍ منها : كتابُ الصيامِ ، وكتابُ الصَّدَاق ، وكتاب الحدود ، وكتاب الرَّهنِ الصغير ، وكتابُ الإجارة ، وكتابُ الجنائز ، فكانَ يأمرُ بقراءَةِ هذه الكتب عليه في الجديد ، ثم يأمرُ بتخريقِ ما تغيَّرَ اجتهادُهُ فيها ، وربما يَدَعُهُ اكتفاءً بما ذَكَرَ في مَوضِعٍ آخرَ ) فالإمامُ لم يقطَعْ نظرَهُ عن كتبِهِ القديمةِ بل من خلالها أبقى وعَدَّلَ وحَذَفَ ، فأصلُ المذهَبِ واحدٌ ([2]).
وكذلك يدلُّ عليه قولُ ابن النَّدِيْمِ(ت438هـ) ([3]) في «الفهرستِ» عند ذكرهِ لكتابِ « المبسوط » الذي رواه الزَّعْفَرَانِيُّ : (وروى « المبسوطَ » عن الشافعيِّ على ترتيب ما رواه الربيع ، وفيه خُلفٌ يسيرٌ ، وليسَ يرغبُ الناس فيه ولا يعملونَ عليه ، وإنما يعملُ الفقهاءُ على ما رواه الربيع)([4]).
فيدلُّ على أن أصلَ الكُتُبِ واحدٌ وهي بنفس الترتيبِ .
* أسبابُ تغييرِ الإمامِ لبعضِ اجتهاداتِه :
أما عن الأسباب التي دَعَتِ الإمامَ الشافعي إلى تغييرِ اجتهاداته :
1- مراجعتُهُ لأصوله في الاستنباط ، وإعادتُهُ لتصنيفِ كتابه « الرسالة » في أصول الفقه ، مما أدى إلى اختلاف اجتهاده في الفروع .
2- مراجعتُهُ لاجتهاداته في الفروعِ والنَّظَرُ فيها ، وإعادتُهُ الاجتهادَ بناءً على قياسٍ أرجحَ ، أو دليلٍ أقوى ، شأنُ من يتحرَّى الحقَّ ويرى رأيه صواباً مُحتَمِلاً للخطأِ.
وبعبارةٍ أخرى يُلخِّصُ د. لمين الناجي بعد استقراءِه لمسائل القديم والجديدِ أسباب تراجع الإمام عن أقوالِه ، بقوله:
(الرَّجُلُ دائِمُ الفحصِ في الأدِلَّةِ ، ينقدُها ويمحِّصُها ، دائمُ المناظرَةِ مع تلامِذَتِه ومعَ غيرهم ، ولذلك يقول قولاً ويرجِعُ عنه ، وقد يرجِعُ إليه مرَّةً أخرى ، وقد يقول قولَينِ أو أقوالاً ولا يتبيَّن له وجهُ الترجيحِ ، فالظاهر أنَّ السَّبَبَ الرئيسَ في تغيُّرِ رأي الشافعيِّ هو عامِلُ التَّرجيحِ ، ومن خلالِ استقرائي لاختلافِ اجتهاداتِ الشافعيِّ بين القديمِ والجديدِ ظهر لي أن عوامِلَ التَّرجيحِ ثلاثةٌ :
1- الترجيحُ بين الأَدِلَّةِ النقلِيَّةِ .
2- التَّمَسُّكُ بظواهرِ النصوصِ في مقابلِ قياسٍ أو غيرِه .
3- الترجيحُ بين الأقيِسَةِ)([5]).
* أسبابٌ أخرى يذكرُها بعضُ الباحثينَ :
1- تغيُّرُ البيئةِ والأعرافِ والعاداتِ بين مصرَ والعراقِ :
وهو سببٌ مشهورٌ ، يذكرُه كثيرٌ من الباحثين([6]) ، فهم يجعلونَ تغيُّرَ اجتهادَ الإمامِ الشافعيِّ بين العراقِ ومصرَ دليلا على تغيُّر الأحكامِ الشرعية بتغيُّرِ المكانِ ، وأنَّ المجتمعَ المِصرِيَّ بعاداتِهِ وأعرافِهِ قد أثَّر على اجتهاداتِ الإمام فغيَّرها تبعاً للمجتمعِ الجديدِ .
وهو سببٌ واهٍ جداً ، ردَّه مجموعةٌ من الباحثين منهم الباحثُ فهدُ الحبيشيُّ في بحثه القيِّمِ « المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي» لسبعةِ أسبابٍ، نختارُ منها ما يلي:
1- لو كان الأمر كذلك لما شطبَ الإمامُ كتاباتِه الأولى ، ولما أنكر على مَن يروي آراءَه القديمةَ ، بل كان سَيُبيِّنُ سبَبَ تغيُّرِ فتواه في البَلَدَينِ بأنَّ معطياتِها وأُسَسَها مختلفةٌ .
2- يؤيِّد هذا أن الإمامَ أبقى على مواضعَ من الصَّداقِ ، ولو كان كما قيلَ لما أبقاه أيضاً ، أو كان رفضُهُ لفتاوى متفرِّقَةً من كُتُبٍ مختلفةٍ ، لا أن يشطُبَ جميعَها عدا مواضعَ.
3- يدعَمُ هذا أيضاً أن مذهبَ الإمامِ القديمَ كان مبنياً على أصولٍ لم يرتَضِها الشافعيُّ بعد ذلك ، كحُجِّيَّةِ مذهب الصحابيِّ .
4- ليستْ مسافةُ العاداتِ ، والناسِ ، والمكانِ ، والزمانِ كبيراً بين مصرَ والعراقِ بحيثُ يُؤدِّي هذا إلى التراجُعِ عن مسائلِ القديمِ.
5- أنَّ الشافعيَّةَ والذين هم أدرى بإمامِهم ومذهبِهِ لم يذكروا هذا السبب، وعندما اختار بعضهم شيئاً من آرائه القديمةِ ذكروا عدم نسبةِ هذه الآراء لمذهبِ الإمامِ، وأن الأصحابَ إنما اختاروها لِرُجحانها بالأدِلَّةِ من وُجهةِ نظرِهم.
فالذي يظهَرُ أن الإمامَ غيّر آراءَه واجتهاداتِهِ لما ترجَّحَ لديه من ضعفِها وصوابيَّةِ آرائِه الجديدةِ لا لشيءٍ آخرَ ، يظهرُ ذلك من استقراءِ المسائلِ التي أُثِرَ فيها عن الإمامِ قولان : قديمٌ وجديدٌ ، يتضحُ جليًّا فيها كونُ تغير اجتهاد الإمامِ نابعاً من نظرِه في الدليلِ لا إلى عُرْفِ المكانِ أو المجتمعِ ([7]).
وهو ما أكّده كذلك الدكتور لمين الناجي بعد استقرائِه لمسائلِ القديمِ والجديدِ بملاحظته كونَ أكثر مسائلِ القديمِ والجديدِ موجودةٌ في العباداتِ أكثرَ مما هي في العاداتِ والمعاملاتِ ، والعباداتُ لا تتأثَّر كثيراً بتقلُّبِ الظروفِ والأحوالِ ([8]).
2- اطِّلاعُ الإمامِ على فقهِ اللَّيثِ بنِ سعدٍ :
في مصر اطَّلَعَ الإمامُ على فقهِ الليثِ بن سعدٍ(ت175هـ) من خلالِ تلاميذِه هناك ، وأفادَ من عددٍ من كبارِ تلاميذِ شيخِه الإمامِ مالكٍ مثل أشهبِ بن عبدالعزيزِ(ت204هـ) ([9]) وغيرِه ، الأمرُ الذي يجعلُه بعضُ الباحثين سبباً لتغييرِ الإمامِ لبعضِ اجتهاداتِه .
وهو سببٌ ضعيفٌ كما يؤكد د. لمين الناجي ، ويعلِّلُ ذلك بِعَدَمِ اهتمامِ الشافعيِّ نفسِه بذكرِ اللَّيثِ بنِ سعدٍ في مُصَنَّفاتِه ، ولا تلاميذُه من بعدِه([10]) .
3- اطلاعُ الإمامِ على أحاديثَ لم يطَّلِع عليها من قبلُ :
يذكر بعضُهم كونَ الإمامِ اطَّلَعَ على أحاديثَ بمصر فغيَّر بعض آراءِه تبعاً لذلك ، ولكن الدكتور لمين بعد استقرائه لمسائل القديم ردَّ هذا السَّبَبَ ، حيثُ إن «مسند الشافعيِّ» المطبوعِ ، جميعُ الأحاديثُ التي فيه يعرِفُها الإمامُ قبل دخولِه مصرَ ، بدليلِ رواتِها الذين روى عنهم ([11]).
([1]) البيهقي ، مناقب الشافعي ، تحقيق : السيد أحمد صقر (القاهرة ، دار التراث) (1/255) .
([2]) محمد أبو زهرة ، الشافعي- حياته وعصره - آراؤه وفقهه ، (دار الفكر العربي) ص160 .نحراوي عبدالسلام (الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد ص218 .
([3]) محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق، أبو الفرج بن أبي يعقوب النديم: صاحب كتاب (الفهرست - ط) من أقدم كتب التراجم ومن أفضلها. وهو بغدادي، يظن أنه كان وراقا يبيع الكتب. وكان معتزليا متشيعا. العسقلاني . انظر : لسان الميزان (5/72) .
([4]) ابن النديم ، الفهرست (دار المعرفة ، بيروت ، 1978م ) (1/297)
([5])لمين الناجي ، القديم والجديد في فقه الشافعي (2/136-224) .
([6]) مثل الباحث عبدالعزيز قاضي زادة في رسالته للماجستير (الإمام الشافعي والمسائل التي اعتمدت من قوله القديم) ، والطالب سلوان عبدالخالق علي في رسالته للماجستير بعنوان (الإمام الشافعي ومذهبه القديم والجديد ضمن المنهاج للنووي) والشيخ محمد الطيب اليوسف في كتابه (المذهب عند الشافعية) (دار البيان الحديثة ، الطائف ، ط1 ، 1421هـ) ص64 وأحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) (2/221) ، وعبدالرحمن الشرقاوي في كتابه (أئمة الفقه التسعة) ص150 .
([7]) أكرم القواسمي ، المدخل إلى مبذهب الإمام الشافعي ص307 .
([8]) لمين الناجي ، القديم والجديد في فقه الشافعي (1/350) .
([9])أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمرو: فقيه الديار المصرية في عصره. كان صاحب الامام مالك. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه. قيل: اسمه مسكين ، وأشهب لقب له ، مات بمصر (العسقلاني ، تهذيب التهذيب 1/ 359 ، وابن خلكان ، وفيات الأعيان 1/ 78 ) .
([10]) لمين الناجي ، القديم والجديد في فقه الشافعي (2/70)
([11]) المصدر نفسه .
* مذهَبُ الشَّافِعِيِّ واحدٌ :
تُوهِمُ عباراتُ كثيرٍ ممن أرَّخُوا للشافعيِّ أنَّ القولَ الجديدَ والقولَ القديمَ مذهبانِ مُستَقِلانِ ، أو أنَّ الشافعيَّ أملى كُتُباً جديدةً مستقلةً عن الكتبِ القديمةِ ، وقد استكثرَ بعض الكُتَّابِ أن تكونَ السنواتُ الأربعِ التي أقامها الشافعيُّ بمصرَ كافيةً لتأسيسِ مذهبٍ جديدٍ وتصنيفِ كتبٍ جديدةٍ ، ولكن عندَ التدقيقِ يظهرُ أن مذهبَ الشافعيِّ في الحقيقةِ واحدٌ ، وأنَّ القولَ الجديدَ امتدادٌ للقولِ القديم وتطويرٌ له ، والكتبُ الجديدةُ هي تمحيصٌ وزيادةٌ للكُتُبِ القديمةِ ، فكتابُ « الحجة » هو نفسُهُ كتابُ « الأم » ، ولم يسمِّهِما الشافعيُّ بهذينِ الاسمين بل سمَّاهما مَنْ رَواهما ، والشافعيُّ استنسخَ كتابه القديمَ وأضافَ إليه في الجديدِ وعدَّلَ وحَذَفَ ، ذلك لأنَّ الشافعيَّ طالما كان يفحَصُ آراءَهُ كما يفحَصُ آراءَ غيره ، ثم يكرِّرُ وزنَها على ما يستخرِجُ من أصولٍ فيُبقِي أو يُعَدِّلُ ، وهذا شأنُ الباحِثِ الذي يطلُبُ الحقَّ لا يبغِي سواه ، والمجدِّدُ الحيُّ في تفكيرِهِ واجتهادِه .
يُؤكِّدُ هذا البيهقيُّ(ت458هـ) في « مناقب الشافعي »([1])حيث يقول : (ثم أعادَ تصنيفَ هذه الكتبِ في الجديدِ غيرَ كُتُبٍ معدودةٍ منها : كتابُ الصيامِ ، وكتابُ الصَّدَاق ، وكتاب الحدود ، وكتاب الرَّهنِ الصغير ، وكتابُ الإجارة ، وكتابُ الجنائز ، فكانَ يأمرُ بقراءَةِ هذه الكتب عليه في الجديد ، ثم يأمرُ بتخريقِ ما تغيَّرَ اجتهادُهُ فيها ، وربما يَدَعُهُ اكتفاءً بما ذَكَرَ في مَوضِعٍ آخرَ ) فالإمامُ لم يقطَعْ نظرَهُ عن كتبِهِ القديمةِ بل من خلالها أبقى وعَدَّلَ وحَذَفَ ، فأصلُ المذهَبِ واحدٌ ([2]).
وكذلك يدلُّ عليه قولُ ابن النَّدِيْمِ(ت438هـ) ([3]) في «الفهرستِ» عند ذكرهِ لكتابِ « المبسوط » الذي رواه الزَّعْفَرَانِيُّ : (وروى « المبسوطَ » عن الشافعيِّ على ترتيب ما رواه الربيع ، وفيه خُلفٌ يسيرٌ ، وليسَ يرغبُ الناس فيه ولا يعملونَ عليه ، وإنما يعملُ الفقهاءُ على ما رواه الربيع)([4]).
فيدلُّ على أن أصلَ الكُتُبِ واحدٌ وهي بنفس الترتيبِ .
* أسبابُ تغييرِ الإمامِ لبعضِ اجتهاداتِه :
أما عن الأسباب التي دَعَتِ الإمامَ الشافعي إلى تغييرِ اجتهاداته :
1- مراجعتُهُ لأصوله في الاستنباط ، وإعادتُهُ لتصنيفِ كتابه « الرسالة » في أصول الفقه ، مما أدى إلى اختلاف اجتهاده في الفروع .
2- مراجعتُهُ لاجتهاداته في الفروعِ والنَّظَرُ فيها ، وإعادتُهُ الاجتهادَ بناءً على قياسٍ أرجحَ ، أو دليلٍ أقوى ، شأنُ من يتحرَّى الحقَّ ويرى رأيه صواباً مُحتَمِلاً للخطأِ.
وبعبارةٍ أخرى يُلخِّصُ د. لمين الناجي بعد استقراءِه لمسائل القديم والجديدِ أسباب تراجع الإمام عن أقوالِه ، بقوله:
(الرَّجُلُ دائِمُ الفحصِ في الأدِلَّةِ ، ينقدُها ويمحِّصُها ، دائمُ المناظرَةِ مع تلامِذَتِه ومعَ غيرهم ، ولذلك يقول قولاً ويرجِعُ عنه ، وقد يرجِعُ إليه مرَّةً أخرى ، وقد يقول قولَينِ أو أقوالاً ولا يتبيَّن له وجهُ الترجيحِ ، فالظاهر أنَّ السَّبَبَ الرئيسَ في تغيُّرِ رأي الشافعيِّ هو عامِلُ التَّرجيحِ ، ومن خلالِ استقرائي لاختلافِ اجتهاداتِ الشافعيِّ بين القديمِ والجديدِ ظهر لي أن عوامِلَ التَّرجيحِ ثلاثةٌ :
1- الترجيحُ بين الأَدِلَّةِ النقلِيَّةِ .
2- التَّمَسُّكُ بظواهرِ النصوصِ في مقابلِ قياسٍ أو غيرِه .
3- الترجيحُ بين الأقيِسَةِ)([5]).
* أسبابٌ أخرى يذكرُها بعضُ الباحثينَ :
1- تغيُّرُ البيئةِ والأعرافِ والعاداتِ بين مصرَ والعراقِ :
وهو سببٌ مشهورٌ ، يذكرُه كثيرٌ من الباحثين([6]) ، فهم يجعلونَ تغيُّرَ اجتهادَ الإمامِ الشافعيِّ بين العراقِ ومصرَ دليلا على تغيُّر الأحكامِ الشرعية بتغيُّرِ المكانِ ، وأنَّ المجتمعَ المِصرِيَّ بعاداتِهِ وأعرافِهِ قد أثَّر على اجتهاداتِ الإمام فغيَّرها تبعاً للمجتمعِ الجديدِ .
وهو سببٌ واهٍ جداً ، ردَّه مجموعةٌ من الباحثين منهم الباحثُ فهدُ الحبيشيُّ في بحثه القيِّمِ « المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي» لسبعةِ أسبابٍ، نختارُ منها ما يلي:
1- لو كان الأمر كذلك لما شطبَ الإمامُ كتاباتِه الأولى ، ولما أنكر على مَن يروي آراءَه القديمةَ ، بل كان سَيُبيِّنُ سبَبَ تغيُّرِ فتواه في البَلَدَينِ بأنَّ معطياتِها وأُسَسَها مختلفةٌ .
2- يؤيِّد هذا أن الإمامَ أبقى على مواضعَ من الصَّداقِ ، ولو كان كما قيلَ لما أبقاه أيضاً ، أو كان رفضُهُ لفتاوى متفرِّقَةً من كُتُبٍ مختلفةٍ ، لا أن يشطُبَ جميعَها عدا مواضعَ.
3- يدعَمُ هذا أيضاً أن مذهبَ الإمامِ القديمَ كان مبنياً على أصولٍ لم يرتَضِها الشافعيُّ بعد ذلك ، كحُجِّيَّةِ مذهب الصحابيِّ .
4- ليستْ مسافةُ العاداتِ ، والناسِ ، والمكانِ ، والزمانِ كبيراً بين مصرَ والعراقِ بحيثُ يُؤدِّي هذا إلى التراجُعِ عن مسائلِ القديمِ.
5- أنَّ الشافعيَّةَ والذين هم أدرى بإمامِهم ومذهبِهِ لم يذكروا هذا السبب، وعندما اختار بعضهم شيئاً من آرائه القديمةِ ذكروا عدم نسبةِ هذه الآراء لمذهبِ الإمامِ، وأن الأصحابَ إنما اختاروها لِرُجحانها بالأدِلَّةِ من وُجهةِ نظرِهم.
فالذي يظهَرُ أن الإمامَ غيّر آراءَه واجتهاداتِهِ لما ترجَّحَ لديه من ضعفِها وصوابيَّةِ آرائِه الجديدةِ لا لشيءٍ آخرَ ، يظهرُ ذلك من استقراءِ المسائلِ التي أُثِرَ فيها عن الإمامِ قولان : قديمٌ وجديدٌ ، يتضحُ جليًّا فيها كونُ تغير اجتهاد الإمامِ نابعاً من نظرِه في الدليلِ لا إلى عُرْفِ المكانِ أو المجتمعِ ([7]).
وهو ما أكّده كذلك الدكتور لمين الناجي بعد استقرائِه لمسائلِ القديمِ والجديدِ بملاحظته كونَ أكثر مسائلِ القديمِ والجديدِ موجودةٌ في العباداتِ أكثرَ مما هي في العاداتِ والمعاملاتِ ، والعباداتُ لا تتأثَّر كثيراً بتقلُّبِ الظروفِ والأحوالِ ([8]).
2- اطِّلاعُ الإمامِ على فقهِ اللَّيثِ بنِ سعدٍ :
في مصر اطَّلَعَ الإمامُ على فقهِ الليثِ بن سعدٍ(ت175هـ) من خلالِ تلاميذِه هناك ، وأفادَ من عددٍ من كبارِ تلاميذِ شيخِه الإمامِ مالكٍ مثل أشهبِ بن عبدالعزيزِ(ت204هـ) ([9]) وغيرِه ، الأمرُ الذي يجعلُه بعضُ الباحثين سبباً لتغييرِ الإمامِ لبعضِ اجتهاداتِه .
وهو سببٌ ضعيفٌ كما يؤكد د. لمين الناجي ، ويعلِّلُ ذلك بِعَدَمِ اهتمامِ الشافعيِّ نفسِه بذكرِ اللَّيثِ بنِ سعدٍ في مُصَنَّفاتِه ، ولا تلاميذُه من بعدِه([10]) .
3- اطلاعُ الإمامِ على أحاديثَ لم يطَّلِع عليها من قبلُ :
يذكر بعضُهم كونَ الإمامِ اطَّلَعَ على أحاديثَ بمصر فغيَّر بعض آراءِه تبعاً لذلك ، ولكن الدكتور لمين بعد استقرائه لمسائل القديم ردَّ هذا السَّبَبَ ، حيثُ إن «مسند الشافعيِّ» المطبوعِ ، جميعُ الأحاديثُ التي فيه يعرِفُها الإمامُ قبل دخولِه مصرَ ، بدليلِ رواتِها الذين روى عنهم ([11]).
([1]) البيهقي ، مناقب الشافعي ، تحقيق : السيد أحمد صقر (القاهرة ، دار التراث) (1/255) .
([2]) محمد أبو زهرة ، الشافعي- حياته وعصره - آراؤه وفقهه ، (دار الفكر العربي) ص160 .نحراوي عبدالسلام (الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد ص218 .
([3]) محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق، أبو الفرج بن أبي يعقوب النديم: صاحب كتاب (الفهرست - ط) من أقدم كتب التراجم ومن أفضلها. وهو بغدادي، يظن أنه كان وراقا يبيع الكتب. وكان معتزليا متشيعا. العسقلاني . انظر : لسان الميزان (5/72) .
([4]) ابن النديم ، الفهرست (دار المعرفة ، بيروت ، 1978م ) (1/297)
([5])لمين الناجي ، القديم والجديد في فقه الشافعي (2/136-224) .
([6]) مثل الباحث عبدالعزيز قاضي زادة في رسالته للماجستير (الإمام الشافعي والمسائل التي اعتمدت من قوله القديم) ، والطالب سلوان عبدالخالق علي في رسالته للماجستير بعنوان (الإمام الشافعي ومذهبه القديم والجديد ضمن المنهاج للنووي) والشيخ محمد الطيب اليوسف في كتابه (المذهب عند الشافعية) (دار البيان الحديثة ، الطائف ، ط1 ، 1421هـ) ص64 وأحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) (2/221) ، وعبدالرحمن الشرقاوي في كتابه (أئمة الفقه التسعة) ص150 .
([7]) أكرم القواسمي ، المدخل إلى مبذهب الإمام الشافعي ص307 .
([8]) لمين الناجي ، القديم والجديد في فقه الشافعي (1/350) .
([9])أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمرو: فقيه الديار المصرية في عصره. كان صاحب الامام مالك. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه. قيل: اسمه مسكين ، وأشهب لقب له ، مات بمصر (العسقلاني ، تهذيب التهذيب 1/ 359 ، وابن خلكان ، وفيات الأعيان 1/ 78 ) .
([10]) لمين الناجي ، القديم والجديد في فقه الشافعي (2/70)
([11]) المصدر نفسه .