العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

عمرو سعيد دبور

:: متابع ::
إنضم
29 مارس 2008
المشاركات
26
التخصص
دراسات إسلامية بالإنجليزية
المدينة
كارولينا الشمالية
المذهب الفقهي
شافعي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الأفاضل،

أولا: أقترح أن يخصص فرع لبحث مسائل الأقليات المسلمة ونوازلها...

ثانيا: أطرح عليكم للمناقشة العلمية موضوع التجنس بجنسية دولة غير مسلمة كأمريكا مثلا، والمرجو من السادة الفقهاء وطلبة العلم إسقاط قواعد الأصول وما يتفرع منها بخصوص هذه المسألة على الواقع، إذ طرحي ليس لمجرد التنظير، بل لحاجة ماسة لاستيفاء هذه المسألة بقدر المستطاع من جميع جوانبها الواقعية، وقد يدعو عدم الإلمام بالجوانب الواقعية لهذه المسألة بعض الإخوة الأفاضل إلى التثبت والتحري قبل الإدلاء بدلوهم ... أعلى الله كعبكم ورفع قدركم .. والسلام عليكم
 
إنضم
14 نوفمبر 2009
المشاركات
350
التخصص
الفقه والأصول والبحث القرآني
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الحنفي
المسألة - قطعا - قد تنولت في مصنفات تتعلق بالاقليات أو مصنفات مستقلة، فهي شهيرة. ولكن إضاءة عامة من جانب الموضوع :

يتسرع البعض بالمنع من ذلك مدرجين التجنس في باب البيعة والولاء للمتجنس، وكأنه يبايعه مبايعة إسلامية شرعية، وأنها لا تصلح لكافر، ولا تصح لغير الحاكم المسلم المعلن إسلامية النظام ودستورية القرآن. والذي يظهر أن التجنس هو التحاق بنسبة الأرض والبلدة، لا أنه مبايعة إسلامي ولائية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرشي من قريش، ينتسب إلى أرض قريش في كفرهم وإسلامهم. وما التجنس بجنسية بلد إلا توثيق رسمي ورقي لأمر قائم بالفعل، وهو إقامة المواطن بالبلد وتفاعله بها وبأهلها، لذا فكل بلد يضع شروطا مقدمة للتجنس، منها مثلا معرفة لغة البلد فيما وقفت عليه في بعض البلاد. فالتجنس في نظري هو توثيق لحاصل، من شاء وثق ومن شاء امتنع ورقيا وواقعيا.

والله تعالى أعلم.
 

منيب العباسي

:: متخصص ::
إنضم
17 يناير 2010
المشاركات
1,204
التخصص
----
المدينة
---
المذهب الفقهي
---
المسألة - قطعا - قد تنولت في مصنفات تتعلق بالاقليات أو مصنفات مستقلة، فهي شهيرة. ولكن إضاءة عامة من جانب الموضوع :


يتسرع البعض بالمنع من ذلك مدرجين التجنس في باب البيعة والولاء للمتجنس، وكأنه يبايعه مبايعة إسلامية شرعية، وأنها لا تصلح لكافر، ولا تصح لغير الحاكم المسلم المعلن إسلامية النظام ودستورية القرآن. والذي يظهر أن التجنس هو التحاق بنسبة الأرض والبلدة، لا أنه مبايعة إسلامي ولائية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرشي من قريش، ينتسب إلى أرض قريش في كفرهم وإسلامهم. وما التجنس بجنسية بلد إلا توثيق رسمي ورقي لأمر قائم بالفعل، وهو إقامة المواطن بالبلد وتفاعله بها وبأهلها، لذا فكل بلد يضع شروطا مقدمة للتجنس، منها مثلا معرفة لغة البلد فيما وقفت عليه في بعض البلاد. فالتجنس في نظري هو توثيق لحاصل، من شاء وثق ومن شاء امتنع ورقيا وواقعيا.


والله تعالى أعلم.

أحسنت..أحسن الله إليك..إلا أن يكون من لازم التجنس أومن شرطه وقوع المسلم تحت بنود تفرض عليه التخلي عن بعض دينه..أو موالاة نظام البلد على حساب هذا الدين
 
إنضم
18 سبتمبر 2013
المشاركات
15
الكنية
أبو عبد الباري
التخصص
الحديث والفقه
المدينة
نيروبي
المذهب الفقهي
شافعي
رد: التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

الحقيقة في التجنس غير ما ذكره الإخوة، فهي قبول وغذعان للنظام الذي يحكم البلد، وذلك أن الدولة المانحة للجنسية تعطيه على احترام القانون والانقياد له، وبموجب القانون تمنح الجنسية أو يمنع من منحها، وهي تتضمن الدفاع عن بلد الجنسية عند الحاجة والطلب.
فالتجنس مثلا في كل من أمريكا وبريطانيا وأستراليا يتضمن القسم على الطاعة والولاء والانقياد للقوانين أو الملكية بشكل انفرادي وربما بشكل جماعي، وقد حضرت بنفسي للتأكد من هذه الحقيقة في مناسبة منح الجنسية في كل من بريطانيا واستراليا.
لكنها مما عمت به البلوى بحيث لا يستغني أحد عن الجنسية في هذا الزمان حتى في دول العالم الإسلامي المبتلى بالقوانين الوضعية، وقد أفتى غير واحد من العلماء في الزمان الأول بكفر المتجنس بجنسية دولة كافرة مطلقا أو في بعض الصور.
 

ظهور أحمد ملك

:: متابع ::
إنضم
4 أغسطس 2013
المشاركات
4
الكنية
أبو شيماء
التخصص
الفقه
المدينة
المدينة المنورة
المذهب الفقهي
........
رد: التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

راجع الكتاب : التجنس بجنسية غير إسلامية ، بحث منشور في مجلة المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي لفضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر ص 181 وما بعدها
 
إنضم
27 سبتمبر 2012
المشاركات
332
الكنية
أبو محمد
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
رأس العين
المذهب الفقهي
المالكي
رد: التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

النـاظر في تاريخ الأمم وأحوال البشر يظهر له أن التجنس، باعـتباره انتـماء من الشخـص إلى دولـة معيـنة، إنما هو أمـر حادثٌ لم يظهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي لظروف جدّت على البشرية ما كانت موجودة فيما مضى من عمرها.
وقديماً كان انتماء الشخص إلى قبيلته وولاؤه كله لها، فإليها ينتسب وفيـها يندمج وفي كيانها تذوب شخصيته، وهو معها ظالمة أو مظلومة.
ويمثل هذا الولاء قول الشاعر العربي قديماً:
وما أنا إلا مِن غُزية إن غوتْ *** غويتُ، وإن ترشد غُزية أرشُد
فالجنسية بمفهومها المعاصر كانت عندهم على أساس العصبية القبلية، وهو مفهوم أخص من مفهوم الجنسية المعاصرة المرتبطة أصالة بالبلد التي يتجنس الشخص بجنسيتها.
وقد كان المرء لا يستطيع الفكاك من قبيلته إلى قبيلة أخرى حتى ولو كانت قبيلته من الضعف والذل والهوان بمكان، فلا يمكن أن ينتسب إلى غيرها وإن تمنى ذلك، كما قال الشاعر:
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبح إبلي *** بنو اللقِيطة من ذُهْل بن شيبانا
إذاً لقام بنصرتي معشر خُشُنٌ *** عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته *** سواهُمُ من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا *** شنوا الإغارة فرساناً وركباناً
وظل الحال على ذلك من التعصب المقيت والتحزب البغيض والتفاخر بالأحساب والعصبية الجاهلية إلى أن أشرقت شمس الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام والتحية، فغدت الرابطة بين المسلمين إنما هي بالانتساب لهذا الدين مهما تباعدت الأقطار واختلفت الألسن. قال - سبحانه وتعالى -: إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ [الحجرات: 01].
وقـال - عليه الصلاة والسلام -: «المسـلم أخـو المـسلم: لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ولا يخذله»[1].
وجاءت النصوص متواترة تقرر هذا الأصل الأصيل والركن الركين، وتنهى أشد النهي عن كل تعصب وحميَّة جاهلية، حتى رسخ هذا النظام القويم في النفوس واستقر؛ ولذا قال العربي المسلم بعد تبرُّئه من العصبية الجاهلية:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
فصار الدين - بحمد الله - هو الرابط الذي يربط بين الأفراد والجماعات المنتمية إليه، وهو العروة الوثقى التي يلجأ إليها الخلق والقاسم المشترك بين المسلمين في شتى بقاع الأرض.
فالأرض أو المادة لا يكوِّنان الجماعة الواحدة، وإنما رباط العقيدة وأخوَّة الإسلام هما من يجمع بين الناس من مختلف الألوان والأجناس ومن أقاصي البقاع ودانيها، ويربطان فيما بينهم بنوع من الوحدة أمتن وأنبل من وحدة اللون والدم والتضاريس.
ولما كان الأمر كذلك، فقد جرى عمل فقهائنا المتقدمين على تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر. وأما في الواقع المعاصر فقد انقسم الناس باعتبار الجنسيات، وصار من الممكن للإنسان أن يتجنس بجنسية بلد غير بلده الأصلي الذي نشأ فيه هو وآباؤه وفق شروط معينة تختلف من دولة إلى أخرى.
وسعى كثير من أبناء هذا الزمان إلى الحصول على جنسيات غير جنسيات بلادهم الأصلية، تدفعهم إلى ذلك دوافع شتى؛ فمن لاجئ سياسي، ومن باحثٍ عن حرية وساعٍ إلى الحصول على حقوقٍ أو مميزاتٍ لم يجدها في قومه، إلى غير ذلك من المآرب.
ولكن الأمر ليس قاصراً على الميزات التي يُعطاها المرء فحسب، بل ثمة حقوق وواجبات عليه؛ من الالتزام بقوانين تلك البلد، والتحاكم إلى أنظمتها، والدفاع عنها، والانخراط في سلك المدافعين عنها من أبنائها، وبذل الجهد والوسع في تقويتها ورفعة شأنها، وعقد الولاء لها والبراء من غيرها، إلى غير ذلك من مفردات منظومة كبيرة تسمى بـ «المواطنة».
ومن هنا مسّت الحاجة اليوم إلى معرفة حكم التجنس بجنسيات الدول غير الإسلامية؛ لشدة الدوافع والمقتضيات إلى ذلك. وسيكون بحثنا لهذه النازلة في المطالب التالية:

المطلب الأول: تعريف الجنسية والتجنس:
أولاً: مفهوم الجنسية والتجنس لغة:
الجنسية: مصدر صناعي مأخوذ من الجنس، وهو الضرب من كل شيء، قال ابن فارس: الجنس: هو الضرب من الشيء.
قال الخليل: كل ضرب جنس، وهو من الناس والطير والأشياء جملة، فالناس جنس، والإبل جنس، والبقر جنس.
والتجنس والتجنيس: تفعُّل وتفعيل للجنس، أي: طلب له.
ويقال: هذا يجانس هذا، أي: يشاكله.
وعليه، فإن كل طائفة من الناس يتشاكلون في أمرٍ ما فهم جنس فيه؛ كجنس العرب، وجنس العجم، وجنس المؤمنين، وجنس المشركين، وجنس العلماء، وجنس العسكر… وهكذا، وعلى هذا المعنى مضى علماء اللغة[2].
ثانياً: المفهوم الاصطلاحي للجنسية والتجنس:
يعرِّف القانونيون الجنسية بأنها: «الرابطة القانونية والسياسية التي تربط بين الفرد والدولة، والتي بمقتضاها يعتبَر الفرد جزءاً في شعب الدولة يتمـتـع بالحـقوق المـترتبة على تمتـعه بجنسـية الدولـة والتي لا يتمتع بها الأجنبي كأصل عام، ويلتزم أيضاً بالالتزامات التي تترتب على وصف الوطني والتي لا يلتزم بها الأجنبي»[3].
وعرّفها بعض القانونيين بقوله: «رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة»[4]، وهناك من يضيف إلى هاتين الرابطتين رابطة ثالثة؛ هي الرابطة الاجتماعية، خاصة إذا كان شعب الدولة مكوناً من أمة واحدة[5].
وعرّفتها محكمة العدل الدولية في السادس من أبريل سنة 1951م بأنها: رابطة قانونية قائمة أساساً على رابطة اجتماعية وتضامن فعال في المعيشة والمصالح والمشاعر، مع التلازم بين الحقوق والواجبات[6].
وأما التجنس فهو:
طلب انتساب إنسان إلى جنسية دولة من الدول وموافقتها على قبوله في عداد رعاياها، وينشأ عن ذلك التجنس خضوع المتجنس لقوانين الدولة التي تجنَّس بجنسيتها، وقبوله لها طوعاً أو كرهاً، والتزام الدفاع عنها في حال الحرب[7].
وأما كيفيته:
فهو يتم عبر عمل اختياري يحصل بموجبه أحد رعايا دولة ما على عضوية رعية دولة أخرى، وغالباً ما تتلاشى الناحية الاختيارية من تجنس الفرد في عملية التجنس الجماعية، ويحدث عادة إما بموجب معاهدة بين دولتين تتبعها عملية تجنس جماعية لسكانها من جانب الدولة التي تستولي عليها، أو عملية فتح تتبعها عملية ضم إلى أرض العدو[8].
وللتجنس شروط تشترطها الدول، فمنها العام، ومنها الخاص ببعض الدول[9].
- آثار التجنس:
إن أهم أثر يترتب على التجنس هو كسب صفة الوطني، والتي تستوجب التمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الوطني الأصلي والالتزام بكافة الواجبات التي يُلزم بها، ولعل من أهم هذه الحقوق والواجبات ما يلي:
أولاً: الحقوق:
يكون المتجنس مساوياً في الحقوق للوطني في الجملة وإن استثنيت بعض الأمور كالتقدم لوظائف حساسة، ومن بين هذه الحقوق:
1 - الحصول على حق المواطنة.
2 - التمتع بالإقامة الدائمة.
3 - تكفل الدولة الحماية الدبلوماسية للمنتسب إليها، وتتولى القنصليات رعاية أحواله الشخصية خارج البلد.
4 - التمتع بالحقوق السياسية كحق الانتخاب بعد اجتياز فترة الاختبار، وبممارسة الحريات الأساسية.
ثانياً: الواجبات:
من أهم الواجبات:
1 - خضوع المتجنس لقوانين الدولة والاحتكام إليها.
2 - المشاركة في جيشها والتزام الدفاع عنها في حالة الحرب.
3 - تمثيل الدولة خارجياً.
4 - مشاركته في بناء صرح الدولة [10].
المطلب الثاني: حكم التجنس بجنسية الدولة غير المسلمة:
البحث في هذه المسألة يختلف عن البحث في مسألة الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام من حيث إن الهجرة أمر قديم بقِدَم الإسلام، وتناوله العلماء في كتب الفقه والتفسير وشروح الحديث وغيرها.
وأما التجنس فمسألة حادثة ونازلة لم تكن على عهد السلف والأئمة. وإنك لواجد في كتب الأئمة الفقهاء التفصيل الواضح في أحكام الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأحكام الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم، أما فقه الأقليات المسلمة في البلاد غير المسلمة فنادر في كتب الفقه؛ لأنه نادراً ما كان يحتاج المسلم للإقامة الدائمة هنالك؛ لوجود الخلافة الإسلامية التي يأوي إليها المسلم ويتفيأ ظلالها، ولانعدام الحدود بين الدول الإسلامية، فأينما تيمم المسلم في بلاد الإسلام فهو في بلاده لا يحسّ بغربة ولا وحشة، وكذا العزة الإسلامية التي يتمتع بها المسلم فهو ليس بحاجة للإقامة في بلاد الكفر فضلاً عن التجنس بجنسياتها، ذلك أن التجنس بجنسية الدول الكافرة موطئ للإقامة في بلاد الكفر، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على خلل أو ضعف حلَّ بالمسلمين والخلل العظيم في هويتهم، إذ المهزوم والضعيف هو الذي يريد أن يشابه المنتصر والقوي فيقتدي به.
ومن نظر في التاريخ وجد أن هذا أمر مطَّرِد، فوقت أن كانت الدولة للمسلمين كان المشركون حريصين على تعلُّم لغتهم والعيش في بلادهم؛ ليتمتعوا بالأمن والعدل ورغد العيش الذي كانت بلادهم قفراً منه.
ثم إنه بعد سقوط الخلافة الإسلامية وانتشار الغزو الصليبي لبلاد الإسلام، أو ما سُمي زوراً بـ (الاستعمار)؛ فتحت دول الكفر باب التجنس لمن يرغب في ذلك من المسلمين؛ لطمس هويتهم، وإخماد روح الإيمان والجهاد في قلوبهم، وذلك في أوائل القرن الميلادي المنصرم، وهي نتيجة طبيعية لضعف المسلمين وقوة شوكة عدوهم.
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط من أن انقيادها ليس لغالب طبيعي إنما هو لكمال الغالب وتشبُّهه به وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه - والله أعلم - من أن غَلَبَ الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة ناس وإنما هو بما انتحل من العوائد والمذاهب.
ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها؛ بل وفي سائر أحواله»[11].
والحاصل أن التجنس بجنسية الدول الكافرة مسألة حادثة، وقد اختلف فيها فقهاء العصر على أربعة أقوال:
القول الأول: قول أكثر الفقهاء المعاصرين وهو المنع، وممن قال به العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ علي محفوظ عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ محمد عبد الباقي الزرقاني، والشيخ إدريس الشريف محفوظ مفتي لبنان، والشيخ يوسف الدجوي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن[12]، والعلامة عبد الحميد بن باديس، والعلامة البشير الإبراهيمي، وكل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، والعلامة الشيخ ابن عثيمين، والشيخ محمد السبيل، والشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، والدكتور البوطي، وآخرون يطول سردهم[13].
القول الثاني: قول بعض فقهاء العصر وهو الجواز، ومنهم: الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور وهبة الزحيلي، والشيخ الشاذلي النيفر، بشرط المحافظة على الدين والتمسك به، وعدم الذوبان في المجتمع الكافر[14].
القول الثالث: جـواز التجـنس بجنسية الدولة الكافرة عند الضرورة؛ كما لو كان مضطهداً في دينه في بلده المسلم ولم يقبله أحد سوى الحكومة الكافرة.
وهو رأي بعض أعضاء مجمع الفقه الإسلامي.
وقد وضع الشيخ الخليلي ثلاثة شروط للجواز، وهي:
1 - انسداد أبواب العالم الإسلامي في وجه لجوئه إليهم.
2 - أن يضمر النية على العودة متى تيسَّر ذلك.
3 - أن يختار البلد التي يمارس فيها دينه بحرية[15].
القول الرابع: التفصيل في المسألة؛ فالناس في طلب الجنسية على ثلاثة أقسام:
الأول: التجنس بجنسية الدولة الكافرة من غير مسوِّغ شرعي، بل تفضيلاً للدولة الكافرة وإعجاباً بها وبشعبها وحكمها، وهذه ردة عن الإسلام عياذاً بالله.
الثاني: التجنس للأقليات المسلمة التي هي من أصل سكان تلك البلاد؛ فهو مشروع وعليهم نشر الإسلام في بلادهم، وتبييت النية للهجرة لو قامت دولة الإسلام واحتاجت إليهم.
الثالث: تجنس الأقليات المسلمة التي لم تكن من أهل البلد الكافرة، ويعتريه الحالات التالية:
أ - أن يترك المسلم بلده بسبب الاضطرار والاضطهاد ويلجأ لهذه الدولة؛ فهو جائز بشرط الاضطرار الحقيقي للجوء، وأن يتحقق الأمن للمسلم وأهله في بلاد الكفر، وأن يستطيع إقامة دينه هناك، وأن ينوي الرجوع لبلاد الإسلام متى تيسر ذلك، وأن ينكر المنكر ولو بقلبه، مع عدم الذوبان في مجتمعات الكفر.
ب - أن يترك المسلم بلده قاصداً بلاد الكفر لأجل القوت؛ فلو بقي في بلاده لهلك هو وأهله، فله أن يتجنس إذا لم يستطع البقاء بغير جنسيته.
جـ - التجنس لمصلحة الإسلام والمسلمين ونشر الدعوة، وهو جائز.
د - التجنس لمجرد أغراض دنيوية بلا ضرورة ولا مصلحة للإسلام وأهله، وهو محرم.
وهذا التفصيل رجّحه بعض الباحثين وأصحاب الرسائل الجامعية[16].
أدلة المانعين:
استدل المانعون بأدلة كثيرة وعمومات شرعية ومقاصد شرعية نوردها فيما يلي:
1 - قال - تعالى -: لا يَتَّخِذِ الْـمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 82].
وقال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ * قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 32 - 42].
ففي هاتين الآيتين النهي عن اتخاذ ذوي القربي أولياء إن كانوا كفاراً؛ فكيف باتخاذ الأباعد أولياء وأصحاباً، وإظهار الموافقة لما هم عليهم والرضا به؟
وقال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ [المائدة: 15].
وقال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا. [النساء: 441]
وقال - تعالى -: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْـمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 931 - 041].
وقال - تعالى -: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 08 - 18].
وقال - جل وعلا -: إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ ظَالِـمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. [النساء: 79]
وقال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران: 941 - 051].
وقال - تعالى -: وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود: 311].
وقال - جل وعلا -: إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ الْـمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ. [محمد: 52 - 82].
وقال - تعالى -: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].
وفي صدْر سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْـحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ.. [الممتحنة: 1 - 3]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.
ومن السُّنة ما رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه من حديث سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن جامع المُشرك وسَكَن معه فإنَّه مثله»[17].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريءٌ مِن كل مسلمٍ يقيمُ بين أظْهُر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولِم؟ قال: «لا تراءَى نَارَاهُما»[18].
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا يقبل الله - عز وجل - من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين»[19].
وأخرج النسائي عن جرير قال: «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشرك»[20].
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث أميراً على سرية أو جيشاً أوصاه بأمور؛ فذكرها، ومنها «ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين»[21].
وجه الدلالة من الآيات والأحاديث السابقة:
لقد استفاضت النصوص الشرعية السابقة في التحذير من موالاة الكافرين، ومحبتهم ومودتهم، والرضا عنهم وعن منكراتهم، وأوضحتْ أن ذلك مناقض لأصل الإسلام وهادم لعقيدة الولاء والبراء والحب والبغض في الله، التي لا يصح إسلام عبدٍ إلا بها.
ولما كان التجنُّس يلزم منه - لا محالة - ولاء المرء للدولة التي يحمل جنسيتها وخضوعه لنظامها وقوانينها، ويصير المتجنس واحداً من المواطنين له ما لهم وعليه ما عليهم، وتجري عليه أحكام مِلَّتهم في الأحوال الشخصية والمواريث، وعدم تدخُّله في شؤون أولاده إذا بلغوا السِّن القانونية عندهم سواء الذكور والإناث..، لـمّا كان الأمر كذلك كان طلب التجنس بجنسية الدول الكافرة من غير إكراه عليها بل طلباً من المتجنس أو موافقة على قبولها - صورةً من صور الردة عـن الإسلام عـيـاذاً بالله، وخـروجاً عن سبيل المؤمنين ودخولاً في معيّة الكافرين؛ الذين حذرنا الله - تعالى - منهم ومن اتِّباع سبيلهم، والمقام بين أظهرهم، وموالاتهم والركون إليهم، كما أشارت النصوص السابقة.
2 - أن الاحتكام إلى قوانين كفرية مخالَفَةٌ لشرع الله وردة عن الإسلام، ومن رَفَض حكم الإسلام فهو مرتد بالإجماع، والمتجنس متحاكِم طوعاً إلى تلك القوانين مستبدلٌ بالشريعة الإلهية القوانين الوضعية.
قال - تعالى -: أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [النساء: 06 - 16].
3 - أن ذلك يتضمن تحليل الحرام وتحريم الحلال وإنكار ما عُلِـم مـن الدين بالضرورة؛ وهو كُفْر إجماعاً. قال - تعالى - في حق من استحل النسيء: إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة: 73]. وفي قوله - تعالى -: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة: 13]. وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم عبادتهم إياهم بقوله: «أليسـوا يحلون لهم ما حرّم الله فيتبعونهم، ويحرِّمون عليهم ما أحل الله فيتبعونهم؟ »، قال: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»[22].
4 - أن مقتضى التجنس المشاركة في جيش الدولة المانحة للجنسية والدفاع عنها إذا قامت بينها وبين غيرها حرب ولو كانت حربها ضد المسلمين، فهذا من أعظم الموالاة للمشركين والمناصرة لهم، والنصوص المذكورة آنفاً طافحة بتكفير من فعل هذا. وقد سمى الله من أظهر الموالاة للمشركين خوفاً من الدوائر منافقاً؛ كما في قوله - سبحانه -: أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [الحشر: 11]؛ فكيف بمن أظهر ذلك لهم صادقاً ودخل في معصيتهم وانتسب إليهم؟
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: «مَن حمل علينا السِّلاح فليس مِنَّا»[23].
5 - أن للتجنس آثاراً في غاية السوء على النشء والذرية؛ من انحلال وتسيُّب، وانطماس للهوية، ونبذ لأحكام الدين وإعراض عنه، وموالاة للمشركين ومعاداة للمؤمنين، ولا ينازع في كون هذا واقعَ المتجنسين أو أغلبهم إلا مكابر.
6 - أن التجنس إقامة وزيادة. والأدلة واضحة في تحريم المقام بدار الكفر، لا سيما مع عدم استطاعة إظهار شعائر الدين، فيحرم إجماعاً. وهذا واقع المتجنسين؛ إذ لا يمكن للمرء أن يتحاكم إلى شريعة الله هو وأهله وأولاده، أو يربي أولاده على الدين ويأطرهم على الحق أطراً هنالك، لا يشك في ذلك من له أدنى اطلاع على أحوال القوم.
قـالوا: ولا عـذر لهـؤلاء المتجـنسـين؛ لأنهم ليسوا بمكـرهين حتـى نقـول ما قال الله - تعالى -: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [النحل: 601]، بل هـم مخـتارون راضـون، وليـس مـا ينتـظرونه وراء التجنس مـن حطام الدنـيا وحـظـوظ العـاجـلة بمسوِّغ لهذا التجنس، بل يجـب أن يفـر المرء بديـنـه متى استطاع وإن ذهبت دنياه. اقرأ إن شئت قوله - تعالى -: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. [التوبة: 42]
وقد أوجب الله الهجرة من دار الكفر إن خاف المسلم على نفسه الفتنة، وتوعّد الله - سبحانه - أولئك الذين يبقون في أوطانهم بين الفتنة وهم قادرون على الهجرة، فقال - جل من قائل -: إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ ظَالِـمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 79].
وتوعد - سبحانه - من يعبده على حَرْف، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج: 11].
وقال - تعالى -: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت: 01].
أدلة المجوِّزين:
عامة أدلة المجوزين عقلية، ومرجعها إلى قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد. ولا ريب أن هذا يتطلب نظراً دقيقاً وتحقيقاً للمُناطات، ويختلف من واقع لآخر، ومن مكان إلى مكان.
فمن أدلتهم:
1 - أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحافظ على الكليات الخمس: الديـن، والنفـس، والعـقل، والعِـرض، والمال، وكلُّ ما كان سبيلاً للمحافظة على هذه الضروريات فهو مشروع. والتجنس بجنسيات هذه الدول يوفر للإنسان حياة كريمة وطمأنينة وأمناً وتمتُّعاً بحقوق وحريات تنعدم غالباً في الدول الإسلامية في واقعنا المعاصر؛ بل تُيسِّر له أبواباً في التعبد والدعوة ونشر العلم لا نظير لها في الدول الإسلامية؛ لأن مبنى دول الغرب على العلمانية لا على أساس ديني، فإذا كان التجنس وسيلة لتحقيق هذه المصالح المشروعة فهو إذاً مشروع.
قالوا: ومن حرّم التجنس من أهل العلم فإنما حرمه لظروف خاصة في الاحتلال ونحوه، أو خوفاً من الذوبان في الشخصية الغربية. أما إذا تغير الوضع وصارت الجنسية تعطي المتجنس قوة وصلابة وقدرة على المطالبة بالحقوق وإبداء رأيه، والتصويت في الانتخابات لمن يخدم قضيته دون أن يتنازل عن دينه، ويعايش من حوله بالمعروف ويحسن معاملتهم؛ كما قال - جل وعلا -: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8].
فإذا صار الوضع كذلك؛ فلا مانع من التجنس لوجود المصلحة الخالية عن المفسدة الراجحة أو المساوية.
2 - أن الإقامة في بلاد الكفر جائزة إن استطاع المرء إقامة دينه وإظهاره وأمِن الفتنة، والتجنس لا يزيد على الإقامة إلا بمجرد الانتساب إلى الدولة، وهو في الوقت ذاته يُكسِب المتجنسَ قوةً وصلابة في المجتمع كما سبق.
قال الشـيخ الدكتـور وهبة الزحـيلي: ما دمنا قد قلنا بجـواز الإقـامـة في دار الكـفر؛ فإنه يتفرع عنه جواز التجنس؛ لأنه ما هـو إلا لتـنظيم العلاقة؛ فهـي تسهل لهم الأمور وتسهل أيضاً الاستفادة من خدماتهم[24].
3 - أنـنا نسلِّم وجود بعـض المفـاسـد في التجـنس، لكن ما ذكرناه من مصالح كلية ومقاصد شرعية يربو عليها، ومعلوم أنه يتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة تفويتُها أشد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجِّح خير الخيرين وتدفع شر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما»[25].
وفي فتوى المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن:
ولو تجنس مسلم بهذه الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام أو تبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين بها؛ فإنه يثاب على ذلك، فضلاً عن كونه جائزاً[26].
4 - أنه أحياناً يضطر المسلم إلى التجنس بجنسية تلك الدول محافظةً على حياته؛ كأن يكون فارّاً من بلده الأصلي، أو لم يُمـنح جنـسية دولـة إسلامية تحميه وتمكنه من العيش فيها كاللاجئين الفلسطينيين، وقد لا يسمح له بالمقام إلا بالتجنس، وكذا لو انعدم مصدر قُوتِه وقوت عياله في بلاد المسلمين، والقاعدة الفقهية الكلية: أن الضرر يُزال، وأن الضرورات تبيح المحظورات.
5 - أن في الخروج من تلك البلاد وترك جنسياتها إضعافاً للإسلام والمسلمين هناك؛ بحيث لا ترجى له رجعة؛ كما حدث في الأندلس وصقلية؛ إذ أُخرج منها المسلمون وحلَّ النصارى محلهم. أما أن يثبت وضع المسلمين هناك ويقوى فهو السبيل لدعوتهم ونشر الدين بينهم.
6 - وأما القول الثالث فهو مقيّد بالضرورة، ودليلهم واضح كما في الدليل الرابع لأصحاب القول الثاني، وفيما عدا ذلك لا يبيحون التجنس موافقةً لمن قال بالتحريم، فمآلُ قولِهم كالقول الأول، وحالة الضرورة مستثناة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات بشروطها.
7 - وأما القول الرابع ففيه تفصيل سبق ذكره، وأدلتهم في الصور المحرمة كأدلة المحرِّمين، وفي المباحة كأدلة المجوِّزين.
المطلب الثالث: المناقشة والترجيح:
الفرع الأول: مناقشة أدلة الفريق الأول:
1 - أما استدلالكم بالنصوص القطعية المحرمة للموالاة والتحاكم لغير الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فمسلَّم ولا نزاع فيه بين أهل الإسلام، وكلامنا في تجنس لا يلزم منه حبُّهم ولا نُصرتهم ولا رضا القلب بمنكراتهم أو مشاركتهم فيها. والمتجنِّس مأمور بأن يكـون ولاؤه لله ولرسوله وللمـؤمـنين، وأن يُظـهر ديـنـه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يتحاكم لشريعة الله، ويمكن أن يوصي بذلك في ميراثه إذا مات، على أن أكثر الدول الإسلامـية لا تحكِّم شـريـعة الله، وفيـها مـن الربـا والظـلم ما لا يخفى، فما الفرق؟
ورد هذا الجواب:
أن مجـرد التجنس هو إعلان من المرء عن خضوعه لأحكام الكفر وقبوله الولاء للكفر وأهله، سواء خضع بالفعل أو لم يخضع.
ثم إنه لن يَسلَم من الوقوع في الحرام أو المشاركة فيه لأن صبغة المجتمع هكذا، بخلاف دول المسلمين؛ فيمكن للمرء أن يجد مندوحة وأن يتعامل بمعاملات شرعية مع إخوانه المسلمين؛ إذ لا تجبره قوانين بلاده على الربا في الغالب، وسيجد من يعينه على ذلك.
2 - وأما قولكم: إن التجنس يؤدي إلى إنكار ما عُلِم من الدين بالضرورة وهو كفر؛ فلا يلزم من التجنس هذا اللازم؛ بل لو تلبس المتجنِّس ببعض المحرمات فلا يلزم منه استحلالها بقلبه، وأهل السُّنة مجمعون على عدم تكفير المسلم بذنب ما لم يستحله.
ورُدَّ:
بأن النصوص اعتبَرت من رضي بالتحاكم إلى قوانين الكفر كافراً؛ لأنه لا يعقل أن يتحاكم إليها طوعاً مع اعتقاده أحكام الإسلام؛ بل هو عين التناقض. قال - تعالى -: أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 06].
3 - وأما قولكم: إن التجنس يؤثِّر على الذرية فمحتمل، والاحتمال يسقط الاستدلال، ونحن نرى كثيراً من أبناء الجاليات المسلمة متمسكاً بدينه وقيمه خاصة في ظل التربية الإسلامية.
ورُدَّ:
بأن هـذه مكابرة وتعسُّف، والذي اعتبروه احتمالاً هو الواقع إلا في قليل من الناس؛ فأغلب الأسر المسلمة تشكو انحـلال الأخـلاق والتفلت من الدين؛ بل منهم من يرتد أولاده أو تأخـذهم أمـهاتهم قسـراً بحكم قوانين تلك البلاد وينسبونه إلى الكفر، ولا يستطيع الوالد أن يحرِّك ساكناً، وكـذا لا يستـطيـع أن يـربـي أولاده أو يـأطـرهـم على الحـق لو أبـوا عليـه، حتـى لو وصـل الأمـر إلى الزنـا وشرب الخمر - عياذاً بالله - فليس لولي البنت أو الابن أن يمنع ذلك، فضلاً عن أن يعاقب عليه؛ بل لو فعل لعُوقب وأُجبر على تأمين مكان مستقل لبناته وأبنائه للزنا والفجور عياذاً بالله؛ فهل هناك أعظم من هذا فساداً وانحلالاً؟
4 - وأما محذور المشاركة في جيوش الدول الكافرة؛ فأجيبَ عنه بأن الخدمة في جيوش كثير من تلك الدول اختيارية، ولو فرض أن المسلم أُكره على ذلك؛ فهو مأمور بأن يفر أو يمتنع ولو زهقت روحه.
ورُدَّ:
بأنه كان في مندوحة عن هذا البلاء؛ فلماذا يرمي نفسه في غماره، ولماذا يذلّ نفسه؟ وتقدم قوله - تعالى -: إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ ظَالِـمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 79]، فلم يعذر هؤلاء الذين بقوا في مكة مستضعَفين وأُكرِهوا على مقاتلة إخوانهم المسلمين يوم بدر؛ فكيف بمن قبِل بمحض إرادته الانضواء تحت لواء أعداء الله؟
5 - وأما قولكم بتحريم المقام في بلاد الكفر؛ فليس على إطـلاقـه، بل تجـري عليه الأحكام الخمسة بحسب الحال كما سبق.
ورُدَّ:
بأن المتجنس داخلٌ تحت سلطة الكفار وسيُضطهد في دينه لا محالة، ولن يتمكن من إظهاره، وقد ذكرنا بعضاً من الصور الواضحة في هذا، فالمقام حينئذٍ محرَّم إجماعاً.
الفرع الثاني: مناقشة أدلة الفريق الثاني:
ناقش المحرِّمون أدلة المجوِّزين كما يلي:
1 - أما استدلالكم بحفظ الشريعة للكليات الخمس وأن التجنس وسيلة لذلك؛ ففي غير موضعه؛ لأنه لا بد للمحافظة عليها من طريق مشروع في ذلك، لا بفعل المحرمات وترك الواجبات، ومصلحة الدين مقدَّمة على كل مصلحة سواها، والتجنس هادم للدين حالق له؛ فأين المصلحة فيه؟
2 - وأما تسويتكم بين التجنس والإقامة؛ فلا نُسَلِّم لكم أصلاً جواز الإقامة مع المحاذير المذكورة والتي لا انفكاك عنها. قال - تعالى -: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 021].
ولو سُلِّم جواز الإقامة فالتجنس محظور؛ لأنه مختلف عنها؛ إذ يلزم منه التزامات وحقوق على المتجنِّس - كما سبق - وليس المقيم كذلك.
3 - وأما استدلالكم بجلب المصالح ودرء المفاسد؛ فإن مصلحة الرخاء والدعة ليست مقدمة على مصلحة الحفاظ على الدين؛ أفتُجعَل فتنة الناس كعذاب الله؟ أفتساوى هذه المصالح بالموالاة والتحاكم لغير الله وإهلاك الذرية؟ ولو سَلِم الأمر من ذلك مع تحصيل تلك المصالح؛ فالضرورة تقدَّر بقدَرِها، والضرورة مندفعة بالإقامة، ولا حاجة للتجنس الذي يلزم منه هذه المحن والبلايا.
4 - أما استدلالكم وكذلك أصحاب القول الثالث بالضـرورة؛ فلا بـد أولاً من تحقـق الضـرورة المعتـبرة؛ شرعاً لا المتوهمة ولا الحاجية ولا التحسينية؛ كرغد العيش والرفاهية، وهو حال كثير من المتجنسين.
ولو فرض تحقق الضرورة بشروطها المعتبرة؛ فلا بد أن تقدَّر بقدَرها، وألا تزال بضررٍ مثلها أو أشد، وللإنسان حِيَل كثيرة ليتخلص من ضرورته دون اللجوء للتجنس.
الفرع الثالث: الموازنة والترجيح:
الذي يظهر بعد عرض أدلة المختلفين وردِّها إلى الكتاب والسنة والمقاصد المرعية المعتبرة، أن مذهب المحرِّمين هو الصحيح، وأدلتهم قوية سالمة من المعارض المساوي فضلاً عن الراجح.
إلا أنه قد تعتري المسألة أحوال وملابسات تبيح التجنس لضرورة ملجئة فتقدَّر بقدرها. وغنيٌّ عن البيان أن الكلام ليس على من تجنَّس رغبةً في الكفر وتفضيلاً لأحكامه واعتزازاً وافتخاراً بتلك الجنسية، ولا الكلام عمّن يتجنس لتحصيل مصالح دنيوية ليست ضرورية، بل غايتها أن تكون من التحسينيات؛ فالأول مرتد قطعاً، ولا يتوقف في هذا عالِم، والثاني على خطرٍ عظيم وهو ممن استحبَّ الحياة الدنيا على الآخرة، ويشمله قوله - تعالى -: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 42].
وقوله - جل ذكره -: وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى: 02].
وإنما الكلام في ثلاث حالات، وبيانها كالآتي:
1 - الأقليات المسلمة التي هي من سكان تلك البلاد أصلاً؛ فهؤلاء تثبت لهم الجنسية بمجرد ولادتهم، ولا خيار لهم في ذلك؛ فهم مكرَهون عليها ولا إثم على مكرَه، ولا تستقيم لهم حياة بدون جنسية؛ فهي في حقهم ضرورة، لكن مع ذلك لا بد أن يلتزموا بأحكام الإسلام جُهدَهم ويُظهِروا دينهم وإلا وجب عليهم التحول ولزمتهم الهجرة، والهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
ومن اختار البقاء أو ضاقت به السبل فليعمل على إظهار دينـه ما استـطاع، أو ليعزم على الهجرة لبلاد المسلمين متى ما أمكنه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
2 - من اضطر إلى التجنس بسبب اضطهاده في بلده الأصلي، أو للتضييق عليه في نفسه أو عِرضْه أو قُوتِه، أو كان لا يحمل جنسية أصلاً ومُنع من الإقامة إلا بالتجنس؛ فهؤلاء إن لم يمكنهم دفع ضرورتهم بالإقامة فقط وكان لا بد من التجنس وتعيَّنَ لدفع ضرورتهم الواقعة المعتبرة؛ فلهم التجنس من باب «الضرورات تبيح المحظورات». قال - تعالى -: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ [الأنعام: 991]، وقد أباح الشرع النطق بكلمة الكفر حال الإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان. قال - تعالى -: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ [النحل: 601]، وقال - سبحانه -: لا يَتَّخِذِ الْـمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 82].
ولكن لا بد أن تُقدَّر الضرورة بقدرها بعد تحقق كونها ضرورة ملجئة، وتعيُّن التجنس مُزيلاً لها؛ بشرط أن لا تذوب شخصيته في شخصية الكفار، وأن يأمن على نفسه وأهله وأولاده الفتنة، وأن يستشعر انتماءه للإسلام وأهله، وينوي الرجوع إلى بلاد المسلمين متى زال عذره، وأن ينكر المنكرات بقلبه إن لم يمكنه ذلك بيده ولسانه، وأن يتخير البلد الذي يستطيع فيه إظهار دينه بلا غضاضة عليه؛ كحال المسلمين عند هجرتهم إلى الحبشة.
وانتفاء المفاسد التي ذكرناها آنفاً في حقه؛ فهذا باب يسوغ فيه النظر والاجتهاد والموازنة بين المصالح والمفاسد، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْـمُفْسِدَ مِنَ الْـمُصْلِحِ [البقرة: 022]، والله عند قلب المرء ولسانه ولا يخفى عليه شيء من أمره. والله - تعالى - أعلم.
----------------------------------------
[1] أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب «لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه»، (2442)، ومسلم: كتاب البر و الصلة والآداب، باب «تحريم الظلم»، (2580) من حديث عبد الله بن عمر.
[2] لسان العرب، لابن منظور (2/383)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي (2/212).
[3] القانون الدولي الخاص، د. هشام صادق علي وحفيظة السيد الحداد، القسم الأول، الجنسية (ص 57).
[4] الأحكام العامة في قانون الأمم، د. محمد طلعت الغنيمي (ص646)، ط. منشأة المعارف.
[5] القانون الدولي الخاص وأحكامه في الشريعة، لعبد الرحمن عبد العزيز القاسم، (ص25).
[6] التنظيمات الدولية لبول روتييه (ص146)، ط. دار المعرفة.
[7] القانون الدولي الخاص، لهشام صادق علي (ص65).
[8] القانون بين الأمم، مدخل إلى القانون الدولي العام، لجيرهارد فان غلان (ص215)، ط. دار الجيل.
[9] القانون الدولي الخاص، لهشام صادق علي (ص65) وما بعدها، مذكرات علي علي سليمان (ص195 - 200).
[10] الوسيط في أحكام الجنسية، د. فؤاد عبد المنعم رياض، دار النهضة العربية، القاهرة، 1983م، ص (18).
[11] مقدمة ابن خلدون، الفصل الثالث والعشرون، (2/505)، ط. سلسلة التراث.
[12] عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -، وكان الشيخ عبد اللطيف قد درس في الأزهر الشريف قرابة ثلاثين عاماً، وتوفي سنة (1292 هـ - 1875م).
[13] انظر: فتاوى محمد رشيد رضا، (5/1748)، آثار ابن باديس (3/309)، قضايا فقهية معاصرة، للبوطي (ص201)، حكم التجنس بجنسية الدول غير المسلمة، لمحمد السبيل، (ص71)، الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، لعماد بن عامر، (ص278)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 32، سنة1412هـ.
[14] فقه الأقليات المسلمة، لخالد عبد القادر، (ص 608)، بحوث في قضايا فقهية معاصرة، لمحمد تقي العثماني، (ص329)، مجلة الفقه الإسلامي/ الدورة الثالثة، العدد الثالث، سنة 1987م.
[15] مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الأول 1407، (ص 195)، والعدد الثالث (2/1103، 1113، 1119، 1152، 1157).
[16] انظر: كتـاب «الأحكـام السـياسـية للأقليات المسلمة»، سليمان بن محمد توبولياك، ورسالة «الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادة والإمارة والجهاد»، لمحمد درويش محمد سلامة، من رسائل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى.
[17] أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب «في الإقامة بأرض الشرك»، من حديث سمرة بن جندب، والحديث حسّنه الشيخ الألباني في الصحيحة (5/434/ح2330).
[18] أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب« النهي عن قتل مَن اعتصم بالسجود»، والترمذي: كتاب السير، باب «ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين»، (1604)، والنسائي: كتاب القسامة، باب «القود بغير حديدة»، (4780)، وروي مرفوعاً - بذِكر جرير بن عبد الله - ومرسلاً، والمرسل أصح. والحديث حسّنه الشيخ الألباني في الصحيحة (2/227/ح636).
[19] أخرجه النسائي، كتاب الزكاة، باب «من سأل بوجه الله»، (2568)، من حديث معاوية بن حيدة. والحديث حسّنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع(7748).
[20] أخرجه النسائي، كتاب البيعة، باب «البيعة على فراق المشرك»، (4175)، من حديث جرير بن عبد الله، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع (25).
[21] أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب «تأمير الإمام الأمراء على البعوث.. »، (1731) من حديث بُريدة.
[22] أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب «من سورة التوبة»، (3095) بنحوه، والبيهقي في «الكبرى» (10/116) برقم (20137)، والطبراني في «الكبير»(17/92) برقم (218)، وهو في الصحيحة برقم (3293).
[23] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب «قول النبي: من حمل علينا السلاح.. »، (98) من حديث ابن عمر.
[24] فقه الأقليات المسلمة (ص608)، نقلاً عن الزحيلي في مقابلة خاصة.
[25] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (20/48).
[26] الفتوى للحاج عبد الرحمن باه والقاضي تقي الدين العثماني. انظر: بحوث في قضايا فقهية معاصرة: لمحمد تقي الدين العثماني (ص329 - 331)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة 3، العدد 3، سنة 1987م، (2/1130).
 
إنضم
18 سبتمبر 2013
المشاركات
15
الكنية
أبو عبد الباري
التخصص
الحديث والفقه
المدينة
نيروبي
المذهب الفقهي
شافعي
رد: التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

شكرا لك على هذا الجهد الطيب، لكن لي سؤال لو تكرمت بالإجابة عليه على مقتضى تقريرك ألا وهو:
- الدول في العالم الإسلامي تحكم -غالبا - بالقوانين الوضعية، والسيادة للقوانين البشرية، والجنسيات فيها تعطى وفق هذه القوانين، فما حكم التجنس بهذه الجنسيات في ضوء تقريركم ؟.
وإذا كان قول الجمهور في الفرق بين دار الكفر ودار الإسلام هو الأحكام التي لها السيادة فإن أغلب بلاد المسلمين ينطبق عليها هذا الحكم، والدول بطبيعة الحال ليست دولا إسلامية على هذا القول، فما حكم التجنس بهذه الجنسية المنبثقة من القوانين الوضعية؟
شكرا لكم مرة أخرى.
 

د.محمود محمود النجيري

:: مشرف سابق ::
إنضم
19 مارس 2008
المشاركات
1,171
الكنية
أبو مازن
التخصص
الفقه الإسلامي
المدينة
مصر
المذهب الفقهي
الحنبلي
إنضم
18 سبتمبر 2013
المشاركات
15
الكنية
أبو عبد الباري
التخصص
الحديث والفقه
المدينة
نيروبي
المذهب الفقهي
شافعي
رد: التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

الأخ صالح صاحب البحث أتمنى أن تكون بكل خير وسلامة
وهذا استشكال آخر على ضوء تقريركم وهو:
أولا: قد قررتم أن التجنس يتضمن إعلان الخضور للأحكام الكفرية. ثم
ثانيا: جوزتم بعضه بالإكراه وبعضه بالضرورة وذكرتم أنها تقدر بقدرها فالسؤال هو: هل الضرورة عذر مبيح لذلك مثل الإكراه ؟ أو بعيارة أخرى: هل الضرورة من أسباب الترخص في المكفرات ؟
ويأتي هذا السؤال كثيرا عندما يقرر الواحد منا ثلاثة امور:
أولها: أن عملا من الأعمال أو قولا من الأقوال من المكفرات.
ثانيها: أن هذا العمل يجوز للضرورة والاضطرار
وقد جمعت من ذلك كثيرا من النقول والفتاوى
ثالثها: ان المكفرات لا يرخص في ارتكابها إلا المكره، وأن الضرورة لا تبيح ذلك، مع التفريق بين أحكام الإكراه واحكام الضرورة
محبكم/ أبو عبد الباري الشبلي
 
أعلى