العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

فإنَّ من المناهج الفقهيّة في التعامل مع الخلاف؛ اعتبار الجانِب الأخلاقيّ في الفِكر الفقهيّ التعدّديّ، ولعلّي أبدأ في هذا المقام بذكر تطبيق لهذا الجانب الأخلاقي عند الترجيح بين الآراء المُختلفة بشكل خاص -من غير بسط لقواعد التعارض والترجيح أو خوض في مباحث التعارض والترجيح بتفصيل عمومًا-، وهذا التطبيق يتمثّل في (ضابط الترجيح الصحيح بين المذاهب عند الشاطبيّ)؛ فقد عثرتُ للإمام الشاطبي -رحمه الله- على كلامٍ نفيس نبّه فيه على محاذير ينبغي أن تجتنب في الترجيح بين الآراء المُختلفة، ونحن ننقله في هذا الموضع -لنفاسته- بالحرف؛ ذلك أن ما نبّه عليه -رحمه الله- في هذا المقام قد وقع فيه حتّى أكابر العُلماء الذين عقدوا مؤلّفات للترجيح والتفضيل بين المذاهب والأئمة، كما يُعلم من قراءة "مُغيث الخلق في ترجيح القول الحق/ للجويني" -وأمثاله-، فقال -الشاطبيّ في الموافقات (4/ 193- 195)- بعد أن قسَّم طثرقُ الترجيح إلى قسمين: عام وخاص، وأنَّ الناس في الطريق العام قد تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم:.. فلنذكر هُنا أمورًا يجب التنبيه لها:
أحدها: أنا الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراط في الوصف الذي تفاوتا فيه، وإلا فهو غبطال لأحدهما، وإهمال لجانبه رأسًا، ومثل هذا لا يُسمَّى ترجيحًا، وإذا كان كذلك؛ فالخروج في بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المُتَّصفِين: خروج عن نمط إلى نمط آخر مُخالف له، وهذا ليس من شأن العلماء، وإنما الذي يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله، والأئمة المذكورون برآء من ذلك النمط لا يليق بهم.
والثاني: أن الطعن في مساق الترجيح يُبيّن العناد من أهل المذهب المطعون عليه، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه؛ لأن الذي غضَّ من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك: حقيقٌ بأن يتعصَّبَ لما هو عليه ويُظهر محاسِنه، فلا يكون للترجيح المَسُوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام وإن كان مرجوحًا، فإن الترجيح لم يحصل.
والثالث: أن هذا الترجيح مُغرٍ بانتصاب المُخالِف للترجيح بالمثل أيضًا، فبينا نحن نتتبع المحاسن صِرنَا نتتبع القبائح؛ فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلّق بها، فمن غضَّ من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه، فكأن الترجيح لمذهبه على هذا الوجه خاضٌّ من جانب مذهبه، فإنه تسبب في ذلك، كما في الحديث: (إنَّ من أكبر الكبائر أن يسبَّ الرجل والديه)، قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه). فهذا من ذلك، وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع، كقوله: (لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا..) [البقرة: 104]، وقوله: (ولاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ.. الآية) [الأنعام: 108]، وأشباه ذلك.
والرابع: أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب، ورُبما نشأ الصغير منهم على ذلك، حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بُغض من خالفهم فيتفرَّقوا شيعًا، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواء شِيضعًا لَسْتَ مِنْهُم فِي شَئٍ) [الأنعام: 159] -وقد مرَّ تقرير هذا المعنى من قبل-، فكلُّ ما أدَّى إلى هذا ممنوع؛ فالترجيح بما يُؤدِّي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع.
والخامس: أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح رُبما أدى إلى التغالي والانحراف في المذاهب، زائدًا إلى ما تقدَّم، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المثختلفين في معارض الترجيح والمحاجة. قال الغزالي في بعض كُتبه: "أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصّب جماعة من جهّال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذَّر على العلماء المتلطّفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصّب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول عمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مُستقرًّا في قلب مجنون، فضلًا عن قلب عاقل.." . اهـ.
وبناءً على هذه الحقائق؛ فإن الترجيح بين المذاهب إنما يكون صحيحًا إذا وقع في النوع الثاني من أنواع الترجيح، وهو الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافّة، وذلك عند الحاجة إليه.
وأصل هذا النوع -الثاني- قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.. الآية) [البقرة: 253]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلنَا بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ وَآتِينَا دَاوُدَ زَبُورًا) [الإسراء: 55]، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبيّ بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). قال ابن حجر في الفتح (7/ 117- 118): هذا الحديث أورده الترمذي وابن حبان من طريق عبدالوهاب الثقفي عن خالد الحذاء مطوّلًا، وأوله (أرحم)، وإسناده صحيح، إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال، والموصول منه ما اقتصر عليه البُخاريّ. اهـ.
وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح، وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم، والحُكم المنبرم الذي لا يتعدّى إلى سواه، وكذلك فعل السلف الصالح - الموافقات (4/ 198).

-فنخلُص من هذا التمهيد إلى أن الترجيح الصحيح الذي ينبغي أن يكون قانونًا حاكِمًا إنما هو الترجيح بذِكر الفضائل والمناقب والمحامد، فأما الترجيح بالطعن والتجريح فليس منهجًا صحيحًا، وقد اقتضى النظر في هذا التطبيق أن نبني عليه معاني أُخَر ناسبت ما عليه الحال في عصرنا هذا، إمَّا من جِهَةِ بيان الصِلة بين علمي الأخلاق والفقه، وما ينبني على ذلك من كون المُراد بالفقه العمل لا الخصومات، وإما من جِهَة ما أُحدِثَ من الطعن والمثالب في مذاهب الأئمة وفقههم من بعض طوائف المُسلمين؛ فنقول وبالله التوفيق:

-إنَّ العلم والأخلاق في التُراثِ الفقهيّ دليلٌ على صِلَة الفقه الإسلاميّ بالخُلق والأدب..
"تلك نماذج من الاختلافات بين الشيخين، اختلفت الآراء وما اختلفت القلوب؛ لأن نياطها شدت بأسباب السماء، فما عاد لتُراب الأرض عليها سُلطان" - أدب الاختلاف في الإسلام/ د. طه جابر العلواني: ص(63).
بهذه العِبَارة الصادقة علَّق الدكتور طه جابر العلواني بعد أن ساق أمثلة من اختلافات الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأحسبها عِبَارةٌ جامعة لما نُريد تقريره في هذا المبحث من ضرورة ارتباط العِلم -وهو هنا خلافات الفقهاء- بأخلاق الإسلام وآدابه.
لقد طغت الماديّة والفِكر المُصاحب لها على دنيا الناس، حتى أصبحنا نسمع عن الفصل بين العلم والأخلاق في بلاد الإسلام، كما فُصِلَ بين علم الفقه وبين علم الأخلاق في مجال الدراسة، باعتبار الأول ينظم العلاقة بين الأفراد والمعاملات في الدنيا، واتجاه الثاني إلى أمور النفس والقلب وتزكيتها وإصلاحها، ورحم الله الإمام ابن جزي عندما وصل بينهما في كتابه "القوانين".
في كُتب تراثنا آدابٌ للتلقي، وآداب لإلقاء السؤال، وآداب للمُخالفة، وآداب للمُفتي، وأُخرى للمُستفتي.. لم يكونوا يفصِلُونَ بين العلم والأدب -انظر في ذلك مثلًا: مقدّمات الشاطبي في الموافقات، وأدب المُفتي لابن الصلاح، وصفة الفتوى لابن حمدان الحنبلي، وغيرها كثير-، وقد ألَّفَ حافظ المغرب الإمام أبو عمر يوسف بن عبدالبر القرطبي (463 هـ) -رحمه الله- كِتابًا في هذا المعنى سمَّاهُ: "جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله"، ويظهر من قراءة سبب تأليفه ما يُومئ إلى الحال التي أشرنا إليه آنفًا.
إنَّ من أجلة مظاهر عدم التحلِّي بأدب الخلاف: التعصّب المقيت للرأي، وما يُصاحب ذلك من طعن وتجريح في المُخالف، ورُبما الافتراء عليه ونسبته إلى الجهل.
ومن مظاهره أيضًا غمط الناس فضلهم، وعدم السماح لهذا الفضل أن يذيع وينتشر حُبًّا في الانتصار والشُهرة، تعلق ذلك بالشخص، أو الجماعة، أو الحِزب.
ومن مظاهره أيضًا أن ينتصب الإنسان مُخالفًا، لا يدعوه لذلك البحث عن الحق والإخلاص لدين الله ولكلمته أن تعلو.
ومن مظاهره أن تنحصر المودّة والأخوة وما تعلّق بها من حقوق الموالاة والمُناصرة في الشخص أو الفريق الموافق في الرأي، أما من خالف ورأى غير الذي تراه فهو بمنأى عن ذلك.
ومن مظاهره أن يمنع الزواج بين المتخالفين بحُجّة التماسك الفكري للأسرة، وتقليل الخلافات في ذلك، والتعاون على خدمة الرأي والفكرة.
ومن مظاهره أن تقسم المساجد والأحياء والنوادي لكلٍّ من ذلك نصيب، ولسنا ندري ما الذي سيحدث في الأعصار التي بعدنا!
عندما أُرسل مالك -رحمه الله- ليتعلّم أوَل مرة قالت له أمه: "اذهب إلى ربيعة فخُذ منه أدبه قبل علمه"، وحفظ التلميذ النجيب الوصيّة، وطبَّقها لما صار أستاذًا يجلس إليه الطلبة، فوصف مجلسه بأنه مجلس وقار وسكينة كأن على رؤوسهم الطير، وكان يؤتَى بالسؤال فيُجيب عنه، فلا يراجع هيبة ولا يقال له: من أين؟ ولم قلت هذا؟ أو ما دليلك؟ بله أن يخطأ أو يرمى بالزيغ والانحراف؟! ولسنا نقول بعصمة أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه الأدب الجمّ الذي اختفت أنواره من مجالس الدرس اليوم!
كان علماء السلف -رحمهم الله- يقولون بلسان الحال قبل المقال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وشغل علماء الأصول أنفسهم بقضيّة طال حولها الخلاف: هل كل مجتهد مصيب؟ وخرجوا برأي أن الصواب واحد لا يتعدّد، ولكنَّا مُتعبِّدون بالاجتهاد من حيث هو اجتهاد، وأما نتائجه فعلمها عند الله، وإنما نعمل بما ترجَّح عندنا.
ومن القواعد المُسلَّمة في الفقه: أن لا إنكار فيما اختُلِفَ فيه، وإنما يُنكر المُجمع عليه، ولكن كثيرًا من الناس يغفلون عن هذا الأصل اليوم ويُريدون حمل الناس جميعًا على مذهبهم، فإن رأى منك خِلافًا لما يذهب، إليه تبرم وعبس وتولى كأن به شيئًا من المس.
روى أبو نُعيم الأصبهاني في الحلية -حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 356)- عن الإمام سُفيان الثوري -رحمه الله- وكان صاحب مذهب فقهي- قوله: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلِفَ فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه". اهـ.
وروى الخطيب البغدادي -في الفقه والمتفقّه (2/ 135)- عنه قوله: "ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدًا من إخواني أن يأخذ منه". اهـ.
ونقل ابن مفلح -في الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 132)- عن الإمام أحمد قوله: "لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم". اهـ.
ويُقرّر الإمام النووي هذه الحقيقة، فيقول عند شرحه لحديث (من رأي منكم مُنكرًا فليُغيّره..): ".. ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه الأئمة، وأما المُختلف فيه فلا إنكار فيه.." اهـ.
ومع أنه لا نكارة في المُختلف فيه؛ إلا أنه ليس كل خلاف مُعتبر، فما سبق خاصٌّ في الخلاف السائغ القائم على اجتهادٍ الصادر من أهله، على عكس الخلاف المردود غير مُعتبر -وهو ما اصطلح عليه في الفكر الفقهي بالخلاف الذي فقد أهليّة الاعتداد به، كإيراد الشاذ من الأقوال وإقرارها أو الإفراط في تقبّل كل خلاف ولو كان صادرًا من غير أهله أو اعتبار كل مُجتهد مصيب أو نحو ذلك- فهذا يخرج عن ما سبق تقريره -خصوصًا لو لم يكن هذا من الفرعيّات-، كذلك النكارة تكون على من خالف أمرًا مُجمعًا عليه عمومًا -سواء في الفقه أو في العقيدة-.
كان العلماء من السلف الصالح يحرصون على تجنّب الجدل والمراء في العلم، وإن اضطر أحدهم لمُناظرة أخيه تمنّى أن يُظهر الله الحق على لسانه، حتى يُمكنه الاستفادة منه؛ لأن الهدف هو البحث عن الحق تقربًّا إلى الله وزلفى.
ونقرأ في كتب تاريخ الفقه والطبقات أن محمد بن الحسن رحل إلى مالك وأخذ عنه، وهو رأسٌ في الفقه الحنفي، ورحل الشافعي وجلس كذلك بين يد مالك وقرأ عليه الموطَّأ، وكذلك تتلمذ الإمام أحمد على الشافعي وأخذ عنه، لم يكن الخِلاف في الرأي ليمنع من الاستفادة من الآخر أو الاعتراف بفضله.
كان الشافعي -رحمه الله- يقول -كما في الانتقاء لابن عبدر البر: ص(23)-: "مالك بن أنس معلمي، وعنه أخضتُ العلم، وإذا ذُكر العلماء فمالك النجم". اهـ.
وكان يقول عن أبي حنيفة -كما في الانتقاء أيضًا: ص(136)-: "الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة". اهـ.
ويسأل عبدالله بن أحمد بن حنيل أباه عن الشافعي، فيقول -كما في الانتقاء: ص(73)-: "قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني، كانا لشافعي -رحمه الله- كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟". اهـ.
وقد اشتُهِرَ على ألسنة الناس في أدب الخلاف رسالة مالك إلى الليث بن سعد فقيه مصر -رحمهما الله- وجواب الليث بن سعد على الرسالة - إعلام الموقّعين: (3/ 83)، الفكر السامي: (1/ 370- 376).
ولنورد في هذا المقام جُزءًا منها تتميمًا للفائدة -من إعلام الموقّعين: (3/ 72- 77)-، والجواب والرسالة مُناقشة علميّة لمسائل تدور في فلك حُجّيّة عمل أهل المدينة، يقول الليث بن سعد في جوابه: ".. وإنه بلغك أني أُفتي الناس بأشياء مُخالفة لما عليه الناس عندكم، وأنِّي يحق عليَّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أُفتيهم به، وأن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى ووقع منّي بالموقع الذي تُحبّ، وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفُتيا ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا أخذًا لفُتياهم فيما اتَّفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له". اهـ.
ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته موردًا أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك حول حُجّيّة عمل أهل المدينة، مُبيِّنًا أن كثيرًا من السابقين الأوّلين الذي تخرجوا في مدرسة النبوّة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يُجاهدون ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبيَّن أن التابعين قد اختلفوا في أشياء.. ثم يذكر من أمثلة الخلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة، مثل: الجمع ليلة المطر، والقضاء بشاهد ويمين، ومؤخّر الصداق لا يقبض إلا عند الفراق، وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء، ومتى تجب الزكاة على الخليطين..، ثم يقول في نهاية الرسالة: ".. وقد تركت أشياءً كثيرةً من أشباه هذا، وأنا أُحِبُّ توفيق الله إيذَاك، وطول بقائك لما أرجوا للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأَت الديار، فهذه المنزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك وحال والدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن مُعافون والحمد لله، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله". اهـ.
هذه بعض معالم أدب الخلاف في تُراث السلف الكرام، فتشبّهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح، فما أحوجُ الأمة اليوم لهذا الأدب؛ لأنه بعد فضل الله ما يُمكن من تجنّب التفرّق والشقاق.

-فالتفقّه يكون للعلم لا للمراء والجدل..
إذ ينبغي لطالب العلم ألا يشغل نفسه بالجدال والخلاف، فيصير همّه معرفة ذلك والذبّ عنه، وقد يُؤدي به ذلك مع كثرة المُداومة عليه إلى اللجاجة في الخُصومة، والانتصار لما يعتقده حقًّا حقًّا كان أو باطلًا فيقع في المحذور.
وإنما ينبغي التفقه في الدين للعمل به والالتزام بما توصل إليه، بعد أن يكون الغرض البحث عن الصواب ومصادفة الحق بعيدًا عن المراء والخصومات.
قال الأوزاعي -رحم الله- كما في جامع بيان العلم: (2/ 178)-: "إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط". اهـ.
وكان رأي الإمام مالك -رحمه الله- أن المراء في العلم يُذهب نور العلم من قلب الرجل، وكان يقول -كما في جامع بيان العلم وفضله: (2/ 116)-: "الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه ويَنهَون عنه.. ولا أُحِبّ الكلام إلا فيما تحته عمل". اهـ.
وقد استدل العلماء على هذا المعنى بحديث أبي هريرة عند مُسلم برقم(1137)، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس إن الله سبحانه قد فرض عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت صلى الله عليه وسلم ولم يُجب، حتى كرّرها الرجل ثلاث مرات، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم"، ثم قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم". اهـ.
قال البغوي في شرح السنة (1/ 244): المسائل على نوعين:
أحدهما: ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز مأمور به، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، وقال الله تعالى: (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) [يونس: 94]، وقد سألَت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل، فأنزل الله سبحانه وتعالى بيانها في كتابه، كما قال الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ) [البقرة: 189]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ) [البقرة: 222]، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ) [الأنفال: 1].
والوجه الآخر: ما كان على وجه التكلُّف، فهو مكروه، فسكوت صاحب الشرع عن الجواب في مثل هذا زجر وردع للسائل، فإذا وقع الجواب كان عقوبةً وتغليظًا، والمُراد من الحديث هذا النوع من السؤال". اهـ.
ويُؤيّدُ هذا ما روَى الأئمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. أخرجه ابن عبدالبر بسنده عن معاوية رضي الله عنه في جامع بيان العلم: (2/ 170)، ورواه أبو داود في سُننه برقم(3656: (3/ 321)، وأحمد في المُسند: (1/ 160). والأغلوطات: صعاب المسائل.
وقد تحدَّث أبو حامد الغزالي عن عصره بما يُشبه ما تقدَّم من المعنى، فقال -كما في إحياء علوم الدين: (1/ 80- 81)-: "وقد أصبحنا في زمان يشتغل علماؤه بدقائق الجدل، ويزعمون أن ذلك من أعظم القربات، وقد كان ذلك في الصدر الأول من المُنكرات".. ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل: "إن بعض العلماء تركوا العلم النافع وأقبلوا على الغرائب، فما أقلّ العلم فيهم"..
وقال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-: "لم يكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الغرائب، ولم يكن العلماء يقولون: هذا حلال وهذا حرام، ولكن أدركتهم يقولون: هذا مُستحب، وهذا مكروه". اهـ.
فينبغي للمُسلم أن يبحث عمَّا جاء عن الله ورسوله، ثم يجتهد في تفهّم ذلك والوقوف على المُراد به، ثم يشغل نفسه بالعمل به.
فإن وجد وقتًا زائدًا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الأشياء يتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به لو وقع، وكان فرض وقوعه قريبًا.
أما إذا كانت الهمة مصروفة إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع إهمال القيام بعمل ما أمر به، أو البُعد عمَّا نُهِيَ عنه، فإن هذا مما يدخل تحت ما نهي عنه في الشرع؛ ففي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها) -متفق عليه وهو جزء من حديث اللعان في البخاري (7/ 69)، ومُسلم (4/ 205). وانظر شرح السنة للبغوي (1/ 243)-. وفي الحديث الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شئ لم يُحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته) -متفق عليه، من حديث سعد بن أبي وقاص، البخاري في الاعتصام، ومسلم في الفضائل. وانظر: شرح السنة للبغوي (1/ 243)-، وروى ابن عبدالبر -في جامع بيان العلم: (2/ 170)- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لا تسألوا عمَّا لم يكن، فإني سمعتُ عمر يلعن من يسأل عمَّا لم يكن".
وبالجُملة فإن القصد من التفقّه العمل، لا المراء والجدل.

-إن نابتة في هذا الزمان أحدثت من سوء الأدب ما لم يكن في الأعصار الخالية..
ولولا المُبالغة لقلتُ: إنه قد استُحدِثّت أشياء كثيرة مما يُنافي الأدب والخُلق القويم بسبب مجرد الخلاف -المُعتبر- في الرأي.
إننا بتنا نسمع ونرى عيانًا من يتطاول على العلماء وروّاد الأمة في فكرها، والتعبير عن روحها وحضارتها، وينسبهم إلى الجهل والبدعة والضلال والفسق، وربما إلى الكفر أحيانًا؛ بل رأينا من يقف داعيًا متقربًا إلى الله ومحتسبًا في التحذير من التتلمذ أو القراءة لمن يُخالفه الرأي.

-وهذه مُقترحات في تفعيل أدب الخلاف..
نضعها بين يدي القُرّاء والباحثين رأينا أنها مما تُساعد على إحياء أدب الخلاف، وهي ليست على سبيل الحصر والجمع، ولكنها تنبيهات قابلة لأن يُزاد عليها، فنقول:
*التمرين على التماس العُذر للمُخالِف:
ومما يدخل في تفعيل أدب الخلاف أن نشيع في حواراتنا وكتاباتنا، وفي مواقفنا العامة والخاصة التماس الأعذار لمن يُخالفنا الرأي، فإن حُسن الظن بالغير من أخلاق الإسلام، وقد مرّ معنا في ضوابط الخلاف أن المَلام مرفوع عن المُخالف، فإن صدر الخلاف عن أهله وكان الملام مرفوعًا عنه؛ فلم يبقَ إلا إحسان الظن به والتماس العُذر له.
وانظر إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مطلع رسالته رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص(22- 23): ".. وليُعلم أنه ليس أحدٌ من الأئمة -المقبولين عند الأمة قبولًا عامًّا- يتعمَّدُ مُخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ من سُنَّته، وعلى أن كل أحد من الناس يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجِدَ لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بُدّ له من عُذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم المنسوخ. اهـ. ثم شَرَعَ في تفصيل هذه الأسباب التي يُعذر بها العلماء في مُخالفتهم الحديث.
*إذاعة فضل المُخالف وعدم غمط الناس فضلهم:
ومما يُعين على تفعيل أدب الخلاف بلا شك إذاعة فضل المُخالِف والاعتراف بجميله وإحسانه، وأن لا يكون خِلافه في الرأي مدعاة لغمط فضله واحتقاره، وقد علَّمنا الإسلام أن لا تحملنا العداوة ويجرنا الشنآن إلى الحيف والظلم؛ بل لابُدّ من تحري العدل والإنصاف مع العدو والصديق، ولعل هذا المعنى هو الذي حمل كثيرًا من علماء الأمة أن يصدروا كتبهم بعناوين ترسخ معنى العدل وتحري الإنصاف، من مثل: "الإنصاف في بيان الراجح من الخلاف"، "الإنصاف في بيان أسباب الخلاف".. إلخ.
ونحنُ إذا نظرنا في واقعنا المُعاصر رأينا هذا الأدب تختفي أنواه ولا يكاد يُعثر له على أثر؛ ولذلك يحقّ لنا أن نسأل المُتخالفين جميعًا: هل يفكّر أحد اليوم أن يكتب في فضل مُخالفه في الرأي؟!
في تُراثنا نجدُ الأئمة الأعلام من مُختلف المدارس الفكريّة يعترفون بفضل من خالفهم الرأي، ويدعون له بطول البقاء، وأن يمتع الله به ويمتعه إن كان حيًّا، ويترحّمون عليه إن كان ميِّتًا.
وفي تُراثنا نجد ابن عبدالبر -رحمه الله- يكتبُ في فضائل الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو مالكي المذهب، وعندما وقع الناس في أبي حنيفة انبرى السيوطي وهو شافعي للذبّ عنه، فكتب "تبييض الصحيفة بمناقب أبي حنيفة".
وفي كُتب التراجم والطبقات من مُختلف المدارس الفقهيّة إشادة وتنويه بأعلامها ومؤسّسيها، واعتراف بالفضل للموافق والمُخالِف.
يذكر أصحاب الطبقات أن الإمامين العزّ بن عبدالسلام وابن دقيق العيد كانا يفتيان على المذهبين الشافعي والمالكي، وهو سابقة نفتقدها في دنيا الفقه والفكر اليوم!
*اتّهام النفس بالقصور:
وإليك هذا المِثال لترى كيف كان العلماء يتّهمون أنفسهم ولا يُبادرون إلى الحكم بالخطأ على غيرهم إذا ما نُقِلَ إليهم، أو عرفوا بخِلافه لهم في مسألة ما:
روى عبدالوارث بن سعيد -كما في الفِكر السامي (1/ 381- 382)، والموافقات (4/ 167- 168)- قال: قدمتُ مكّة فوجدتُ بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شُبرمة، فقلتُ لأبي حنيفة: ما تقول في رجل باع بيعًا واشترط شرطًا؟ فقال: البيع باطلٌ والشرط باطل. ثم أتيتُ ابن أبي ليلى فسألته، فقال: البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فسألته، فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة!. ثم أتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعٍ وشرط". ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة: (إن الولاء لمن أعتق) البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا "قال جابر بن عبدالله: بِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا، واشترطت حملانه إلى أهلي" البيع جائز والشرط جائز. انتهى.
فتأمل معي -رحمك الله- في هذه المسألة لترى أن:
1- الخلاف في هذه المسألة -وهي مسألة واحدة- فيه آراء ثلاثة.
2- وهم فقهاء من مدرسة واحدة (مدرسة أهل الرأي).
3- ومن مدينة واحدة أو بلد واحد هو العراق.
4- وكل ما استدلوا به من الحديث الصحيح.
5- ولم يُخطّئ أحد منهم الآخر، ولا نسبه إلى الجهل أو.. إلخ.
6- بل أومأ إلى تقصيره وعجزه "لا أدري ما قالا".
7- ثم استدل على رأيه بما معه من الدليل.
رحمة الله عليهم جميعًا، هكذا كانوا، وهكذا فليكن اختلافنا أو لا يكون، وقد جمع الإمام مال -رحمه الله- بين آرائهم جميعًا وأعمل الأحاديث كلها -انظر: بداية المجتهد: (2/ 163)-، وهذا فقه وفضل آخر، يُؤتي الحكمة من يشاء.
*تعويد الطلبة على القراءة والتتلمذ على المُخالفين:
ومما ينبغي أن يشيع في ثقافتنا وينشأ عليه الطلبة حتى يصير عادة في البحث والمقارنة، مما من شأنه أن يقرب الشقة أو على الأقل يُحافظ على أدب الخلاف بما يترسّخ في النفس من قبول للآخر، نتيجة للاطلاع على المواقف المُتباينة في المسألة الواحدة تعويد الطلبة على القراءة والتتلمذ على المُخالفين.
وإذا رجعنا إلى تاريخنا وجدنا الكثير من عُلماء الغرب الإسلامي وهم مالكيّة قد دخلوا العِراق والشام والحجاز، وأخذوا على أيدي من فيها من عُلماء المذاهب الإسلامية الأخرى دون تمييز، فقد أخذ ابن العربي عن الغزالي والقفّال وهما شافعيّان، والتقى بعُلماء أحناف في العراق، ومثله في ذلك الباجي والأصيلي والطرطوشي وغيرهم كثير، وقبلهم بكثير أخذ الإمام أحمد عن الإمام الشافعي، وأخذ الأئمة الشافعي وأبو يوسف ومُحمد عن الإمام مالك، كما أخذ الإمامان أبو يُوسف ومُحمد عن شيخهما أبي حنيفة، وقد خالف كل منهم جميعًا أستاذه الذي أخذ عنه رُغم التلمذة عليه كما هو معلوم.
*تدريب النفس على الرجوع عن الآراء الخاطئة:
ومن القضايا المُهمّة في علم الخلاف أن يُدرّب المرء نفسه على الرجوع عن الآراء التي يظهر له بُطلانها بالدليل، فإن الإنسان مهما أوتي من العلم فلن يُحيط به كله، وهو مجبول على الخطأ، مفطور على النسيان، وملّا كانت الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها، كان لِزَامًا لذلك كلّه أن يفئ إلى الصواب ويأرز إليه.
ومن النماذج القيّمة في هذا الباب ما نقرؤه في سيرة الفاروق عمر -رضي الله عنه-، وقد أورد الحجوي -رحمه الله- في الفكر السامي (1/ 239- 241) من ذلك أمثلةً كثيرةً، بعد أن تحدَّث عن اجتهاده وتوفيقه فيه مما هو معلول ومشهور، ثم قال: "كان عمر رضي الله عنه أكثر الناس إنصافًا لمن هو دونه، وأكثر المفتين والأمراء انقيادًا للحق على أي لسان ظهر، لا يستنكف من إظهار الإنصاف واعتراف بالقصور، وهو في الحقيقة كمال وفضل، وانصياع للحق، فقد خفي عليه توريث الزوجة من ديّة زوجها، حتى كتب إليه الضحّاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يروث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وخُلإيَ عليه أن المجوس تكون لهم ذِمّة وتؤخذ منهم الجزية، حتى أخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن، حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع، وكان يُفاضل بين الأصابع في الدية حتى بلغته السنة بالتسوية فرجع إليها، وكان ينهى عن مُتعة الحج ثم رجع لما بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأعجب من هذا أنه نهى عن التسمي بأسماء الأنبياء مع أن محمد بن مسلمة من أشهر الصحابة وأبا أيّوب وأبا موسى، حتى أخبره طلحة بن عُبيدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كنَّاه أبا محمد فرجع،.. ومنع من زيادة المهور على خمسمائة درهم صدقات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته حتى احتجت عليه امرأة بقوله تعالى: (وَآتِيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا.. الآية) [النساء: 20]، فقال: كل أحد أفقه منك يا عمر حتى النساء؛ فهذا عمر الذي وافق ربّه في بضعة عشر موضعًا، وهو سيد الفقهاء والمجتهدين، وهو من المحدثين المُلهمين، وقع له مثل هذا ولا غضاضة عليه في ذلك". اهـ.

ويُراجع: الأساسُ فِي فِقه الخِلاف ص(241- 265).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّذِيّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّذِيّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

التوقّف، وثقافة (لا أدري) ! ..
 

سما الأزهر

:: متخصص ::
إنضم
1 سبتمبر 2010
المشاركات
518
التخصص
الشريعة الإسلامية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّدِيّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّدِيّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

اختلفت الآراء وما اختلفت القلوب؛ لأن نياطها شدت بأسباب السماء، فما عاد لتُراب الأرض عليها سُلطان"
ماشاء الله لاقوة إلا بالله ، جزاكم الله خيرا عمرو بن الحسن المصري
نسأل الله تعالى أن يرزقنا هذه الأخلاق عند الاختلاف
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّدِيّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّدِيّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم


ماشاء الله لاقوة إلا بالله ، جزاكم الله خيرا عمرو بن الحسن المصري
نسأل الله تعالى أن يرزقنا هذه الأخلاق عند الاختلاف
اللهم آمين.. وإيَّاكُم أختي الفاضلة،،
 
إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

عمرو بن الحسن ومنع من زيادة المهور على خمسمائة درهم صدقات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته حتى احتجت عليه امرأة بقوله تعالى: (وَآتِيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا.. الآية) [النساء: 20 قال:
، فقال: كل أحد أفقه منك يا عمر حتى النساء؛ فهذا عمر الذي وافق ربّه في بضعة عشر موضعًا، وهو سيد الفقهاء والمجتهدين، وهو من المحدثين المُلهمين، وقع له مثل هذا ولا غضاضة عليه في ذلك". اهـ.

أحسن الله إليكم وسدَّدكم وزادكم علما وإيمانا .
قصة عمر مع المرأة وردِّه عليها لم تثبت سندا ولا متنا ، وهي منكره كما أفاد المحدِّث الألباني - برَّد الله مضجعه- في الارواء .
ففي القصة ضعف وانقطاع ، فلا يصلح الاستدلال بها .
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

أحسن الله إليكم وسدَّدكم وزادكم علما وإيمانا .
قصة عمر مع المرأة وردِّه عليها لم تثبت سندا ولا متنا ، وهي منكره كما أفاد المحدِّث الألباني - برَّد الله مضجعه- في الارواء .
ففي القصة ضعف وانقطاع ، فلا يصلح الاستدلال بها .
اللهم آمين.. وإياكم أخي الكريم، جزاكم الله خيرًا.
أصبتم بذا التنبيه، أحسن الله إليكم.
وهُنا تخريج الخبر:
http://www.saaid.net/Doat/ehsan/96.htm
والعُهدة على من نقلتُ عنه، غير أن المُراد من إيراد القصة واضح من النقل عمومًا، فالاستشهاد لم يكن بهذا الخبر مُفردًا؛ وإنما كان بمجموع ما ورد في رجوعه -رضي الله عنه- إلى الحق عند ظهوره مُطلقًا -أي: الرجوع على وجه الخصوص لا عموم ما ورد في الخبر الضعيف هذا-، والمعنى صحيح ويستقيم بذلك -على الرجوع خصوصًا-، وإيراد القصة -إجمالًا- كان لمُجرد الاستئناس والاعتبار -على وجه خاص- وليس على سبيل الاستدلال والاعتماد -بشكل عام- (كما سبق).

بارك الله فيكم ونفعنا بعلمكم.

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

أدب الاختلاف - صيد الفوائد
وَذَكَرَ ابن مُفلح الحَنبلِيّ فِي الآدَابِ الشَرْعِيَّة وَالمِنَح المَرْعِيَّة (1/ 5- 13) - فَصْلٌ: (فِي الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحَظِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهَا).

والله الموفق.
 

مختار الديرة

:: متابع ::
إنضم
7 سبتمبر 2009
المشاركات
42
التخصص
دراسات إسلامية
المدينة
جده
المذهب الفقهي
الكتاب و السنة
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

أحسن الله إليكم وسدَّدكم وزادكم علما وإيمانا
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

أحسن الله إليكم وسدَّدكم وزادكم علما وإيمانا
آمين، وإياكم أخي الكريم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

أدب الخلاف في المسائل الفقهية - موقع الدليل الفقهي
أدب الاختلاف في الإسلام » في معالم الاختلاف بين الأئمة وآدابه - المكتبة الإسلامية
 

أحمد عرفة أحمد

:: متفاعل ::
إنضم
22 يوليو 2008
المشاركات
460
الإقامة
مصر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو معاذ
التخصص
فقه مقارن
الدولة
مصر
المدينة
الشرقية
المذهب الفقهي
شافعى
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
موضوع قيم جداً ينبغى أن يحول إلى واقع عملى بين الباحثين وطلاب العلم
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
موضوع قيم جداً ينبغى أن يحول إلى واقع عملى بين الباحثين وطلاب العلم
وجزاك الله خيرًا وبارك فيك.. أحسنت أحسن الله إليك.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

للفائدة..
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

السلام عليكم

”قمة عقل المتعلم هي في القدرة على استيعاب الفكرة دون القبول بها“.
- من المقولات المنسوبة لــ"أرسطو" .
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

-إن نابتة في هذا الزمان أحدثت من سوء الأدب ما لم يكن في الأعصار الخالية..
نابتة في هذا الزمان أحدثت من سوء الأدب ما لم يكن في الأعصار الخالية
https://feqhweb.com/vb/threads/.19856
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,134
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
رد: الجَانِبُ الأَخْلاَقِيّ فِي الفِكر الفِقْهِيّ التَعَدُّديّ - مِنْ المَنَاهِجِ الفِقْهِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخِلافِ

يا أخي عمرو أرجو ألا يكون الدافع لهذه الموضوعات الانتصار للنفس!
المرجو الابتعاد عن الإثارة ...

الموضوع الأصلي:*http://www.feqhweb.com/vb/t19856#ixzz3IxS12Zja
 
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
أعلى