العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

التعليل بمقاصد الشريعة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
مقاصد الشريعة: مفهومها وفوائد معرفتها

مقال منشور في مجلة التجديد العدد 39 (أ) عدد خاص عن مقاصد الشريعة
د. نعمان جغيم


ملخص

مفهوم مقاصد الشريعة وحكم التعليل بها من المسائل التي ما زالت تحتاج إلى بحث وتحرير. ويهدف هذا البحث إلى تحرير المفهوم اللغوي والاصطلاحي لمقاصد الشريعة، والنظر في إمكانية التعليل بمقاصد الشريعة. ويقوم منهج البحث على مراجعة أهم ما تيسّر للباحث الاطلاع عليه من الكتابات المتعلقة بتلك المسائل للوصول إلى خلاصات يرى الباحث أنها تمثل إجابات معقولة عنها. وقد خلصت الدراسة إلى أنه لا يوجد من الناحية اللغوية ما يوجب التفريق بين لفظي "القصد" و"المقْصَد" في الاستعمال؛ وأن الدراسة المنهجية للمقاصد تقتضي الفصل بين الأنواع الثلاثة لمقاصد الشريعة: مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الأحكام الشرعية، ومقاصد الشارع في منهج التشريع، لتجنُّب الخلط والالتباس الذي يقع في كثير من مباحث مقاصد الشريعة. كما توصلت الدراسة إلى أنه يمكن التعليل القياسي بمقاصد الأحكام الجزئية إذا توفرت فيها الشروط التي يشترطها أصحاب المذاهب الفقهية في ركن العلة، أما مقاصد الشارع المتعلقة بمنهج التشريع فإنه لا يمكن استعمالها في التعليل القياسي، وكذلك المقاصد العامة للأحكام الشرعية.

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد: إن مفهوم مقاصد الشريعة وفائدة معرفتها موضوعان لا يكاد يخلو منهما مقال أو كتاب عن مقاصد الشريعة، وعلى الرغم من ذلك فإن فيهما نقاطا ما زالت تحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير. ويهدف هذا البحث إلى النظر في ثلاث مسائل: الأولى: إمكانية التفريق في الاصطلاح بين لفظ "القصد" ولفظ "المقصد"، والثانية: الفصل بين مقاصد الخطاب الشرعي ومقاصد الأحكام الشرعية ومقاصد الشارع في منهج التشريع عند دراسة موضوع مقاصد الشريعة، والثالثة: مسألة التعليل بمقاصد الشريعة، وهذه الأخيرة هي المسألة الأساس في هذا البحث. وهذه المسائل الثلاث تمثل أبعاد الإشكالية التي يتناولها هذا البحث. أما منهج البحث فيقوم على عرض ومناقشة أهم ما تيسّر للباحث الاطلاع عليه من الكتابات المتعلقة بتلك المسائل الثلاث للوصول إلى خلاصات يرى الباحث أنها تمثل إجابات معقولة عنها. أما الدراسات السابقة التي ناقشت بشكل مباشر تلك المسائل الثلاث فأخص منها ثلاثا: الأولى: مقال للأستاذ الدكتور طه عبد الرحمن بعنوان: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة.[1] والثانية: ورقة مؤتمر للدكتورة سعاد كوريم بعنوان: جدل العلاقة بين القصد القرآني والمقصد الشرعي: مقترح منهجي.[2] والثالثة: كتاب الدكتور جاسر عودة: فقه المقاصد: إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها.[3]

وقد قسمت البحث إلى مقدمة، ومبحثين: الأول: عن مفهوم مقاصد الشريعة، والثاني: عن فائدة معرفتها، ثم خاتمة تتضمن نتائج البحث.

المبحث الأول: مفهوم مقاصد الشريعة
المفهوم اللغوي للمقاصد
المقاصد جمع مقصد، وهو مصدر ميمي مشتق من الفعل قصد يقصد قصدا ومقصدا. وللقصد في اللغة معاني متعددة، منها: استقامة الطريق، والاعتماد، والأمُّ، والعدل، والتوسُّط، وإتيان الشيء. قال ابن جني: أصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجُّه والنهود والنهوض نحو الشيء.[4]

والمصدر من الفعل قصد هو "القصد"، والمصدر الميمي هو المقْصَد (بفتح الصاد) إذا أردت المصدر بمعنى القصْد، والمقْصِد (بكسر الصاد) إذا أردت جهة القصد، واسم المفعول: المقصود، "ومعاني هذه الألفاظ متقاربة؛ لأن القصد –وهو المصدر- قد يُستعمل مرادا به اسم المفعول."[5]

وقد ذهب الدكتور طه عبد الرحمن إلى أنه توجد فروق دلالية بين تلك الألفاظ يجب مراعاتها، حيث يرى أن لفظ "المقصد" له ثلاثة معاني، هي: "المقصود" بمعنى المراد من الكلام، ومنه قولنا: المقصود من الكلام كذا، أي مضمونه ومعناه. و"القصد" بمعنى النية التي يصدر عنها القائل وتصدر منه، ومنه قولنا: فلان قصد بهذا وجه الله تعالى، أو قصد به الريّاء والسُّمعة. و"المقصد/ الغاية" بمعنى الغاية التي يهدف القائل إلى تحقيقها. ويرى ضرورة التفريق بينها.[6] وهذا التفريق مجرد اجتهاد منه، ولا يوجد في اللغة أو الاستعمال ما يدل على وجوب الالتزام به.

كما دعت الدكتورة سعاد كوريم إلى ضرورة التفريق بين "القصد" و"المقصد"، حيث يُستعمل "القصد" للمعنى المستفاد من النصوص الشرعية، ويستعمل "المقصد" للغايات المقصودة من الأحكام الشرعية، وعللت ذلك التفريق بكون الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى، فتكون الزيادة في مبنى المصدر الميمي (المقصد) تفيد زيادة دلالية على المعنى الذي يفيده المصدر المجرد "القصد".[7] والزيادة التي تتحدث عنها هي التسلسل في الفعل، حيث ترى أن التعامل مع النص الشرعي يكون على مرحلتين متتابعتين ومرتبطتين بعضهما ببعض. المرحلة الأولى: هي استخلاص المعنى من النص القرآني، وتسمي هذه المرحلة تحديد "القصد" من النص القرآني، ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الثانية: وهي استخلاص الغاية من ذلك الحُكم المستفاد من النص، وهي التي تسميها "المقصد".[8]

وهذا الذي ذهبتْ إليه مُنتَقَدٌ من عدّة أوجُه: أولها: أنه بغض النظر عن الخلاف الواقع حول اطراد قاعدة "الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى"، فإنها بالتأكيد لا تنطبق على هذه المسألة؛ لأن القاعدة تُستعمل في حال كون المعنى في أصله واحدا، مع إفادة أحد اللفظين زيادة في المعنى، مثل "صبر" و"اصطبر" (الصبر والاصطبار)، و"صنع" و"استصنع" (الصنع والاستصناع)، و"قتَل" و"قتَّل". أما في هذه المسألة فإننا بصدد الحديث عن أمرين مختلفين لا يمكن أن يُقال إن في أحدهما زيادة على الآخر. فالمعنى الأول هو: "المعنى المقصود من النص الشرعي، أي الـحُكْم الشرعي المستنبط منه"، والمعنى الثاني هو: "الغاية من الحكم الشرعي، أي الحِكْمة المبتغاة من تطبيقه". وهما أمران مختلفان يُستفادان من النص الشرعي بطريق مباشر أو غير مباشر، ولا يمكن أن يقال إن الثاني منهما فيه زيادة على الأول، حتى يُخصَّ بالمصدر الميمي (المقصد).

والثاني: أن التسلسل الزمني بين المقصد من الخطاب الشرعي والمقصد من الحكم الشرعي غير مطّرد، حيث نجد في بعض النصوص القرآنية ورود الـحُكم (وهو المقصد من الخطاب الشرعي) والـحِكمة (وهي المقصد من الـحُكْم الشرعي) معا في وقت واحد.[9]

والثالث: أن التسلسل الزمني في الوقوع حتى لو كان واقعا فإنه ليس له علاقة أصلا بقاعدة "الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى".


وعلى خلاف ما ذهب إليه الدكتور طه عبد الرحمن والدكتورة سعاد كوريم، ذكر الدكتور فاضل السامرائي أن النحاة يرون أن معنى المصدر الميمي لا يختلف عن المصادر الأخرى، وإن كان هو نفسه يميل إلى عدم التطابق التام بين معنى المصدر العادي والمصدر الميمي؛ حيث يرى أن "المصدر الميمي في الغالب يحمل معه عنصر الذات، بخلاف المصدر غير الميمي فإنه حدث مجرّد من كل شيء."[10] وقد أورد أمثلة على ذلك تبيّن عدم التطابق في المعنى.[11] وما ذكره الدكتور السامرائي من الأمثلة ظاهر في ما ذهب إليه، ولكن اطراد ذلك في جميع المصادر يحتاج إلى استقراء واسع لإثباته.

وكما هو الحال عند النحويين فإن الأصوليين لا يفرقون في الاستعمال بين القصد والمقْصَد والمقصود. فالشاطبي –مثلا- استعمل لفظ "القصد" في مقدمة كتاب المقاصد للدلالة على جميع الأنواع: مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الأحكام الشرعية، ومقاصد الشارع في منهج التشريع، ومقاصد المكلّف. واستعمل لفظ "المقصد" للدلالة على المعنى المراد من النص الشرعي.[12]

ومن الشائع في الاستعمال التعبير بالقصد عن المقصود، فنقول: فلان كان قصده من هذا الفعل الإضرار بفلان، بمعنى أن الغرض من فعله الإضرار. وفلان مقصوده من هذا الكلام كذا وكذا، أي معنى كلامه كذا وكذا.

ونخلص مما سبق إلى أنه لا يوجد من الناحية اللغوية ما يوجب التفريق بين لفظي "القصد" و"المقْصَد" في الاستعمال. ومع أنه لا مانع من اقتراح تخصيص لفط "القصد" بمعاني النصوص الشرعية والأحكام المستفادة منها، ولفظ "المقْصَد" بالغايات والـحِكَم المستفادة من الأحكام الشرعية، ألا أنه لا يمكن إلزام الآخرين بذلك التفريق، ولا تخطئة من لا يفرق بينهما في الاستعمال.

المفهوم الاصطلاحي للمقاصد
إذا رجعنا إلى الشاطبي -وهو المنظِّر الأول للمقاصد- نجد أنه لم يذكر تعريفا حديًّا للمقاصد.[13] والظاهر أن سبب ذلك يرجع إلى عدم اعتنائه بالتعريفات والحدود التي شغف بالتدقيق فيها بعض الفقهاء والأصوليين، بل نجده ينتقد ذلك الصنيع في مقدمات كتابه الموافقات.[14] وهو يفضل بيان معنى المصطلح ببيان المفردات التي تندرج تحته والتمثيل لها، بدلا من البحث عن التعريفات الحدِّيّة الجامعة المانعة.

وقد وزّع الشاطبي مباحث المقاصد على محورين أساسين: أحدهما: قصد الشارع، والثاني: قصد المكلَّف. وأدرج تحت محور قصد الشارع أربعة أنواع: أولها: "قصد الشارع في وضع الشريعة"؛[15] ومجمل ما جاء فيه بيان لكون الشارع إنما وضع الشريعة لتحقيق مصالح الخلق بمراتبها الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات؛ والحديث عن العلاقة بين المصالح والمفاسد، ومراتب كل منهما. والثاني: "قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام"؛[16] وهو بحث في بعض طرق وضوابط فهم النصوص القرآنية. والثالث: "قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها"،[17] وهو حديث عن خصائص التكاليف الشرعية وعلاقتها بالمكلَّف، من حيث القدرة على الالتزام، والمشقة الناتجة عن التكليف. والرابع: "قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة"،[18] وهو حديث عن العلاقة بين قصد الشارع من شرع الأحكام وقصد المكلَّف عند تطبيق تلك الأحكام والالتزام بها، حيث ينبغي على المكلَّف -حتى يصح التزامه- أن يكون قصدُه تبعا لقصد الشارع لا مناقضا له. وعن علاقة الأحكام الشرعية بحظ المكلَّف وأثر ذلك في صحة الالتزام، وطريقة تنفيذه. وعن عموم الشريعة لجميع المكلفين ولجميع أفعالهم وجوانب حياتهم ومرجعيتها في كل ما يعنّ لهم.
أما المحور الثاني فهو "مقاصد المكلَّف في التكليف"،[19] وفيه تفصيل الحديث عن مقاصد المكلَّف في القيام بالتكاليف الشرعية، وعلاقة ذلك بقصد الشارع.

أما محمد الطاهر ابن عاشور فإنه على الرغم من أنه نحا في تعريف المقاصد إلى التركيز على الحِكَم والمصالح المرعية في تشريع الأحكام، إلا أنه لم يحصرها في ذلك، بل زاد عليها الأوصاف العامة للشريعة. وقد قسّم كتابه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: في إثبات أن للأحكام الشرعية مقاصد، وبيان مراتب تلك المقاصد، وحاجة الفقيه إلى معرفتها، وطرق التعرُّف عليها.[20]

القسم الثاني: مقاصد التشريع العامة.[21] وقد جمع فيه بين الأوصاف العامة للشريعة، والمقاصد العامة للأحكام الشرعية. فذكر من الأوصاف العامة للشريعة ما يأتي: (1) كون الشريعة مبنيَّة على السماحة. (2) اتّصاف الشريعة بالعموم من حيث الأشخاص والأزمان والأماكن. (3) أن الشريعة الإسلامية لم تشتمل على ما فيه نكاية بأتباعها، فهي قاصدة طريق التيسير والرفق. (4) أن الشريعة ليست قاصدة إلى تغيير جميع عوائد البشر، بل سارت على تغيير ما كان منها فاسدا، وتقرير ما كان منها من باب المعروف. (5) ابتناء الأحكام الشرعية على المعاني والأوصاف لا على الأشكال والأسماء، وقبول ما تبيَّن منها ابتناؤه على معنى معقول القياس عليه. (6) إبطال الشريعة للتحيّل على أحكامها، وسدها ذرائع الفساد، لأن في كليهما إبطال لمقاصد الشارع من شرع الأحكام. (7) أن الشارع قصد إلى تجنُّب التفريع في أحكام المعاملات في وقت التشريع تحقيقا للمرونة في هذا المجال، وتجنُّبا لما قد ينتج عن التفصيل من حرج على الأجيال التي تأتي في المستقبل.
أما المقصد العام من الأحكام الشرعية –عنده- فهو: القصد إلى حفظ نظام الأمة الإسلامية وتحقيق الصلاح في جميع مجالات الحياة الإنسانية، واستدامة ذلك الصلاح. ويكون ذلك بتحقيق صلاح الإنسان القائم على ذلك النظام.
وقد ذكر عنصرا يجمع بين كونه وصفا عاما من أوصاف الشريعة، وكونه مقصدا عاما من مقاصد أحكامها، وهو مراعاة الفطرة: فهو وصف من الأوصاف العامة للشريعة من جهة كون الشريعة مبنيَّة على الفطرة؛ بمعنى موافقة جميع أحكامها لما تقتضيه فطرة الإنسان السليمة. وهو مقصد من مقاصد الأحكام من جهة كون تلك الأحكام قاصدة إلى حفظ الفطرة وصيانتها من كل خرق أو اختلال.[22]
القسم الثالث: مقاصد التشريع الخاصة بأنواع المعاملات بين الناس: وتحدَّث بالتفصيل عن مقاصد أحكام العائلة، ومقاصد التصرفات المالية، ومقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان، ومقاصد أحكام التبرعات، ومقاصد أحكام القضاء والشهادة، والمقصد من العقوبات.[23]

والمقارنة بين الشاطبي وابن عاشور في مضمون المقاصد تُظهر أن الشاطبي قد أخذ مصطلح "الشريعة" بمعناه العام الشامل لأحكام العبادات والمعاملات والعادات. أما ابن عاشور فإنه يستخدم مصطلح "الشريعة" بمعنى خاص هو الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات والآداب الاجتماعية. وهي الأحكام والتشريعات المتعلقة بمصالح الحياة الدنيا، أما ما يتعلق بمصالح الحياة الآخرة، ومنها العبادات والأخلاق الفردية، فإنه لا يدرجها ضمن مجال بحثه في مقاصد الشريعة. وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه، حيث يقول: "وإني قصدت في هذا الكتاب خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها الجديرة بأن تُخَصّ باسم الشريعة ... كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تُسمَّى بالديانة، ولها أسرار أخرى تتعلق بسياسة النفس، وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع؛ لذلك فقد اصطلحنا على تسميتها بنظام المجتمع الإسلامي، وقد خصصتها بتأليف سميته أصول نظام المجتمع في الإسلام."[24]

وبناء على هذا الاختلاف في الاصطلاح حصر ابن عاشور حديثه في مقاصد الشريعة في جانب المعاملات والعادات وما تحدثه من مصالح في الدنيا، ولا يتحدث عن البُعْد التّعبُّدي في تلك المعاملات والعادات. أما الشاطبي فجاء حديثه في المقاصد شاملا لجميع مناحي الشريعة بمعناها الواسع، ولا يخلو حديثه عن المعاملات والعادات من إبراز الجانب التّعبُّدي فيها، كما يربط مصالح الدنيا ومفاسدها بما تؤول إليه من مصالح ومفاسد في الدار الآخرة. كما أنه لم يقتصر على مقاصد الأحكام الشرعية، بل تحدث أيضا عن مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الشارع في منهج التشريع.

وبعد ابن عاشور، نجد علال الفاسي ينحو أكثر إلى حصر مقاصد الشريعة في مقاصد الأحكام، حيث عرّفها بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حُكْم من أحكامها."[25] وقد شاع هذا التضييق في مفهوم المقاصد عند غالب الكتَّاب المعاصرين، حيث إن الناظر في كتاباتهم حول المقاصد يلاحظ إطلاقهم هذا المصطلح على الكليات الخمسة (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال)، والمصالح بمراتبها الثلاث (الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات)، والحِكَم والمصالح التي يُراد تحقيقها من الأحكام الشرعية.[26]

ويرى الدكتور طه عبد الرحمن أن مقاصد الشريعة تمثل علم الأخلاق الإسلامي، وأن هذا العلم يشتمل على ثلاث نظريات، هي: نظرية الأفعال، ونظرية النيات، ونظرية القيم. وهذا التقسيم الثلاثي مبنيٌّ على أساس رأيه في أن مصطلح "مقاصد الشريعة" يتضمن ثلاثة معاني، هي: "المقصود" بمعنى المراد من الخطاب الشرعي، وتنشأ عنه نظرية الأفعال. و"القصد" بمعنى النية التي يصدر عنها القائل وتصدر منه، وتنشأ عنه نظرية النيات. و"المقصد/ الغاية" بمعنى الغاية التي يهدف الشارع إلى تحقيقها، وتنشأ عنه نظرية القيم.[27]

وذكر الدكتور عبد الله بن بيه أن لفظ المقاصد في اصطلاح الفقهاء والأصوليين يستعمل في ثلاث استعمالات: أحدها: ما يقصده الشارع بشرع الحُكم، وهو يتداخل مع العلل والأسباب والحِكَم. الاستعمال الثاني: نفس الحُكم المنصبّ على جلب المصلحة أو درء المفسدة، ويستعمل بهذا المعنى خاصة في سياق الحديث عن الأحكام التي تعدّ مقاصد في مقابل الأحكام التي تعدُّ وسائل. الاستعمال الثالث: نوايا المكلَّفين وإراداتهم فيما يقومون به من عبادات أو معاملات.[28]

وبناء على ما سبق عرضه من المضمون الاصطلاحي لمقاصد الشريعة عند المتقدمين والمتأخرين، يمكن الخلوص إلى أن مصطلح "مقاصد الشريعة" يتضمن ثلاثة أمور: أولها: مقاصد الخطاب الشرعي، والثاني: مقاصد الأحكام الشرعية، والثالث مقاصد الشارع في منهج التشريع. ومجموع هذه العناصر الثلاثة يشكل "مقاصد الشريعة الإسلامية" في مدلولها الاصطلاحي. أما مقاصد المكلفين فلا حاجة لإدراجها ضمن مقاصد الشريعة، بل يتم تناولها بشكل مستقل.

ومقاصد الخطاب الشرعي هي: المعاني المقصودة من الخطاب الشرعي الذي يُنْشِئُ حُكما من الأحكام الشرعية، أو يؤسِّسُ لمبدأ من المبادئ، أو يُخبر عن حقيقة من الحقائق.

أما مقاصد الأحكام الشرعية فهي: الحِكَمُ (جمع حِكْمة) والمصالح التي شُرعت الأحكام الشرعية لتحقيقها.

وأما مقاصدالشارع في منهج التشريع فهي: الأمور التي راعاها الشارع في تشريع الأحكام. وهي التي سماها ابن عاشور الأوصاف العامة للشريعة، ويسميها البعض خصائص التشريع الإسلامي.

فمثلا: في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183). القصد من الخطاب هو إيجاب الصوم على من توفّرت فيه شروطه، أما القصد من الحُكم الشرعي فقد ذكرت منه الآية تحقيق التقوى، ويمكن استنباط حِكَمٍ أخرى.

وفي قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185). المقصد من الخطاب هو إيجاب الصوم على المكلَّف المستطيع، وجواز الإفطار للمريض والمسافر مع القضاء. والمقصد من الترخيص في الفطر للمريض والمسافر التيسير عليهما ورفع الحرج عنهما، وهو مقصد متعلق بمنهج التشريع.

وفي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 178-179). نجد أن من مقاصد هذا الخطاب الشرعي: مشروعية القصاص في القتل، واستحقاقُه على الجاني إلا في حال العفو، ومشروعية العفو عن الجاني. وفي الآيات بيان للمقصد من مشروعية العفو عن الجاني وهو التخفيف عليه والرحمة به، وهو متعلق بمقاصد الشارع في منهج التشريع. وبيانٌ للمقصد من حُكم القصاص وهو حفظ النفوس.

وهذا التقسيم الثلاثي ضروري من الناحية المنهجية لتجنب الخلط والالتباس الذي يقع في كثير من الكتابات حول مقاصد الشريعة. وتظهر الحاجة إليه في جوانب أهمها: أولا: حسن فهم مشروع الشاطبي في مقاصد الشريعة، حيث إن الشاطبي ضمّن كتابه في مقاصد الشريعة هذه الأنواع الثلاثة، وإن كان لم ينصّ على التمييز بينها، ولم يفصل بينها في كتابه، ولكن النظر الفاحص لمضمون الكتاب يجدها كذلك. ثانيا: تجنُّب الخلط الواقع في كتابات المعاصرين حول طرق معرفة مقاصد الشريعة، خاصة عندما يتبنون المسالك التي ذكرها الشاطبي، فيقعون في اضطراب عند محاولة تطويعها للكشف عن مقاصد الأحكام الشرعية، في حين أن الشاطبي قصد بأغلبها معرفة مقاصد الخطاب الشرعي وليس الأحكام الشرعية.[29] ثالثا: أنه يرسم صورة واضحة لموضوع مقاصد الشريعة، ويمكِّنُنا من الحديث عن التعليل بمقاصد الشريعة بصورة دقيقة تفصل بين التعليل بمقاصد الأحكام الشرعية وبين التعليل بمقاصد الشارع المتعلقة بمنهج التشريع.

المبحث الثاني: فائدة معرفة مقاصد الشريعة
سأسير في هذا المبحث على التقسيم الذي خلصت إليه في بيان المعنى الاصطلاحي للمقاصد من التفريق بين مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الأحكام الشرعية، ومقاصد الشارع في منهج التشريع.

أولا: فائدة معرفة مقاصد الخطاب الشرعي
معرفة مقاصد الخطاب الشرعي هي موضوع علمي أصول الفقه والفقه، حيث يضع علم أصول الفقه المنهجية المتبعة في فهم النصوص الشرعية واستخلاص الأحكام منها، ويعمل الفقيه على تطبيق تلك المنهجية لاستخلاص الأحكام الشرعية من النصوص سواء بطريق مباشر أو غير مباشر. ومعرفة مقاصد الخطاب الشرعي تمثل معرفة للأحكام الشرعية. وهذه المعرفة هي أساس القيام بالتكليف الشرعي؛ لأن معرفة مقاصد الخطاب الشرعي هي الطريق إلى تطبيق ذلك الخطاب والعمل به.

ثانيا: فائدة معرفة مقاصد الشارع في منهج التشريع
معرفة مقاصد الشارع في منهج التشريع تمثل المرشد للمجتهد في عملية الاجتهاد، حيث إن معرفة العالم بمقاصد الشارع في منهج التشريع تجعله يلتزم بتلك الصفات في منهج الاجتهاد، ولذلك جعل الشاطبي من شروط المجتهد المعرفة التامة بمقاصد الشريعة، والتمكن من استنباط الأحكام في ضوئها. فمعرفة المجتهد أن من مقاصد الشارع في منهج التشريع السماحة والتيسير، ومعرفته بحدود التيسير وأوْجُهِهِ المعتبرة في الشريعة، وكذلك إدراكه أن من مقاصد الشارع في منهج التشريع مراعاة مآلات الأحكام على مستوى التجريد وعلى مستوى التطبيق العملي، كل هذا يجعله يراعي تلك السمات في ما يصدره من أحكام للحوادث المستجدة.

وهذا النوع من المقاصد لا يصلح لتعليل الأحكام الجزئية واتخاذه أساسا للقياس عليه؛ لأن التيسير هو سمة جميع الأحكام الشرعية، وليس مقصورا على الرخص، وإنما الترخيص مرتبة ثانية من مراتب التيسير. فأحكام الشريعة جميعُها يُسْرٌ، وليس فيها حرجٌ على الناس في أحوالهم العادية، ولكن قد يطرأ لبعض الناس حالات خاصة من الضعف بحيث تصير الأحكام العادية بالنسبة لهم شاقة، فترفع الشريعة مرتبة التيسير في حقهم لتصل بها إلى الترخيص في الأحكام الشرعية الأصلية: إما إلى بَدلٍ هو أيْسَر منها، كما هو الحال في التيمم والقصر والجمع في الصلاة، والصيام للمسافر والمريض، أو إلى غير بَدلٍ إذا وصل الشخص مرتبة العجز عن القيام بالفعل، كما هو الحال في الصوم للشيخ الفاني، وللمريض بمرض مُزمن يعجز معه عن الصوم بصورة دائمة. والذي يحصل بالترخيص ليس هو تبديل المقصد من الحكم الشرعي ليصبح المقصد من الفعل الجديد هو التيسير، وإنما هو تغيير التكليف بتخفيفٍ كما هو في قصر الصلاة، أو بتغيير الوقت كما هو في الصيام، ويبقى المقصد من الصلاة المقصورة أو الصيام في غير شهر رمضان هو نفسه المقصد من الصلاة التامة والصيام في شهر رمضان. وفي الترخيص بإباحة أكل المحرَّم في حال الضرورة يكون المقصد من الفعل الجديد هو حفظ النفس وليس التيسير، وإنما التيسير سِـمَةٌ من سمات التشريع.

ثالثا: فائدة معرفة مقاصد الأحكام الشرعية
تحدث الذين كتبوا عن مقاصد الشريعة عن فوائد عديدة لتلك المقاصد،[30] والظاهر أن جوهر الاستفادة من معرفة مقاصد الأحكام الشرعية يتمثّل في التفقُّه في الدين، ومع ذلك فإنها تسهم في استنباط الأحكام الشرعية للمستجدات، ويمكن تلخيص ذلك الإسهام في العناصر الآتية:

1- الاستعانة بها في الترجيح بين الأحكام المتعارضة
من موضوعات البحث في مقاصد الشريعة مراتب المصالح والمفاسد، سواء من خلال معيار المراتب الثلاث للمصلحة: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات،[31] أم من خلال معيار ترتيب الكليات الخمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال،[32] أو من خلال غيرها من المعايير. ومعرفة هذه المعايير في غاية الفائدة للفقيه للترجيح بين المصالح والمفاسد في حال تعارضها.

ومما يتعلق أيضا بالتعارض والترجيح، التدقيق في الأحاديث النبوية التي يكون ظاهرها معارضة مقصد من المقاصد العامة للشريعة. والقاعدة العامة أن الفقيه لا يبني الأحكام إلا على الأحاديث التي ثبت صحتها، وإذا وجد حديثا معارضا لما هو ثابت من المقاصد العامة للشريعة، فإن هذا يكون مدعاة إلى مزيد التدقيق في صحة الحديث.[33] فإذا ثبتت صحته، فعلى الفقيه أن ينعم النظر في معناه، وأن يفتش عن أسباب وروده لعله يظفر بما يعينه على حلّ ذلك التعارض، فيحمله على معنى يتوافق مع المقاصد العامة للأحكام الشرعية.

2- توجيه الحكم الشرعي
صيغ الأمر في النصوص الشرعية تصلح لإثبات الوجوب كما تصلح لإثبات الندب. وكذلك النهي يصلح أن يكون للتحريم كما يصلح أن يكون للكراهة. وإذا لم يكن النص صريحا في أحد تلك الأحكام، فإن مما يفيد في توجيه الحكم الشرعي معرفة المقصد من ذلك الأمر أو النهي إذا كان الشارع قد نصّ عليه، أو قد أشار بعض الرواة من الصحابة إلى المقصد الذي فهموه من ملابسات الأمر أو النهي.

ومن أمثلة ذلك النهي عن كراء الأرض؛ فقد وردت أحاديث في النهي عنه، منها حديث رافع بن خديج رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع."[34] وحديث جابر رضي الله عنه قال: "كانت لرجال منا فضول أرضين، فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه."[35]

وجاءت روايات أخرى فيها إشارة إلى المقصد من ذلك النهي، منها ما روي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: "كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض. قال: فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ."[36] فهذه الرواية -وما ورد في معناها من الروايات الأخرى- تشير إلى أن المقصد من النهي هو دفع الغرر والمخاطرة الحاصلين من كراء الأرض على هذه الصفة. وبناء على هذا المقصد ذهب سالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس إلى أن النهي مخصوص بهذه الصفة، أما كراؤها بالذهب والفضة فإنه جائز.[37]

كما أشارت رواية أخرى إلى مقصد آخر من مقاصد النهي، وهو تنفير الصحابة من كراء الأرض وترغيبهم في مواساة بعضهم بعضا في تلك الظروف الاقتصادية الصعبة. أخرج البخاري عن رافع بن خديج أنه قال: "لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا...". كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه، ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئا معلوما."[38] فمعرفة هذا المقصد تدل على أن النهي لم يكن للتحريم.

ومثال ذلك أيضا ما فهمه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله من أن النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها كان القصد منه الإشارة على الصحابة، وليس التحريم المطلق لذلك البيع. ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون الثمار فإذ جذَّ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدُّمان، أصابه مُراض، أصابه قُشام –عاهات يحتجُّون بها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فإما لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر، كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم."[39]

3- مراعاة مقاصد الشارع في تحقيق المناط الخاص للحكم
من المعلوم أن المقصود من شرع الأحكام ونصب الأدلة الشرعية عليها هو تنزيل أفعال المكلفين على حسبها،[40] والأصل في ما كان يتنزّل في القرآن الكريم من الأحكام العمومُ والتجريد، أي التعلق بحنس الأفعال (وهو ما سماه الشاطبي اقتضاء الأدلة الأصلي للأحكام قبل طروء العوارض)، أما كيفية إيقاع الأمر أو النهي على المحلّ مع اعتبار التوابع والإضافات (وهو ما اصطلح عليه الشاطبي بالاقتضاء التبعي)[41] فإنه كان يحصل بيانه في زمن التشريع بالقرآن الكريم والبيان النبوي الشريف، ولكن ذلك البيان غير مستنفذ لجميع مناطات الأحكام، ولذلك فإن تنزيل المطلق المجرد على المعيَّن المشخَّص بعد زمن التشريع يحتاج إلى نوع اجتهاد ونظر، وهو ما سماه الشاطبي اجتهاد تحقيق المناط، وقال عنه إنه باق بقاء التكليف إلى يوم القيامة.[42] وقد جعله على نوعين: عام، وهو الذي يرجع إلى الأنواع، وخاص، والمراد منه أن المجتهد أو المفتي "يحمل على كلّ نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقِّي التكاليف"،[43] وهو مرادنا بتحقيق المناط في هذا المقام.

والحاصل أن الشارع قاصد إلى حُسْن تنزيل الأحكام المجرَّدة على مناطاتها الحقيقية في الواقع العملي حتى تُثْمر تلك الأحكام فوائدها وتحقِّق مقاصدها. فحسن تحقيق المناط مقصد من مقاصد الشارع، لأنه يؤدي إلى تحقيق مقاصد الأحكام. وحتى يتحقق مقصد الشارع في تنزيل الأحكام على مناطاتها الحقيقية ينبغي على المجتهد أن ينظر في المقصد من الحكم الشرعي الذي هو بصدد تنزيله على واقعة أو شخص ما، ثم ينظر في تلك الحال هل هي مُطابِقة لذلك الحكم وداخلة في نطاقه؟ أم أنها محلّ ترخُّص أو استثناء، أو هي أولى بالدخول تحت حكم آخر غير هذا؟ فإذا تبيَّن له مطابقة المقصد من الحكم للواقعة ألحقها به، أما إذا تبيَّن له عدم الموافقة، فإنه ينبغي عليه تدقيق النظر في حال تلك الواقعة، فربما كان الشارع قد أفاد ما يجعلها محلّ ترخُّص أو استثناء، أو ربما كانت داخلة تحت حكم آخر غير هذا الذي هو محل التنزيل.

ومن أمثلة ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله في سهم المؤلفة قلوبهم. حيث إن القرآن الكريم جعل المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة. وليس من الواجب -كما هو رأي عمر بن الخطاب وجمهور الفقهاء بعده-[44] أن تعطى الزكاة لجميع مصارفها في كل استحقاق لدفعها. فالقرآن الكريم شرع إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم تليينا لقلوبهم وتقريبا لها إلى الإسلام أو إتقاءً لشرهم، وقد كان هذا المقصد متحققا في زمن الرسول r. فلما جاء زمن عمر، وقد دخل الناس في دين الله أفواجا، وأصبحت دعائم الدين واضحة مستقرة، ولأصحابه شوكة قوية تحمي جميع من أوى إليه، لم يعد مناط ذلك الحكم متحققا، فقرر عمر بن الخطاب عدم إعطائهم لأن مناط الحكم لم يعد متحققا، فهو لم يقرر عدم تنزيل الحكم على الواقع إلى الأبد، ولكن في تلك الظروف. وإذا جَدّ ظرف تحقّق فيه مناط الحكم والمقصد منه صُرف للمؤلفة قلوبهم نصيبهم من الزكاة.

وكذلك ما فعله في الزواج من محصنات أهل الكتاب، فإن القرآن قد أباح الزواج منهن كما أباح أكل طعامهم، ربما تأليفا لقلوبهم وتوسيعا على المؤمنين. ولكن لما رأى عمر إسرافا في ذلك المباح وخشي من سوء استخدامه؛ وما ينتج عنه من تعنيسٍ وفتنةٍ للمؤمنات، وخطر على أسرار الدولة وخططها إذا تزوج القادة من الكتابيات، تحقق لديه أن مناط الحكم الذي يترتب عليه المقصد من إباحة هذا النوع من الزواج غير متحقق في غالب تلك الحالات، فنهى عن ذلك الزواج دون تحريم له.[45] ويبقى حكم الإباحة جاريا عند تحقق مناطه بوجود حاجة أو ضرورة ملجئة، أو وجود مصلحة راجحة في ذلك الزواج.

وكذلك ما فعله مع غلمان لحاطب بن أبي بلتعة حين سرقوا ناقة فانتحروها وأكلوها. فلما رفع الأمر إلى عمر بن الخطاب، لم يقطع أيديهم، وقال لسيدهم: "لولا أني أظن أنكم تجيعونهم حتى أن أحدهم أتى ما حرّم الله، لقطعت أيديهم، ولكن والله لئن تركتُهُم لأغرمنك فيهم غرامة توجعك" وغرّمه ضعف ثمن الناقة.[46] فكأن عمر هنا جعل ضرورة الجوع بمنزلة الإكراه الذي هو من مسقطات عقوبة السرقة،[47] ولم يطبق حد السرقة عليهم لعدم وجود مناطه، وهو عدم توفر بعض شروط إقامة الحد.

4- مراعاة مقاصد الشريعة في النظر إلى مآلات الأفعال
تنزيل الحكم الشرعي على واقعة أو شخص ما يقتضي النظر فيما يؤول إليه ذلك التنزيل. وأساس ذلك أن الأحكام الشرعية إنما جاءت لتحقيق صلاح العباد بتحقيق المصالح ودرء المفاسد على المستويين التجريدي المطلق، والتطبيقي المعيَّن. ومن المسلَّم به لدى أهل الإسلام أن كل حكم جاء به الشرع مُحقِّقٌ لمصلحة أو دافع لمفسدة على المستوى التجريدي المطلق. ولكن عند تلبُّس حُكْم ما بالواقع المشخَّص، بما يعتريه من توابع وإضافات، قد يتخلَّف أحيانا تحقيق المصلحة أو دفع المفسدة على الكمال أو على الغالب، بل قد يؤدي الأمر إلى عكس المقصد الشرعي من ذلك الحكم. وإذا صار الأمر إلى ذلك وجب على المجتهد أن يعيد النظر في تنزيل ذلك الحكم على تلك الواقعة المشخصَّة، ليصل إلى حكم آخر هو أليق بتلك الحال، وأكثر تحقيقا للمقصد الشرعي. وهذا هو المعبَّر عنه باعتبار المآلات.[48] فاعتبار مآلات الأفعال ليس معناه تعطيل الحكم الشرعي في واقعة من الوقائع باجتهاد المجتهد بدعوى أن الحكم لا يحقق المقصد منه، ولكنه في الواقع انتقال بالواقعة من حكم إلى حكم آخر، إما بأن تكون محلّ ترخُّص أو استثناء، أو تكون ألصق بقاعدة أخرى وحكم آخر، ليصل المجتهد إلى إلحاقها بأقرب الأصول شبهاً بها. ومن مظاهر اعتبار مآلات الأفعال سدّ ذرائع الفساد، ومنع التّحيُّل على الأحكام الشرعية،[49] وملاحظة مواطن التّرخُّص ومواضع الاستثناء.

5- التعليل بمقاصد الأحكام الشرعية
قضية التعليل بمقاصد الأحكام الشرعية مطروقة عند الأصوليين منذ القديم تحت مسمى "التعليل بالحكمة" و"العلل المصلحية". ومن أقدم المصادر الأصولية التي تحدثت عن هذا كتاب: الفصول في الأصول للجصاص الحنفي، حيث فرّق بين "علل المصالح" و"علل الأحكام"، أي العلل القياسية. وصرح بأن "علل المصالح ليست هي العلل التي يقاس عليها أحكام الحوادث."[50] ويعلل المنع من اتخاذ "علل المصالح" أساسا للقياس بأمرين: أولهما: أن "علل المصالح" لا تُعرف إلا بالنص من الشارع، حيث يقول: "وتلك المعاني لا نعلمها إلا من طريق التوقيف، وإن كنّا قد علمنا في الجملة أن المصلحة في الحكم الذي تُعُبِّدنا به."[51] ومثّل لذلك بقصة موسى مع الرجل الصالح.[52] والأمر الثاني: أن المصالح متعلقة بالمكلَّفين المتعبَّدين بالشرع، وليست متعلقة بالأحكام ذاتها، حيث يقول: "وعلل المصالح إنما هي معان في المتعبَّدين لا في الأصول المتعبَّد بها."[53] وهو يرى أن المصالح نفسها هي الأحكام التي تعبدنا الله تعالى بها.[54] أما علل الأحكام فإنما هي أوصاف في الأصل المعلول، وهي أمارات للأحكام، وعلامات لها، لا على سبيل الإيجاب كما هو الحال في العلل العقلية، وإنما تعلق الأحكام بها حسب تعلقها بالأسماء.[55]

كما ناقش الأصوليون فيما بعد المسألة ضمن مبحث "التعليل بالحكمة"، واختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أولها: رفض التعليل بالحكمة مطلقا، والاقتصار في التعليل القياسي على الوصف الظاهر المنضبط الذي هو مظنة تحقيق الحكمة. والثاني: جواز التعليل بالحكمة مطلقا. والثالث: جواز التعليل بها إن كانت ظاهرة منضبطة، وعدم جواز التعليل بها إن لم تكن كذلك.[56]

ولما كثُر الحديث عن مقاصد الشريعة في عصرنا أصبحت المسألة تناقش تحت مسمى "التعليل بمقاصد الشريعة"أأ. وتقوم الدعوة إلى التعليل بمقاصد الشريعة على أساس التوسيع من دائرة القياس. يقول الدكتور جاسر عودة –وهو من الذين كتبوا في الدعوة إلى التعليل بمقاصد الشريعة-: "فإن الشارع الحكيم قد أناط كثيرا من شرائعه بالعلل المنضبطة الظاهرة، إذ علم سبحانه وتعالى عدم ظهور المقاصد أحيانا، وصعوبة القياس عليها في حق كثير من المكلفين. ولكن سعة الإسلام وشموله لبعدي الزمان والمكان، ومكانة العقل في منهجه التشريعي تلزمنا أن نوسع دائرة القياس لتشمل التعليل بالمقصد إذا غلب على الظن أنه هو المصلحة التي شرع من أجلها الحكم بالأساس. وهذا التوسيع لدائرة القياس عن طريق التعليل بالمقاصد يتيح للفقه الإسلامي مرونة أكثر في استيعاب تغير الأحوال وتطور الأعراف."[57]

ولما كانت الدعوة إلى التعليل بمقاصد الشريعة يُعترض عليها بما اعتُرض على التعليل بالحكمة، فإنه سعى إلى التفريق بين المقصد والحكمة، حيث يرى أن "الحكمة مصلحة تترتب بشكل ثانوي على الحكم... أما المقصد (الجزئي) الذي يدور معه الحكم فهو مصلحة أو مجموعة مصالح ينص الشارع أو يغلب على ظن المجتهد أنها المقصودة من الحكم بشكل رئيس؛ أي لولاها لما شرع الحكم أصلا."[58] وهو يرى أن الحكمة قد تختلف عن المقصد، وقد تكون جزءا منه، وقد تساويه.[59]

والناظر في ما احتج به على التفريق بين الحكمة وبين المقصد يجد أنه مبنيّ على ما ذكره بعض الفقهاء من أمثلة عن الحكمة من بعض الأحكام الشرعية، مثل القول بأن الحكمة من تحريم الزنا هي منع اختلاط النسل؛ وكذلك الأمثلة التي أوردها المعترضون على التعليل بالحكمة فيما يتعلق بالانضباط. وهي أمثلة فيها قصور ولا تمثل سوى اجتهادات أصحابها؛ فالزنا الذي وصفه الله تعالى بقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32) لا يمكن حصره الحكمة/ المقصد من تحريمه في حفظ النسل من الاختلاط، والعدة لا يمكن حصر الحكمة/ المقصد منها في استبراء الرحم. ولذلك فإنه لا يمكن إصدار أحكام عامة بناء على ما مثَّل به بعض الفقهاء للحكمة. وما يسميه الدكتور جاسر عودة مقصدا من شرع الحكم في الأمثلة التي ذكرها[60] يمكن أن يسميه غيره الحكمة من شرع الحكم ويعلل به الحكم إذا توفر فيه شرط الظهور والانضباط وكان من القائلين بالتعليل بالحكمة تلك الشروط.

ومن أجل مناقشة مسألة التعليل بالمقاصد مناقشة منهجية ينبغي أن ننظر إلى موضوع التعليل من ناحيتين: الأولى: التعليل غير القياسي، أي التعليل الذي يسعى إلى بيان الحكمة/ المقصد من تشريع الحكم بغرض الفقه، وليس بغرض القياس. وهذا لا خلاف في وجوده في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا خلاف في القول به.

الناحية الثانية: التعليل القياسي، أي تحديد علة الحكم التي تصلح أن تكون أساسا لتعدية الحكم من مسألة ثابتة إلى مسألة حادثة ليس لها حكم معروف. وهذا هو محل النقاش. وفي هذا النوع من التعليل لا بد من التفريق بين المقاصد العامة والمقاصد النوعية والمقاصد الجزئية.

أما التعليل بالمقاصد العامة المتعلقة بمنهج التشريع، مثل السماحة والتيسير، ومراعاة الفطرة، فهو غير عملي؛ لأن هذه الخصائص تمثل السمات العامة للشريعة التي ينبغي على المجتهد مراعاتها في استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع، وهي ليست أدلة شرعية تفصيلية تستمد منها الأحكام بصورة مباشرة، كما سبق الإشارة إليه.

وكذلك الأمر في الكليات الخمس (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، فهي تمثل الإطار العام الذي تدور فيه الأحكام الشرعية، ولكنها من العموم بحيث تصلح لمجرد الاستئناس والاهتداء بها، لا الاستدلال بها بشكل مباشر. فمثلا حفظ النفس مقصد عام، ولكننا نعلم أن النفس محفوظة في حالات ومهدرة في حالات، فإذا أردنا الاستدلال على حكم جزئية، فإنه لا يكفي أن نثبتها أو ننفيها بحجة كلية حفظ النفس، بل نبحث لها عن النوع أو الجنس الذي تندرج تحته. فلا يمكن –مثلا- أن نستدل على مشروعية أكل طعام ما بمجرد أنه يحفظ النفس؛ فكثير من الكفار يحفظون نفوسهم بأكل الخنزير والميتة، ولكن لا بد أن نرجع ذلك الطعام إلى جنسه أو نوعه المعلوم حكمه شرعا لنرى هل هو معتبر في حفظ النفس أم لا؟ وحفظ الدين مقصد عام، ولكن لا يمكن الاحتجاج بمجرد حفظ الدين دون النظر في جنس أو نوع الفعل الذي يراد حفظ الدين به؛ فكثير من الناس يبتدعون في الدين بحجة حفظ الدين، فيضيِّعون الدين من حيث يريدون حفظه. وقد يفتي البعضُ بما يرهق الناس أو يهلكهم فيما هو ليس من عزائم الأحكام بذريعة حفظ الدين.

أما المقاصد النوعية[61] فهي تشبه إلى حد ما القواعد الفقهية، ويمكن استخدامها في استنباط أحكام للمستجدات من باب إرجاع المصالح والمفاسد إلى أجناسها. والقواعد الفقهية -وفي حكمها ما يسميه البعض "القواعد المقاصدية"- في أصلها ضوابط تكشف عن معاني مستنبَطة يتم تجميعها في قواعد عامة تعين الفقيه وتوجِّهه في عملية الاستنباط، و يمكن أن تستخدم في الحُكْم على بعض الوقائع غير المنصوص عليها بإرجاعها إلى تلك القواعد،[62] ولكنها لا تكون أساسا وحيدا للحكم على ما يمكن أن يندرج ضمنها من الوقائع الجديدة؛ لأن عملية الاجتهاد في الحكم على واقعة جديدة قضية متعددة الأبعاد، وليست أمرا بسيطا بحيث يحكم عليها مباشرة في ضوء قاعدة من القواعد المقاصدية أو الفقهية. ففضلا عن النظر في تمشّي حكم الواقعة الحادثة مع القواعد والمقاصد العامة للشريعة، ينبغي النظر في عدم معارضته للمقاصد الخاصة ذات العلاقة بالواقعة، والنظر في احتمال كون الواقعة يتجاذبها أكثر من قاعدة أو مقصد للترجيح بأيها تُلْحَق، وكذلك النظر فيما يؤول إليه إعطاؤها ذلك الحكم. ولا يتحقّق هذا الأمر إلاّ بالنظر في القواعد والنصوص على السواء، والتعامل معها وفق المنهجية الأصولية الفقهية للوصول إلى الحكم المناسب.

أما المقاصد الجزئية، أي مقاصد آحاد الأحكام الفرعية، فإن استخدامها في التعليل القياسي يعتمد على تحديد الأساس الذي يقوم عليه القياس: هل هو العلة، أم السبب، أم الحكمة/ المقصد؟ وهذا الأمر يعتمد أيضا على المفهوم الذي نعطيه للعلة والسبب والحكمة/ المقصد.

وعند النظر في الكتابات الأصولية نجد أنه لا يوجد ضابط محدد بدقّة يمكن الاتفاق عليه للتفريق بين العلة والسبب والحكمة/ المقصد. فمصطلح العلة دخل أصول الفقه من علم الكلام، ولم يكن موجودا في الصدر الأول، على الأقلّ إلى عصر الشافعي، حيث إن الشافعي في كتاب الرسالة نجده عند حديثه عن القياس يذكر المعنى الذي شرع من أجله الحكم، ولا يذكر مصطلح العلة. حيث يقول في بيان أحد أنواع القياس:
"أن يكون اللهُ أو رسولُه حرّم الشيءَ منصوصا أو أحلَّه لمعنىً، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنّةٌ: أحللناه أو حرمناه، لأنه في معنى الحلال أوا لحرام."[63] ومثّل لذلك بقياس الوالد المحتاج غير المحترف في وجوب النفقة عليه على الولد؛ وذلك أن "الولد من الوالد، فجُبِرَ على صلاحه في الحال التي لا يغني الولد فيها نفسه"، فكما أن الولد لا يجوز له أن يضيِّع شيئا من أولاده الذين هم منه، لا يجوز له أن يضيِّع شيئا من الوالدين الذين هو منهم. وقياسا على ذلك "إذا بلغ الأبُ ألا يُغني نفسَه بكسب ولا مال فعلى ولده صلاحُه في نفقته وكسوته". ويمتدُّ هذا القياس إلى الأحفاذ والأجداد الذين تتوفر فيهم شروط النفقة: "وكذلك الوالدون وإن بعدوا، والولد وإن سفلوا، في هذا المعنى، والله أعلم، فقلتُ يُنفِقُ على كلّ محتاج منهم غير محترف، وله النفقةُ على الغنيِّ المحترف."[64]

وهذا الذي يسميه الشافعي "المعنى" الذي شرع من أجله الحكم يمكن أن يسميه البعض "العلة"، وقد يسميه البعض الآخر "الحكمة" أو "المقصد" من شرع الحكم.

وإذا رجعنا إلى تعريف العلة عند الأصوليين، نجد أن اختياراتهم –على الأقل إلى عصر الآمدي- في تعريفها تدور بين: المؤثر في الحكم أو الموجب للحكم بجعل الشارع، أو الباعث على الحكم، أو المعرّف للحكم، بمعنى العلامة التي نصبها الشارع على الحكم،[65] والتعريفات الثلاثة الأولى تُشبه مفهوم الحكمة. ثم بعد ذلك شاع تعريفها بأنها: الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على حكمة مناسبة للحكم، وشاع التفريق بين الحكمة والعلة، على اعتبار أن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب (بمعنى المشتمل على الحكمة الضابط لها).[66] وعلى الرغم من هذا الشيوع في الكتابات الأصولية، فإننا نجد –مثلا- الشاطبي الذي حاول العودة بأصول الفقه إلى عصره الأول، لا يلتزم بالاصطلاح الذي شاع بين الأصوليين، حيث عرف الشاطبي العلة بأنها: "الحِكَم والمصالح التى تعلَّقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلَّقت بها النواهي؛ فالمشقة علّة في إباحة القصر والفطر في السفر، والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة. فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة، لا مَظِنَّتُها؛ كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة. ففي قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"[SUP][SUP][67][/SUP][/SUP] يكون الغضب سببا، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة. على أنه قد يُطْلَق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما، ولا مشاحّة في الاصطلاح."[68]

كما عرف الشاطبي السبب بأنه: "ما وُضِع شرعا لحُكْم لـحِكْمَة يقتضيها ذلك الحُكْم. ومثال ذلك: كون حصول النصاب سببا فى وجوب الزكاة، ودخول الوقت سببا في وجوب الصلاة، والسرقة سببا فى وجوب القطع، والعقود أسبابا فى إباحة الانتفاع أو انتقال الأملاك، وما أشبه ذلك".[69]

ويتبيّن من خلال التعريفين أن الشاطبي يميل إلى تعريف السبب بما يعرف به جمهور الأصوليين العلة، في حين يعرف العلة بأنها الحكمة أو المقصد من الحكم. وعلى الرغم من أن الشاطبي لم يبيّن الأساس الذي يقوم عليه القياس عنده: هل هو السبب أم العلة؟ إلا أنه يمكن أن نستخلص من تعريفاته أن كثيرا مما يسميه الأصوليون علة الحكم يمكن تسميته سببا للحكم، وبذلك يمكن أن يكون السبب أساسا للقياس بدلا من العلة، أو بعبارة أخرى يمكن أن نسمي علة القياس سببا. ويؤيد هذا إقرار الأصوليين بالتداخل بين معنى السبب ومعنى العلة.[70]

وليس من هدف هذا البحث الخوض في تفاصيل تعريف العلة والسبب والحكمة/ المقصد والتفريق بينها، إنما المراد بيان أن ما ذهب إليه كثير من الأصوليين من التفريق بين العلة والسبب والحكمة، والاقتصار في التعليل القياسي على ما يسمونه "العلة" قابل للنقاش والاختلاف.

كما أننا إذا أخذنا بأساس القياس عند الشافعي، وهو "المعنى" الذي شرع لأجله الحكم، فإننا يمكننا القول بجواز التعليل بالحكمة/ المقصد إذا توفر شرطا الظهور والانضباط، وغلب على الظن كون الحكم شرع لذلك المعنى. وليس المراد بالانضباط هنا انعدام التفاوت في وجود الحكمة/ المقصد؛ لأن ذلك غير ممكن حتى في الأسباب والعلل، بل المراد هو كون وجود "الحكمة/ المقصد" متقاربا بين مختلف الحالات، ولا يكون متفاوتا بصورة تخُّل بإلحاق الفرع بالأصل.


والخلاصة أننا متى تبين لنا أن معنى من المعاني هو الذي شرع الحكم من أجله، فإنه يمكننا اتخاذه أساسا للقياس، ولا يهم أن نسميه علة أو سببا أو مقصدا أو حكمة، ولكن المهم هو التحقُّق من كونه المعنى الذي شُرع من أجله الحكم، ثم التحقُّق من صلاحيته ليكون أساسا لتعدية الحكم إلى الفرع، وفقا لما يشترطه أصحاب المذاهب الفقهية في العلة، ولا شك أن عملية التحقّق فيها ما هو محلّ خلاف بين أصحاب تلك المذاهب.

وقبل أن نختم الحديث عن التعليل بمقاصد الأحكام الشرعية، نعرّج على ما ذكره ابن عاشور في معرض بيان الفائدة من تقسيم المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، حيث إن الدكتور جاسر عودة أوردها في سياق الاحتجاج للتعليل بالمقاصد، بما يفيد أن ابن عاشور يدعو إلى التعليل بمقاصد الأحكام الشرعية.[71] يقول ابن عاشور: "وإنما غرضنا من ذلك أن نعرف كثيرا من صور المصالح المختلفة الأنواع المعروف قصد الشريعة إياها، حتى يحصل لنا من تلك المعرفة يقين بصور كلية من أنواع هاته المصالح. فمتى حلّت الحوادث التي لم يسبق حلولُها في زمن الشارع، ولا لها نظائر ذات أحكام متلقاة منه عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصورة الكلية، فنثبت لها من الأحكام أمثال ما ثبت لكلياتها... وهذا ما يسمى بالمصالح المرسلة."[72] ويضيف قائلا: "وإنه
]ليس للعالم أن[ يترقب حتى يجد المصالح المثبتة أحكامُها بالتعيين، أو الملْحَقَة بأحكام نظائرها بالقياس، بل يجب عليه تحصيل المصالح غير المثبتة أحكامُها بالتعيين، ولا الملْحَقَة بأحكام نظائرها بالقياس."[73]

وهذا النوع من إلحاق المصالح بأجناسها الثابتة هو في الحقيقة محل اتفاق بين العلماء، ولكن الخلاف في توصيف ذلك الإلحاق، فالجويني سماه الاستدلال/ الاستدلال المرسل، وسماه الغزالي المصلحة المرسلة، وسار على هذه التسمية الذين تأثروا بمدرسة الجويني-الغزالي الأصولية، ولم يدخلوه في القياس؛ لأنهم ضيَّقوا مفهوم القياس وحصروه في قياس جزئي على جزئي. أما الذين لا يستعملون مصطلح "المصلحة المرسلة" فإنه يكون عندهم من باب إجراء العمومات الشرعية على تلك المصالح الحادثة، أو من باب إرجاع الفروع الحادثة إلى أصولها الثابتة، وهو القياس بمفهومه الواسع كما ذكره الشافعي، أو من باب تحقيق المناط.

خاتمة
في ختام هذا البحث نصل إلى تسجيل نتائجه فيما يأتي:
1- لا يوجد من الناحية اللغوية ما يوجب التفريق بين لفظي "القصد" و"المقْصَد" في الاستعمال، ولا يمكن لأحد أن يُلزم الآخرين بذلك التفريق، ولا تخطئة من لا يفرق بينهما في الاستعمال. وإذا كان هناك خوف من الخلط في الاستعمال، فإنه يمكن تجنب ذلك الخلط باستعمال مصطلحي "مقاصد الخطاب الشرعي" و"مقاصد الأحكام الشرعية" بدلا من الاقتصار على استعمال مصطلح "مقاصد الشريعة" بإطلاق.

2- يوصي الباحث بعدم الحديث عن مقاصد الشريعة كأنها موضوع واحد، بل لا بد من الفصل أثناء دراستها بين الأنواع الثلاثة لمقاصد الشريعة: مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الأحكام الشرعية، ومقاصد الشارع في منهج التشريع. وهذا الفصل ضروري لتجنب الخلط والالتباس الذي يقع في كثير من مباحث مقاصد الشريعة، خاصة منها ما يتعلق بطرق معرفة مقاصد الشريعة، والتعليل بمقاصد الشريعة.

3- مقاصد الشارع المتعلقة بمنهج التشريع لا يمكن استعمالها في التعليل الذي يكون أساسا للقياس واستنباط الأحكام الجزئية، وكذلك المقاصد العامة للأحكام الشرعية. ويخضع التعليل بمقاصد الأحكام النوعية لما تخضع له القواعد الفقهية في استخدامها لاستنباط الأحكام. أما مقاصد الأحكام الجزئية فإن التعليل القياسي بها ممكن إذا توفرت فيها الشروط التي يشترطها أصحاب المذاهب الفقهية في ركن العلة، وهي شروط منها المتفق عليه ومنها المختلف فيه، ولا يهم بعد ذلك تسميتها علة أو سببا أو حكمة ومقصدا.

نسخة PDF من المجلة موجودة على الرابط الآتي:
http://journals.iium.edu.my/at-tajdid/index.php/Tajdid/issue/view/77


المراجع
ابن بطال، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، شرح صحيح البخارى، تحقيق أبو تميم ياسر بن إبراهيم (الرياض: مكتبة الرشد، ط2، 1423هـ/ 2003م)
ابن زغيبة، عزالدين، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (القاهرة: مطابع دار الصفوة للطباعة والنشر، ط1، 1417هـ/ 1996م).
ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، ط1، 1410هـ/ 1990) ج3، ص353-355؛ الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة (بيروت: دار الفكر، ط3، د. ت).
أبو بكر البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط3، 1424 هـ - 2003 م).
أحمد بن علي الرازي الجصاص، الفصول في الأصول، تحقيق عجيل النشمي (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1414هـ/ 1994م).
جاسر عودة، فقه المقاصد: إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1427هـ/ 2006م)
سعاد كوريم، "جدل العلاقة بين القصد القرآني والمقصد الشرعي: مقترح منهجي"، ضمن كتاب: مقاصد الشريعة والاجتهاد: بحوث منهجية ونماذج تطبيقية (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي/ مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، ط1، 2008م)
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، الموافقات في أصول الشريعة، شرحه وخرج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت).
الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة (بيروت: دار الفكر، ط3، د. ت)
طه عبد الرحمن، "مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة"، مقال منشور في مجلة المسلم المعاصر، السنة 26، العدد 103.
طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م).
عبد الله بن بيه، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي/ مركز درسات مقاصد الشريعة الإسلامية، 2006م).
عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006).
علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993م).
فاضل صالح السامرائي، معاني الأبنية في العربية (عمان: دار عمار للنشر والتوزيع، ط2، 1428هـ/ 2007م).
قعله جي، محمد رواس: موسوعة فقه عمر بن الخطاب (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط5، 1418هـ/ 1997م)، ص468.
الكيلاني، عبد الرحمن إبراهيم، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا (الأردن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دمشق: دار الفكر، ط1، 1421هـ/ 2000م) ص119-122.
مالك بن أنس، الموطأ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي (الإمارات: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية، ط1، 1425هـ/ 2004م).
محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م).
محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر بيروت: المكتبة العلمية (د. ت).
محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر (د.م: دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ).
محمد سعد اليوبي، مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية (الرياض: دار الهجرة للنشر والتوزيع، ط1، 1418ه/ 1998م).
نعمان جغيم، طرق معرفة مقاصد الشارع (الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، 1422هـ/ 2002م).
يوسف أحمد محمد البدوي، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية (الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، د.ت).
يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2، 1415هـ/ 1994م).



[1] طه عبد الرحمن، "مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة"، مقال منشور في مجلة المسلم المعاصر، السنة 26، العدد 103.

[2]سعاد كوريم، "جدل العلاقة بين القصد القرآني والمقصد الشرعي: مقترح منهجي"، ضمن كتاب: مقاصد الشريعة والاجتهاد: بحوث منهجية ونماذج تطبيقية (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي/ مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، ط1، 2008م).

[3] جاسر عودة، فقه المقاصد: إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1427هـ/ 2006م)

[4] ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، ط1، 1410هـ/ 1990) ج3، ص353-355؛ الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة (بيروت: دار الفكر، ط3، د. ت) ج3، ص628.

[5] عبد الله بن بيه، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي/ مركز درسات مقاصد الشريعة الإسلامية، 2006م) ص11-13.

[6] طه عبد الرحمن، "مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة"، مقال منشور في مجلة المسلم المعاصر، السنة 26، العدد 103، ص46. وانظر أيضا: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م) ص98.

[7]سعاد كوريم، "جدل العلاقة بين القصد القرآني والمقصد الشرعي: مقترح منهجي"، ضمن كتاب: مقاصد الشريعة والاجتهاد: بحوث منهجية ونماذج تطبيقية، ص81-82.

[8] حيث تقول: "إن وهم المطابقة الذي أسس له عدم التفريق بين اللفظين على المستوى اللغوي، مضافا إليه عدم التفريق بينهما فيما يليه من مستويات أدى إلى استعمالهما على نحو تبادلي، ومن ثم إلى الخلط المنهجي بين مرحلتين متمايزتين من مراحل إدراك الدلالة، هما مرحلة إدراك قصد الشارع، أي تعيين المعنى المراد من بين المعاني التي يحتملها اللفظ، ومرحلة إدراك مقصده، أي تعيين الغاية التي من أجلها شرع الحكم." (ص82-83). والواقع أن ذلك ليس ضروريا، فقد يرد في الشرع التنصيص على الحكمة من شرع الحكم، وقد يكون ذلك مقرونا بالحكم عادة. فقد ينص الشارع على الحكم (المقصد من الخطاب) وعلى العلة/ الحكمة (المقصد من الحكم)، وبذلك لا يكون تحديد المقصد من الحكم ثمرة لتحديد القصد من الخطاب.

[9] مثال ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، حيث ذكر الحكم والغاية منه؛ وكذلك قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185).

[10] فاضل صالح السامرائي، معاني الأبنية في العربية (عمان: دار عمار للنشر والتوزيع، ط2، 1428هـ/ 2007م) ص31.

[11] فاضل السامرائي، معاني الأبنية في العربية، ص33.

[12]الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، الموافقات في أصول الشريعة، شرحه وخرج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت) ج2، ص5، 196، 224، وغيرها من الصفحات.

[13] على خلاف ما هو شائع بين الباحثين من أن الشاطبي لم يضع تعريفا محددا لمقاصد الشريعة، يرى الدكتور عز الدين بن زغيبة أن الشاطبي قد عرف مقاصد الشريعة، ولكنه جزَّأ التعريف إلى جزأين في مكانين مختلفين يُكمِّل كلُّ واحد منهما الآخر. والجزء الأول هو قوله: (... إن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل، ولا بحسب الجزء). والجزء الثاني هو قوله: (القصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا.) (عز الدين بن زغيبة، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، القاهرة: مطابع دار الصفوة للطباعة والنشر، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص41-43).
ومن الواضح أن ما نقله الدكتور بن زغيبة من كلام الشاطبي ليس تعريفا، ولا أراد به صاحبه التعريف، وإنما هو تنصيص على المقصد الأساس من وضع الشريعة في ذاتها، وهو تحقيق المصالح الأخروية والدنيوية، وبيان الوجه الآخر لهذا المقصد وهو إخراج المكلَّف عن داعية هواه؛ لأن الصلاح لا يتحقق إلا بذلك. ومعلوم أن من منهج الشاطبي، كما نص عليه في مقدمات كتاب الموافقات وفي مواضع أخرى منه، عدم الاعتناء بالتعريفات الحدية، بل تحفُّظه على السعي إلى تحصيلها والالتزام بها.

[14] الشاطبي، الموافقات، ج1، ص59.

[15] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص7 وما بعدها.

[16] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص49-82.

[17] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص82-128.

[18] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص128-245.

[19] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص246-296.

[20] محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م) ص129-179.

[21] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص189-302.

[22]ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص189-195.

[23] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص317-384.

[24] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص124.

[25] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993م) ص3.

[26] انظر مثلا: يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2، 1415هـ/ 1994م). بن زغيبة عزالدين، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية؛ محمد سعد اليوبي، مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية (الرياض: دار الهجرة للنشر والتوزيع، ط1، 1418ه/ 1998م)؛ عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006).

[27] طه عبد الرحمن، "مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة"، ص46.
[28] عبد الله بن بيه، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ص14-21.

[29]تناولت بالتفصيل ذلك الاضطراب في بحث بعنوان: "طرق معرفة مقاصد الشريعة بين الشاطبي والكتاب المعاصرين"، منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت، العدد 104، مارس 2016م. البحث موجود على الرابط: http://www.feqhweb.com/vb/t22146

[30] انظر في ذلك مثلا: محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص131-135؛ يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ص106-109؛ نعمان جغيم، طرق معرفة مقاصد الشارع، ص43-58؛ يوسف أحمد محمد البدوي، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية (الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع، د.ت) ص106-122.

[31] انظر في ذلك مثلا: الشاطبي، الموافقات، ج2، ص12-26؛ يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ص165-171.

[32] انظر تفصيلا دقيقا في هذا المعيار في: نعمان جغيم، دراسة في الإشكالات المتعلقة بالمقاصد الخمسة، بحث منشور في مجلة جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية –بروناي، العدد 4، 1436هـ/ 2015، ص97-122. البحث موجود على الرابط: http://www.feqhweb.com/vb/t21996

[33] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص132-133.

[34]مالك بن أنس، الموطأ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي (الإمارات: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية، ط1، 1425هـ/ 2004م) كراء الأرض، ج4، ص1028 (رقم: 2624/ 585).

[35]صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر (د.م: دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب فضل المنيحة، ج3، ص166 (رقم: 2632).

[36]صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب قطع الشجر والنخل، ج3، ص104 (رقم: 2327).

[37]انظر أقوال العلماء في حكم كراء الأرض في: ابن بطال، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، شرح صحيح البخارى، تحقيق أبو تميم ياسر بن إبراهيم (الرياض: مكتبة الرشد، ط2، 1423هـ/ 2003م) ج6، ص463-471.

[38]صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم في الزراعة والثمرة، ج3، ص105 (2330).

[39]صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وانظر أقوال العلماء في حكم بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها في: ابن بطال، شرح صحيح البخارى، ج6، ص314-317.

[40] الشاطبي، الموافقات، ج3، ص30.

[41] وقد بيَّن الشاطبي أهم المواضع التي كان يتم فيها ذلك البيان. الموافقات، ج3، ص71-75.

[42] الشاطبي، الموافقات، ج4، ص463، 467.

[43] الشاطبي، الموافقات، ج3، ص471.

[44] قعله جي، محمد رواس: موسوعة فقه عمر بن الخطاب (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط5، 1418هـ/ 1997م)، ص468.

[45] عن الصلت بن بهرام قال: سمعت أبا وائل يقول: تزوج حذيفة رضي الله عنه يهودية، فكتب إليه عمر أن يفارقها، فقال: أني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات. وفي رواية أخرى: أن حذيفة كتب إليه: أحرام هي؟ فقال عمر: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن." أبو بكر البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط3، 1424 هـ - 2003 م) ج7، ص280.

[46]السنن الكبرى للبيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ/ 2003م) كتاب: جماع أبواب قطع اليد والرجل في السرقة، باب: ما جاء في تضعيف الغرامة ج8، ص483 (رقم: 17287).

[47] قعله جي، موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص491.

[48] وليد بن علي الحسين، اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي (الرياض: دار التدمرية، 1429هـ/ 2008م) ج2، ص531-535، 541-550.

[49] انظر ما كتبه ابن عاشور عن سد ذرائع الفساد والحيل: مقاصد الشريعة، ص259-272.

[50] الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص140.

[51] الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص141.

[52] الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص140-141.

[53] الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص141.

[54] الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص141.

[55] الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص138، 141.

[56] انظر خلاصة لمذاهب الأصوليين في التعليل بالحكمة في: السعدي، عبد الحكيم بن عبد الرحمن، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين (بيروت: دار البشائر الإسلامية، ط2، 1421هـ/ 2000م) ص107-117.

[57] جاسر عودة، فقه المقاصد، ص61.

[58]جاسر عودة، فقه المقاصد، ص61.

[59] جاسر عودة، فقه المقاصد، ص61.

[60] وهي المقصد من: رخصة الفطر، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، وتحريم نكاح الأمهات والأخوات من الرضاعة. جاسر عودة، فقه المقاصد، ص61-63.

[61] المقاصد النوعية هي: المقاصد التي يلتقي عليها جملة من الأحكام الشرعية التي تنتمي إلى نوع واحد من أنواع مجالات الحياة، مثل مجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بأحوال الأسرة، ومجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات المالية.( انظر: عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، ص41.)

[62] انظر ما كتبه الكيلاني في صلاحية هذه القواعد للاستدلال بها في مقام الاجتهاد. الكيلاني، عبد الرحمن إبراهيم، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا (الأردن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دمشق: دار الفكر، ط1، 1421هـ/ 2000م) ص119-122.

[63] الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر (بيروت: المكتبة العلمية د. ت) ص40.

[64] الشافعي، الرسالة، ص518.

[65] انظر في بيان ذلك مثلا: السعدي، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، ص72-94.

[66] انظر في عرض محاولات الأصوليين للتفريق بين تلك الاصطلاحات: السعدي، مباحث العلة في القياس، ص105-106، 139-150.

[67] الترمذي، سنن الترمذي: كتاب الأحكام عن رسول الله، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان.

[68] الشاطبي، الموافقات، ج1، ص256.

[69]الشاطبي، الموافقات، ج1، ص256.

[70] انظر ملخصا في محاولات التفريق بين السبب والعلة في: السعدي، مباحث العلة في القياس، ص139-142.

[71] جاسر عودة، فقه المقاصد، ص67.

[72] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص225.

[73]ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص226.
 
أعلى