العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الحلْقة الثانية:دلالة السياق وأثرها في ترتيب الدليل وبناء الحكم من كتاب إحكام الأحكام

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
الحلْقة الثانية:





وكانت الحلقة الأولى بعنوان:
قراءة في تعليل الأحكام الواردة في كتاب ابن دقيق إحكام الأحكام
http://www.mmf-4.com/vb/showthread.php?t=1253
==============================

الحلْقة الثانية:


دلالة السياق وأثرها في ترتيب الدليل وبناء الحكم


من كتاب إحكام الإحكام لابن دقيق العيد


أورد هنا بعض الأمثلة من كتاب ابن دقيق العيد رحمه الله: إحكام الأحكام في شرح عمد الأحكام ، والمتعلقة بأثر دلالة السياق في ترتيب الدليل ثم بناء الحكم.
ولابن دقيق العيد رحمه الله عناية عظيمة بهذه المسألة حتى قال في بعض تطبيقاتها:
"فإن السياق طريق إلى بيان المجملات ، وتعيين المحتملات.
وتنزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك - قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر ، وإن كانت ذات شغب على المناظر ."

ولعله والله أعلم يريد بهذا المتأخر الذي اشار إليه:
العز بن عبد السلام لولا ما يعكر عليه من قوله "ممن أدركنا أصحابهم" لأن ابن دقيق رحمه الله قد أدرك العز وهو الذي وصفه بـ سلطان العلماء، كما أن العز بن عبد السلام قد أطلق الثناء عليه ....
والذي جعلني أضع احتمالا أن هذا المتأخر هو العز بن عبد السلام:
هو أن بدر الدين الزركشي في كتابه الموعب "البحر المحيط" نقلا كلاما عن العز بن عبد السلام يشبه ما نقلناه عن ابن دقيق العيد.

ذكر هذا الزركشي في معرض كلامه عن "دلالة السياق" في أحد الفصول التي عقدها في الأدلة المختلف فيها.
ولعل من المناسب أن أنقل كلامه بتمامه لاختصاره ونفاسته في نفس الوقت:

يقول الزركشي رحمه الله في البحر المحيط (6/52):
دلالة السياق أنكرها بعضهم ، ومن جهل شيئا أنكره .
وقال بعضهم :
إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى .
وقد احتج بها أحمد على الشافعي:
في أن الواهب ليس له الرجوع من حديث { العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه } حيث قال الشافعي : هذا يدل على جواز الرجوع .
إذ قيء الكلب ليس محرما عليه ، فقال أحمد : ألا تراه يقول فيه : ليس لنا مثل السوء ، { العائد في هبته } الحديث .
و هذا مثل سوء فلا يكون لنا.
واحتج بها:
في أن المراد بأنه استيعابهم واجب ، وسياق الآية يدل على الأول بقوله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } فإن الله تعالى لما رأى بعض من لا يستحق الصدقة يحاول أن يأخذ منها ، ويسخط إذا لم يعط يقطع طمعه ببيان أن المستحق لها غيره ، وهم الأصناف الثمانية .
وقال الشيخ عز الدين في كتاب الإمام " :
السياق يرشد إلى تبيين المجملات ، وترجيح المحتملات ، وتقرير الواضحات .
وكل ذلك بعرف الاستعمال .
فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا ، وإن كانت ذما بالوضع .
وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما وإن كانت مدحا بالوضع ، كقوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } .

==================================

وهذا الموضوع يشكل الحلقة الثانية في سلسلة الاستفادة من القواعد الأصولية التي مارسها ابن دقيق العيد في معالجة المسائل الفقهية في الكتاب المذكور، والآن حان الشروع في المقصود، والله الموفق وعليه التكلان:


المثال الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثم جهدها ، فقد وجب الغسل } ، وفي لفظ { وإن لم ينزل } .
" الشعب " جمع شعبة ، وهي الطائفة من الشيء ، والقطعة منه.
واختلفوا في المراد بالشعب الأربع:
فقيل : يداها ورجلاها.
أو: رجلاها وفخذاها.
أو: فخذاها وأسكتاها.
أو: نواحي الفرج الأربع.
وفسر " الشعب " بالنواحي ، وكأنه تحويم على طلب الحقيقة الموجبة للغسل.
والأقرب عندي : أن يكون المراد:
اليدين والرجلين ، أو الرجلين والفخذين ، ويكون الجماع مكنيا عنه بذلك ، ويكتفى بما ذكر عن التصريح.
وإنما رجحنا هذا:
لأنه أقرب إلى الحقيقة ، إذ هو حقيقة في الجلوس بينهما.
وأما إذا حمل على نواحي الفرج : فلا جلوس بينها حقيقة.
وقد يكتفى بالكناية عن التصريح:
لاسيما في أمثال هذه الأماكن التي يستحيي من التصريح بذكرها.
وأيضا فقد نقل عن بعضهم أنه قال:
" الجهد " من أسماء النكاح ، ذكر ذلك عن الخطابي.
وعلى هذا:
فلا يحتاج إلى أن يجعل قوله " جلس بين شعبها الأربع " كناية عن الجماع ، فإنه صرح به بعد ذلك.
وقوله في الحديث " ثم جهدها ":
بفتح الجيم والهاء : أي بلغ مشقتها ، يقال منه : جهده ، وأجهده ، أي بلغ مشقته.
وهذا أيضا لا يراد حقيقته ، وإنما المقصود منه :
وجوب الغسل بالجماع ، وإن لم ينزل.
وهذه كلها كنايات ، يكتفى بفهم المعنى منها عن التصريح.
وقوله " بين شعبها الأربع ":
كناية عن المرأة ، وإن لم يجر لها ذكر ، اكتفاء بفهم المعنى من السياق ، كما في قوله عز وجل { : حتى توارت بالحجاب }

==========================================

المثال الثاني:

قال ابن دقيق العيد رحمه الله:
الأمر الثاني :
استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض ، لعموم قوله " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "
والذين خصوا التيمم بالتراب:
استدلوا بما جاء في الحديث الآخر " وجعلت تربتها لنا طهورا " وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه :
منها :
منع كون التربة مرادفة للتراب ، وادعي أن تربة كل مكان : ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه .
ومنها :
أنه مفهوم لقب ، أعني تعليق الحكم بالتربة ، ومفهوم اللقب : ضعيف عند أرباب الأصول ، وقالوا : لم يقل به إلا الدقاق.
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة ، وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا ، وجعل تربتها طهورا على ما في ذلك الحديث.
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم ، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا ، كما في الحديث الذي ذكره المصنف. [يعني حديث جابر: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"]
ومنها:
أن الحديث المذكور الذي خصت فيه " التربة " بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به ، لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض ، أعني قوله صلى الله عليه وسلم" مسجدا وطهورا "
فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته ، فالمنطوق مقدم على المفهوم
وقد قالوا : إن المفهوم يخصص العموم ، فتمتنع هذه الأولوية ، إذا سلم المفهوم ههنا.
وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة ، أعني تخصيص العموم بالمفهوم ، ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله .
=============
قال أبو فراس:
هذا المثال اعتبر فيه ابن دقيق العيد رحمه الله دلالة السياق بما يشكل اعتراضا على أحد الوجوه التي ذكرها في توهين تخصيص الطهورية بالتراب.

ووجدناه رحمه الله ينساب مع هذا الاعتراض ويقرره بما يدفع هذا الوجه الذي ذكره، فهو يقف في موقف المخالف في دفع هذا الاعتراض، ونسي قوله ومذهبه، ونسي نفسه وأصحابه كل ذلك في سبيل تحقيق الحقائق كما هي -فرحمه الله وغفر له وجزاه عن الإسلام خير الجزاء - فهذه صورة واحدة من صور الإنصاف ومعنى واحد من معاني التجريد .

ولا يضر أبا الفتح القشيري في شيء أن تضاءلت الوجوه الصحيحة في تصحيح قوله ما دام أنه استطاع أن يثبت بطريق أو آخر ما قصد إثباته، فانتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول.

لكن ما أجمل الموقف الذي وقف في تنقيح أدلته مما لا يصلح أن يكون له.

وهل شيء في الدنيا أجمل من العدل والإنصاف؟

بل إني أقول:

إن قصر الاستدلال على الأدلة الصحيحة أبهج للقول المقصود إثباته، حتى لا يستطيل المخالف بالتشغيب والمراوغة في التعكير على هذا الدليل، وكأن المسألة قائمة عليه، لاسيما إن كان من أهل الأهواء والابتداع فإنه مظنة التشويش به

بل أزيد إلى القول:
أن بعض المواقف تقتضي الاقتصار على الأدلة الصحيحة السالمة من الاعتراض تماما، وتجنيب بعض الأدلة الصحيحة أو الوجوه الدقيقة التي يمكن للمخالف التشويش بها.
-----------
أرجع إلى المقصود من الكلام السابق وهو إنصاف ابن دقيق رحمه الله، فأقول:
عندي مثال آخر في مناقشته للبيهقي وهو من أصحابه الشافعية في دفع الإيرادات التي أوردها على الأحناف وأنها لا تصلح لا على طريقة الفقهاء ولا على طريقة المحدثين...
ولعلي – بحول الله وقوته – أحاول أن أجمع بعض الأمثلة وأفردها في موضوع خاص حتى ندرِّب أنفسنا على التجريد والإخلاص، والله المسؤول أن يوفقنا لذلك ولكل ما يحبه ويرضاه، اللهم آمين.

وهذا الموضوع يشكل الحلقة الثانية في سلسلة الاستفادة من القواعد الأصولية التي مارسها ابن دقيق العيد في معالجة المسائل الفقهية في الكتاب المذكور، والآن حان الشروع في المقصود، والله الموفق وعليه التكلان:


المثال الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثم جهدها ، فقد وجب الغسل } ، وفي لفظ { وإن لم ينزل } .
" الشعب " جمع شعبة ، وهي الطائفة من الشيء ، والقطعة منه.
واختلفوا في المراد بالشعب الأربع:
فقيل : يداها ورجلاها.
أو: رجلاها وفخذاها.
أو: فخذاها وأسكتاها.
أو: نواحي الفرج الأربع.
وفسر " الشعب " بالنواحي ، وكأنه تحويم على طلب الحقيقة الموجبة للغسل.
والأقرب عندي : أن يكون المراد:
اليدين والرجلين ، أو الرجلين والفخذين ، ويكون الجماع مكنيا عنه بذلك ، ويكتفى بما ذكر عن التصريح.
وإنما رجحنا هذا:
لأنه أقرب إلى الحقيقة ، إذ هو حقيقة في الجلوس بينهما.
وأما إذا حمل على نواحي الفرج : فلا جلوس بينها حقيقة.
وقد يكتفى بالكناية عن التصريح:
لاسيما في أمثال هذه الأماكن التي يستحيي من التصريح بذكرها.
وأيضا فقد نقل عن بعضهم أنه قال:
" الجهد " من أسماء النكاح ، ذكر ذلك عن الخطابي.
وعلى هذا:
فلا يحتاج إلى أن يجعل قوله " جلس بين شعبها الأربع " كناية عن الجماع ، فإنه صرح به بعد ذلك.
وقوله في الحديث " ثم جهدها ":
بفتح الجيم والهاء : أي بلغ مشقتها ، يقال منه : جهده ، وأجهده ، أي بلغ مشقته.
وهذا أيضا لا يراد حقيقته ، وإنما المقصود منه :
وجوب الغسل بالجماع ، وإن لم ينزل.
وهذه كلها كنايات ، يكتفى بفهم المعنى منها عن التصريح.
وقوله " بين شعبها الأربع ":
كناية عن المرأة ، وإن لم يجر لها ذكر ، اكتفاء بفهم المعنى من السياق ، كما في قوله عز وجل { : حتى توارت بالحجاب }

==========================================

المثال الثاني:

قال ابن دقيق العيد رحمه الله:
الأمر الثاني :
استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض ، لعموم قوله " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "
والذين خصوا التيمم بالتراب:
استدلوا بما جاء في الحديث الآخر " وجعلت تربتها لنا طهورا " وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه :
منها :
منع كون التربة مرادفة للتراب ، وادعي أن تربة كل مكان : ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه .
ومنها :
أنه مفهوم لقب ، أعني تعليق الحكم بالتربة ، ومفهوم اللقب : ضعيف عند أرباب الأصول ، وقالوا : لم يقل به إلا الدقاق.
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة ، وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا ، وجعل تربتها طهورا على ما في ذلك الحديث.
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم ، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا ، كما في الحديث الذي ذكره المصنف. [يعني حديث جابر: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"]
ومنها:
أن الحديث المذكور الذي خصت فيه " التربة " بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به ، لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض ، أعني قوله صلى الله عليه وسلم" مسجدا وطهورا "
فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته ، فالمنطوق مقدم على المفهوم
وقد قالوا : إن المفهوم يخصص العموم ، فتمتنع هذه الأولوية ، إذا سلم المفهوم ههنا.
وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة ، أعني تخصيص العموم بالمفهوم ، ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله .
=============
قال أبو فراس:
هذا المثال اعتبر فيه ابن دقيق العيد رحمه الله دلالة السياق بما يشكل اعتراضا على أحد الوجوه التي ذكرها في توهين تخصيص الطهورية بالتراب.

ووجدناه رحمه الله ينساب مع هذا الاعتراض ويقرره بما يدفع هذا الوجه الذي ذكره، فهو يقف في موقف المخالف في دفع هذا الاعتراض، ونسي قوله ومذهبه، ونسي نفسه وأصحابه كل ذلك في سبيل تحقيق الحقائق كما هي -فرحمه الله وغفر له وجزاه عن الإسلام خير الجزاء - فهذه صورة واحدة من صور الإنصاف ومعنى واحد من معاني التجريد .

ولا يضر أبا الفتح القشيري في شيء أن تضاءلت الوجوه الصحيحة في تصحيح قوله ما دام أنه استطاع أن يثبت بطريق أو آخر ما قصد إثباته، فانتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول.

لكن ما أجمل الموقف الذي وقف في تنقيح أدلته مما لا يصلح أن يكون له.

وهل شيء في الدنيا أجمل من العدل والإنصاف؟

بل إني أقول:

إن قصر الاستدلال على الأدلة الصحيحة أبهج للقول المقصود إثباته، حتى لا يستطيل المخالف بالتشغيب والمراوغة في التعكير على هذا الدليل، وكأن المسألة قائمة عليه، لاسيما إن كان من أهل الأهواء والابتداع فإنه مظنة التشويش به

بل أزيد إلى القول:
أن بعض المواقف تقتضي الاقتصار على الأدلة الصحيحة السالمة من الاعتراض تماما، وتجنيب بعض الأدلة الصحيحة أو الوجوه الدقيقة التي يمكن للمخالف التشويش بها.
-----------
أرجع إلى المقصود من الكلام السابق وهو إنصاف ابن دقيق رحمه الله، فأقول:
عندي مثال آخر في مناقشته للبيهقي وهو من أصحابه الشافعية في دفع الإيرادات التي أوردها على الأحناف وأنها لا تصلح لا على طريقة الفقهاء ولا على طريقة المحدثين...
ولعلي – بحول الله وقوته – أحاول أن أجمع بعض الأمثلة وأفردها في موضوع خاص حتى ندرِّب أنفسنا على التجريد والإخلاص، والله المسؤول أن يوفقنا لذلك ولكل ما يحبه ويرضاه، اللهم آمين.
===============================

وهذا الموضوع يشكل الحلقة الثانية في سلسلة الاستفادة من القواعد الأصولية التي مارسها ابن دقيق العيد في معالجة المسائل الفقهية في الكتاب المذكور، والآن حان الشروع في المقصود، والله الموفق وعليه التكلان:


المثال الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثم جهدها ، فقد وجب الغسل } ، وفي لفظ { وإن لم ينزل } .
" الشعب " جمع شعبة ، وهي الطائفة من الشيء ، والقطعة منه.
واختلفوا في المراد بالشعب الأربع:
فقيل : يداها ورجلاها.
أو: رجلاها وفخذاها.
أو: فخذاها وأسكتاها.
أو: نواحي الفرج الأربع.
وفسر " الشعب " بالنواحي ، وكأنه تحويم على طلب الحقيقة الموجبة للغسل.
والأقرب عندي : أن يكون المراد:
اليدين والرجلين ، أو الرجلين والفخذين ، ويكون الجماع مكنيا عنه بذلك ، ويكتفى بما ذكر عن التصريح.
وإنما رجحنا هذا:
لأنه أقرب إلى الحقيقة ، إذ هو حقيقة في الجلوس بينهما.
وأما إذا حمل على نواحي الفرج : فلا جلوس بينها حقيقة.
وقد يكتفى بالكناية عن التصريح:
لاسيما في أمثال هذه الأماكن التي يستحيي من التصريح بذكرها.
وأيضا فقد نقل عن بعضهم أنه قال:
" الجهد " من أسماء النكاح ، ذكر ذلك عن الخطابي.
وعلى هذا:
فلا يحتاج إلى أن يجعل قوله " جلس بين شعبها الأربع " كناية عن الجماع ، فإنه صرح به بعد ذلك.
وقوله في الحديث " ثم جهدها ":
بفتح الجيم والهاء : أي بلغ مشقتها ، يقال منه : جهده ، وأجهده ، أي بلغ مشقته.
وهذا أيضا لا يراد حقيقته ، وإنما المقصود منه :
وجوب الغسل بالجماع ، وإن لم ينزل.
وهذه كلها كنايات ، يكتفى بفهم المعنى منها عن التصريح.
وقوله " بين شعبها الأربع ":
كناية عن المرأة ، وإن لم يجر لها ذكر ، اكتفاء بفهم المعنى من السياق ، كما في قوله عز وجل { : حتى توارت بالحجاب }

==========================================

المثال الثاني:

قال ابن دقيق العيد رحمه الله:
الأمر الثاني :
استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض ، لعموم قوله " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "
والذين خصوا التيمم بالتراب:
استدلوا بما جاء في الحديث الآخر " وجعلت تربتها لنا طهورا " وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه :
منها :
منع كون التربة مرادفة للتراب ، وادعي أن تربة كل مكان : ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه .
ومنها :
أنه مفهوم لقب ، أعني تعليق الحكم بالتربة ، ومفهوم اللقب : ضعيف عند أرباب الأصول ، وقالوا : لم يقل به إلا الدقاق.
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة ، وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا ، وجعل تربتها طهورا على ما في ذلك الحديث.
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم ، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا ، كما في الحديث الذي ذكره المصنف. [يعني حديث جابر: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"]
ومنها:
أن الحديث المذكور الذي خصت فيه " التربة " بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به ، لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض ، أعني قوله صلى الله عليه وسلم" مسجدا وطهورا "
فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته ، فالمنطوق مقدم على المفهوم
وقد قالوا : إن المفهوم يخصص العموم ، فتمتنع هذه الأولوية ، إذا سلم المفهوم ههنا.
وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة ، أعني تخصيص العموم بالمفهوم ، ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله .
=============
قال أبو فراس:
هذا المثال اعتبر فيه ابن دقيق العيد رحمه الله دلالة السياق بما يشكل اعتراضا على أحد الوجوه التي ذكرها في توهين تخصيص الطهورية بالتراب.

ووجدناه رحمه الله ينساب مع هذا الاعتراض ويقرره بما يدفع هذا الوجه الذي ذكره، فهو يقف في موقف المخالف في دفع هذا الاعتراض، ونسي قوله ومذهبه، ونسي نفسه وأصحابه كل ذلك في سبيل تحقيق الحقائق كما هي -فرحمه الله وغفر له وجزاه عن الإسلام خير الجزاء - فهذه صورة واحدة من صور الإنصاف ومعنى واحد من معاني التجريد .

ولا يضر أبا الفتح القشيري في شيء أن تضاءلت الوجوه الصحيحة في تصحيح قوله ما دام أنه استطاع أن يثبت بطريق أو آخر ما قصد إثباته، فانتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول.

لكن ما أجمل الموقف الذي وقف في تنقيح أدلته مما لا يصلح أن يكون له.

وهل شيء في الدنيا أجمل من العدل والإنصاف؟

بل إني أقول:

إن قصر الاستدلال على الأدلة الصحيحة أبهج للقول المقصود إثباته، حتى لا يستطيل المخالف بالتشغيب والمراوغة في التعكير على هذا الدليل، وكأن المسألة قائمة عليه، لاسيما إن كان من أهل الأهواء والابتداع فإنه مظنة التشويش به

بل أزيد إلى القول:
أن بعض المواقف تقتضي الاقتصار على الأدلة الصحيحة السالمة من الاعتراض تماما، وتجنيب بعض الأدلة الصحيحة أو الوجوه الدقيقة التي يمكن للمخالف التشويش بها.
-----------
أرجع إلى المقصود من الكلام السابق وهو إنصاف ابن دقيق رحمه الله، فأقول:
عندي مثال آخر في مناقشته للبيهقي وهو من أصحابه الشافعية في دفع الإيرادات التي أوردها على الأحناف وأنها لا تصلح لا على طريقة الفقهاء ولا على طريقة المحدثين...
ولعلي – بحول الله وقوته – أحاول أن أجمع بعض الأمثلة وأفردها في موضوع خاص حتى ندرِّب أنفسنا على التجريد والإخلاص، والله المسؤول أن يوفقنا لذلك ولكل ما يحبه ويرضاه، اللهم آمين.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المثال الثالث:

البحث الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه }
يتصدى النظر هنا :
هل صلاته في جماعة في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة ، أو تفضل عليها منفردا ؟
أما الحديث فمقتضاه:
أن صلاته في المسجد جماعة تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة وفرادى بهذا القدر .
لأن قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة } محمول على الصلاة في المسجد.
لأنه قوبل بالصلاة في بيته وسوقه .
ولو جرينا على إطلاق اللفظ:
لم تحصل المقابلة ؛ لأنه يكون قسم الشيء قسما منه .
وهو باطل .
وإذا حمل على صلاته في المسجد:
فقوله صلى الله عليه وسلم " صلاته في بيته وسوقه " عام يتناول الأفراد والجماعة .
وقد أشار بعضهم إلى هذا بالنسبة:
إلى الانفراد في المسجد والسوق من جهة ما ورد أن "الأسواق موضع الشياطين " فتكون الصلاة فيها ناقصة الرتبة ، كالصلاة في المواضع المكروهة لأجل الشياطين ، كالحمام .
وهذا الذي قاله - وإن أمكن في السوق - ليس يطرد في البيت .
فلا ينبغي أن تتساوى فضيلة الصلاة في البيت جماعة مع فضيلة الصلاة في السوق جماعة، في مقدار الفضيلة التي لا توجد إلا بالتوقيف .
فإن الأصل : أن لا يتساوى ما وجد فيه مفسدة معينة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة .
هذا ما يتعلق بمقتضى اللفظ .
ولكن الظاهر مما يقتضيه السياق :
أن المراد تفضيل صلاة الجماعة في المسجد على صلاته في بيته وسوقه منفردا : فكأنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا .
وبهذا يرتفع الإشكال الذي قدمناه:
من استبعاد تساوي صلاته في البيت مع صلاته في السوق جماعة فيهما ، وذلك ؛ لأن من اعتبر معنى السوق ، مع إقامة الجماعة فيه .
وجعله سببا لنقصان الجماعة فيه عن الجماعة في المسجد .
يلزمه تساوي ما وجدت فيه مفسدة معتبرة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة في مقدار التفاضل .
أما إذا جعلنا التفاضل بين صلاة الجماعة في المسجد وصلاتها في البيت والسوق منفردا ، فوصف " السوق " هاهنا ملغى ، غير معتبر .
فلا يلزم تساوي ما فيه مفسدة مع ما لا مفسدة فيه في مقدار التفاضل .
والذي يؤيد هذا :
أنهم لم يذكروا السوق في الأماكن المكروهة للصلاة .
وبهذا فارق الحمام المستشهد بها .
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المثال الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة " محمول على الصلاة في جماعة، وإن كان غير مذكور في اللفظ .
لدلالة السياق عليه .
وقوله عليه السلام " لأتوهما ولو حبوا " وقوله " ولقد هممت - إلى قوله - لا يشهدون الصلاة " كل ذلك مشعر بأن المقصود : حضورهم إلى جماعة المسجد .


المثال الخامس:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون من بعدكم .
ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا : بلى ، يا رسول الله .
قال : تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة : ثلاثا وثلاثين مرة .)
قوله [صلى الله عليه وسلم] " تدركون به من سبقكم " يحتمل أن يراد به السبق المعنوي.
وهو السبق في الفضيلة .
وقوله " من بعدكم " أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل.
ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية ، والبعدية الزمانية .
ولعل الأول أقرب إلى السياق .
فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة ، وتقدم الأغنياء فيها .


المثال السادس:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة} .
الحديث دليل على الزكاة فيما دون هذه المقادير من هذه الأعيان.
وأبو حنيفة يخالف في زكاة الحرث .
ويعلق الزكاة بكل قليل وكثير منه .
ويستدل له بقوله عليه السلام { فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر } وهذا عام في القليل والكثير .
وأجيب عن هذا بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج ، لا بيان المخرج منه .
وهذا فيه قاعدة أصولية:
وهو أن الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب:
أحدها : ما ظهر فيه عدم قصد التعميم ، ومثل بهذا الحديث .
والثانية : ما ظهر فيه قصد التعميم بأن أورد مبتدأ لا على سبب ، لقصد تأسيس القواعد .
والثالثة : ما لم يظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم، ولا قرينة تدل على عدم التعميم .
وقد وقع تنازع من بعض المتأخرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم:
فطالب بعضهم بالدليل على ذلك.
وهذا الطريق ليس بجيد ؛ لأن هذا أمر يعرف من سياق الكلام ، ودلالة السياق لا يقام عليها دليل ، وذلك لو فهم المقصود من الكلام ، وطولب بالدليل عليه لعسر، فالناظر يرجع إلى ذوقه ، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه .
 

عبدالواهب

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
11 ديسمبر 2008
المشاركات
1
التخصص
لغة عربية
المدينة
جهينة
المذهب الفقهي
مالكى
زادك الله بسطة فى العلم والصحة زدنى فى موضوع السياق
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
وزادك أنت كذلك ومن قرأ وسمع
 
أعلى