العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته ( مقتبس)

إنضم
18 يناير 2013
المشاركات
12
التخصص
فقه وأصول
المدينة
باتنة
المذهب الفقهي
مالكي
الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته
منذ زمن غير قصير وخط الدراسة الأصولية قد اتخذ مسارا غير الذي اختطه له الأئمة الأولون، وعلى رأسهم الشافعي رحمه الله، وما زال هذا المسار يتحول حتى اصبح الاجتهاد -الذي هو أعظم مرامي علم أصول الفقه- ليس داخلا في مقالات الأصوليين، إذ كيف يتسنى لمقلد–ومعظم الأصوليين مقلدة- أن يفتح لغيره طريق الاجتهاد.[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP]
وفي هذا السياق يقول الإمام الذهبي (ت750هـ): «..فلا حاجة لك في أصول الفقه، ولا فائدة فيه إلا لمن يصير مجتهدا به، فإذا عرفه ولم فك تقييدا فإنه لم يصنع شيئا بل أتعب نفسه».[SUP]([/SUP][2][SUP])[/SUP]
لقد أسس الإمام الشاطبي منهجا خاصا به، أقامه على أساس نقد مسالك الأصوليين المتقدمين مع تصحيح مسار الدراسة الأصولية فصدر كتابه الموافقات بمقدمات منهجية سماها: "المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود".[SUP]([/SUP][3][SUP])[/SUP] ولا بدمن الإشارة إلى أن كتاب الموافقات مقسم إلى خمسة أقسام شكلت المقدمات القسم الأول منها.
فما يلاحظ من الوهلة الأولى هو ذلك التصور التكاملي لأصول الفقه عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته، التي تعتبر تنظيرا لمشروعه الأصولي ككل، فهو يؤكد على فكرة القطعية في أصول الفقه انطلاقا من المقدمة الأولى إلى غاية المقدمة الثالثة.
وبعد ذلك نجد الشاطبي يتجه لتكريس فكرة ربط الأصول بالمسائل العملية، ابتداء من المقدمة الرابعة.
وهذه النزعة الميالة للاهتمام بالجوانب العلمية نراها قد سادت المقدمة الخامسة التي أشار فيها إلى ضرورة ربط العلم بالعمل، والمقدمة السادسة التي رد فيها على الذين يهتمون بالحدود والماهيات المتلفة للعقل، والمقدمة السابعة التي أكد فيها على حتمية ربط العلم بالعمل، والمقدمة الثامنة التي أشار فيها إلى العلم المعتبر شرعا، والمقدمة التاسعة التي قسم فيها العلم إلى ثلاثة أقسام ما هو من صلب العلم والأشياء التي هي من مـُلح العلم، وأخير العلم الذي ليس من صلب العلم ولا من مُلحه.
أما المقدمة العاشرة فتكلم فيها عن تعاضد العقل والنقل، والمقدمة الحادية عشرة التي يعود فيها إلى التركيز على العلم المتعذر شرعا، والمقدمة الثالثة عشرة التي ينبه فيها إلى ضرورة أخذ العلم عن أهله مع الإشارة إلى أهمية كتب المتقدمين ، والمقدمة الثالثة عشرة التي تكلم فيها عن شروط الأصول العلمية.
فبهذا العمل التنظيري يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي لسلوكه علم الأصول الفقه ذلك المسلك وخروجه عن الجمود.[SUP]([/SUP][4][SUP]) [/SUP]
وللوقوف عند أهم الخصائص المنهجية لهذا العمل الذي قام به الإمام الشاطبي، لا بد من القيام بدراسة تحليلية لجل هذه المقدمات مع التركيز على أهمها:




المقدمة الأولى:
إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي.
بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه أحدهما أنها ترجع إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه...[SUP]([/SUP][5][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك يصرح قائلا: «لأن نسبة أصول الفقه من اصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة»[SUP]([/SUP][6][SUP])[/SUP]، ويستنتج قائلا: «ولو سلم ذلك كله فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل أصولا وهذا كاف في اطّراح الظنيات من الأصول بإطلاق».[SUP]([/SUP][7][SUP]) [/SUP]
وقد علق الشيخ دراز على عبارة الشاطبي: "أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية" بقوله: « تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة، كلا ضرر ولا ضرار، وما عليكم في الدين من حرج، وإنما الأعمال بالنيات، وهذه تسمى أدلة، كالكتاب والسنة والإجماع، وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه فن الأصول، فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالقطعية والظنية».[SUP]([/SUP][8][SUP]) [/SUP]
وقد أشاد الدكتور عبد المجيد الصغير بهذا المنهج الذي سطره الشاطبي فقال: «أصول الفقه قطعية لا ظنية، تلك هي القاعد الذهبية التي يستهل بها الشاطبي طرحه المنهجي... فإن أولى الخطوات المنهجية لعقلنة التكليف ورفع الخلاف ونشدان الوحدة والاتفاق، لا تتم من غير قطع دابر للشك والظن المهيمنين على المعرفة الفقهية والأصولية القديمة، ولا يتحقق هذا دون الرجوع بتلك المعرفة إلى قواطع الأدلة باعتبار هذه الأخيرة كليات يقينية.. ».[SUP]([/SUP][9][SUP]) [/SUP]
ولكن الإمام الشاطبي نُوزع في هذه القاعدة من حيث التفصيل[SUP]([/SUP][10][SUP])[/SUP]، وهناك من اعترض عليه جملة وفي هذا السياق يقول ابن عاشور: «وقد يظن ظان أن في مسالك علم أصول الفقه غُنية لمن يطلب هذا الغرض، بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النّظار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع تبعا للاختلاف في تلك الأصول».[SUP]([/SUP][11][SUP]) [/SUP]
وأضاف مشككا في قطعية أصول الفقه: «فلم نر أهل الأصول قد دونوا في أصول الفقه أصولا قواطع.. بل نجد القواطع نادرة مثل ذكر الكليات الضرورية لحفظ الذين والنفس، والعقل والنسب والمال والعرض، وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنونة... وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب "الموافقات" الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل»[SUP]([/SUP][12][SUP]) [/SUP]
وذهب ابن عاشور أبعد من ذلك إذ قال: «فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعتمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوثقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد.. ثم نعيد صوغ ذلك العلم»[SUP]([/SUP][13][SUP]) [/SUP]
والملاحظ أن هذا المنهج الذي اعتمده الشاطبي في اعتبار أصول الفقه قطعية لا ظنية قد سبقه إليه أعلام من علماء الأصول، يقول أبو الحسين البصري: «لا يجوز التقليد في أصول الفقه والمخطئ في أصول الفقه ملوم غير معذور، بخلاف الفقه فإنه معذور.. فأصول الفقه ملحق بأصول الدين لأن المطالب قطعية»[SUP]([/SUP][14][SUP])[/SUP]. كما أن إمام الحرمين قد أثار قضية القطعية والظنية في أصول الفقه[SUP]([/SUP][15][SUP])[/SUP]. ونجد كذلك كتابات أصولية حديثية قد طرقت هذا الموضوع.[SUP]([/SUP][16][SUP])[/SUP]، وما يمكن استنتاجه هو أن الشاطبي ربط بين القطع والاستقراء، معتبرا المنهج الاستقرائي هو السبيل أو الطريق المعتمدة في الاستدلال على القضايا والمسائل ، استنادا إلى التتبع والتصفح للجزئيات، واستقراء خصوصياتها وحالاتها، للوصول إلى الكليات والقواعد.
المقدمة الثانية:
يقول الإمام الشاطبي : «المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية، لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع.. وهي أما عقلية، كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والجواز والاستحالة، وإما عادية.. اذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل، وإما سمعية، وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة. فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب، والجوار. والاستحالة.. أما كون الشيء فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما، فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن ادخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض».[SUP]([/SUP][17][SUP])[/SUP]
فما سطره الإمام الشاطبي في هذه المقدمة يعتبر تتمة لما جاء به في المقدمة الأولى، وذلك باعتباره الأدلة المستعملة في أصول الفقه لا تكون إلا قطعية.
كما عمد إلى تصنيف هذه الأدلة إلى عقلية، وعادية، وسمعية، جامعا بين مفهوم التواتر كما استعمله علماء الحديث، ومفهوم الاستقراء كما استثمره علماء الأصول.
وخلص إلى أن الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تخرج عن الوجوب والجواز والاستحالة، مستبعدا الأحكام الفقهية المرتبطة بالفروع.
المقدمة الثالثة:
جاء في هذه المقدمة: «الأدلة العقلية إذا استعملت إنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها.. لا مستقلة بالدلالة، لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، وهذا مبين في علم الكلام.[SUP]([/SUP][18][SUP])[/SUP]
ثم أشار إلى الأدلة المعتبرة قائلا: «والأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق».[SUP]([/SUP][19][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك استطرد قائلا: «وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من موانع تكاد نفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه.
وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع؛ فكذلك مآخذ الأدلة في هذا الكتاب. وهي مآخذ الأصول. إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فيستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، اذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرَّ عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع».[SUP]([/SUP][20][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة بقوله: وبهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الدلالة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلكم الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم.. ويدخل تحت هذا الضرب الاستدلال المرسل..».[SUP]([/SUP][21][SUP])[/SUP]
هذه المقدمة الثالثة وضحت لنا مسألة ارتباط التأصيل بالمذهب على مستوى العقيدة، وفي هذا السياق يقول علاء الدين الحنفي (ت730هـ): «اِعلم أن أصول الفقه فرع لأصول الدين، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف على اعتقاد مصنف الكتاب».[SUP]([/SUP][22][SUP])[/SUP]
وبناء عليه نجد الشاطبي يسطر قاعدة مضمونها "أن العقل ليس بشارع"، وهذا ما يتماشى مع أشعريته..[SUP] ([/SUP][23][SUP])[/SUP]
كما بسط الشاطبي من خلال هذه المقدمة مفهوم الأدلة عنده والتي يجب أن تكون مستقرأة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى قطعين وركز على أهمية اعتبار المسافات في فهم النصوص والاستدلال بها ليخلص في النهاية إلى التفريق بين الأصول والفروع، مع التنصيص على أن كل اصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع؛ فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه.
المقدمة الرابعة:
يقول الإمام الشاطبي: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية... ولا يلزم من هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه: كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق، والتصريف والمعاني، والبيان والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم...»[SUP] ([/SUP][24][SUP])[/SUP]
وبناء على ذلك فليس كل ما يفتقر اليه الفقه يعد من أصوله، وإنما اللازم أن كل اصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه فليس بأصل له.
وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها، كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي e متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل.[SUP] ([/SUP][25][SUP])[/SUP]
ويضيف قائلا: «كما أنه لا ينبغي أن يعد منها ما ليس منها ثم البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه فقه، كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز.. وشبه ذلك غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هي عريقة في الأصول: وهي أن القرآن عربي والسنة عربية...».[SUP]([/SUP][26][SUP])[/SUP]
وفيما يخض المسائل التي ينبني عليها فقه، يقول الشاطبي في شأنها: «وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو أبطاله عارية أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير، والمحرم المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على اصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير أيضا، وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشرع؟ وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي».[SUP]([/SUP][27][SUP])[/SUP]
أثار الإمام الشاطبي في هذه المقدمة عدة إشكالات مرتبطة بمسألة استمداد أصول الفقه، ومسألة الأصول النافعة.
فمن خلال مطلع هذه المقدمة نلاحظ التركيز على ضرورة ارتباط الأصول بالفروع، مع بيان علاقة الأصول بالفقه، وقد أكد الشاطبي على أنه لا يلزم عن هذا الارتباط أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه.
وبناء على ذلك فقد أخرج عدة مسائل من أصول الفقه، هذه المسائل التي أدخلها بعض المتأخرين، فعبارة الشاطبي "المسائل التي تكلم عليها المتأخرون" تشير إلى هذه المباحث لم تكن ضمن المواد الأساسية لعلم أصول الفقه عند المتقدمين، ومن هذه المسائل ما يلي:
1- مسألة ابتداء الوضع: الملاحظ أن هذه المسألة ترتبط بجذور كلامية ولغوية[SUP]([/SUP][28][SUP])[/SUP]، كما ذكرها بعض المتأخرين من علماء الأصول[SUP]([/SUP][29][SUP])[/SUP]. فإقصاء الشاطبي لهذا المبحث يتفق مع ما انتهى إليه الدرس اللغوي الحديث[SUP]([/SUP][30][SUP])[/SUP].
2- مسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟
وقد ارتبطت هذه المسألة كذلك بجذور كلامية متعلقة بالتحسين والتقبيح، وحكم الأشياء قبل ورود الشرع.[SUP]([/SUP][31][SUP])[/SUP]
3 - مسألة أمر وتكليف المعدوم:
وهي قضية وثيقة الصلة بالكلام النفسي والخلاف مع المعتزلة.[SUP]([/SUP][32][SUP])[/SUP]
4 - مسالة هل كان النبي e متعبدا بشرع أم لا؟
هناك من ترجم لذلك بحال رسول الله e قبل البعثة، وهي من المسائل الكلامية[SUP]([/SUP][33][SUP])[/SUP]، وقد أدرجها علماء الأصول عند كلامهم عن شرع من قبلنا.[SUP]([/SUP][34][SUP])[/SUP]
5 - مسألة لا تكليف إلى بفعل: "المقتضى من التكليف" :
وهي كذلك من المسائل الكلامية[SUP]([/SUP][35][SUP])[/SUP]. وأخرج الإمام الشاطبي من أصول الفقه كذلك عدة فصول من النحو، وإن انبنت على ذلك بعض الفروع الفقهية.[SUP]([/SUP][36][SUP])[/SUP]
وفي نفس الوقت نجده يدافع عن مبحث عربية القرآن الكريم والسنة النبوية.
وجاء في الشق الثاني من هذه المقدمة أن كل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه، فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو أبطاله عارية أيضا، مثل:
أ - الخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير : يقول ابن السبكي: فالمعتزلة قالت: «الكل واجب، لأن الحكم يتبع الحسن والقبح»[SUP]([/SUP][37][SUP])[/SUP]
ب – المحرم المخير : وهذه المسألة مثل الواجب المخير.[SUP] ([/SUP][38][SUP])[/SUP]
ج – مسألة: هل الوجوب والتحريم راجع إلى صفات الأعيان ؟: الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الخلاف في المأمور به، هل الحسن فيه من قضايا الشرع أم من قضايا العقل؟.[SUP]([/SUP][39][SUP])[/SUP]
5 – مسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي: فالشاطبي هنا قيد كلامه بما جاء عند الإمام الرازي في هذه المسألة، لأن تأثيرها هو في الآخرة.[SUP]([/SUP][40][SUP])[/SUP]
أما الجانب الفقهي في هذه المسألة فغني بالفروع الفقهية.[SUP] ([/SUP][41][SUP])[/SUP]
فهذا الكلام للإمام الشاطبي يحيلنا على مقاصد التأليف عند المتقدمين، ولعل رسالة الإمام الشافعي تبقى من أحسن النماذج لأنه ركز على المثمر من الأدلة بطريقة موجزة.[SUP]([/SUP][42][SUP])[/SUP]
وبذلك يتبين أن أصول الشافعي تتجه اتجاها نظريا وعلميا، فهو لا يهيم في صور وفروض، ولكن يضبط أمورا واقعة، وموجودة، وبذلك ترى أصولا حية، وقواعد مطبقة، لا قواعد مطلقة مجردة، ولا صورا ذهنية بعيدة عن الوقوع. فلا ترى في قواعده مثلا بحث اشتراط القدرة للتكليف، وكون التكليف بغير المقدور جائز، ولا إمكان النسخ قبل العمل بالمنسوخ وعدم إمكانه، ونحوز ذلك من الصور الذهنية المجردة التي لا تستمد من الواقع.
وفي نفس السياق يقول ابن حزم عن الهدف من تأليفه الإحكام: «وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل، مستوعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى، مستقصى محذوف الفضول، محكم الفصول».[SUP]([/SUP][43][SUP])[/SUP]
وخلاصة الأمر أن المقدمة الرابعة التي سطرها الإمام الشاطبي تعتبر لب لباب تنظيره الأصولي المعتمد على الاقتصار من البحث على ما فيه منفعة، مع نقد مسالك الأصوليين وتصحيح مسار الدراسة الأصولية.
وارتباطا بهذا المعنى يقول الدكتور طه عبد الرحمن: «لقد قام الشاطبي بالتمييز في المعارف المندرجة في أصول الفقه بين المعارف الخادمة لغيرها، ويسميها بالمسائل العارية، وبين المعارف غير الخادمة لغيرها أو المسائل المتأصلة، فهو يخرج من المسائل المتداخلة مع الأصول كل المعارف التي تدخل في الفقه ولا تدخل في أصوله، مثل بعض المباحث الكلامية واللغوية والنحوية التي أقحمت في هذا العلم والتي تبحث فيها علوم مستقلة معتبرة، بقوله: ليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله. وبناء على ما تقدم يشترط الشاطبي ما يلي:
أ - أن يكون المبحث العلمي المتداخل مع أصول الفقه أقرب المباحث إلى مجال التداول الإسلامي.
ب – أن يكون هذا المبحث مفيدا للفقه بحيث تنبني عليه بعض فروعه.
ج – أن يكون نقل هذا المبحث من المجال العلمي الخاص به إلى علم الأصول غير مانع من قيام نسبة أصيلة بينه وبين الأصول»[SUP]([/SUP][44][SUP])[/SUP].
المقدمة الخامسة :
يقول الإمام الشاطبي: كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا "مكلفا به".[SUP]([/SUP][46][SUP])[/SUP]
ومثل لذلك بأمثلة كثيرة من القرآن والأحاديث، فيها النهي عن كثرة السؤال فيما لا يفيد ولا ينبني عليه عمل. وعزز ذلك بآثار وردت عن الأئمة الأعلام، وفي هذا المعنى يقول: «وقد كان الإمام مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل.. وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة:
· منها أنه شغل عما يعني من أمر التكليف.. إذ لا ينبني على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛
· ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها».[SUP]([/SUP][47][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك صنف الشاطبي العلوم إلى ما يتعلق بها عمل، وما لا يتعلق بها عمل، وربط ذلك بمفهوم الواجب الكفائي. كما أشار إلى علاقة العلوم الشرعية بالعلوم الطبيعية وغيرها قائلا: «فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صفة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبيe».[SUP]([/SUP][48][SUP])[/SUP]
ووصف الفلسفة بقوله: «والفلسفة صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس..».[SUP] ([/SUP][49][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة مقررا ما يلي: «إذا ثبت هذا فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل غير مطلوب في الشرع، فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير، وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعا، وإما عقلا..».[SUP]([/SUP][50][SUP])[/SUP]
المقدمة السادسة:
هذه المقدمة لها ارتباط بالمقدمة التي سبقتها، يقول الشاطبي: «وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي ويليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور.
فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه.. وقد بين عليه السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور؛ وهي عادة العرب والشريعة عربية، لأن الأمة أمية، فلا يليق بها من البيان إلا الأمي... فإذا التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة.
وأما الثاني وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له،لأن مسالكه صعبة المرام، وما جعل عليكم في الدين من حرج...».[SUP] ([/SUP][51][SUP])[/SUP]
ثم استطرد قائلا: «فظهر أن الحدود على ما اشترطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها. ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها. وهذا المعنى تقرر: وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمى في عماية، هذا كله في التصور.
وأما التصديق فالذي يليق بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية. حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته.. وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق، وإلا فتقرير الحكم كاف. وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف. ومن نظر في استدلالهم على إثبات آيات الأحكام التكليفية على أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس...».[SUP]([/SUP][52][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك خلص إلى ما يلي: «وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة، إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل، فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح، فإن ذلك متلفة للعقل ومحاورة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي –في عامة الأمر-» وقتية، فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، وأيضا فإن الإدراكات ليست على أفق واحد، ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضرورات وما قاربها، فإنها لا تتفاوت فيما يعتد به، فلو وضعت الأدلة عير غير ذلك لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما، وأدى إلى تكليف ما لا يطاق، أو ما فيه حرج، وكلاهما منتف عن الشريعة.[SUP] ([/SUP][53][SUP])[/SUP]
فمن خلال هذه المقدمة نسجل انتقاد الشاطبي لأرباب الحدود المنطقية، ونقف عند بعض الإشارات التربوية المتعلقة بمناهج التعليم، وفكرة واجب الوقت.
المقدمة السابعة:
جاء في هذه المقدمة أن "كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى في التبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:
· أحدها: أن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.
· والثاني: أن الشرع جاء بالتعبد.[SUP] ([/SUP][54][SUP])[/SUP]
· والثالث: ما جاء من الأدلة على أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به.[SUP]([/SUP][55][SUP])[/SUP]
المقدمة الثامنة:
يقول الشاطبي: «العلم الذي هو العلم المتعبد شرعا هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلى صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه.. وأهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب:
· المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد.
· المرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد، واستبصارا فيه.[SUP]([/SUP][56][SUP])[/SUP]
· المرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة.[SUP]([/SUP][57][SUP])[/SUP]
وقد ذيل هذه المقدمة بمجموعة من الآثار التي تربط العلم بالعمل.
المقدمة التاسعة:
في هذه المقدمة يستمر الشاطبي في تصنيف مراتب العلوم قائلا: من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من مُلح العلم، لا من صلبه؛ ومنه ما ليس من صلبه ولا من مُلحه. فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الأصل المعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتمي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطيعا أو راجعا إلى أصل قطعي.[SUP]([/SUP][58][SUP])[/SUP]
ثم يتابع قائلا: ولهذا القسم خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
· إحداهما: العموم والاطراد.
· والثانية: الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها...[SUP] ([/SUP][59][SUP])[/SUP]
· والثالثة: كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مقيدا لعمل يترتب عيله مما يليق به. فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل...[SUP]([/SUP][60][SUP])[/SUP]
أما القسم الثاني: «هو المعدود في ملح العلم لا من صلبه ما لم يكن قطعيا، ولا راجعا إلى اصل قطعي، بل إلى ظني. أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو اكثر من واحدة...
فأما تخلف الخاصية الأولى وهي الاطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم، لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح، ويضعف جانب الاعتبار...
أما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت، فيأباه صلب العلم وقواعده».[SUP]([/SUP][61][SUP])[/SUP]
وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما، ومبنيا عليه، فقادح أيضا.[SUP]([/SUP][62][SUP])[/SUP]
وجاءت هذه المقدمة غنية بالأمثلة التطبيقية فيما يخص هذه الأنواع من العلم.
وبعد ذلك تكلم الشاطبي عن القسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح، ما لم يرجع إلى اصل قطعي ولا ظني.[SUP] ([/SUP][63][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة بقوله: «ومن هنا لا يسمح بالناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظرة مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض ، وإن كان حكمة بالذات».[SUP]([/SUP][64][SUP])[/SUP]
المقدمة العاشرة:
جاء فيها: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر، إلا بقدر ما يسرحه النقل. والدليل على ذلك أمور:
الأول: أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة... فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل.
والثاني: ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح.[SUP]([/SUP][65][SUP])[/SUP]
والثالث: أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل».[SUP]([/SUP][66][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك بين حدود استعمال العقل عند الأصوليين، وخاصة في مجال القياس والتخصيص.
وختم هذه المقدمة بقوله: «فالعقل لا يحكم على النقل[SUP]([/SUP][67][SUP])[/SUP]. فما يمكن استنتاجه أن هذه المقدمة ترتبط ارتباطا وثيقا بما سطره الشاطبي في المقدمة الثانية، عند حديثه عن علاقة العقل بالنقل.
المقدمة الحادية عشر:
صدرها الشاطبي بقوله: «لما ثبت أن العلم المعتبر هو ما ينبني عليه عمل، صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعمله في الجملة، وهذا ظاهر، غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعي».[SUP]([/SUP][68][SUP])[/SUP]
فتحليل هذه المقدمة يرتبط بمفهوم الدليل عند الشاطبي، ففي كتاب الأدلة حدد الدليل بقوله: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض،وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل.
فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة. وأما الثاني فالقياس والاستدلال. ويلحق بكل واحد منهما وجوه، إما باتفاق وإما باختلاف. فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا.. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إذا قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية...».[SUP]([/SUP][69][SUP])[/SUP]
المقدمة الثانية عشرة :
أشار فيها الشاطبي إلى أنجع طرق العلم قائلا: من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن لأهله المتحققين به على الكمال والتمام.[SUP]([/SUP][70][SUP])[/SUP]
ثم تكلم عن العلم الضروري، وبين ما يفتقر إلى نظر وتبصر فقال: «فلا بد من معلم فيها. وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أولا؟ فأجاب: فالواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، كاختلاف جمهور الأئمة والإمامية
–وهم الذين يشترطون المعصوم
- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة؛ من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليه السلام، ومع ذلك فهو مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم.. وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال" وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال..
فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به .. وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه.. غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة، لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى ببعضها على بعض اشتبهت..[SUP] ([/SUP][71][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك يشير الشاطبي إلى شروط التحقق، وأمارات العالم قائلا:
«وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم.. وهي ثلاث:
إحداها: العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله.
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك.[SUP]([/SUP][72][SUP])[/SUP]
واستطرد في الكلام عن فوائد الملازمة، منتزعا أمثلة حية من حياة الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن جاء بعدهم ثم قال: «وبهذا وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم.[SUP]([/SUP][73][SUP])[/SUP]
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي e، واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن.[SUP]([/SUP][74][SUP])[/SUP]
ثم انتقل للحديث عن طرق أخذ العلم قائلا:
«وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة، وهي انفع الطريقتين وأسلمهما، وهذه خاصية جعلها الله تعالى بين العالم والمتعلم، يشهدها كل من زوال العلم؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة..»[SUP] ([/SUP][75][SUP])[/SUP]
أما الطريق الثاني لأخذ العلم حسب الشاطبي فهو: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له بالنظر في الكتب..
والثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين. وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم.[SUP] ([/SUP][76][SUP])[/SUP]
ثم يختم قائلا: فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة.[SUP]([/SUP][77][SUP])[/SUP]
المقدمة الثالثة عشر:
تكلم فيها عن الشروط العلمية للأصول فقال: «كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا فإن جرى فذلك الأصل صحيح؛ وإلا فلا.[SUP] ([/SUP][78][SUP])[/SUP]
ثم مثل لذلك بقوله: «ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف فيخبر الله تعالى، وخبر رسول الله e. وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد. فإذا كل اصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة، فليس بأصل يعتمد عليه، ولا قاعدة يستند إليها...».[SUP]([/SUP][79][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك ركز على مسألة الدخول في العمل قائلا: وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد..[SUP] ([/SUP][80][SUP])[/SUP]
وفي ختام هذه المقدمة شدد الشاطبي على مسألة الورع للخروج عن الخلاف قائلا: هناك مسألة الورع بالخروج عن الخلاف، فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها».[SUP]([/SUP][81][SUP])[/SUP]
خلاصات واستنتاجات :
مع الإمام الشاطبي يمكن الحديث عن نظرية متكاملة، أي نظرية ارتباط المباحث الأصولية بالمسائل العملية، فكأن الشاطبي أراد صياغة علم أصول الفقه من جديد، وبناء عليه يكون هذا الإمام من أعلام التجديد.
ولا بد من الإشارة إلى أن الإشادة بالشاطبي قديما وحديثا ترتبط بكتابه "الموافقات"، هذا الكتاب الذي وصفه الخضري بقوله: «وهو كتاب عظيم الفائدة سهل العبارة، لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره».[SUP]([/SUP][82][SUP])[/SUP]
واعتبر الدكتور عبد المجيد النجار كتاب الموافقات "مدونات راقية".[SUP]([/SUP][83][SUP])[/SUP]
وفي هذا السياق يقول الشيخ محمد الغزالي عند حديثه عن مدرسة الأصوليين: وهي مدرسة فيها دقة وضبط للنظر واستنباط الأحكام، ولكنه يوشك أن يقال: إن آخر من ظهر فيها وجمدت بعده حتى كادت تموت هو الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، وهو كتاب جيد، ولكن الرجل توقف عنده علم الأصول عن العطاء...».[SUP]([/SUP][84][SUP])[/SUP]
وعن أهمية هذا العمل التنظيري الذي قام به الشاطبي يقول علال الفاسي: «ثم جاء الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي، فألف كتاب الموافقات، وكأنه أعاد وضع علم أصول الفقه من جديد».[SUP]([/SUP][85][SUP])[/SUP]
وبعد هذه الرحلة العلمية الشيقة مع مقدمات الشاطبي، يمكن تسجيل الخلاصات الآتية:
· ارتباط عملية التأصيل عند الشاطبي بالمنهج الاستقرائي، سواء الاستقراءات الكلية أو الجزئية، قصد الوصول إلى أصول قطعية.
· أهمية الشروط والقيود التي سطرها الشاطبي فيما يتعلق بالأصول العلمية.
· تمييزه لمراتب الأدلة الشرعية، مع بيان موقعها ضنن ثنائية السمع والعقل.
· النظرة العملية للأصول عند الشاطبي، وتركيزه على ما يسمى بـ«الأصول النافعة».
· استعماله لمصطلحي "المتقدمين" و"المتأخرين"، ونقده لمسالك الأصوليين، وتصحيح مسار الدراسة الأصولية.
· توضيحه لحدود ونوعية العلاقة بين علمي الفقه والأصول.
· ضبطه الممارسة العقلية في العلوم الشرعية، مع إبراز التكامل بين الأدلة السمعية والعقلية، وجعل العقل تابعا للنقل.
· نقده للمنطق، واعتباره الحدود المنطقية متلفة للعقل، ومحارة له قبل بلوغ المقصود.
· تحديده للطرق المعتمدة لأخذ العلم، وتصنيفه لمراتب العلوم، ومنازل الناس في طلبهم وتحصيلهم للعلم.
· إشاراته التربوية القيمة، عند حديثه عن العلم ووسائل التعلم والتعليم.
· منزعه الصوفي من كلامه عن علاقة العلم بالعمل، واعتداده بالأعمال القلبية، وتركيزه على القصد التعبدي عند طلب العلم.
· إسهامه في "تخليق" الممارسة الفقهية، بتركيزه على الورع للخروج عن الخلاف.
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته ( مقتبس)

حيا الله الأستاذ كريم في ملتقانا
مواضيكم مفيدة جدا وثرية
بارك الله فيكم ونفع بكم
وجعل ما تخطون في موازين حسناتكم
-----------
ولكن أستأذنكم في طلب صغير
وهو القيام بتقسيم الموضوع على مشاركات متتالية كل مشاركة تحتوي مبحثا أو فقرة
مع تكبير الخط ليسهل على الإخوة قراءتها
وإن كان مجموعا عندكم في ملف واحد فهذا جيد، يمكن إرفاقه أيضا للفائدة

بعد ردكم سوف أحذف مشاركتي هذه وأترك الموضوع متتاليا دون فواصل​
 
إنضم
19 يناير 2013
المشاركات
51
التخصص
تربية
المدينة
لندن
المذهب الفقهي
مالكي
رد: الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته ( مقتبس)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخواني الأعزاء جزاكم الله خيرا على هذا الجهد الرائع
وفقكم الله وسدد خطاكم
أخوكم محمد دريوش
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
مُصْطَلَحُ ’’الأُصُولِ‘‘ - عِنْدَ الإِمَامِ الشَّاطِبِيِّ

مُصْطَلَحُ ’’الأُصُولِ‘‘ - عِنْدَ الإِمَامِ الشَّاطِبِيِّ

السلام عليكم

بارك الله فيكم.

،،
مصطلح الأصول

أولًا/ التعريف:
1- في اللغة: ترجع مادة (أصل) في اللغة إلى ثلاثة معانٍ، ذَكَرَتْهَا أغلب المعاجم اللغوية، وهي ملخصة في قول ابن فارس: "الهمزة، والصاد، واللام: ثلاثة أصول متباعد بعضها عن بعض، أحدها: أساس الشئ، والثاني: الحية، والثالث: ما كان من النهار بعد العشي. فأما الأول فالأصْلُ: أصْلُ الشيء (...) وأما الأصَلَةُ: فالحية العظيمة (...) وأما الزمان؛ فالأصيل: بعد العشي" -المقاييس: (أصل). ن. نحوه أيضًا في (المجمل): (أصل)-. وقال أبو هلال العسكري في المعنى الأول -كما في الفروق: ص(156، 157)-: "وحقيقة أصل الشيء عندي ما بُدئ منه، ومن ثَمَّ يقال: إن أصل الإنسان التراب، وأصل هذا الحائط حجر واحد -لعل الأصل: (حجر وآخر)، كما يدل عليه الذي بعده-؛ لأنه بدئ في بنيانه بالحجر والآجر".
وقال الراغب -المفردات: (أصل)-: "أصل الشيء قاعدته التي لو تُوُهِّمَتْ مرتفعة لارتفع بارتفاعها سائره؛ لذلك قال تعالى: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم: 24]. وقد تأصل كذا، ومجد أصيل، وفلان لا أصل له، ولا فصل"، وكأنه يشير إليه الزمخشري أيضًا مع بعض التوسع -كما في الأساس: (أصل)-. قال: "أصَّلْتُ الشيء تأصيلًا، وإنه لأصيل الرأي، وأصيل العقل، وقد أصُلَ أصالة. وإن النخل بأرضنا لأصيل، أي هو بها لا يزال باقيًا لا يفنى. وسمعت أهل الطائف يقولون: لفلان أصيلة: أي أرض تليدة يعيش بها. وجاؤوا بأصيلتهم: أي بجمعهم. وقد اسْتَأصَلَتْ هذه الشجرة: نبتت وثبت أصلها، واستأصل الله شأفتهم: قطع دابرهم".
فمن معاني المادة إذن -الراجعة إلى المعنى الأول-: (جميع الشئ)؛ إذ قوله: "جاؤوا بأصيلتهم: أي بأجمعهم" يعني أن الأصيلة: هي الجمع التام للشئ، الذي إذا فُقِدَ؛ فقد أصله ولم يعقب. ولذلك أفادت العبارة معنى الثبات أيضًا، والاستمرار، كما في قوله: "إن النخل بأرضنا لأصيل: أي هو بها لا يزال باقيًا لا يفنى"، وكذا "أصيلة أي أرض تليدة يعيش بها" ومن هنا استعملت المادة لوصف الرأي المحكم، فال الرازي -كما في مختار الصحاح: (أصل)-: "ورجل أصيل الرأي: أي محكم الرأي".
وقد استفاد ابن منظور من جميع ذلك فجاء بمادة موسعة، نختار منهم الأهم؛ قال -في اللسان: (أصل) ن. ومثله في القاموس: (أصل)-: "الأصل: أسفل كل شئ. وجمعه: أصول (...) وأخذ الشيءَ بأصَلَتِه وأصيلَتِه: أي بجميعه، لم يدع منه شيئًا. (...) وأصيلَةُ الرَّجُل: جمع ماله".
فالمادة تدور -في أصلها الأول هذا- حول معنى الأساس الثابت، والقاعدة المبني عليها، والجميع الشمال. وكل ذلك هو عند التحقيق يؤول إلى معنى واحد كما تبين؛ بيد أنه بهذا التفصيل مفيد جدًّا في تبين المعنى الاصطلاحي، الذي يقصده الشاطبي من عبارة (الأصل)، ورافع لكثير من الغيش الحاصل في فمه؛ مما أدى ببعضهم إلى رمي النقد لأبي إسحاق في غير مرمى، كما سنوضح إن شاء الله.
2- الأصول في اصطلاح الشاطبي:
ترجع (الأصول) عنده رحمه الله إلى عشرة معانٍ إلا أن رأسها عنده وأمها التي يقوم عليها معظم الاستعمال هو: (الأصول) بالمعنى الراجع إلى المركب الإضافي (أصول الفقه). (فالأصول) حيث تُذكر مجردة عن الإضافة غالبًا ما ترد بمعنى الضميمة المذكورة، أو ما يرادفها، وهو (أصول الشريعة). فكل ذلك عنده واحد كما سترى. قال: "ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلَّف به" م: (2/ 107). وقال أيضًا: "أما كون تكليف ما لا يطاق باطلًا شرعًا فمعلوم في الأصول" م: (2/ 28). وقال في كتاب الاعتصام: "الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله. وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات، لكن على وجه كلي يليق بالأصول" ع: (2/ 499). ومثل هذا كثير -ن. إحصاء مشتقات (أصل) في القسم الثاني من (مصطلحات أصولية)- ولذلك كانت (الأصول) هي:
أ -2- الأصول: هي الأدلة الكلية الثابتة قطعًا: إما بالذات أو بالمعنى، في صورة قوانين محكمة؛ لإفادة الفقه.
والشرح الأَوَّليُّ لهذا التعريف يقتضي أن (الأصول) منحصرة في (الأدلة) المنطلق منها لاستنباط الحكم الشرعي، بشرط أن يراعى فيها المفهوم الكلي لا الجزئي، كالنظر إلى (الكتاب) أو (السنة)، من حيث إنهما (كل)، لا من حيث خصوص آية كذا، أو حديث كذا، وثبوت (الدليل) بالقطع شرط في صحته (أصلًا)، وإلا فلا. وكون ذلك (بالذات أو بالمعنى)؛ يعني أن (الأصول) إما (ذاتية) كالكتاب والسنة، وإما (معنوية) كالإجماع والقياس، ورفع الضرر، ورفع الحرج، وسد الذرائع، وغيرها من (الكليات الاستقرائية القطعية)، التي لا مادة لها في صورتها الكلية، وإنما هي (معانٍ) مبثوثة في الأولى، ينتظمها الاستقراء في صورة قطعية، وكون كل ذلك (في صورة قوانين محكمة) يعني أنها مهيأة للإعمال الاجتهادي، استنباطًا، ونقدًا، وحجاجًا.. إلخ؛ لشموليتها، وحاكميتها المحكمة، غير القابلة للتبديل، أو التغيير، أو النسخ، أو التخلف؛ وتقييدها (بإفادة الفقه) إخراج لما شابهها من الكليات العقدية، ونحوها، مما لا يدخل في مجال الأحكام الشرعية العملية.
فالأصول إذن -التي هي أصول الفقه- هي تلك المصادر والكليات الأولى للفقه التي لا يتصور فيها تخلف ولا حولها اختلاف؛ وإن كان فليس بهذا المعنى المتحدث عنه ههنا، كما سنوضح بحول الله.
وإذن فليس كل ما يدرس في (علم أصول الفقه) كما هو مشهور عند الأصوليين، يعتبر (أصولًا للفق) بالمعنى المقصود لدى الشاطبي. هذا على العموم.
_هامش_
اختلف الأصوليون عند تعريفهم لمصطلح (أصول الفقه) على فرقتين -كما حكاه الزركشي، وسيأتي مفصلًا-/ الأولى: جعلت (أصول الفقه) عند التعريف مقصورًا على مقتضى المركب الإضافي، أي مصادر الفقه، أو أدلته الكلية. والثانية: قصدت به (عِلْم) أصول الفقه، أي المعنى اللقبي لأصول الفقه باعتباره عَلَمًا على عِلْم معين معروف المباحث. وقد انبنى على هذا الخلاف اختلاف الأحكام الصادرة من الأصوليين على مصطل (أصول الفقه)، ويتميز الشاطبي بنظر فريد سنوضحه -بحول الله- في متن هذه الدراسة. وأما مذاهب الأصوليين في ذلك، فنختصرها بإيراد حدين مقابلين لمراد أبي غسحاق من المصطلح، الأول للباجي، والثاني يشبهه وهو للزركشي باعتباره جمع أقوال كثير من المتقدمين.
فأما أبو الوليد فقد قال في كتاب الحدود: "أصول الفقه: ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية. (...) وذلك أنه معرفة أحكام الأوامر، والنواهي، والعموم، والخصوص، والاستثناء، والمجمل، والمفصل، وسائر أنواع الخطاب، والنسخ، والإجماع، والقياس وأنواعه وضروبه، وما يعترض به على كل شئ من ذلك، وما يجاوب به عن كل نوع من الاعتراضات فيه، وتمييز صحيح ذلك من سقيمه، مما يتوصل به إلى استنباط الأحكام من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بحكمه.
فكانت هذه المعاني أصولًا للأحكام الشرعية؛ لأنه لا طريق إلى استنباطها، ومعرفة صحيحها من سقيمها، إلا بعد المعرفة لما وصفنا بأنه أصل لها". الحدود: ص(36، 37).
وهذا التعريف عام في كل (ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية) أي سواء كان من الكليات؛ القطعية بذاتها أو بمعناها؛ أو كان من العوارض المتعلقة بها من أحكام الأوامر، والنواهي، والعموم، والخصوص، وقضايا القياس وعوارضه أيضًا. وكثير من هذه أمور ظنية كما هو معلوم. فقوله بعد ذلك: "فكانت هذه المعاني أصولًا للأحكام الشرعية" يعني أنه يجمع كل ذلك في معنى (أصول الفقه). ولعل هذا هو الذي عليه أكثر الأصوليين، فهم يعرفون (أصول الفقه) بمقتضى كل ما يدرس فيها باعتبارها عَلَمًا على عِلْم كما قلنا؛ لأن كل ذلك ينبني عليه استنباط الأحكام الشرعية، أو بتعبير الباجي في شرح حده السالف: "لأنه لا طريق إلى استنباطها ومعرفة صحيحها من سقيمها إلا بعد المعرفة لما وصفنا بأنه أصل لها" فالأصل والأصول هنا: كل ما توقف عليه فهم الحكم الشرعي واستنباطه وتقويمه، بينما نجد من بين الأصوليين من لا يعد من (أصول الفقه) إلا الكليات القطعية كما رأينا مع الشاطبي. وكما رأى قبله الإمام الجويني، مع بعض الفروق القليلة وهو -على كل حال- إشكال قديم نبسطه من خلال عرض ما جمعه الإمام الزركشي في البحر المحيط -وهو من أجمع المتأخرين المصنفين في هذا الشأن (ت 794 هـ)- قال: "أصول الفقه: لغة ما استند إليه الفقه، ولم يتم إلا به.
وفي الاصطلاح: مجموع طرق الفقه من حيث إنها على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال وحالة المستدلِّ بها.
فقلونا: (مجموع) ليعمها، فإذن بعضها بعض أصول الفقه لا كلها. وقولنا: (طرق) ليعم الدليل والأمارة على اصطلاح الأصوليين. وخرج (بالإجمال) أدلة الفقه من حيث التفصيل؛ إذ هو أقرب إلى الفقه وأقل تخصيصًا؛ ولأنه يوافق قولنا: هذا الحديث أصل لهذا الحكم، ولهذا الباب. وحينئذ فاتخاذ الأدلة في آحاد مسائل الفروع من أصول الفقه، ويكون الإجمال شرطًا في علم أصول الفقه، لا أنه شرط فيها، أو جزء منها.
قال ابن دقيق العيد: يمكن الاقتصار على الدلائل، وكيفية الاستفادة منها، والباقي كالتابع والتتمة، لكن لما جرب العادة بإدخاله في أصول الفقه وضعًا، أدخل فيه حدًّا.
قلت: وعليه جرى الشيخ في (اللمع)، والغزالي في (المستصفى)، وابن برهان في (الأوسط)، وقال: أصول الفقه: أدلة الفقه على طريق الإجمال وكيفية الاستدلال به وما يتبع ذلك (...) هذا ما أطبق عليه الأصوليون". البحر المحيط: (1/ 24، 25).
فهذا الذي (أطبق عليه الأصوليون) -والحق أنه إنما هو غالبهم لوجود من خالف كالجويني، كما سيتضح- والإمام الشاطبي الذي انتقد هذا التعريف أو ما في معناه. قلت: فهذا يقتضي أن تكون (أصول الفقه) شاملة لكل ما يدرس في (علم) أصول الفقه -كما تبين) وإن لم يعتبر ذلك من العلم ذاته بالمعنى الاسم لا المصدري، أي تلك المادة المعلومة والمباحث المشهورة. فقوله: "فاتخاذ الأدلة في آحاد المسائل الفروع من أصول الفقه (!) ويكون (الإجمال) شرطًا في علم أصول الفقه، لا أنه شرط فيها [أي أصول الفقه] أو جزء منها" دال على اعتبار الأدلة الجزئية من (أصول الفقه)، وإن لم تكن من اهتمام الأصوليين في (علم أصول الفقه) فحده المذكور إنما هو يخص (العلم)، لا (الأصول) نفسها، لكنه يكر عليه بنوع من الاستدراك، حينما استشهد بقول ابن دقيق العيد، والطوسي، والغزالي، وابن برهان، في جعل كل ذلك من (العلم) أيضًا؛ لأنه لا يفرق في الواقع بين (الأصول) و (علم الأصول). ولبيان حقيقة هذا الإشكال نورد ما أثاره الزركشي من "هل الأصول: هذه الحقائق في أنفسها، أو العلم بها؟" البحر المحيط: (1/ 25). فأورد للجواب على ذلك من كلام المتقدمين. قال مجيبًا: "طريقتان: وكلام القاضي أبي بكر يقتضي أنه العلم بالأدلة، وعليه البيضاوي، وابن الحاجب، غيرهما، وقطع الشيخ أبو إسحاق [الشيرازي]، وإمام الحرمين في (البرهان)، والرازي، والآمدي، بأنه نفس الأدلة.
ووجه الخلاف أنه كما يتوقف الفقه على هذه الحقائق، يتوقف أيضًا على العلم بها، فيجوز حينئذ إطلاق (أصول الفقه) على القواعد أنفسها، وعلى العلم بها. والثاني أولى لوجوه: أحدها: أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من تلك الأدلة، وإن لم يعرفه الشخص. وثاينها: أن أهل العرف يجعلون (أصول الفقه) للمعلوم، فيقولون: هذا كتاب أصول الفقه.
وثالثها: أن الأصول في اللغة. الأدلة، فجعله اصطلاحًا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي (...)، والتحقيق أنه لا خلاف في ذلك، ولم يتواردوا على محل واحد، فإن من أراد اللقبي وهو كونه عَلَمًا على هذا الفن حده بالعمل، ومن أراد الإضافي حده بنفس الأدلة، ولهذا لما جمع ابن الحاجب بينهما عرف اللقبي بالعلم، والإضافي بالأدلة؛ نعم الإمام في المحصول عرف اللقبي بالأدلة، ويجب تأويله على إرادة العلم بها". البحر المحيط: (1/ 254- 256). ثم قال: "اختلف الأصوليون: فمنهم من عرَّف الإضافي، ومنهم من عرَّف اللقبي، ومنهم من جمع بين النوعين. والصواب: تعريف اللقبي وليس ثم غيره. (...) وليس لنا حدان: إضافي ولقبي، إنما هو اللقبي فقط". السابق: (1/ 27).
قلت: بل التحقيق أن ثمة خلافًا في ذلك! أعني من حيث الجوهر؛ إذ كلامه يوحي بأن المذهبين معًا على وفاق في المآل؛ لكون المختلفين: "لم يتواردوا على محل واحد"، ثم مال بعد ذلك إلى اعتبار (أصول الفقه) إنما هو اللقبي دون سواه.
بينما هذا الخلاف ينبني عليه أحكام وقع حولها خلاف كبير، ما زال مستمرًّا إلى اليوم. من ذلك مثلًا مسألة (قطعية الأصول)؛ إذ وجدنا -كما سيحكي الشاطبي في متن هذه الدراسة- أن الذين قالوا بقطعية الأصول لم يقصدوا أبدًا المعنى اللقبي، وإنما الإضافي، ولذلك فرقوا بينهما في الحد، ولذلك أيضًا وجدنا غيرهم لا يبالي بهذا التفريق كما فعل الباجي في حدوده، والزركشي في البحر المحيط، فكلاهما جمع في (أصول الفقه) بين المعنيين كما رأيت. وقد سبق قول الباجي بعد تفصيله لأنواع الأصول من "أحكام الأوامر، والنواهي، والعموم، والخصوص، (...) وسائر أنواع الخطاب، والنسخ، والإجماع، والقياس، وأنواعه، وضروبه، وما يعترض به على كل شئ من ذلك وما يجاوب به عن كل نوع من الاعتراضات فيه (...) فكانت هذه المعاني أصولًا للأحكام الشرعية". فهذا نص في جعل المعنى الإضافي هو عين اللقبي، إذ ما ذكره في الحد كما ورد مشروحًا من قبل بتفصيل إنما هو عين اللقبي ثم ينص على أن هذه المعاني (أصول الأحكام الشرعية) وهذا عين الإضافي، وهو مقتضى كلام الإمام الزركشي كما تبين، فتجمع (أصول الفقه) بين ما هو قطعي وما هو ظني بهذا الاعتبار. وهو واضح من قول الزركشي في شرح حده أيضًا: -وقد سبق-: "فقولنا: (مجموع) ليعمها، فإذن بعضها بعض أصول الفقه لا كلها. وقولنا: (طرق)؛ ليعم الدليل والإمارة على اصطلاح الأصوليين". وإنما الدليل، كما جاء عنده - هو: "الموصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب. (...) وخص المتكلمون اسم الدليل بالمقطوع به من السمعي والعقلي، وأما الذي لا يفيد إلا الظن فيسمونه أمارة، وحكاه في (التلخيص) عن معظم المحققين. وزعم الآمدي أنه اصطلاح الأصوليين أيضًا، وليس كذلك. بل المصنفون في أصول الفقه يطلقون الدليل على الأعم من ذلك، وصرح به جماعة من أصحابنا؛ كالشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق [الشيرازي]، وابن الصباغ، وحكاه من أصحابنا؛ وسليم الرازي، وأبي الوليد الباجي من المالكية، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، والزاغوني من الحنابلة". البحر المحيط: (1/ 35). فهو إذن على مذهب التسوية في (الدليل) بين ما يفيد القطع وما يفيد الظن. فيكون تعريفه لأصول الفقه جامعًا لكل ذلك. وهو أمر طبيعي، فقد كاد أن يدخل فيه حتى الأدلة الجزئية التي لا يدخلها الجمهور فيه. فهو قد اعتبرها من (أصول الفقه) وإن لم تكن من مباحث (علم أصول الفقه) أصالة، كما رأينا. فتأمل كذا هذا، وقارنه بما سيأتي في متن هذه الدراسة لمصطلح (أصول الفقه) عند أبي إسحاق الشاطبي.
وأما التفصيل فهو كما يلي:
الأصول (أدلة كلية): ذلك أن الأصول عند أبي إسحاق إنما هي الأدلة. قال: "أصول الفقه، إنما معناها: استقراء كليات الأدلة، حتى تكون عند المجتهد نصب عين، وعند الطالب سهلة المُلْتَمَس" ع: (1/ 28). وقال في سياق آخر: "الأدلة المعتبر هنا: المستقرأة من جملة أدلة ظنية، تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع. (...) فكذلك الأمر في مأخذ الأدلة في هذا الكتاب؛ وهي مآخذ الأصول" م: (1/ 36، 37)، فيتبين من النصين إذن أن (الأصول) إنما تعتبر كذلك إذا كانت (أدلة كلية)، أي أدلة استقرائية، بمعنى أنها مبنية في تشكيلها على الاستقراء، ومن هنالك كانت (كلية). كما يتبين منهما إخراج ما سوى (الدلي الكلي) أن يكون من (الأصول)؛ للحصر المانع في قوله الأول: "إنما معناها: استقراء: استقراء كليات الأدلة"؛ ولاعتبار الحصر (بأل) التعريفية، في أول قوله الثاني: "الأدلة المعتبرة هنا (...) [إلى قوله] وهي مآخذ الأصول! ". فالمعاني الكلية هي وحدها المنتظمة في (الأصول)، ولا مدخل فيها للجزئيات إلا تبعًا، أي من حيث إنها مادة الاستقراء المشكلة للدليل الكلي، كما في قوله السالف: "المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع". وهذا معنى (الكلي). ولذلك قال في كتاب الاعتصام: "الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدًا لله. وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من (كتاب الموافقات) لكن على وجه كلي يليق بالأصول" ع: (2/ 499) -وقال في مثل ذلك: "الظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات" ع: (2/ 393)-. وهو (نص) في أن ما ليس لكلي لا يليق بالأصول. وهذا المعنى سيتواتر عند تفصيل باقي عناصر التعريف إلى درجة القطع.
_هامش_
قال الدكتور فريد الأنصاري في كتابه "المصلطح الأصولي عند الشاطبي" هامش[4] ص(247=248 ):
((ولقد بالغ فضيلة الدكتوور عبدالمجيد النجار في مقارنته (لمسالك الكشف عن المقاصد) بين الإمامين الشاطبي وابن عاشور، حيث ذهب إلى أن الأول كان ينحو في بسط (المقاصد) بإطلاق منحى التجزئة والتفصيل، بينما عمل ابن عاشور على بناء الكليات! قال: "إن الإمام الشاطبي كان منطلقه في ضبط مسالكه متحددًا بطبيعة العمل الذي أقدم عليه في التألف في المقاصد. فذلك العمل (...) كان عملًا مُبتكرًا، أو يكاد، وهو ما جعله ينحو منحى التجزئة والتفصيل، والتدقيق في بسط المقاصد وتعليلها، وبيان حقائقها، وأوضاعها. فجاء مؤلفه متكاثرة مسائله متنوعة متعددة قضاياه؛ حتى دخل فيه ما لا يمت بالمقاصد إلا بصلة ضعيفة ضعيفة (!) (...) فلما جاء إلى مسالك الكشف عن المقاصد، وجعلها كالخاتمة لكل مباحثه في المقاسد، كانت متجانسة في طبيعتها مع ما جعلت خلاصة له من عامة المبحث، فانصفت بالجزئية في الغالب من حيث اتجهت إلى رسم الطريق في البحث عن المقاصد في نطاق آحاد الأحكام، لا في نطاق المقاصد الكلية العامة. وهو ما يظهر بجلاء في المسالك الثلاثة الأخيرة، حيث لم تتميز هذه المسالك تميزًا نوعيًّا عن بحوث الأصوليين في العلة ومسالكها، وما يتعلق بها، أما ابن عاشور فإن منطلقه كان غير هذا المنطلق، وهو (...) أن الفرض الذي رسمه لهذا العلم كما صاغه في كتابه، هو أن يصل في مقاصد الشريعة إلى تأسيس ما هو كلي عام" فصول ص 153 - 160.
فهذا الكلام واضح في أن التقنين الكلي للمقاصد لم يكن ظاهرًا في عمل أبي إسحاق بقدر ما ظهر في عمل ابن عاشور، بل إن طبعة مؤلف الشاطبي أي (الموافقات) طبيعة تجزيئية؛ لدرجة خروج المؤلف عن الموضوع المقصود. وهذا حكم عام وخطير؛ لأنه يهدم كل ما أصّلناه في تعريف (الأصول) لدى صاحبنا رحمه الله، إلا أنه واضح في أن الدكتور النجار قد تأثر فيه بأحكام ابن عاشور على الشاطبي وهي أحكام جائرة في أغلبها -كما سترى في هامش لاحق بحول الله، خاص بابن عاشور- حيث زعم أن ابا إسحاق "تطوح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود!" مقاصد الشريعة: ص8. وكان الأولى بفضلة الدكتور النجار أن يقرأ (الموافقات)، دارسًا، وفاحصًا، معتمدًا على كلام الشاطبي نفسه لا على كلام غيره فيه. ولو فعل ذلك ما أظنه إلا كان سينجو من إصدار هذا الحكم الغليظ في حقه رحمه الله، وهو ما أنكره الدكتور أحمد الريسوني بشدة في قوله: "والعجب -كل العجب- من الأحكام التي أطلقها الدكتور عبدالمجيد النجار (...) حيث اعتبر أن الشاطبي: "ينحو منحى التجزئة والتفصيل، والتدقيق في بسط المقاصد" ليفسر بهذا كون الشاطبي اقتصر في طرق إثبات المقاصد على المسالك الملائمة لهذا المنحى التجزيئي (...) والظاهر أن الدكتور النجار بنى مقاله عمومًا والأحكام الواردة في هذه الفقرة خصوصًا على مجرد خاتمة كتاب المقاصد، فعليها تنطبق -إلى حدٍّ ما- هذه الأحكام. وقد بينت (...) أن مقاصد الشاطبي هي -أساس- المقاصد العامة، التي سلك في إثباتها مسلك الاستقراء، وأن المقاصد الجزئية لا تأتي إلا عرضًا. (...) واستعراض عناوين الشاطبي وحدها كافٍ لإدراك أن الرجل غير مشغول بالمقاصد الجزئية، وإنما همّه الكليات والمقاصد العامة. وإنما دخل الخلل على أحكام الدكتور النجار من إغفاله للاستقراء عند الشاطبي، بينما هو يقوم ويقعد به في كل نواحي الموافقات، ولو أن الدكتور النجار حفظه الله قرأ (خطبة) الكتاب فقط لتريّث في حكمه هذا، ولما قَصَرَ قصد التقنين الكلي على صاحبه دون صاحبنا! كيف وها كلامه واضح صريح في أنه كان: "معتمدًا على الاستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية، في بيان مقاصد الكتاب والسنة، ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد إلى تراجم تردها إلى أصولها (...) فإني شرعت في تأليف هذه المعاني عازمًا على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء!" م/23، 24 هذا قصده الذي صرح به، وهذا غرضه الذي ألّف الكتاب من أجله. وهو الذي تجلّى حقًّا وصدقًا في كل تراجم الكتاب، إلا ما استثنى؛ لحكمى راجعة في مآلها إلى الكليات، بصورة أو بأخرى. ومن ذلك كون (خاتمة) كتاب المقاصد نحت إلى نوع من التنزيل، والتحقيق المقتضي بطبعه للتجزئ في بيان (ما يعرف به مقصود الشارع) على حد تعبير الشاطبي تقريبًا م/2 391، أو (الجهات) التي يعرف منها كما عبر أيضًا م/2/ 393. وهو بالمناسبة لم يستعمل مصطلح (المسالك) -الوارد في نص النجار- لهذا الغرض.
فهذا الكلام التنزيلي التجزيئي، الذي وظفه الدكتور النجار في بناء أحكامه المذكورة، هو عبارة عن (خاتمة) تنزيلة مقصودة في ذاتها، محكومة بسياقها؛ لأنها مبنية على قصد بيان كيفية العمل بالكليات، وتنزيل معانيها على آحاد الجزئيات)).
الأصول هي (الثابتة قطعًا): وهذا ما تواتر تأكيده لدى أبي إسحاق. قال رحمه الله في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية؛ والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي.
بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه:
أحدها: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة. وذلك قطعي أيضًا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، المؤلف من القطعيات قطعي، وذلك من أصول الفقه.
والثاني: أنها لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي؛ إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي؛ لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة؛ لأنه الكلي الأول، وذلك غير جائز عادة.
وأعني بالكليا هنا: الضروريات والحاجيات والتحسينيات (...).
والثالث: أنه لو جاز جعل الظني أصلًا من أصول الفقه، لجاز جعله أصلًا في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق. فكذلك هنا؛ لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين؛ وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة. وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات" م: (1/ 29- 31).
ونظرًا للجدل الحاصل في تسليم هذه المقدمة قديمًا وحديثًا -سيأتي بيان ذلك مفصلًا بحول الله في الهامش-؛ كان لا بد من تحليل هذا النص، الذي عليه تنبني سائر النصوص الآتية بعد في هذا المعنى، فقوله: (أصول الفقه) يعني: الأدلة الكلية، الذاتية المعنوية -كما سيأتي- ورجوعها إلى (كليات الشريعة) يعني أنها مبنية على حفظ الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، كما ذُكِرَ في النص. وبما أن هذه الكليات قطعية فإن ما يرجع إليها كذلك؛ لأن رجوعها إليها هو أيضًا بالمعنى الكلي. ومن هنا قال: "بيان الأول [أي رجوع أصول الفقه إلى كليات الشريعة] ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع"، وهذا واضح؛ لأن غاية الأدلة في كلياتها المنتظمة لسائر الجزئيات الظنية، هي إقامة المراتب الثلاث، ولذلك جعل هذا هو القصد الابتدائي من مقاصد الشارع. م: (2/ 5- 8).
وأما قوله: "وبيان الثاني" فيعني بيان الاستنتاج المترتب على ذلك، أي قوله: "وما كان كذلك فهو قطعي"؛ لأن الكليات المذكورة ترجع إما إلى أصول عقلية، أي إلى مقتضيات الوجوب والاستحالة، العقليين -لانبناء قيام الحياة عليها أصالة بالنسبة للضرورات؛ إذ لا يتصور لها وجود -عقلًا- إلا بها، أو تبعًا كما هو الحال بالنسبة للحاجيات والتحسينيات؛ لأن استمرار الضروريات رهين بوجودهما. ن. ذلك مفصلًا في: م: (2/ 16- 25)- وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي لأدلة الشريعة، جزئية كانت أم كلية، وهو مفيد للقطع. والغالب أنها ترجع إليهما معًا، خاصة قسم الضروريات الذي هو أصلها جميعًا. ولذلك قال: "والمؤلف من القطعيات قطعي".
أما قوله: "وذلك أصول الفقه" فيعني أن (أصول الفقه) هي هذه المعاني، أي الكليات، وإن بدت في صور مختلفة، فإنها ترجع في النهاية إليها؛ لأن الأدلة الكلية إما أن تشتمل عليها جميعها، كما هو الحال بالنسبة لدليل الكتاب، أو على كلي من كلياتها المعنوية، كما هو الحال مثلًا بالنسبة لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، كما سيتضح بحول الله. ومن هنا استوت -عنده- أصول الفقه وأصول الدين؛ في أن كل واحدة منهما داخلة في حفظ الدين بمعناه الكلي. وهذا المعنى لا يمكن أن يكون إلا قطعيًّا. فيتحتم القول بقطعية أصول الفقه؛ بناءً على هذا الترتيب.
وقد حكى الشاطبي الخلاف الحاصل في قطعية أصول الفقه، مشيرًا إلى أنه خلاف اصطلاحي في الحقيقة، متعلق بمعنى (القطع) من ناحية؛ وبمعنى (الأصول) من ناحية أخرى. ثم أعطى لقطعية أصول الفقه معنى خاصًّا، سلم له من كل اعتراض. قال رحمه الله: "وقد قال بعضهم: لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ لأنه تشريع، ولم نتعبد بالظن إلى في الفروع، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب -هو الباقلاني صاحب (التقريب من أصول الفقه). (ت: 403هـ)- من الأصول تفاصيل العلل، كالقول في عكس العلة، ومعارضتها، والترجيح بينها وبين غيرها، وتفاصيل أحكام الأخبار، كأعداد الرواة، والإرسال، فإنه ليس بقطعي.
واعتذر الجويني -هو إمام الحرمين صاحب البرهان. (ت: 478هـ)- عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها، داخلة بالمعنى فيما دل عليه الدليل القطعي.
قال المازري -هو أبو عبدالله محمد بن علي بن عمر المازري المالكي (ت: 536هـ) شرح برهان الجويني في مصنف له بعنوان (إيضاح المحصول من برهان الأصول) ن. الفكر الأصولي: ص(317)-: وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول، وإن كان ظنيًّا على طريقة القاضي، في أن الأصول هي أصول العلم؛ لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها؛ لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر -قال- فهي في هذا كالعموم والخصوص -قال- ويحسن من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول؛ لأن الأصول عنده هي الأدلة، والأدلة عنده: ما يفضي إلى القطع، وأما القاضي فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه. هذا ما قال.
والجواب: أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعًا به؛ لأنه إن كان مظنونًا تطرق إليه احتمال الإخلاف. ومثل هذا لا يُجعل أصلًا في الدين؛ عملًا بالاستقراء.
والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية، التي نُصَّ عليها؛ لأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة. وهو المراد بقوله تعالى: (الْيَومُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] أيضًا، لا أن المراد المسائل الجزئية؛ إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ لتفاوت الظنون، وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية، ووقوع الخطأ فيها قطعًا؛ فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد، وفي معاني الآيات، فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ: ما كان منه كليًّا. وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيًّا. هذا على مذهب أبي المعالي. وأما على مذهب القاضي؛ فإن إعمال الأدلة القطعية، أو الظنية، إذا كان متوقفًا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه، فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها، واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة، بحيث تطرح إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين؛ فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها؟ (...) وهذا كافٍ في إطراح الظنيات من الأصول بإطلاق. فما جرى فيها مما ليس بقطعي؛ فمبني على القطعي تفريعًا عليه بالتبع، لا بالقصد الأول". م: (1/ 32- 34).
ونخرج من هذا النص المهم بمسألتين أساسيتين، عليهما يقوم الإشكال كما ذكرنا، وببيانهما يتبين المراد من قطعية أصول الفقه لدى الشاطبي وهما: مفهوم (القطع) ومفهوم (الأصول).
أما ما يتعلق بهذا الأخير فقد تبين أن فريقًا يجعل (الأصول) في الأدلة، وفريقًا آخر يجعلها (القوانين). وأما الشاطبي فسيتبين أنه يجمع بينهما.
والإمام الجويني -حسب هذا النص- يرى أن الأصول هي الأدلة القطعية فقط -قال الإمام الجويني رحمه الله: "فإن قيل: فما أصول الفقه؟ قلنا: هي أدلته. وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية، وأقسامها: نص الكتاب، ونص السنة المتواترة، والإجماع، ومستند جميعها قول الله تعالى. ومن هذه الجهة تُسْتَمَدُّ أصول الفقه من الكلام. فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد، والأقيسة لا يلفى إلى في الأصول وليست بقواطع؛ قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول يرتبط الدليل له". البرهان: (1/ 78، 79)-. ولذلك لم يعد التفاصيل الأصولية -مما ذُكشر مثله- من الأصول لظنيتها. بينما رأى المازري أن الأصول هي أصول العلم، بمعنى قواعده، وأدواته الإجرائية ومقاييسه، ولذلك قال: "لأن تلك الظنيات قوانين كليات، وضعت لا لأنفسها، لكن ليعرض عليها أمر غير معين، مما لا نحصر -قال- فهي في هذا كالعموم والخصوص". فقواعد الترجيح مثلًا، ونقد الأخبار ونحوها -رغم ظنيتها- لا تخرج عن أصول الفقه؛ لأن المقصود بالأصول: الأدوات المنهجية التي تعالج بها القضايا المعينة. فهي مقاييس شاملة عامة، بمعنى أنها صالحة للإعمال في كثير من المسائل، والنوازر العلمية. والمازري في هذا يخالف القاضي الذي أخرج ما شابه هذا أن يكون من الأصول، رغم أنهما يتفقان في أن الأصول هي أصول العلم، لكن القاضي يقتصر منها على ما هو قطعي". واضح أن البحث العلمي يقتضي للحكم على المسألة استقراء تراث هؤلاء الأعلام جملة، وإحصاء المادة الاصطلاحية فيه، كما هو معروف في الدراسة المصطلحية، لكنها مسألة عارضة أخذناها في نص للشاطبي، نحللها في ضوئه كما حكاها. وهي ليست مقصودة بالأصالة عندنا، ولكن لأن بها نفهم مذهب صاحبنا.
بيد أن أبا إسحاق يجمع في أصول الفقه بين (الأدلة) على مذهب الجويني، وبين (أصول العلم9 أو (القوانين الكلية) على مذهب القاضي والمازري، لكنه في هذه يتفق مع القاضي ويخالف الآخر؛ نظرًا لأن القوانين عنده لا تكون إلا كلية؛ فلزم لذلك القول بقطعيتها كما حكى في النص. قال في سياق الرد على المازري -إذ علق على القاضي-: "وأما على مذهب القاضي؛ فإن إعمال الأدلة القطعية، أو الظنية، إن كان متوقِّفًا على تلك القوانين، التي هي أصول الفقه؛ فلا يمكن الاستدلال بها، إلا بعد عرضها عليها، واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة، بحيث تطرح إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين. فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها؟ "، ثم قال بعد ذلك معلِّقًا: "ولا حُجَّة في كونها غير مرادة لأنفسها، حتى يُستهان بطلب القطع فيها، فإنها حاكمة على غيرها، فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تُجعل قوانين" م: (1/ 33)؛ إذ القوانين عنده: هي الأصول الاستقرائية، ولذلك أفادت القطع، ومن هنا قال في النص السابق: "والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نصَّ عليها" أي في إفادة القطع، وقال بعد استدلاله: "وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيًّا" كما هو مذكور بتفاصيله في النص الأول.
فالأصول التي يبحث لها الشاطبي عن القطع، هي ذات صورتين: إما أن تكون أدلة نصية؛ كالكتاب والسنة من حيث أنهما كليان، أو بعض نصوصهما العامة، على شرط قطعية الدلالة والثبوت. وهذا نارد إن سلم بوجوده أصلًا، كما قال -قال: "إنه متنازع في وجوده بين العلماء" م: (2/ 49)-. وإما أن تكون قوانين كلية، أي معاني مستقرأة من نصوص الشريعة، وآحادها الظنية الدلالة، أو الثبوت، أو هما معًا؛ يؤدي إلى القطع بثبوت ذلك المعنى، وشموليته الحاكمة في الشرع. وهذا هو معنى القطع المعتمد لديه بالقصد الأول، أي القطع الاستقرائي المعنوي، لا قطعية اللفظ الثابت كذلك بنصه، وإن كان لا ينفيه. لكنه معنى تبعي عنده؛ لدخوله في الأول بنسبة كبيرة، فالنصوص هي أصول باعتبارها الكلي؛ لأنها متضمنة لجزئيات شتى هي آحادها من الآيات والأحاديث. وهذا شبيه بالكليات الاستقرائية، فلا يدخل حينذ في هذه إلا النصوص العامة اللفظ، لدرجة الارتقاء إلى درجة الدليل الكلي. كقوله تعالى: (أَلَّا تُزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 38، 39] إلا أن هذا الشاهد وأضرابه، غالبًا ما يحصل تواتره المعنوي، واستفاضته في الرشيعة، فيتحول حينئذ إلى صورة (قانون). ولذلك قال عن القطع اللفظي إنه: "معدوم، أو في غاية الندور" م: (1/ 35)، ولذلك لم يكن معتمدًا عنده بالأصالة، فقوله بقطعية الأصول إذن؛ هو باعتبارها (كليات) لا نصوصًا جزئية واستدلالات معينة. قال في موضع آخر: "اعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي، ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به، كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو القياس واجب مثلًا، بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث: (لا ضرر ولا ضرار) -رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس. ورواه ابن ماجه أيضًا عن عبادة. وصححه الألباني: (ص، ج، ص): (7517)، والصحيحة: (250). وقد فصل في تخريجه الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان: هـ. م: (2/ 72- 75)-، والمسائل المذكورة معه. وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون. والله أعلم" م: (3/ 26). والذي تقدم عنده في (الحديث) المذكور، نقتطف منه ما يفيدنا فيما نحن فيه، وهو قوله في بيان: "الظني الراجع إلى أصل قطعي (...) ومنه أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) فإنه داخل بالمعنى تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث مَنْعُه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات، وقواعد كليات" م: (3/ 16). وبعد سرد مجموعة من النصوص الشرعية المفيدة لرفع الضرر، قال: "فهو معنى في غاية العموم في الشريعة، لا مراء فيه ولا شك" م: (3/ 17)، ولذلك كان مثل هذا عنده (أصلًا) من أصول الفقه، وأما ما سواه مما ليس بقطعي فلا.
وهذا هو الذي يشعر فيه الشاطبي بالتفرد، كما قال في النص المذكور قبل: "وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون" أي معنى (القطع) الذي ينبني عليه تفرد آخر في معنى (الأصل)، وهو ما أشار إليه في قوله المفصل إذ قال: "الأدلة المعتبرة هنا: المستقرأة من جملة أدلة ظينة تضافرت على معنى واحد. حتى أفادت فيه القطع. فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق. ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه. فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب. وهو شبيه بالتواتر المعنوي. بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه، وجود حاتم، المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما. ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس، كالصلاة والزكاة وغيرها قطعًا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ) -وردت نحو (16) مرة في القرآن الكريم، أولهن قوله تعالى في سورة البقرة: (وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواء الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) الآية 43- أو ما أشبه ذلك لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه. لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة، ما صار به فرض الصلاة ضروريًّا في الدين -أي إنه معلوم من الدين بالضرورة- لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين (...) وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضًا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع، فكذلك الأمر في مآخذ الأصول. إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه؛ فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكال الاستدلال بالآيات على حدتها، وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع، فكر عليه بالاعتراض نصًّا نصًّا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع. وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكةل (...) فلا بد من هذا الانتظام في تحقيق الأدلة الأصولية" م: (1/ 36- 38). ثم قال بعد ذلك في السياق ذاته: "وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة. وبهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة، وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول، فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص. (...) وينبني على هذه المقدمة معنى آخر؛ وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائمًا لتصرفات الشرع، ومأخوذًا معناه من أدلته، فهو صحيح ينبني عليه ويرجع إليه؛ إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعًا به (...) ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل (...) فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي. (...) وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك ينبني على هذا الأصل؛ لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس (...) وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله -أي مفهوم القطع الاستقرائي- إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجة ظني لا قطعي؛ إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفرادها ما يفيده القطع فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة ومن بعده" م: (1/ 38- 41).
فاتضح من كل ذلك أن (الأصول) أو (الأصول)؛ إنما هي الأدلة الكلية المأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة الظنية في ثبوتها، أو في دلالتها، أو هما معًا، استقراء يكون به: "ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعًا به" كما قال؛ لأنه "إذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضًا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع" على حد تعبيره السابق أيضًا. أي إن هذه المعاني الجزئية تتحد فتعطي معنى كليًّا واحدصا، ذا قوة قاطعة، تمامًا كما النص القطعي الدلالة والثبوت. فذاك هو (الأصل) عنده. وقد أفاض في هذا بما فيه الكفاية وزيادة_. وما مرَّ من النصوص كافٍ -إن شاء الله- في هذا الموضع.
_هامش_
ثم قال -رحمه الله- في هامش[3] ص(256=260):
((ولقد ظلم الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أبا إسحاق الشاطبي ظلمًا، رحمهما الله معًا؛ وذلك لأنه لم يرض قوله بقطعية (أصول الفقه) دون تبين المفهوم بصورة دقيقة، أو نقص أدلته بمنهج علمي، ولكن أجمع رده كله بأسلوب خشن هو أقرب إلى الشتم والسباب منه إلى النقد العلمي، ولقد تكرر منه ذلك في أكثر من موطن من كتابه (مقاصد الشريعة)؛ مما يوحي بأن الرجل كان متحاملًا على أبي إسحاق لأسباب سوف نشير إلى ما ظهر لنا منها بعد إيراد أقواله.
وأولها قوله رحمه الله: "حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل (!)" مقاصد الشريعة: ص(7). وقال أيضًا: "أبو إسحاق الشاطبي حاول في المقدمة الأولى من كتابه عنوان التعريف طريقة أخرى؛ لإثبات كون أصول الفقه قطعية؛ وهي طريقة لا يوصل منها إلا قوله: ’الدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي (أي لو تحققنا رجوع شئ معين إلى تلك الكليات) [شرح لابن عاشور] وأعني بالكليات: الكليات الضروريات والحاجيات والتحسينات‘. ثم ذهب يستدل على ذلك بمقدمات خطابية وسفسطائية أكثرها مدخول ومخلوط غير منخول (!!)" مقاصد الشريعة: ص(41)، والنص المذكور للشاطبي متصرف فيه. ن. م: (1/ 29، 30).
وقد تابع فضيلة الدكتور عبدالمجيد النجار الشيخ ابن عاشور في موقفه هذا، لكن بأسلوبه الهادئ اللطيف المعهود، فقال حفظه الله: "لقد خصص الإمام الشاطبي المقدمة الأولى من مقدمات الموافقات، للاستدلال على أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، وذهب في ذلك إلى أن هذه الأصول تضافرت على بيانها كثير من الأدلة، لئن كانت ظنية بالنظر إلياه أفرادًا، فإن اجتماعها وتضافرها يبلغ درجة القطع في دلالتها على مدلولاتها من الأصول. وليست المقاصد بخارجة عن هذا الحكم، فهي من أصول الفقه، بل قطعيتها أبين من قطعية غيرها. وهذا التعميم الذي يجعل كل المقاصد عند الشاطبي قطعية سواء ما كان راجعًا إلى المقاصد العالية أو إلى المقاصد القريبة يجعل هذا الحكم الجازم يداخله الضعف، حينما يتعلق الأمر بالمقاصد التي هي علل الأحكام، التي قامت عليها آحادها (؟) فإن بعض تلك العلل لا تخفى ظنيتها، وهو ما أدى إلى اختلاف الفقهاء في تقديرها. وقد كان هذا الضعف ملحظًا للإمام ابن عاشور". فصول في الفكر الإسلامي: ص(147). كما أني (سمعت) محاضرة في موضوع الخلاف لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله من شريط بصري مصور بفرنسا - ينتقد فيها قول الشاطبي بقطعية أصول الفقه، بنفس حجج الشيخ ابن عاشور والدكتور النجار تقريبًا، مذكرًا بأن أصول الفقه يتضمن مباحث ظنية مثل قضايا القياس والدلالات ونحوها.
ولعل سبب استشكال هؤلاء لرأي الشاطبي هو اعتمادهم على نص وحيد في ذلك أو نصوص واردة في موطن واحد، أعني ما جاء في المقدمة الأولى وما انبنى عليها من مقدمات الموافقات. وكان الأولى أن يتساءل: ما المراد عنه (بأصول الفقه)؟ حتى يعلم حكمه (بالقطعية) علام ينصب؟ ثم إن كل هذه الانتقادات تحتج بظنية مسائل من علم أصول الفقه المتداول، وهي أمور جزئية لا تدخل في الأصول بمعناها عند الشاطبي كما تبين! وإنما الأصول عنده كليات الأدلة والمعاني الخاصة، وما عداها فليس من الأصول في شئ، كما فصلنا في المتن. ثم إن الشاطبي قد أفاض في الحديث عن قطعية أصول الفقه في مواطن عدة، سواء في كتاب الموافقات، أو كتاب الاعتصام، وقد وظفنا كثيرًا من تلك النصوص في هذه الدراسة، ففهم مراده إنما يُعلم من خلال حمل بعضها على بعض، وتفسير بعضها ببعض، لا بالاقتصار على المقدمة الأولى من كتاب الموافقات! ثم إن الشيخ ابن عاشور قد حاكم الشاطبي بمباحث أصول الفقه كما هو عند الأصوليين. وكان الأولى أن يحاكمه بمباحثه كما هي عنده في مؤلفاته، ولو فعل ذلك لوجد أبا إسحاق لا يسمي الشئ (أصلًا) بمعنى أنه من (أصول الفقه) إال إذا كان قطعيًّا. كما هو مبين في الدراسة بالمتن. بل لقد صاغ أبوابه وفصوله انطلاقًا من (قواعد كلية)، هي أصول في نفسها، يحشد لها من الأدلة الاستقرائية ما يجعلها تستقر في النفس أصلًا مقطوعًا به، ثم يفرع عنها بعد ذلك أصولًا قطعية أخرى بالمنهج نفسه، أو فروعًا ظنية، لا يسميها (أصولًا) بهذا المعنى، والذي درس كتاب الموافقات يجد أن الشاطبي رحمه الله قد ألزم نفسه بهذا المنهج إلزامًا، حتى كان الاستقراء المعنوي دليله الذي لا يتخلف عند أي تأصيل، وهو ما اشترطه على نفسه ابتداءً في خطبة الكتاب "معتمدًا على الاستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية" م: (1/ 23). وما فتئ يردد في أكثر من موطن وبأكثر من صيغة -كما تبين بالمتن- "أن المراد بالأصول: القواعد الكلية" (م: 97). فكيف يحتج عليه الشيخ ابن عاشور بعد ذلك بأصول الأصوليين فيقول -كما في الرد على الجويني في الدعوى نفسها- "لأنّا لم نرهم دوّنوا في أصول الفقه أصولًا قواطع، يمكن توقيف المخالف عند جريه على خلاف مقتضاها كما فعلوا في أصول الدين" مقاصد الشريعة: ص(7). بيد أن أبا إسحاق يقول: "إن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية!" م: (4/ 178). وقال ابن عاشور: إن من "تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظّار" مقاصد الشريعة: ص(5). ويقول الشاطبي: "لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات" ع: (2/ 393). وذلك "بالنسبة إلى علم الفقه لا بالنسبة إلى نظر الأصول!" م: (2/ 162*. أما تلك المسائل الظنية التي أشار إليها ابن عاشور، فلم يذكرها الشاطبي -إن ذكرها- على أنها أصول، وإنما هي أمثلة أو فروع عن أصول، فإن كانت عند غيره من الأصول فهي -كما قال-: "بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب [يعني الموافقات] كالفروع! (...) وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر، والأصل العتيد!" م: (4/ 311). "لأن أصول الشرع عتيدة" ع: (1/ 265). فهل يسخف عقل الشاطبي رحمه الله إلى درجة أن يسوي بين أصول الاعتقاد والأصول الفقهية، إذا كان يرى أن هذه تتضمن المعاني الجزئية الظنية كما تتضمن الكليات القطعية؟ وكيف يكرر أن الأصول(عتيدة) إذا اعتبر منها القياسات الجزئية، والخلافات الدلالية، والمقاصد الفرعية وأشباهها؟ كيف، وهو يعلم أن "الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية، أو في جزئياتها الفرعية (...) إلا أن الأصول والقواعد إنما تثبت بالقطعيات؛ ضرورية كانت أو نظرية، عقلية كانت أو سمعية، وأما الفروع فيكفي فيها مجرد الظن، على شرطه المعلوم في موضعه" م: (4/ 328).
ولست أدري كيف فهم الدكتور النجار -في نصه السابق- أن تعميمه الحكم بقطعية (أصول الفقه) "يجعل كل المقاصد عند الشاطبي قطعية، سواء ما كان راجعًا إلى المقاصد العالية، أو إلى المقاصد القريبة (؟) (...) التي هي علل الأحكام التي قامت عليها آحادها (؟) فإن بعض تلك العلل لا تخفى ظنيتها! " كيف وها الشاطبي يرى أن "المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين: وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وها هو مكمل لها ومتمم لأطرفها وهي أصول الشريعة. وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس، ثابت الأركان! (...) إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام، الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة، غير زائلة، ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها! " م: (1/ 77). فأنى يفهم من هذا أنه يقصد المقاصد القريبة التي هي علل الأحكام؟ إنه يفهم هذا، وهو يصرح نصًّا أن "العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته. وما اعترضه من باب الامور الجزئية! (...) وهكذا حكم سائر مسائل الأصول! ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي، والعمل بخبر الواحد قطعي، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي، إلى أشباه ذلك، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل ظنيًّا! أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيًّا لا قطعيًّا، وكذلك سائر المسائل، ولم يكن ذلك قادحًا في أصل المسألة الكلية. وهذا كله ظاهر! " م: (م/ 282، 283). إن الأصول عنده هي المعاني العامة الشاملة المستقرأة من نصوص الشرع استقراء يجعل منها (مفاهيم مجردة)، فإذا عُيِّنَت أو نُزِّلَت خرجت -عنده- من مجال الأصول إلى مجال الفقه! ولنمثل بقضية من أكثر القضايا اشتباهًا وهي قضية (سد الذرائع)، فمعلوم الخلاف الحاصل فيها بين مالك والشافعي، بين الرفض والقبول، وكذلك قضية (الاستحسان) أشد وأشهر، فقد اعتبر مالك الاستحسان تسعة أعشار العلم، واشتهر به كذلك أبو حنيفة، إلا أن الشافعي قال: "من استحسن فقد شرَّع" (ن. بيان ذلك بالفصل الثالث من القسم الثاني) وبمثل هذا اتحجالمخالفون المنكرون على أبي إسحاق قوله بقطعية الأصول. لكنه هو لا يعتبر الخلاف من بابه، بل من باب الفقه؛ لأنه (تنزيلي) لا (تأصيلي)! قال: "إن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها (...) يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه لا بالنسبة إلى نظر الأصول" م: (2/ 162).
وإنما الأصل هو معنى (السد) مطلقًا، أي في صورته المجردة غير المعنية، فهو معنى مستقرأ من الشريعة؛ إذ الشارع منع كل ما كان الغالب فيه الأداء إلى المفسدة وإن لم يكن هو -في ذاته- كذلك، من باب (وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108] وقد أفاض الشاطبي في تتبع هذا المعنى حتى جعل منه (كليًّا) لا ينخرم! أعني معنى (السد) مجردًا، وكذلك الحال بالنسبة للاستحسان من حيث هو (استثناء)، لا من حيث هو نازلة معينة. فمعناه الكلي أصل مقطوع به؛ لأنه متواتر الورود في النصوص الشرعية متفق عليه، وإليه يعود معنى الرخص؛ لأنه استثناء من أصل أيضًا. والرخص ترجع إلى أصل الحاجي وهو مقطوع به (ن. مصطلحات أصولية: "رخص") لكنك إذا جئت إلى سد الذرائع في بيوع الآجال مثلًا وما حصل في ذلك من خلاف؛ كان نظرك إذ ذاك في الفقه لا في الأصول هذا على اصطلاح الشاطبي لا على اصطلاح الأصوليين الذين ربما جعلوا الكلام في العلة المعينة من باب الأصول، بينما لا تعتبر عنده إلا من حيث كلي التعليل لا آحاده. والنصوص التي أوردنا قبل كافية لتأكيد هذا. وقال في (تحقيق مناط) الذكاة المشتبهة: "الإشكال الحاصل في الذكية المختلفة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم، في المناطات البينة وهي الأكثر. فإذا اعتبر هذا المعنى لم يوجد التشابه في قاعدة كلية، ولا في أصل عام!" م: (3/ 97). "ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية" (م/ 35).
كما قال. هذا ما كان أولى بابن عاشور رحمه الله أن يناقشه، أعني مفهوم (الأصول) لا قطعيتها إذ هذه -إذا سلمنا بالمفهوم الأول كما حرره الشاطبي -لازمة ولا مراء فيها، لا أن يحشر من الألفاظ ما خشن لرد المفصل بالمجمل، ونقض المبين بالمبهم! قلت: ولعل تحامله على الشاطبي راجع إلى أنه عزم على تأليف كتابه في (المقاصد) فخشي أن يتهم بالنقل والاجترار. وإعادة الإنتاج لكتاب الموافقات، فشن ما شن من نقد قاس -غير متبين في كثير من الأحوال- لأبي إسحاق الشاطبي رحمهما الله جميعًا!
وهذا التفسير الذي نراه مستشف من قوله في الحط من صاحبنا - قال: "والرجل الفذ الذي أفرد هذا المسمى (عنوان التعريف بأصول التكليف) في أصول الفقه. (*) وعنون ذلك القسم بكتاب المقاصد، ولكنه تطوح في مسائله إلى تطويلات، وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جد الإفادة (؟) فأنا أقتفي آثاره ولا أهمل مهماته، ولكن أقصد نقله، ولا اختصاره" مقاصد الشرعية: ص(8).
فعجبًا! كيف جمع في مكان واحد، حكمه على شخص واحد، فيما صنعه في كتاب واحد، بين قوليه: "لكنه تطوح في مسائلة إلى تطويلات، وخلط، وغفل عن مهمات المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود" وقوله: "على أنه أفاد جد الإفادة"؟! كيف وهو (لم يحصل منه الغرض المقصود)؟ كيف وهو قد جاء "بمقدمات خطابية وسفسطائية أكثرها مدخول، ومخلوط غير مدخول"؟! كما عبر قبل؟ فهل هذا هو كتاب الموافقات الذي شهد القدماء والمحدثون من العلماء الرواد، وزعماء الإصلاح والتجديد؛ بريادته وإمامته وتجديده. بدءًا بتلامذته من أمثال الإمام ابن عاصم، والمتأخرين عنهم من أمثال أحمد بابا التمبو كتي؛ ثم المحدثين من أمثال الشيخ محمد عبده، وعبدالله دراز، والفاضل ابن عشور. (ن. الدراسة التي أعدها الدكتور محمد أبو الأجفان عن شخصية الإمام الشاطبي في: 21- 64).)) انتهى.
ولذلك قلنا في التعريف -للأصول- بأن الثبوت قطعًا هو (إما بالذات أو بالمعنى). فالقطعي بالذات- كما سبق- هو النصوص الكلية. أي الكتاب والسنة من حيث هما كليان؛ إذ هما أصلان، بل هما الأصلان لسائر الأصول، التي هي في الواقع مستقاة منهما، فكانت قطعيتها بالمعنى. قال أبو إسحاق: "لما كان الكتاب والسنة هما (الأصل) لما سواهما اقتصرنا على النظر فيهما. (...) فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي، والاقتصار على الكتاب والسنة، والله المستعان. فالأول أصلها وهو الكتاب" م: (3/ 345). وقال: "كتاب الله تعالى هو أصل الأصول" م: (3/ 43)، فتلك إذن هي القطعيات بذاتها من الأصول؛ إذ هي كليات مستقرأة من نفسها، غير مفتقرة إلى غيرها، بعكس الكتليا المعنوية التي هي (أصول) مستقرأة من الأولى.
و(الأصول) بصفة عامة لها صورتان: إما أن تكون -كما عبرنا في التعريف- (في صورة مصادر، أو قوانين محكمة). فأما الأولى، فهي الأدلة الموضوعة على أساس أنها مصادر للمعاني الأصلية، أو الأحكام الفقهية، كما مر في النص السابق في حديثه عن الكتاب والسنة باعتبارهما: "الأصل لما سواهما" أي من الأصول، فهما مصدران للمعاني الأصلية. كما أنهما أيضًا مصدران للأحكام الفقهية، وهما يشتركان في هذه مع المصادر الأخرى المبنية عليهما، كالإجماع، والرأي -على حد تعبيره السابق- وما في معناه، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، ونحوها من القطعيات المعنوية. فكل هذه أصول ذات طبيعة مصدرية؛ لأن وظيفتها الأساس هي كونها منطلقات للاستنباط الفقهي. قال عن الإجماع: "الإجماع ليس بعلة الحكم بل هو أصل الحكم" م: (4/ 154)، أي مصدره. وقد سبق قوله: "إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائمًا لتصرفات الشرع، ومأخوذًا (معناه) من أدلته -فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعًا به. (...) ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل (...) وكذلك أصل الاستحسان" م: (1/ 39، 40) وقال أيضًا: "سد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية الشرعية" م: (3/ 61) وقد تبينت وظيفة المصطلح الاستنباطية في محله -ن. مصطلح (سد الذرائع ضمن مصطلح المآل بهذا البحث-. فهذه الأصول وأمثالها لها صورة المصدر، وواضح أن منها ما هو قطعي بذاته، وما هو قطعي بمعناه فقط.
أما الصورة الثانية للأصول، فهي كونها (قوانين محكمة)، ومعنى ذلك أن الأصل قد يكون -بالإضافة إلى مصدريته- (قانونًا) أي مقياسًا محكمًا لضبط النظر وتقويمه، ومحاكمة الآراء، والفهوم، ونقدها. وربما اختصت الأصول بقانونيتها دون أن تكون ذات طبيعة مصدرية.
فالأولى كسد الذرائع والاستحسان، فهما مصدران كما بينا، وقانونان أيضًا: لكونهما يتصفان -بالإضافة إلى ذلك- بصفة (القاعدية) فهما قاعدتان. والقاعدة هي: "الأمر العام والقنون الشائع" م: (3/ 363) -ن. ذلك مفصلًا في مصطلحي (سد الذرائع) و(الاستحسان) ضمن (المآل)-. وأما الثانية: فهي المعاني الكلية الواردة في صورة (ضوابط) حاكمة ليس إلا. ومثاله هو ما ورد في قوله: "فمن التفت إلى المسِّبات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة، أو الفساد لا من جهة أخرى؛ فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع، أو على خلاف ذلك (...) وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات" م: (1/ 233).
و(قانونية) (الأصل) تعني أنه مطرد العموم والشمول، ثابت كذلك أبدًا؛ وهو يقتضي كونه (محكمًا) أيضًا، أعني العبارة الواردة في التعريف في وصف (قوانين) بأنها (محكمة) على سبيل البيان والتوضيح. يقول أبو إسحاق: "إن خطة الإسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات (...) فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المحتملات، وقيدت تلك المطْلَقات، وخصصت بالنسخ أو غيره ذلك العمومات؛ ليكون ذاك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستندًا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها! وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة، فضلًا من الله ونعمة، فالأصول الأول [يعني الملكية] باقية، لم تتبدل ولم تتسخ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها. وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور الجزئية، المتنازع فيها، من الجزئيات لا الكليات" م: (4/ 214- 216). وقد ورد هذا الكلام مشروحًا ومبينًا عنده بأمثلة في سياق آخر قال فيه: "إن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة. ولم تستثن منه موضعًا ولا حالصا. فعده علماء الملة أصلًا مطردًا، وعمومًا مرجوعًا إليه من غير استثناء (...) وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام! (...) وبينت بالتكرار أن "لا ضرر ولا ضرار"، فأبى أهل العلم من تخصيصه، وحملوه على عمومه. (...) وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره، وتأكد أمره، وفهم ذلك من مجاري الكلام؛ فهو مأخوذ على حسب عمومه. وأكثر الأصول تكرارًا: الأصول المكية؛ كالأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأشباه ذلك" م: (3/ 306، 307).
_هامش_
قال الدكتور فريد الأنصاري في كتابه "المصطلح الأصولي عند الشاطبي" هامش[1] ص(263، 264):
((فثبت بذلك كله أن الأصول التي هي (أصول الفقه) عند الشاطبي، إنما هي الكليات سواء كانت كليات بالذات، أو بالمعنى. ومن هنا فلا وجه لدخول الأدلة التفصيلية الظنية فيها. ومن هنا أيضًا كان التوجيه الذي حاول الدكتور عبدالحميد العلمي أن يصور به مفهوم (الأصول) عند أبي إسحاق غير سليم؛ نظرًا لأنه أدخل عليه في ذلك (الأدلة الخاصة)، وإن ذكر أنه يفرق بينهما قال: "ويبدو لي (...) أنه عالج إشكال القطع والظن في القضايا الأصولية بوعي ناضج (...) فعمد إلى التفريق بين الأصول الشرعية ككليات عامة، وبين الأدلة الخاصة، التي تجري في مواطن معينة، ليجزم بأنه لا سبيل إلى احتمال تطرق الظن إلى الأولى، وإمكان دخوله في الثانية. كما عمل على إكساب هذه الأخيرة صفة القطعية بردها إلى الكلمات الشرعية، ونظمها في سلك الاستقراءات المعتبرة. (...) حيث لم يعمد إلى إخراج ما كان من الأصول ظنيًّا كما فعل الباقلاني، وابن حزم، ولم يعتذر عن إدخال ما كان منها غير قطعي كالجويني. ولم يتراجع عن القول بقطعيتها كما فعل الشيخ ابن عاشور" منهج الدرس الدلالي: ص(37، 38). قلت: لو فعل أبو إسحاق ذلك فعلًا لكان متهافتًا ومتناقضًا؛ فإدخال الأدلة الخاصة في الأصول من باب (نظمها في سلك الاستقراءات المعتبرة) كما عبر العلمي يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن نعتبر أن كل ما كان ذلك شأنه هو من الأصول، وإذن يدخل فيه الفقه كله، أليس كل الفروع الفقهية داخلة بهذا المنطق في الأصول؟ بلى! لكن أبا إسحاق كان حريصًا أشد الحرص كما رأيت على التفريق بينهما؛ لأن عدم الفصل هو "من باب خلط بعض العلوم ببعض" على حد تعبير: م: (1/ 35).
وقد رأيت -بمتن الدراسة- كيف حرص على تمييز الأصول من الفروع بما يكفي ويشفي.
وإما أن ذلك -وهو لازم عن الأول- يجعل موقف الشاطبي متناقضًا؛ لأنه يتحتم عليه حينئذ القول بظنية الأصول؛ إذ القول بقطعيتها بناء على التوجيه الذي ساقه الدكتور العلمي إن هو إلا تعسف في التأويل والتخريج، فكيف يجمع بين القطعية وكونه "لم يعمد إلى إخراج ما كان من الأصول ظنيًّا كما فعل الباقلاني وابن حزم" على حد رأي الدكتور العلمي؟ بل أخرجه إخراجًا. ألم تر أنه رد على المازري بأن "إعمال الأدلة القطعية، أو الظنية، إذا كان متوقفًا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه؛ فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها، واختبارها بها. ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة، بحيث تطرح إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين! فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها؟! " م: (1/ 33). ثم قال بعد مؤكدًا ودافعًا كل احتمال من جنس ما قال به الدكتور العلمي: "ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها؛ حتى يُستهان بطلب القطع فيها، فإنها حاكمة على غيرها، فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين! " م: (1/ 33).
أيضًا هذا كافيًا في إطراح كل ظني من الأصول عنده، ورفض دخوله فيه بأي وجه من الوجوه الممكنة؟ ولعل الدكتور العلمي قد وهم في فهم نحو قوله: "الظني الراجع إلى أصل قطعي (...) -ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)- فإنه داخل بالمعنى تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع وجزئيات، وقواعد كليات. (...) فهو معنى في غاية العموم في الشريعة، لا مراء فيه ولا شك" م: (3/ 16، 17). والشاطبي -كما تبين في شرح هذا النص بالمتن مفصلًا- لا يقصد إدخال الحديث بذاته في الأصول، وإنما (معناه) -كما عبر بلفظه- أي رفع الضرر بإطلاق؛ لأنه هو المعنى الكلي، فهو من الكليات المعنوية لا الذاتية، كما تبين بالمتن. ومن هنا كان إعمال الحديث باعتباره (لفظًا)، أي خبر آحاد؛ إنما هو من قبيل الفقه لا الأصول، بينما إعماله من حيث هو قاعدة استقرائية، وكلية معنوية غير راجعة إلى هذا اللفظ بالذات وإن اتفقت معه، وإنما باعتبارها راجعة إلى معنى رفع الضرر في الشريعة مطلقًا؛ كان ذلك من الأصول. فلا وجه إذن -لمن فهم هذا الفرق الدقيق- لإدخال هذا في ذاك. ويكون الدخول الذي تحدث عنه الشاطبي للحديث في الأصول إنما هو بالمعنى، لا من حيث هو دليل خاص كما توهم ذلك الدكتور العلمي.)) انتهى.
وكون (القانون) مقياسًا لضبط النظر وتقويمه، ومحاكمة الآراء والفهوم ونقدها، كما ذكرنا؛ يتضح أيضًا بصورة أوضح من قوله في سياق الرد على من قال: إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا: "فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسير فصحيح، ولا نزاع فيه وإن أرادوا غير ذلك! (...) فلا بد من دليل قطعي، يثبت هذه الدعوى؛ لأنها أصل محكم به على تفسير الكتاب! فلا يكون ظنيًّا" م: (3/ 384). وقد قاعدة مفادها أنه "إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه، أو سوابقه، أو قرائنه، وبالعكس" م: (3/ 358)، ثم أورد ما يحتمل أن يكون اعتراضات جزئية تنقض هذا الأصل، فقال: "فالجواب (...) أن يقال: إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم، فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية؛ لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات النعقدت كلية، واعتمدت في الحكم بها وعليها، شأن الأمور العادية في الوجود. ولا شك أن ما اعترض به من ذلك القبيل؛ يدل عليه الاستقراء، فليس بقادح فيما تأصل" م: (3/ 363). وقوله: "شأن الأمور العادية الجارية في الوجود" مشير إلى أن (الأصل) -باعتباره قانونًا كافيًا هو أشبه ما يكون بالقانون الطبيعي كقانون الجاذبية مثلًا، وقانون تمدد الحديد بالحرارة ونحوهما، يعني من حيث الثبات والاطراد وعدم التخلف! فإذا كان منه نوادر خارمة فلا عبره بها. وإنما العبرة بالأصل، ولذلك كانت الأصول بهذا المعنى قوانين للضبط كما في قوله السابق: "فمن التقت إلى المسبَّبات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة، أو الفساد لا من جهة أخرى - فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان الشارع، أو على خلاف ذلك (...) وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات" م: (1/ 233) وقال بعدما ذكر بعض أحكام التعارض والترجيح: "وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح" م: (4/ 311).
أما قولنا في التعريف: "لإفادة الفقه" فهو تقييد للمصطلح بمجال الحكم العملي، وإخراج للكليات العقدية أن تكون مرادة في المصطلح بهذا المع؛ لأنها مشارِكة للكليات العملية في كل الخصائص المذكورة سابقًا، ولا فصل بينهما إلا بكون هذه مقصودة "لإفادة الفقه". خاصة وأن المصطلح قد يرد في بعض السياق متضمنًا للمعنيين معًا -كما سنوضح بحول الله قريبًا- قال: "المراد بالأصول: القواعد الكلية كانت في أصول الدين، أو في أصول الفقه" م: (3/ 97)، ولذلك قيدنا (الأصول) التي يراد بها (أصول الفقه) خاصة بالقيد المذكور.
هذا هو تمام تعريف الأصول -بهذا المعنى- كما هو وارد في تراث الإمام الشاطبي. فكلما ورد المصطلح في هذا السياق دلَّ على معنى الأدلة الكلية القطعية بذاتها، كالكتاب والسنة؛ أو بمعناها، كالكليات ذات الطبيعة المصدرية، كالإجماع، والقياس، أو ذات الطبيعة القانونية، أي الضوابط الكلية، كضوابط الفهم للكتاب والسنة، مما سبق تفصيله، أو القواعد الضابطة للأحكام الوضعية، كقوله: "الأصل المعلوم في الأصول: أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط؛ فلا يصح أن يقوم المسبَّب دونه" م: (1/ 268)، أو ما يجمع بين الطبعتين من مثل سد الذرائع -كما ذكرنا- والاستحسان ومبادئ رفع الضرر، ورفع الحرج، ونحو ذلك كثير. فكل ذلك يسمى عنده (أدلة كلية) كما تبين. وليس فقط (أدلة الاستنباط) ذات الطبيعة المصدرية فحسب -كما هو مشهور_ن. تعريف (أصول الفقه) في البحر المحيط: (1/ 15- 27)_-. بل كا معنى كلي في الدين يوظف لإفادة الفقه بصورة أو بأخرى يسمى (أصلًا). ولذلك كانت الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة (أصولًا)، باعتبارها (كليات معنوية) تفيد الفقه، (كأصل الإباحة)، أو (أصل الندب)، أو (أصل التحريم). قال في سياق سد الذرائع: عندما "لا يضطر إلى أصل المباح، ولا يلحق بتركه حرج فهو محل اجتهاد" م: (1/ 185) يعني سد الذريعة في مثل هذا، هو الذي في محل الاجتهاد. وإلا فأصل المباح قطعي، والإشكال في تعارضه مع أصل قطعي آخر هو (أصل المتشابهات) المقتضي للسد؛ قال: "فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل؛ لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة. غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع، فنهى عن ملابستها. وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال هذه المطالب، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة" م: (1/ 186). وقال: "الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة؛ من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة" م: (3/ 97)، فإذن كون هذه المعاني (أصولًا) هو أساسًا بالمعنى الكلي، لا الجزئي، يعني مبدأ التحليل، أو الإباحة، ومبدأ التحريم، ومبدأ الندب، أو الوجوب... إلخ. لا أن المقصود مباح معين، أو واجب معين، بل الوجود الكلي لهذا المعنى، أو ذاك. ولذلك جاز قوله: (أصل المتشابهات) كما مر، من حيث إنه معنًى كلي مرجوع إليه بالاحتياط. وإلا فالمشابه من حيث هو متشابه أوغل في الظن. وبهذا التقدير نفهم عنده مصطلحات (أصل الإذن) م: (1/ 185)، و(أصل الترخص). أو (أصل الرخصة) م: (1/ 339، 340)، أو (أصل العزيمة) م: (1/ 186، 308، 321، 322- 330- 332، 333، 334- 336- 339- 351)، ونحوها. أي تلك المعاني الكلية المفيدة لفروعها الفقهية. فهي بهذا الاعتبار (أصول).
أما قول أبي إسحاق عن الأمر المقصود بالحكم: "أما كونه فرضًا، أو مندوبًا، أو مباحصا، أو مكروهًا، أو حرامًا، فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن باب الخلط بعض العلوم ببعض" م: (1/ 34، 35)، فإنما هو من حيث التنزيل الجزئي الفقهي، فلذلك لم تكن بهذا الاعتبار من (الأصول)، وإنما كانت من الفقه. وليس المقصود إطلاقًا المعاني الكلية، كما قد يتوهم -قال الشيخ دراز معلقًا على هذا النص: "إنما ذكروها من باب المقدمات لحاجة الأصولي إلى تصورها والحكم بها، إثباتصا ونفيًا، كقولهم: (الأمر للوجوب والنهي للتحريم) مثلًا وقد ذكرها هو وأطال في تحديدها. إلا أن يكون مراده كون كذا من الأفعال فرضًا أو حرامًا مثلًا. فإن هذا هذا من الفروع الصرفة التي ليست من المقدمات في شئ" هـ. م: (1/ 35). ومعلوم أن هذا الاحتمال الأخير هو المقصود كما بينا أعلاه. إلا أن هذه المفاهيم من حيث هي كليات ليست من (المقدمات) كما ذكر دراز، بل هي من صلب (الأصول)، وكذلك كان ذكر الشاطبي لها. وقد استفاضت الأدلة على ذلك في المتن- والدليل على ذلك انه سماها: (أصولًا) كما سبق، وأنه درسها في كتابالأحكام من حيث هي كليات -م: (1/ 109- 187)-، ثم إثباته إياها للأصول في كتاب الاعتصام في قوله: "ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة" ع: (2/ 296). وهذا يقتضي تفسير نص الموافقات المذكور بما فعلنا.
فالأصول بهذا المعنى إذن هي المُجمع عليه المسلمين، المتفق عليه؛ إذ لا يتصور فيها خلاف من حيث هي كذلك، أي بالمعنى الذي صورنا؛ لأنها قواطع محكمات. وإنما يتصور الخلاف في الظنيات؛ إذ "الظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات" ع: (2/ 393) كما قال: فإذا ورد أحد (الأصول) في سياق يوهم الاختلاف عنده؛ فإنه حينئذ يكون بمعناه الفرعي التنزيلي، لا الأصلي. فمثلًا علمنا أنه قد "ثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد. فإذًا كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه، ولا قاعدة يستند إليه" م: (1/ 99). أو كما في قوله الآخر: "ليس بأصل، وإنما الأصل: ما عم في الباب وغلب في الموضع" م: (2/ 302). ثم وجدنا (رفع الحرج) عنده مختلفًا فيه في بعض المساقات. قال: "قال ابن العربي: (إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط، وإذا كان خاصًّا لم يعتبر عندنا. وفي بعض أصول الشافعي اعتباره). انتهى ما قال. وهو ما ينظر فيه؛ فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد، فالحكم كما قال. ولا ينبغي أن يختلف فيه، (...) فإن تصور وقوع اختلاف، فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد، لا أنه مختلف فيه، مع الاتفاق على أنه من أحدهما" م: (2/ 159). وبعد سرد عدة أمثلة لذلك قال: "إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالك بعدم الاعتبار، وعن الشافعي بالاعتبار، يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفي غيرها، بالنسبة إلى علم الفقه، لا بالنسبة إلى نظر الأصول" م: (2/ 162). وهذا نص في أن الأصول لا خلاف فيها ولا اختلاف، وأن الخلاف الحاصل في مثل هذه الأشياء، إنما هو باعتبار تنزيلها على وقائع معينة، وذلك عنده عين الفقه، وليس من الأصول؛ إذ الأصول هي المعاني المبدئية المطلقة، وهو أيضًا نص مفيد جدًّا في حد ما بين الفقه وأصوله. وعلى هذا المعنى يحمل الخلاف في سد الذرائع، والاستحسان، كما تبين في موضعه -أي إنهما أصلان مُجمع عليهما من حيث المعنى المطلق. وإنما الخلاف في (سد) معين، أو (استحسان) معين، وهذا مفصَّل بأدلته في دراسة المصطلحين ضمن (المآل) بهذا البحث-.
وكذلك الأمر في جميع مسائل الأصول، سواء منها القطعي بالذات أو بالمعنى، قال رحمه الله: "العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية، (...) ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية. (...) وهكذا سائر مسائل الأصول. ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي، والعمل بخبر الواحد قطعي، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي، إلى أشباه ذلك، فإذا جئت إلى قياس معين، لتعمل به كان العمل ظنيًّا لا قطعيًّا، وكذلك سائل المسائل، ولم يكن ذلك قادحًا في أصل المسألة الكلية، وهذا كله ظاهر" م: (2/ 282، 283). وهذا نص واضح في تأكيد معنى (الأصول)؛ كما شرحناها لديه رحمه الله، وكذا معنى القطعية فيها.
وهو يشعر في صنيعه هذا بنوع من التفرد، أي في المعنى الذي أعطاه لهذا المصطلح؛ خاصة ما يتعلق بالمعنى الاستقرائي في الكليات المعنوية -أورد الزركشي المتوفي سنة: (794 هـ) جردًا واسعًا لتعريفات الأصوليين السابقين (لأصول الفقه) ولم نجد في ذلك من جاء بمثل هذا المعنى لأصول الفقه، على التمام والكمال.ن. البحر المحيط: (1/ 15- 33). وهو ما أكده الدكتور عبدالمجيد النجار. قال: "لا نظفر عند الشاطبي بتعريف أساسي لأصول الفقه، حيث لم يصدر كتابه الموافقات بمثل هذا التعريف، شأن عامة الأصوليين في كتبهم الأصولية. وغاية ما وقفنا عليه إشارات في أثناء كتبه، لا ترقى إلى درجة التعريف المصنوع، ولكنها يمكن أن تستثمر في الدلالة على تصوره للقوام الأساسي لعلم الأصول (...) لذلك فكأنما اعتبر ما ضمنه كتابه الموافقات خصوصًا علمًا جديدًا، ليس هو علم الأصول المتداول" مجلة الموافقات: (فقه التطبيق لأحكام الشريعة عند الإمام الشاطبي): ص(253، 254)-. وقد أشار إلى هذا المعنى بصيغ مختلفة، لكنها كلها تؤكد هذا التفرد، منها أنه إذا تم له الاستقراء على قطعية معنى من المعان الكلية في الشريعة، قال عنه: "وهذا أصل من الأصول" أو نحو ذلك. فمثلًا في سياق حديثه عن البدع، واستدلال بعضهم بأن منها ما هو "أمر مسكوت عنه عند الشارع، والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة" م: (2/ 412) قال: "وتقرير الجواب (...) أن السكوت عن حكم الفعل، أو الترك، هنا إذا وجد المعنى المقتضي للفعل، أو الترك؛ إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان. وهو غاية في هذا المعنى (...) وهذا أصول من الأصول!" م: (2/ 413).
لكن الإشارات الأقوى هي تسمية ما يقوم به من تأصيل بأنه (أصول الموافقات) أو (أصول هذا الكتاب) مما يوحي في سياقه بنوع من التميز، والتفرد عن سائل الأصول، أو ما هو مشهور أنه (أصول). وهاك ثلاثة نصوص هي غاية في هذا المعنى! قال عن مسائل التعاريف والترجيح: "واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب؛ فلذلك اختصر القول فيه، وأيضًا فإن ثم أحكامًا أخر تتعلق به قلما يذكرها الأصوليون، ولكنها بالنسب إلى أصول هذا الكتاب كالفروع، فلم نتعرض لها (...) وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر، والأصل العتيد، لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح" م: (4/ 311). وقال في سياق حديثه عن سورة الأنعام: "وإذا نظرت -قال الشيخ دراز رحمه الله معلقًا: "أي إلى سورة الأنعام بالنظر الكلي الأصولي، الذي يعني به كتاب الموافقات، تبين لك بجلاء اشتمالها على الأصول، والكليات، في الشريعة بالوصف الذي قاله" هـ. م: (3/ 408)- بالنظر المسوق في هذا الكتاب، تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية، التي إذا انخرم منها كلي واحد، انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلي" م: (3/ 407)، وقال في كتاب الاعتصام: "إذا روعي حظ النفس، فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل، فله أن لا يمكنها من حظها (...) بناء على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ" ع: (1/ 231).
وأحسب أن هذه النصوص كافية للدلالة على شعور أبي إسحاق بتفرده في استعمال مصطلح (الأصول)؛ بهذا المعنى، والله أعلم، كما أنها دالة هي وما سلف قبلها على أن (كتاب الموافقات) هو كتاب مؤلف في (أصول الفقه)، لكن برؤية جديدة على عكس ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن ما صنعه أبو إسحاق شئ خارج عن هذا الفن.
_هامش_
وذلك نحو صنيع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في قوله: "كتاب الموافقات ليس كتابًا في أصول الفقه، ولكن بعض موضوعاته هو أصول الفقه، أما سائر البحوث والمسائل التي يفيض بها هذا الكتاب، فهي تدخل تحت فلسفة التشريع، أو تحت أسرار التكليف، كما قال الشاطبي عن كتابه، وكما وصفه، [إشارة إلى العنوان الأصلي للموافقات قبل العدول عنه، كما سبق ذكره]. بحوث أصول الفقه في هذا الكتاب مغمورة (!) ومغموسة في كثير من البحوث والمسائل المهمة الأخرى"، التي "خرجت عن موضوع أصول الفقه إلى فلسفة التشريع، وإلى ما سماه بأسرار التكليف" مجلة الموافقات: (مشروعية الإيثار في الشريعة الإسلامية وضوابطه عند الإمام الشاطبي): ص(151، 152).
ومعلوم أن هذا الذي سماه الدكتور البوطي (بفلسفة التشريع) هو عين (أصول الفقه) لكن باصطلاح الشاطبي؛ لأن هذه (الفلسفة) هي مقتضى النظر الكلي، الذي قاده إلى اعتماد (الكليات المعنوية)، والدكتور البوطي يحاكم الموافقات بالتصور المتداول لأصول الفقه. لا بتصور مؤلفه، وقبل بسط هذا بأدلته، نشير إلى أن الدكتور عبد المجيد تركي هو أيضًا قد قال كلامًا مقتضاه أن الشاطبي قد أسس (علمًا جديدًا) مما يوحي باستقلاله عن علم أصول الفقه. قال في سياق بيان تأثر الشاطبي بابن رشد الحفيد -وهو ما نقضه الدكتور أحمد الريسوني بما فيه الكفاية (نظرية المقاصد: ص(299- 304)-: "يجدر بنا أن نبرز إثراءه [يعني ابن رشد] للفكر الفقهي إثراء قد مهد السبيل -في اعتقادنا- لتطورات لاحقة، بل لميلاد علم ظهر بعد قرنين من وفاة ابن رشد، على يد منشئه الشاطبي الأندلسي، الذي اختار له من الأسماء، علم مقاصد الشريعة" (أعمال ندوة ابن رشد. كلية الآداب الرباط 1978م). (ن. أيضًا "الشاطبي والاجتهاد التشريعي المعاصر" الاجتهاد: ع: (8/ 238).
قال الدكتور أحمد الريسوني معلقًا: "ولست أدري أولًا ماذا يعني بكون الشاطبي اختار له من الأسماء (علم مقاصد الشريعة)"؟ فأما اسم (مقاصد الشريعة) فكان مستعملًا قبل الشاطبي بحق طويلة (...) وأما اسم (علم مقاصد الشريعة) فلم يستعمله الشاطبي نهائيًّا. وأما الذي أطلق هذا الاسم فهو الشيخ ابن عاشور حديثًا". نظرية المقاصد: ص(299، 300). قلت: وهو كذلك؛ لأن الشيخ ابن عاشور هو أو من دعا إلى فصل مقاصد الشريعة عن أصول الفقه، وجعلها علمصا مستقلًّا بذاته، يقول رحمه الله: "فنحن إذا أردنا أن ندون أصولًا قطعية للتفقه في الدين؛ حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فتنفي عنها الأجزاء الغريبة، التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم، ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله، تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية" (مقاصد الشريعة الإسلامية: ص8). ولعل هذا الكلام هو الذي أثر في الدين زعموا أن الشاطبي كتب ما كتب خارج موضوع أصول الفقه كما هو نص الدكتور البوطي، أو ما أسس تحت اسم (علم) مقاصد الشريعة، كما وهم الدكتور تركي.
والحق أن أبا إسحاق رحمه الله كان واعيًا بتجديده كل الوعي، كما هو واضح في النصوص الكثيرة بالمتن، ثم إنه كان واعيًا بتميزه فيما يقصده بمصطلح (أصول الفقه) كما بينا، لكن الذي ينبغي أن يعلم هو أن ذلك هو أصول الفقه على الحقيقة في نظره رحمه الله. وأن كثيرًا مما يدرس في أصول الفقه -كما هو عند أغلب الأصوليين- أليق بمباحث الفروع لا بالأصول. ما دام لا يدرس في إطار الكليات الأصولية ذات الصورة التجريدية المعنوية؛ إذ تبين: "أن المراد بالأصول: القواعد الكلية" م: (3/ 97). ولذلك: "فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية" (4/ 178). "لأن أصول الشرع عتيدة" ع: (1/ 265)؛ "إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة، غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها! " م: (1/ 77) ومن هنا قطعيتها وعدم احتمالها، فساوت بذلك الأصول العقدية كما نص عليه قبل! وقال: "لو جاز جعل الظني أصلًا في اصول الفقه لجاز جعله أصلًا في أصول الدين. وليس كذلك باتفاق (...) ولم نتعبد بالظن إلى في الفروع" (م/31). هذه هي أصول الفقه، وهذه هي قوتها: كلية، محكمة، قطعية.
ذلك كان هو المعنى المقصود أصالة لدى الشاطبي من استعماله لمصطلح (الأصول)، لكنه قد يرد معانٍ أخرى تقرب أو تبعد من هذا السياق نوردها مرئية حسب أهميتها كما يلي:
ب -2- (الأصول): هو علم أصول الفقه: بمعناه الاسمي، أي ذلك العلم القائم الذات مالبني على بحث الكليات الأصولية، وما يتفرع عنها من قطعية أو ظنية.
وإنما ورد هذا المصطلح بهذا المعنى عند الشاطبي في سياق الإحالة عليه، عندما ذكر قضايا اشتهر تفصيلها فيه. وذلك نحو قوله: "فيبقى ما كان شرعًا لغيرنا منفيًّا عن شرعنا كما تقرر في الأصول" ع: (1/ 244)، ومثله قوله: "وهو مذكور في الأصول" ع: (1/ 175). -والنص نفيه تكرر في: ع: (1/ 169)-، وقال أيضًا بعد إثارة قضايا مثل تقسيمات الأحكام الشرعية ومراتب المصالح والمفاسد: "وهذا محل بيانه الأصول" ع: (2/ 298) مشيرًا بذلك إلى العلم بمعناه الاسمي لا المصدري.
وتأتي (الأصول) بمعنى مجرد من الإضافة إلى الفقه لفظًا وحكمًا وهو:
ب -3- الأصول: هي القواعد الكلية في الدين بإطلاق: سواء كان في العقائد، أو الأعمال، أو الآداب، أو نحو ذلك. قال: "المراد بالأصول: القواعد الكلية، كانت في أصول الدين، أو في أصول الفقه، أو غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية" م: (3/ 97).
وتأتي (الأصول) بمعنى مجرد من الإضافة إلى الفقه لفظًا وحكمًا، وهو:
ب -4- الأصول: هي المقاصد الابتدائية المقصودة لذاتها: وهي مقابلة للمقاصد التبعية؛ ولذلك سميت بالمقاصد الأصلية؛ إذ (التوابع) إنما شرعت (لخدمتها) لا لأنفسها -ن. ذلك بتفصيل في (مصطلحات أصولية) مادة (قصد)- قال: "المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها (...) فبهذا اللحظ قيل: إن المقاصد توابع. وغن تلك هي الأصول" م: (2/ 179). ولم يرد المصطلح بهذا المعنى إلا في هذا النص.
ب -5- الأصل: هو الدليل الجزئي، فهو فرد من آحاد (الأصل) الكلي: ولذلك احتمال القطع والظن معًا، على حسب مرتبته ثبوتصا ودلالة. ولم يرد عنده -بهذا المعنى- إلا مفردًا. كما في قوله في أن الملتفت إلى المصالح عامل على حظ نفسه، وأن الممتثل للأمر والنهي مجردين أزكى عملًا، وأوغل في التعبد "وأصله في القرآن: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) [فصلت: 46، والجاثية: 15]" م: (1/ 226). وقال في سياق بطلان الصدقة بالمنّ: "وقالت جماعة: إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة، لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم (...) وأصله في القرآن قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) [البقرة: 264]" م: (2/ 368)، وقال عمن "كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها هل هذا المتناول حلال أم لا؛ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع، وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة المسمومة. وفيه: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم. وقال: (ارفعوا أيديكم فإنهاأخبرتني أنها مسمومة) -متفق عليه-" م: (2/ 269).
ومعلوم ما في الأصل بهذا المعنى من ظنية تخالف قطعية (الأصل) بمعناه الكلي. ولذلك وجدناه يصفه أحيانًا (بالمعين) للدلالة على ظنيته وجزئيته، في إطار (الكلي). قال عن الضروريات الخمس: "وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا تنحصر في باب واحد (...) لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد" م: (1/ 38).
ب -6- الأصل: هو الركن الأول من أركان القياس فهو (المقيس عليه): قال: "الاجتهاد القياسي غير محتاج غليه إلى مقتضيات الألفاظ؛ إلا فيما يتعلق بالمقيس عليه وهو: الأصل" م: (4/ 163، 164). وقال عن إلحاق السنة تحريم الذهب بالذهب، وبيع النساء؛ بتحريم الرقباء الوارد في القرآن: "فمثل هذا جار مجرى الأصل، والفرع في القياس" م: (4/ 42) وقال بعد عد بعض الحِكم المفهومة من أمور تعبدية: "وهذا المقدار لا يقتضي بصحة القياس على الأصل فيها" م: (2/ 308). ن.أيضًا: م: (2/ 114). والأصل بهذا المعنى لم يرد كذلك إلا مفردًا، وهو أيضًا كسابقه لا يكون قطعيًّا عن اللزوم.
ب -7- الأصل: هو المعنى الدلالة المقصود أصالة: وهو المقابل للمعنى التبعي، وليس هذا هو المذكور في مصطلح (الأصول) السابق بمعنى (المقاصد الأصلية)؛ لأن ذلك يستعمل في دائرة المصالح والمفاسد التشريعية، أما هذا فهو داخل ضمن (الدلالات) اللغوية، وإن كان كل ذلك داخل ضمن (المقاصد) لكن بمعنيين مختلفين -ن. مصطلحات أصولية (قصد)-. قال أبو غسحاق: "ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين: من جهة دلالته على المعنى الأصلي، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصل" م: (2/ 95)، ولذا فلا يجوز أن يستنبط من الثانية خصوص حكم على الاستقلالية التامة؛ لأنه "لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعًا دون الأولى؛ لكانت هي الأولى. إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودًا بحق الأصول، فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى؛ لا من الثانية" م: (2/ 100)، وقال في السياق نفسه: "لكن يبقى فيها نظر آخر، ربما إخال أن لها دلالة على معانٍ زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية، (...) كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجئ منا لغائط، وكما قال في نحوه: (كَانَا يَأْكُلَانِ الْطَّعَامَ) [المائدة: 75] فاستقر ذلك أدبًا لنا، استنبطناه من هذه المواضع، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع، لا بالأصل" م: (2/ 103- 105)، فواضح أن استعمال (الأصل) في هذه السياقات إنما هو بمعنى (المقصد الدلالي الأصلي) كما ذكرنا.
ب -8- الأصل: هو حكم الشئ في وضعه الأول: أي قبل حدوث الطوارئ من أسباب، وشروط، وموانع، ونحوها؛ مما يقتضي حكمًا آخر غير الحكم الأول. وهو معنى قوله: "الأصل في الأبضاع المنع إلا بأسباب مشروعة. والحيوانات الأصل في أكلها المنع، حتى تحصل الذكاة المشورعة" م: (1/ 258)، وقوله: "الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع" م: (2/ 40)، وقال عن العاديات: "الأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه" م: (1/ 285).
ب -9- الأصل: هو المسألة الفقهية: قال إذا كان "الحظ المطلوب بالعبادات (...) يرجع إلى إصلاح الهيأة، وحسن الظن عند الناس، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله (...) فإن كان هذا القصد متبوعًا فلا إشكال في أنه رياء (...) وإن كان تابعًا فهو محل نظر، واجتهاد، واختلف العلماء في هذا الأصل" م: (2/ 217). وسيأتي ما يعضد هذا النص بصورة ما، وذلك عند دراسة ضميمة (أصل المذهب أو الأصل المذهبي) حيث يكون الأصل بمعنى رأي المذهب في المسألة الفقهية.
ب -10- الأصل والأصول: هي الذوات، أو الأشياء المعقود عليها، وهي الموضوعة في مقابلة (المنافع) -ورغم أن هذا الاستعمال فقهي محض إلا أن مع ذلك أوردناه لأهميته من ناحية، ولتمييزه من ناحية أخرى؛ تنبيهًا عليه؛ حتى لا تختلط المعاني على قارئ في التراث الأصولي للشاطبي-: أي إن تسميتها (أصولًا) ههنا هو بمعنى تجريدها من (منافعها) عند النظر إليها في العقد، بيعًا أو شراء، أو نحوهما، كالنظر إلى الشجرة دون اعتبار غلتها، أو الدار دون اعتبار فائدتها، أو الحيوان دون اعتبار ما ينتج؛ إذ كل هذا الملغى من الاعتبار إنما هو (منافع). وإنما القصد ههنا في العقد اعتبار (الأصول) فقط، أي الذوات المعقود عليها بالقصد الأول قال: "العقد على الأصول مع منافعها وغلاتها، والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها، فإن كل واحد منهما مما يقصد في نفسه، فللإنسان أن يمتلك الرقاب ويتبعها منافعها، وله أيضًا أن يمتلك أنفس المنافع خاصة، وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المناع" م: (3/ 164). والمنافع "إذا كانت معدومة امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة، ومن كل طريق؛ إذ لا يدرى مقدارها، ولا صفتها، ولا غير ذلك، بل لا يدرى هل توجد من أصل أم لا؟ " م: (3/ 164، 165) ن. أيضًا: م: (3/ 168، 169) وقال: "لا بد أن تكون التبعية إن ظهرت في الأصل جزئية لا كلية، وكذلك نقول: إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها الأصول، من حيث إن المنافع لا تستوفى إلى من الأصول" م: (3/ 172، 173).
هذه هي أهم الاستعمالات لمصطلح (الأصل) و(الأصول) لدى الشاطبي_، إلا أن أهمها بإطلاق هو المعنى الأول، الذي هو عماد المادة الأصولية، في كل كتاباته المدروسة، ولذلك فإن الدراسة المصطلحية (للأصول) إنما تقوم -فيما بقي- على هذا المعنى خاصة.
_هامش_
قد يرد المصطلح مستعملًا بمعان بعيدة عن المجالين الأصولي والفقهي وهي كما يلي:
أ- الأصل هو الوضع اللغوي الأول: أي (الحقيقة اللغوية)، المقابلة للحقيقة العرفية، بتعبير الشاطبي. قال: "إذا اعتبرنا الاستعمال العربي فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى، فإن بقيت فلا تخصيص، وإن لم تبق دلالته؛ فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصول. وكأنه وضع ثان حقيقة لا مجازي. وربما أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ (الحقيقة اللغوية) إذا أرادوا (أصل الوضع)، ولفظ (الحقيقة العرفية) إذا أرادوا (الوضع الاستعمالي) ". م: (3/ 274).
ب- الأصل والأصول: هم الرؤساء المؤسسون لمذهب ما. قال عن حمدان بن قرمط بعد ما لقي أحد دعاة الباطنية: "واستجاب له في جميع ما ادعاه، ثم انتدب للدعوة، وصار أصلًا من أصول هذه البدعة، فسمي أتباعه القرامطة" ع: (1/ 116).
ج- الأصل والأصول: هي المبادئ المذهبية بإطلاق. أي ولو كانت فاسدة، كما في "رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين" ع: (2/ 511)، ومثله: "ما ذكر من نحل الهند في تعذيبها أنفسها، بأنواع العذاب الشنيع (...) مبني على أصول لهم فاسدة اعتقدوها، وبنوا عليها أعمالهم" ع: (2/ 299).

انظر: كتاب (المصطلح الأصولي عند الشاطبي) للدكتور/ فريد الأنصاري، الصفحات (241- 276).

والله أعلم.​
 
إنضم
4 أغسطس 2018
المشاركات
1
التخصص
الفقه واصوله
المدينة
الكرك
المذهب الفقهي
لا يوجد
رد: الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته ( مقتبس)

جزاك الله خيرا على هذا الموضوع لي رجاء كيف يمكن الوصول الى المراجع ومعرفتها في هذا البحث حيث اني كلما ضغطت على رقم المرجع نقلني الى صفحة اخرى مع الشكر
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته ( مقتبس)

جزاك الله خيرا وبارك فيك
لكن هذا الكلام النظري عن منهج الشاطبي في أصوله يخالف الواقع العملي للإمام الشاطبي نفسه.
فقد نص الشاطبي رحمه الله في موافقاته على أن الفتوى إنما تكون على مشهور المذهب دون ما هو شاذ فيه، فهذا إذا دعوى إلى التقليد لا الاستنباط اعتماداً على القواعد الأصولية التي سطرها في كتابه.
ثم هو في فتاويه التزم ذلك ولم يفتي قط اعتماداً على الاستنباط من القواعد الأصولية.
فإذا الجديد في الموافقات هو منهج الطرح فقط.
ولم يكن ذلك من الشاطبي وغيره من الأصوليين زهداً في الاجتهاد، بل منعاً وحسماً للتفلت الفقهي الذي يسمى اليوم اجتهاداً كذباً وزورا.
فمن أراد الاجتهاد .. لا يقفز إليه، بل ينظر أولاً في فقه إمام مجتهد وأصوله حتى إذا تمكن فيه - بأن يُشهد له بذلك، لاأن يشهد هو لنفسه بذلك - اعاد النظر في مساءل إمامه ومدى تطابقها مع القواعد الأصولية التي تعلمها واعتقد صحتها مستعيناً بكلام الائمة، فإن وجد مخالفة اتهم نفسه أولا فإن كان سبقه إلى ما ذكر أئمة معتبرين وكبر في نفسه مخالفة ما وصل إليه مع موافقة من سبق، عمل به . وبذا يكون مستفيدا مما تعلمه من علم الأصول ، ثم لا يزال مع الزمان يخلف في أمور نظرا واتباعا، فما دام يبذل وسعه ويُشهد له بذلك، فقد أدى ما عليه.
والله أعلم
ذكرتُ ما ذكرتُ لما قدمت أنت من كلام في الأصول والاجتهاد.
 
أعلى