أحمد بن فخري الرفاعي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 12 يناير 2008
- المشاركات
- 1,432
- الكنية
- أبو عبد الله
- التخصص
- باحث اسلامي
- المدينة
- عمان
- المذهب الفقهي
- شافعي
أعجبني هذا البحث للدكتور لمين الناجي فأحببت أن أضعه بين يديك أخي القارىء الكريم عسى أن لا تنساني من دعوة صالحة :
العوائد في فقه الشافعي قضية تأثر الشافعي بالبيئة المصرية
إنّ المهتم بالتراث الإسلامي يلحظ أن هناك أحكاما كثيرة متعلقة بتاريخ التشريع قد اتخذها جمهرة من الباحثين مسلمة بنوا عليها كثيرا من الآراء ، مع أنها لا ترتكز على أي سند علمي.
من هذه الأحكام القول بأنّ السبب الرئيس في تغير بعض آراء الشافعي عندما قدم مصر هو اختلاف البيئة المصرية عن البيئة العراقية والحجازية!
ومن الذين رأيتهم روجوا لهذه المقالة الأستاذان أحمد أمين وعبد الرحمن الشرقاوي. غير أن الثاني أفرط في القول حتى ادعى أن الشافعي انبهر بما شاهده في مصر من مظاهر الحضارة والتقدم، والتزاوج الفكري بين الإسلام ومعطيات الحضارات التي تشكل الوجدان المصري :
الحضارات القبطية والمصرية القديمة واليونانية، وهو ما لم يعرفه من قبل (!!).
وذكر الأستاذ الشرقاوي بعض المسائل التي تأثر فيها الشافعي تأثرا مباشرا بالبيئة المصرية.. فقد كان يرى، كالإمام مالك، أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع الماء..ولكنه في أرض النيل، تابع الإمام الليث في أن صاحب الأرض التي بها بئر ليس له إلا حق السبق في الاستعمال، أي الامتياز فقط، وللغير بعد ذلك حق الرش وسقي الأرض بلا مقابل.
وقال الأستاذ الشرقاوي أيضا: إن الشافعي قد استطاع وهو بمصر أن يتحرر في آرائه.. فألف كتابا عن قتال أهل البغي، لعله لم يكن يستطيع أن يصنعه في غير مصر(!). قال: وقتال أهل البغي قائم على تفسير قوله : (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).
قال: وأهل البغي، عند الشافعي، هم: معاوية وجنوده الذين حاربوا عليا.
وهناك سبب آخر يراه بعض الباحثين على رأسهم الأستاذان أحمد أمين وعبد الرحمن الشرقاوي أيضا مُؤثِّرا في تغير بعض آراء الشافعي: إنه الليث بن سعد المصري وفقهه.
وقبل أن أشرع في بيان أن هذه المقالة المشهورة على الألسنة (أعني تأثير البيئة المصرية على فقه الشافعي) لا أساس لها من الصحة، أرى من المفيد أن أقف مع الأستاذ الشرقاوي في بعض ما قاله:
أما فيما يتعلق بمسألة حق صاحب الأرض التي بها بئر.. فلا أدري من أين أتى الأستاذ الشرقاوي بهذه المسألة على هذه الصيغة الغريبة والتعليل العجيب؟ والمسألة عند الفقهاء –ومنهم الشافعي- مذكورة تحت مبحث فقهي كبير هو كتاب إحياء الموات. وهذا الكتاب مبني على حديث "من أحيى أرضا ميتة فهي له".
وتتفرع مسائل الكتاب حتى تصل إلى حفر البئر في الأرض المملوكة بالإحياء وبغير الإحياء..
جاء في فتح الباري في سياق الكلام على حديث "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ" قول ابن حجر: "..وهو (أي الحديث) محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة، وكذلك في الموات إذا كان بقصد التملك، والصحيح عند الشافعية، ونص عليه في القديم وحرملة، أن الحافر يملك ماءها، وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك ماءها، بل يكون أحق به إلى أن يرتحل؛ وفي الصورتين: يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته، والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته. هذا هو الصحيح عند الشافعية، و"رخص" المالكية هذا الحكم بالموات، وقالوا في البئر التي في الملك: لا يجب عليه بذل فضلها.
وأما الماء المحرز في الإناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح".
والمسألة تعرض لها أيضا النووي في كتابه "منهاج الطالبين" في "كتاب إحياء الموات" وتناولها محمد الخطيب الشربيني، شارح "منهاج الطالبين" بشيء من التوسع.. وعلل وجوب بذل فضل الماء بقوله : "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"، ثم شرح الحديث فقال: "أي من حيث إن الماشية إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع من الماء فقد منع الكلأ، والمراد بالماشية هنا: الحيوانات المحترمة".
وهذا الحديث هو الذي جعله الشافعي أصلا في الكلام عن هذه المسألة، قال: "أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة".. ففي هذا الحديث ما دل على أنه ليس لأحد أن يمنع فضل مائه، وإنما يمنع فضل رحمة الله بمعصية الله، فلما كان منع فضل الماء معصية لم يكن لأحد منع فضل الماء، وفي هذا الحديث دلالة على أن مالك الماء أولى أن يشرب به ويسقي، وأنه إنما يعطي فضله عما يحتاج إليه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.." .
فأصل رأي الشافعي واضح إذن، ذكره الشافعي بنفسه وأقره أتباعه من بعده، وهو حديث "من منع فضول الماء…" أو "لا تمنعوا فضل
الماء". وليس للشافعي رأي قديم وافق فيه مالكا.. فهذا هو رأي الشافعي عندما كان بمصر وبالعراق، بل وعندما كان بالحجاز، لأن الشافعي أخذ عن مالك الموطأ ومنه هذا الحديث قبل أن يدخل العراق، فليت شعري أين التأثر بحضارة مصر، وفقه الليث؟!
ثم إن رأي المالكية لا يخالف لا عادات مصر ولا عوائد غيرها من البلاد، لأنهم استدركوا على رأيهم في حالة الضرورة والحاجة برأي آخر، هو المقصود بالنهي عن بيع الماء، فرأي مالك وأصحابه، كما حكاه ابن عبد البر: "أن كل من حفر في أرضه أو داره بئرا فله بيعها وبيع مائها كله،
وله منع المارة من مائها إلا بثمن، إلا قوم لا ثمن معهم، وإن تركوا إلى أن يردوا ماء غيره هلكوا، فإنهم لا يمنعون، ولهم جهاده إن منعهم ذلك..".
وكذلك البئر تنهار للرجل وله عليها زرع أو نحوه من النبات الذي يهلك بعدم الماء.. وإلى جنبه بئر لجاره يمكن أن يسقي منها زرعه: يجبر -عند مالك وأصحابه- صاحب البئر على أن يسقي بفضل مائه زرع جاره الذي يخاف هلاكه، "إذا لم يكن على صاحب الماء فيه ضرر بين. وعلى هذا المعنى تأول مالك قوله: "لا يمنع نقع بئر" يعني بئر الزرع".
ثم قال ابن عبد البر: "واختلف أصحابه هل يكون ذلك بثمن، أو بغير ثمن، فقال بعضهم: يجبر ويعطى الثمن، وقال بعضهم: يجبر ولا ثمن له.
وجعلوه كالشفاه من الآدميين والمواشي. فتدبر ما أوردته عن الشافعي ومالك، تقف على المعنى الذي اختلفا فيه من ذلك".
وأما قضية تأليف كتاب قتال أهل البغي، وأن الشافعي ألفه عندما تحرر في آرائه بعد قدومه مصر، وهي أيضا قضية متعلقة بتأثير البيئة المصرية على الشافعي، فإن ذلك كله لا سند له سوى الظن والتخمين، لأنه لا يوجد أي مبرر يمنع الشافعي من أن يضع مثل هذا الكتاب في غير مصر، ما دام أن أهل البغي عنده –برأي الأستاذ الشرقاوي ومن وافقه- معاوية وجنوده، لأن الدولة الأموية لم تعد موجودة في عصر الشافعي حتى يهابها، فلا يؤلف مثل هذا الكتاب؛ فهي قد انهارت وذهب ريحها بالشرق قبل تاريخ مولد الشافعي، والدولة العباسية الجديدة الموجودة بالعراق هي التي
أزاحتها عن مركز الخلافة.
وكتاب قتال أهل البغي موجود في الأم، وليس هو كما قال الأستاذ، وإنما تكلم الشافعي فيه عن قتال أهل البغي عامة، وذكر ما يتعلق بهم من أحكام. نعم، ذكر في الكتاب معاوية، ويوم صفين، ويوم الجمل.. لكنه ذكر أيضا: حروب أهل الردة، والخوارج، وبعض ما يتعلق بالحرابة.. وما ذكر هذا وذاك إلا ليستنبط الحكم الفقهي العام، لا أن يعرض بهذه الفئة أو تلك.
على أن أهم ما يستفاد من هذا الكتاب أن الشافعي اعتمد في استنباط أكثر الأحكام المتعلقة بقتال أهل البغي على تصرفات الصحابة: أبي بكر وعمر وعلي.. وأن الخوارج عنده مسلمون، وأن من رأوا رأيهم وتجنبوا جماعات الناس وكفروهم لم يحل بذلك قتالهم، لأنهم على حرمة الإيمان، لم يصيروا إلى الحال التي أمر الله تعالى بقتالهم فيها..
وأما قضية تأثر الشافعي بالليث بن سعد، فقيه مصر وإمامها، وهي أيضا قضية متعلقة بتأثير بيئة مصر على الشافعي وفقهه فإنه ليس لمن قال ذلك من مستند سوى التوهم والاعتقاد بأن الواقع هو الذي يصنع الأفكار، ويوجه الاجتهاد.
إن رحلة الشافعي إلى مصر وتفاصيلها محفوظة عند أتباعه وشيعته، يقول ابن أبي حاتم: حدثنا بحر بن نصر المصري الخولاني قال: قدم الشافعي من الحجاز فبقي بمصر أربع سنين، ووضع هذه الكتب في أربع سنين، ثم مات. وكان أقدم معه من الحجاز كتب ابن عيينة، وخرج إلى يحيى بن حسان: فكتب عنه، وأخذ كتبا من أشهب بن عبد العزيز، فيها آثار وكلام من كلام أشهب. وكان يضع الكتب بين يديه، ويصنف الكتب.
فإذا ارتفع له كتاب، جاءه صديق له، يقال له: ابن هرم، فيكتب، ويقرأ عليه البويطي –وجميع من يحضر يسمع- في كتاب ابن هرم، ثم ينسخونه بعد، وكان الربيع على حوائج الشافعي، فربما غاب في حاجة فيعلم له، فإذا رجع قرأ الربيع عليه ما فاته.
وقال عمرو بن خالد الحراني: "جاءني الشافعي، فأخذ مني كتاب موسى بن أعين، وهو كتاب اختلاف الأوزاعي وأبي حنيفة..".
ما نقلته لك يحكي نشاط الشافعي العلمي، بعد قدومه مصر، ويحصي الكتب التي استفاد منها هناك، وليس في النص ذكر لكتب الليث بن سعد. لكن فيه ذكر لكتب يحيى بن حسان بن حيان التنيسي البكري وكان صاحب الليث. ومروياته عند الشافعي في مسنده عديدة بأسانيد مختلفة، يروي الشافعي عنه عن ابن علية، وعنه عن الليث بن سعد، وعنه عن محمد بن أبان.. أو يروي عنه عن حماد بن زيد.
وفي الرسالة يقول الشافعي: أخبرنا الثقة –وهو يحيى بن حسان- عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي.
ومن الصعب الجزم بأن الأحاديث التي رواها الشافعي عن يحيى قد أخذها كلها عنه بمصر، لأن الفخر الرازي يروي عن كتاب أبيه (وجادة) أن الشافعي أخذ عن يحيى بن حسان في اليمن أيضا.
ولا يبعد أن يكون الشافعي قد أخذ بعض المسائل من فقه الليث بن سعد.. فقد كان الشافعي يرفع من شأن الليث وفقهه، واشتهر عنه قوله فيه: " الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به"، يعني أنهم لم يحفظوا فقهه، ولم ينشروه، وقال فيه أيضا: "الليث أتبع للأثر من مالك".
وكان يتأسف لعدم لقياه والأخذ عنه، قال: "ما اشتد علي فوت أحد من العلماء مثل فوت ابن أبي ذئب، والليث بن سعد.
ومن المسائل التي صادفتها، ينتقدها الشافعي على الليث ما جاء في حكم العقيقة، قال الشافعي: "أفرط فيها رجلان، قال أحدهما: هي بدعة، والآخر قال: واجبة". وأشار بذلك إلى أبي حنيفة والليث بن سعد".
أما مروياته في مسند الشافعي فهي قليلة تبلغ العشرة أو تزيد عليها بقليل، أو تقل: فقد رأيته يروي عنه في المسند ثماني مرات، ستة: صرح فيها بالواسطة، وهو يحيى بن حسان ، ومرة سابعة قال: أخبرنا الثقة عن الليث بن سعد، والمرة الثامنة عن الليث من غير طريق يحيى، بل يروي عنه بواسطة إبراهيم بن محمد. وهذا مدني، فالرواية الثامنة -إذن- وقعت للشافعي قبل دخوله مصر، قطعا، فإبراهيم مات قبل دخول الشافعي مصر بأعوام.
ثم إن من هذه الأحاديث التي رواها عن الليث ما هو معروف عند الشافعي بسند آخر. والشافعية في كتبهم الفقهية التي تعنى بحكاية الخلاف لا يحتفلون بآراء الليث كثيرا.
والأم اليوم بين أيدينا نقرأ فيه آراء مالك وأحاديث موطئه، ونقرأ فيه قسطا وافرا من كتب محمد بن الحسن وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة، ونقرأ فيه كتاب سير الأوزاعي، وليس فيه ذكر لليث ولا لفقهه.
فبان من كل ما ذكر أن علاقة فقه الشافعي بفقه إمام مصر الليث بن سعد ضعيفة جدا، ولم يكن لاجتهاداته "المتأثرة بالبيئة المصرية" تأثير على فقه الشافعي الجديد..
إن السبب في رجوع الشافعي عن بعض آرائه عندما قدم مصر لا يمكن رده إلى البيئة المصرية:
أولا: لأن الشافعي لم يكن قاضيا، محتكا بواقع الناس ومشاكلهم، حتى يضطر إلى الرجوع عن رأي يراه من الناحية النظرية صوابا. فالفقيه غير المكلف بمهمة قضائية: كالمفكر والفيلسوف، سواء بسواء، عادته أن يبدي رأيه في أفعال المكلفين بالتحريم أو الوجوب أو الندب أو الكراهة أو الجواز، تبعا لما يعتقده، ولا يهمه إذا ناسب ضرورات الواقع أو لم يناسبها.
ونحن قد رأينا في نص بحر بن نصر الخولاني ما يفيد أن الشافعي كان يقضي بياض نهاره وجزءا من الليل في التأليف والتدريس ومناظرة أصحابه ومناقشة ما كتبه غيره..
ثانيا: أن الشافعي لا يقول بالعرف أصلا، فالشرع عنده إما نص أو حمل على النص. ومعنى الحمل على النص أي القياس على أصل معين. ومن طالع كتاب الرسالة يجد الشافعي يكرر هذا القول في أكثر من موضع.
وهو الذي حمل لواء المعارضة للمنهج الذي كان سائدا قبله، أقصد اعتبار عمل أهل البلد أصلا من أصول الفتوى.
ذلك أن التقليد السائد قبل الشافعي في منهج الاستنباط: اعتبار الفقيه ما عليه الناس، وما عليه العلماء قبله، حتى إذا جاء حديث لا يعرفه أهل بلده، ويخالف ما عليه الناس يرده ولا يأخذ به.
قيل لإبراهيم النخعي، أحد علماء الكوفة: يا أبا عمران، أما بلغك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحدثنا؟ قال: "بلى، ولكن أقول: قال عمر، وقال عبد الله، وقال علقمة، وقال الأسود، أجد ذلك أهون علي".
فإبراهيم النخعي يحيل على علماء بلده: عبد الله بن مسعود، وهو مؤسس المدرسة العلمية بالكوفة، وعلقمة والأسود، وهما من تلاميذ ابن مسعود.
وما ذكر عمر إلا لأن ابن مسعود يقتفي أثره في الاجتهاد.
وابن أبي ليلى وهو من فقهاء الكوفة البارزين في وقته أفتى في مسألة في الإرث، وقال في آخرها: "..لا [ نرفع ] شيئا من هذا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن إلى فقهائنا دون ذلك".
وعمل أهل المدينة الذي كان يأخذ به مالك إن هو إلا نموذج لما كان سائدا في غير المدينة: العراق والشام.
جاء الشافعي، فاتبع نسقا فقهيا وأصوليا مخالفا للنسق الذي كان متبعا قبله، فأعلن في الرسالة –وطبق ذلك في الفروع-: أن الشريعة نص أو حمل على النص، وما سوى ذلك من مراعاة عوائد الناس (عمل أهل البلد)، والتوسع في الاستحسان والمصالح المرسلة.. إن هو إلا شرع شرعه الناس. قال الشافعي: "ومن ينازع ممن بعد رسول الله: رد الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصاً فيهما ولا في واحد منهما، ردوه قياسا على أحدهما".
وقال لمناظره: "إنه لبين عند من يثبت الرواية منكم: أنه لا يكون الاجتهاد أبدا إلا على طلب عين قائمة مغيبة بدلالة..".
والجزء السابع من "الأم" مخصص بالأساس للرد على الإمام مالك وعلى أهل العراق. أي أنه مخصص للمواضيع التي سعى الشافعي من خلالها إلى تقويض النسق الفقهي والأصولي السائد.
وهكذا نجد فيه كتاب الرد على محمد بن الحسن، وكتاب إبطال الاستحسان، وكتاب اختلاف مالك والشافعي، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وكتاب سير الأوزاعي..
ثالثا : أن الشافعي لا يقول بأصل سد الذرائع، وهو أصل مرتبط بمراعاة مقاصد الناس، واختلاف أحوالهم وأزمانهم وأمكنتهم. ولذلك فهو يبيح بيع العينة مثلا، ولا يحرم بيع العنب لمن يعصره خمرا، ولا السلاح لمن يقتل به، لانعقاد البيع في كل هذه الصور صحيحا.. إنه ظاهري في العقود.
من أقوال الشافعي في هذا الصدد: أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحا في الظاهر لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر...
ويبين المنهج الذي يجب أن يتبعه القاضي فيقول: "..أحكام الله تعالى ورسوله صلى اله عليه وسلم تدل على ما وصفت من أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بالظن، وإن كانت له عليه دلائل قريبة، فلا يحكم إلا من حيث أمره الله بالبينة تقوم على المدعى عليه، أو إقرار منه بالأمر البين، وكما حكم الله أن ما أظهر فله حكمه، كذلك حكم أن ما أظهر فعليه حكمه، لأنه أباح الدم بالكفر وإن كان قولا، فلا يجوز في شيء من الأحكام بين العباد أن يحكم فيه إلا بالظاهر لا بالدلائل".
رابعا: أن الشافعية –وهم أعرف الناس بفقه إمامهم- لم يذكروا في كتبهم أن الشافعي راعى عرف أهل مصر فغير بعض آرائه. والنووي في مقدمته الطويلة التي قدم بها شرحه على "المهذب" للشيرازي المسمى ب "المجموع" تعرض للمسائل التي فيها قديم وجديد ولم يشر إلى هذا الأمر..
خامسا- أن الوسيلة العملية للتحقق من هذه المقالة هو دراسة المسائل التي فيها قديم وجديد، إذ الأقوال القديمة: ما قالها قبل دخوله مصر ثم رجع عنها بمصر، والجديدة: ما قالها بعد الدخول..
ولقد جمعت هذه المسائل في دراسة سابقة، وأحصيتها، فكان الإحصاء كالآتي:
- كتاب الطهارة : تسع وعشرون (29) مسألة.
- كتاب الصلاة: خمس وخمسون (55) مسألة.
- كتاب الزكاة: ثلاثون (30) مسألة.
- كتاب الصيام والاعتكاف: اثنتا عشرة (12) مسألة.
- كتاب الحج: إحدى وثلاثون (31) مسألة.
- كتاب البيوع وما يشاكلها من العقود: سبع وعشرون (27) مسألة.
- كتاب النكاح وما يتعلق به : إحدى عشرة (11) مسألة.
- كتاب الطلاق وما يتعلق به: عشرون (20) مسألة.
- كتاب الجراح والقصاص وباقي الأبواب الفقهية: ثماني عشرة (18) مسألة.
ثم درست هذه المسائل واحدة واحدة، فما وجدت في أي منها أن السبب في انتقال الشافعي من قول قديم إلى آخر جديد هو ما وجد عليه أهل مصر من عادة كذا أو عرف كذا. ولا وجدت الشافعية ذكروا ذلك.
يبقى السؤال الكبير: لم رجع الشافعي عن كثير من آرائه عندما قدم مصر؟
إن السبب هو أن الشافعي دائم الفحص في الأدلة ينقدها ويمحصها، ودائم المناظرة مع تلامذته ومع غيرهم، ولذلك فهو يقول القول ثم يرجع عنه،
وقد يرجع إلى القول الأول مرة أخرى إذا ما عن له مبرر للرجوع، وقد يقول قولين أو أقوالا، ولا يتبين له وجه الترجيح فيترك المسألة هكذا،
كأن يقول: في المسألة قولان أو ثلاثة، ولا يرجح. وقد شاع عنه قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وروى ابن أبي حاتم الرازي بسنده إلى عمرو بن سواد السرحي أنه قال: "قال لي الشافعي: مالك لا تكتب كتبي؟ فسكت، فقال له رجل: إنه يزعم أنك كتبت، ثم غيرت، ثم كتبت، ثم غيرت. فقال الشافعي: الآن حمي الوطيس". والوطيس: التنور. ومعنى حمي الوطيس أي تعين شرح حقيقة الأمر، وذلك أن المجتهد إذا ما صح له الدليل وجب عليه العمل به، فإذا تبين له بعد ذلك دليل أقوى منه، ويدل على خلاف حكمه، أخذ به، وعدل عن الأول.. فالتغيير لم ينشأ عن شك واضطراب، ولكن عن بحث واجتهاد.
و"حمي الوطيس" اقتباس مثل، قاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
وبرجوعك إلى الأم، تجد الأقوال المرجوع عنها في الأم أو المقيلة دون ترجيح كثيرة، وهي ظاهرة في كتاب الأم لا تجدها مثلا في موطأ الإمام مالك ولا في كتب محمد بن الحسن الشيباني، ولا في كتاب أبي يوسف المسمى "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى".
ويكفي للتدليل على ذلك أن تقرأ في الأم قول الربيع: "قد رجع الشافعي عن خيار الرؤية، وقال: لا يجوز خيار الرؤية"، وقوله في مكان آخر:
"وقال الشافعي: إنه إذا انصرف من رعاف أو غيره قبل أن يتم صلاته أنه يبتدئ الصلاة. (قال الربيع): رجع الشافعي عن هذه المسألة، وقال: إذا حول وجهه عن تمام الصلاة عمدا أعاد الصلاة، إذا خرج من رعاف وغيره..".
وفي مكان آخر، تقرأ قول الربيع: "قال الشافعي: وإن أعطى رجل رجلا شيئا يشتري له شيئا بعينه فاشترى له ذلك الشيء وغيره بما أعطاه، أو أمره أن يشتري له شاة فاشترى شاتين أو عبدا فاشترى عبدين، ففيها قولان: أحدهما أن صاحب المال بالخيار في أخذ ما أمر به وما ازداد له بغير أمره، أو أخذ ما أمره به بحصته من الثمن والرجوع على المشتري بما يبقى من الثمن، وتكون الزيادة التي اشترى: للمشتري، وكذلك إن اشترى بذلك الشيء وباع فالخيار في ذلك إلى رب المال، لأنه بماله ملك ذلك كله، وبماله باع وفي ماله كان الفضل. والقول الآخر (أي الثاني):
أنه قد رضي أن يشتري له شيئا بدينار، فاشتراه وازداد معه شيئا فهو له، فإن شاء أمسكه، وإن شاء وهبه، لأن من رضي شيئا بدينار فلم يتعد من زاده معه غيره، لأنه قد جاءه بالذي رضي وزيادة شيء لا مؤنة عليه في ماله. قال الربيع: وهو معنى قول الشافعي".
ومن النوازل التي حكى فيها الشافعي قولين دون ترجيح: ما جاء في كتاب قتال أهل البغي.. للشافعي: "وإذا قتل أهل العدل أهل البغي في
المعركة، ففيهم قولان: أحدهما: أن يدفنوا بكلومهم ودمائهم، والثياب التي قتلوا فيها، إن شاؤوا، لأنهم شهداء، ولا يصلى عليهم، ويصنع بهم كما يصنع بمن قتله المشركون، لأنهم مقتولون في المعركة وشهداء، والقول الثاني: أن يصلى عليهم، لأن أصل الحكم في المسلمين الصلاة على الموتى، إلا حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما تركها فيمن قتله المشركون في المعركة".
وسبب التردد وعدم القطع بقول في هذه المسألة هو: هل ترك رسول الله الصلاة على من قتله المشركون معلل فيلحق به من قتله أهل البغي، أم غير معلل فلا يلحق به.
وفي مختصر المزني، في سياق الحديث عن الأمة تعتق وزوجها عبد، وأن لا خيار لها في الانفصال عنه إذا وطئها بعد العتق، يقول الشافعي: " فإن أصابها فادعت الجهالة، ففيها قولان: أحدهما أن لا خيار لها، والآخر: لها الخيار. وهذا أحب إلينا". قال المزني معقبا: "وقد قطع بأن لها الخيار في كتابين. ولا معنى فيها لقولين".
هذه الأمثلة –وغيرها في كتاب الأم كثير- توضح بجلاء هذه الظاهرة في فقه الشافعي، وهي كثرة الأقوال في المسألة الواحدة. وقد عد خصوم الشافعي ذلك دليلا على ضعف أصوله، وأنها غير وافية بجميع ما يقع من نوازل.. فقد ذكر الجويني مقالتهم في كتابه "مغيث الخلق في ترجيح القول الحق" ورد عليها. وكذلك فعل الفخر الرازي في كتابه "مناقب الإمام الشافعي" وفيه: "قالوا (أي لخصوم) إنه ما كان كاملا في الاجتهاد، لأنه توقف في أكثر مسائل الفقه، وتساوت عنده الأدلة. وذلك يدل على ضعف الرأي وقلة الفقه".
في إطار هذه الظاهرة نضع الآراء التي رجع عنها الشافعي عندما قدم مصر، فهو لو بقي في العراق مثلا، لكان من الممكن بل من المرجح جدا أن يغير الكثير من آرائه إذا عن له ما يقتضي ذلك.
يؤكد هذا التحليل أنه قد يكون في المسألة الواحدة قول قديم ويقابله قولان أو أقوال جديدة. وأمثلة هذا النوع في كتب الشافعية كثيرة، منها أن المحرم إذا اشترط في إحرامه أنه إذا مرض تحلل، ففي أحد طريقي المسألة قولان: القديم: يصح الاشتراط، وفي الجديد قولان: أصحهما:
الصحة، والثاني: المنع.
وفي أحيان قليلة تجد في مصنفات الشافعية قولا قديما منصوصا عليه في الجديد، ويقابله قول آخر في الجديد أيضا، ولا ترجيح. مثال ذلك أن الحلال أو المحرم إذا حلق شعره محرم بغير إذنه، وهو نائم، أو مكره، أو مجنون، أو مغمى عليه.. ففي أحد الطريقين أن في المسألة قولين:
أحدهما أن الفدية على الحالق. نص عليه الشافعي في القديم والإملاء. والثاني تجب على المحلوق، ثم يرجع بها على الحالق. نص عليه في البويطي ومختصر الحج الأوسط.
والمقصود: أن ما تكلمنا عنه في هذه العجالة هو خاصية في فقه الشافعي، معروفة عند من خبره. ولقد تعرض لهذه الخاصية الشيخ أبو زهرة رحمه الله، لكنه لم يعتن بربط ظاهرة القديم والجديد بهذه الخاصية، قال رحمه الله :"ننبه إلى أمر ثابت، وهو أن الشافعي قد روى عنه أصحابه قولين أو ثلاثا في المسألة الواحدة، وقد يثبت رجوعه عن أحدهما، وربما لا يثبت، فيبقى القولان ثابتين في المذهب، منسوبين إليه، وقد رأينا في الأم، وهو فقه الشافعي في آخر أدوار اجتهاده كما علمت، وهو الذي استقر عليه، وانتهى إليه، رأينا فيه حكاية لأكثر من قول في مسائل: يبين في الأم أحد القولين، ويعلن الربيع فينبه إلى القول الثاني، وهو قد يذكر في الأم قولين، فينبه الربيع إلى قول ثالث..".
إن الربط بين هذه الخاصية وظاهرة القديم والجديد هو ربط له جانب كبير من الأهمية، إذ يكشف عن زيف هذه المقالة التي أذاعها طائفة من الباحثين، وطفق آخرون يرددونها تقليدا واتباعا كلما احتاجوا إلى التدليل على أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، مع أن هذه الحقيقة –أعني تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان- أشهر وأمكن من أن يتكلف التدليل عليها بهذه المقالة التي تحتاج هي نفسها إلى دليل.
إن القول بأن للزمان والمكان والأشخاص تأثيرا في الإفتاء لا يجحده إلا من ينكر اختلاف الأزمنة والأمكنة، ومقاصد الخلق وحاجاتهم. وجمهور الفقهاء نصوا على ذلك في مصنفاتهم وطبقوه في فتاواهم: فعند الأحناف أنه يجوز للمجتهد في المذهب أن يفتي بخلاف ما أفتى به من سبقه من أئمة المذهب إذا تعلق الأمر بتغير الأزمان.
والأمر عند المالكية أشهر وأمكن من أن يستدل عليه أيضا: فعمل أهل المدينة، والفتوى بما جرى به العمل، والعمل الفاسي.. مظاهر تدل على أن للعرف اعتبارا في الفتوى. وابن القيم –وهو من أشد الناس تمسكا بالآثار- ينوه بهذا الأصل في غير ما موضع من كتبه كإعلام الموقعين عن رب العالمين، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية.
هذا -كما قلت- كله حق. لكن الذي ليس بحق: أن يستدل على ذلك بتغيير الشافعي بعض آرائه عندما أقام بمصر.. والله أعلم.
التعديل الأخير: