العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الخلفاء العباسيون الراشدون

إنضم
15 مارس 2011
المشاركات
8
الكنية
أبو محمد
التخصص
شريعة
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
حنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ان الحمد لله نحمده حمدا كثيرا دائما طيبا ، ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد وآله وصحبه اجمعين .
من واجب المسلم ان يصد عن اخيه بظهر الغيب وان يدافع عن اخوانه وان الواجب يتضاعف ان كانوا قد انتقلوا الى الرفيق الاعلى ، لذا كان هذا الكتيب الذي انبرى للدفاع عن بعض خلفاء بني العباس بسبب ما نالهم من ظلم على يد المستشرقين والمضبوعين الذين سعوا لتشويه سمعة معظم خلفاء هذه الامة لا بل وصل بهم الحال الى القول انه لا يوجد في تاريخ امتنا من المفخرة والرشد والعدل الا ثلاثة عقود هي ايام الخلفاء الاربعة لا بل كثيرا ما تبجح العديد من المضبوعين بالقول ان ثلاثة من الخلفاء الاربعة قد قتلوا ولم يكن موتهم طبيعيا ..... اي ان المستشرقين يريدون القول ان الخلافة الراشدة فلتة وقصيرة وانها لن تتكرر .
وقد ادعى بعض المضبوعين انه قد اجتمعت ثلة من العباقرة في فترة زمنية اشبه ما تكون بالصدفة ، بشكل يوحي بأنها لن تتكرر .
لكن علينا ان نقرأ ماذا كتب الامناء الاتقياء الصادقين ............
فماذا كتب ورثة الانبياء ..................
بالعودة الى مؤرخينا الامناء والى علمائنا الاتقياء من مثل السيوطي والذهبي وابن حجر والبغدادي والخطيب وامثالهم ، وهم الاحرى ان يأخذ من يريد معرفة التاريخ منهم ، تجد الانصاف وتجد كلمة الحق وتجد الشهادة المنضبطة بالتقوى والامانة .
بالاطلاع على ما كتبه المؤرخون والفقهاء والعلماء الامناء الاتقياء يجد القارئ بسهولة ويسر ان هناك اتفاق بينهم ان حوالي قرن ونصف من الحكم الراشد قد حصل في الفترة العباسية وحدها كمثال.
ويمكن للقارئ ان يلمس ان هناك قرنا آخر حكم فيه سروات من الخلفاء وحاولوا جهدهم ان يقيموا شرع الله ووقع منهم هفوات وثغرات وزلات ، لكن يشفع لتاريخهم انهم لم يحكموا بغير ما انزل الله ، ولم يقض قضاتهم الا بأحكام الشرع ولم يعطلوا الحدود ولم يفتتوا الامة .


بسم الله الرحمن الرحيم
المهدي أبو عبد الله محمد بن المنصور
158 هـ - 169 هـ
استمر في الحكم الرشيد بفضل من الله ونعمة لمدة احد عشر عاما كانت زاهرة وافرة طيبة


ولد بأيذج سنة سبع وعشرين ومائة وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية.[1]
من أبرز علامات أنه من خيار الائمة محبة الرعية له مصداقا لما ورد في الحديث الشريف: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم"[2] ومن أبرز أعماله الدفاع عن عقيدة الأمة، يؤكد لنا هذا ما أورده جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء حيث يقول:
أنه "كان جوادا ممدحا مليح الشكل محببا إلى الرعية حسن الاعتقاد تتبع الزنادقة وأفنى منهم خلقا كثيرا وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين "[3].
ومن فضائله أنه اشتغل بالحديث الشريف، ومن أبرز ما قيل فيه شهادة الإمام الذهبي له وهي تكفيه فخرا فالذهبي شاهد عدل ضابط ثقة:
"روى الحديث عن أبيه وعن مبارك بن فضالة حدث عنه يحيى بن حمزة وجعفر بن سليمان الضبعي ومحمد بن عبد الله الرقاشي وأبو سفيان سعيد بن يحيى الحميري
قال الذهبي: وما علمت قيل فيه جرحا ولا تعديلا."[4]

"ولما شب المهدي أمره أبوه على طبرستان وتأدب وجالس العلماء وتميز فلما مات أبوه بويع بالخلافة فخطب الناس فقال: إن أمير المؤمنين عبد، دعي فأجاب، وأمر فأطاع، واغرورقت عيناه، فقال: قد بكى رسول الله عند فراق الأحبة ولقد فارقت عظيما وقلدت جسيما فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وبه أستعين على خلافة المسلمين، أيها الناس أسروا مثل ما تعلنون من طاعتنا نهبكم العافية وتحمدوا العاقبة، واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم وطوى الإصر عنكم وأهال عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدما ذلك، والله لأفنين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم."[5]
ففي كلامه السابق يلمس القارئ رجل دولة من الطراز الاول ويلمس حكمة وميلا الى العدل وبعد نظر وصدق طوية .
ثم استخرج المهدي حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة ، ففرقها في الناس ، ولم يعط أهله ومواليه منها ، بل أجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال ، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الأعطيات ، وقد كان أبوه المنصور حريصا على توفير بيت المال ، وإنما كان ينفق في السنة ألفي درهم من مال الشراة ، وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولها.[6]
قال نفطويه: لما حصلت الخزائن في يد المهدي أخذ في رد المظالم فأخرج أكثر الذخائر ففرقها وبر أهله ومواليه.
قال الربيع الحاجب : رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهو له ، عليه ثياب حسان ، فما أدري هو أحسن أم القمر ، أم بهوه ، أم ثيابه . فقرأ :{فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} [محمد : 22 ] . ثم أمرني فأحضرت رجلا من قرابته كان مسجونا ، فأطلقه.[7]
"وفي عام ستين فتحت بعض نواحي من الهند عنوة وفيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون هدمها لكثرة ما عليها من الأستار فأمر بها فجردت واقتصر على كسوته .
وفي عام إحدى وستين أمر بعمارة طريق مكة وعمل البرك وأمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام وقصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي سنة ثلاث وستين وما بعدها كثرت الفتوح بالروم مما جعله في مصاف الفاتحين والمجاهدين في سبيل الله.
قال الذهبي: وهو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق.
وفيما بعد جد المهدي في تتبع الزنادقة وإبادتهم والبحث عنهم في الآفاق والقتل على التهمة."[8]
"وقيل : إنه أثني عليه بالشجاعة ، فقال : لم لا أكون شجاعا ؟ وما خفت أحدا إلا الله – تعالى، وذكر ابن أبي الدنيا أن المهدي كتب إلى الأمصار يزجر أن يتكلم أحد من أهل الأهواء في شيء منها . وعن يوسف الصائغ قال : رفع أهل البدع رءوسهم ، وأخذوا في الجدل ، فأمر بمنع الناس من الكلام ، وأن لا يخاض فيه" .[9]
وفي سنة سبع وستين أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام وأدخل في ذلك دورا كثيرة .

وأخرج البغوي في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال: كنت عند شريك فأتاه ابن المهدي فاستند وسأل عن حديث فلم يلتفت شريك ثم أعاد فعاد فقال: كأنك تستخف بأولاد الخلفاء قال: لا ولكن العلم أزيد عند أهله من أن يضيعوه فجثا على ركبتيه ثم سأله فقال شريك: هكذا يطلب العلم .
هكذا تعرف أن المهدي أراد تنشئة أبنائه على حب العلم وعلى تعلم الحديث وعلمهم أدب التعلم واحترام المعلم
وأسند عن إبراهيم بن نافع أن قوما من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار البصرة فقال المهدي: إن الأرض لله في أيدينا للمسلمين فما لم يقع له ابتياع منها يعود ثمنه على كافتهم وفي مصلحتهم فلا سبيل لأحد عليه فقال القوم: هذا النهر لنا بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"[10] وهذه موات فوثب المهدي عند ذكر النبي حتى ألصق خده بالتراب وقال: سمعت لما قال وأطعت ثم عاد وقال بقي أن تكون هذه الأرض مواتا حتى لا أعرض فيها وكيف تكون مواتا والماء المحيط بها من جوانبها فإن أقاموا البينة على هذا سلمت.
انظر الى حبه لذكر رسول الله وطاعته لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانظر الى تواضعه امام حديث رسول الله .
"وأسند عن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}[11] آثره بها من بين الرسل إذ خصكم بها من بين الأمم.
قلت: وهو أول من قال ذلك في الخطبة وقد استسنها الخطباء إلى اليوم."[12]
ألا تلمس فقهه وتدبره للآيات واستنباطه ودقة فهمه واللفتة اللطيفة التي أحيا بها سنة .
"عاصر المهدي: سفيان الثوري وإبراهيم بن ادهم الزاهد وداود الطائي الزاهد وحماد بن سلمة وإبراهيم بن طهمان والخليل بن أحمد صاحب العروض."[13]



المتوكل على الله جعفر
232 هـ - 247 هـ
خمسة عشر عاما من الطمأنينة والعدل والرشد


"جعفر ابن المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، أبو الفضل المتوكل. وأمه أم ولد يقال لها : شجاع . وكانت من سروات النساء سخاء وحزما . كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين ، وبويع له بالخلافة بعد أخيهالواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين"[14]

"أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في سنة أربع وثلاثين.
واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور فاجتمع إليه أيضا نحو من ثلاثين ألف نفس وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له ."[15]

"وكان المتوكل محببا إلى رعيته ، قائما بالسنة فيها ، وقد شبهه بعضهم بالصديق في رده على أهل الردة ، حتى رجعوا إلى الدين ، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية . وهو أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها ، فرحمه الله .
وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور ، فقال آلمتوكل ؟ ! فقال : المتوكل . قال : فما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها ". [16]

"وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث وأن يضربه ويطوف به على حمار ففعل ونعم ما فعل فإنه كان ظالما من رؤوس الجهمية وولي القضاء بدله الحارث ابن سكين من أصحاب مالك بعد تمنع وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطا ليرد الظلامات إلى أهلها."[17]

"وأخرج عن هشام بن عمار قال سمعت المتوكل يقول واحسرتا على محمد ابن إدريس الشافعي كنت أحب أن أكون في أيامه فأراه وأشاهده وأتعلم منه فإني رأيت رسول الله في المنام وهو يقول يا أيها الناس إن محمد بن إدريس المطلبي قد صار إلى رحمة الله وخلف فيكم علما حسنا فاتبعوه تهتدوا ثم قال اللهم ارحم محمد بن إدريس رحمة واسعة وسهل على حفظ مذهبه وانفعني بذلك.
قلت استفدنا من هذا أن المتوكل كان متمذهبا بمذهب الشافعي وهو أول من تمذهب له من الخلفاء."[18]
"وأخرج عن أحمد بن علي البصري قال وجه المتوكل إلى أحمد بن المعدل وغيره من العلماء فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم له غير أحمد ابن المعدل فقال المتوكل لعبيد الله إن هذا لا يرى بيعتنا فقال له: بلى يا أمير المؤمنين ولكن في بصره سوءا فقال أحمد بن المعدل يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء ولكن نزهتك من عذاب الله قال النبي: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"[19] فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه."[20]
"وممن مات في أيام المتوكل من الأعلام: الشمس ابن مفلح عالم الحنابلة والصلاح الصفدي والشهاب ابن النقيب والمحب ناظر الجيش والشريف الحسيني الحافظ والقطب التختاني وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة والتاج ابن السبكي وأخوه الشيخ بهاء الدين والجمال الأسنوي وابن الصائغ الحنفي والجمال ابن نباته والعفيف اليافعي والجمال الشريشي والشرف ابن قاضي الجبل والسراج الهندي وابن أبي حجلة والحافظ تقي الدين بن رافع والحافظ عماد الدين بن كثير والعتابي النحوي والبهاء أبو البقاء السبكي والشمس بن خطيب يبرود والعماد الحسباني والبدر بن حبيب والضياء القرمي والشهاب الأذرعي والشيخ أكمل الدين والشيخ سعد الدين التفتازاني والبدر الزركشي والسراج ابن الملقن والسراج البلقيني والحافظ زين الدين العراقي.[21]


المعتضد بالله أحمد
279هـ - 289 هـ
انها عشر سنين من الانصاف والعدل والخير العميم والامن والامان


أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله - واسم أبي أحمد محمد ، وقيل : طلحة - ابن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد ، أبو العباس ، أمير المؤمنين ، الخليفة المعتضد بالله ، ولد في سنة ثنتين ، وقيل : ثلاث وأربعين ومائتين ، وأمه أم ولد.[22]
ويقول الذهبي: كان ملكا مهيبا ، شجاعا ، جبارا ، شديد الوطأة ، من رجال العالم ، يقدم على الأسد وحده . وكان أسمر ، نحيفا ، معتدل الخلق ، كامل العقل.[23]
قال عبدالله بن حمدون دخلت مرة ، فدفع إلي كتابا ، فنظرت فيه ، فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء ، فقلت ، مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : بلى ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر بالكتاب فأحرق .[24]
هذه صفة من صفات رجل يخاف الله رب العالمين، ويهمه معرفة الحق واتباعه .
يقول السيوطي في تاريخ الخلفاء:
"وكان المعتضد شهما جلدا موصوفا بالرجلة قد لقي الحروب وعرف فضله فقام بالأمر أحسن قيام وهابه الناس ورهبوه أحسن رهبة وسكنت الفتن في أيامه لفرط هيبته.
وكانت أيامه طيبه كثيرة الأمن والرخاء.
وكان قد أسقط المكوس ونشر العدل ورفع الظلم عن الرعية".[25]
وقال الذهبي: "كان في المعتضد حرص ، وجمع للمال . حارب الزنج ، وله مواقف مشهودة ، وفي دولته سكتت الفتن ، وكان فتاه بدر على شرطته ، وعبيد الله بن سليمان على وزارته ، ومحمد بن شاه على حرسه ، وأسقط المكس ونشر العدل ، وقلل من الظلم .
وكان يسمى السفاح الثاني ، أحيا رميم الخلافة التي ضعفت من مقتل المتوكل."[26]
هل مثل هذا الخليفة أقل من الخلفاء الراشدين بشيء هو يجاهد بنفسه وهو قد أسقط الضرائب عن الناس، ونشر العدل ومنع الظلم، ونعم الناس على يديه بالرخاء وبالأمن. وبعدها تعال ننظر في منهجه في الدفاع عن العقيدة وعن فكر الأمة:
"وفي أول سنة استخلف فيها منع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة وما شاكلها ومنع القصاص والمنجمين من القعود في الطريق وصلى بالناس صلاة الأضحى فكبر في الأولى ستا وفي الثانية واحدة ولم تسمع منه الخطبة."[27]
ومن أخبار المعتضد ما أخرجه الخطيب وابن عساكر عن أبي الحسين الخصيبي قال:
وجه المعتضد إلى القاضي أبي حازم يقول إن لي على فلان مالا وقد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك وقد قسطت لهم من ماله فاجعلنا كأحدهم فقال أبو حازم: قل له أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ذاكر لما قال لي وقت قلدني إنه قد أخرج الأمر من عنقه وجعله في عنقي ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة فرجع إليه فأخبره فقال قل له فلان وفلان يشهدان يعني رجلين جليلين فقال يشهدان عندي وأسأل عنهما فإن زكيا قبلت شهادتهما وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي فامتنع أولئك من الشهادة فزعا ولم يدفع إلى المعتضد شيئا.[28]
وذكر الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال : كنت يوما عند المعتضد وخادم واقف على رأسه يذب بمذبة في يده إذ حركها فجاءت في قلنسوة الخليفة فسقطت عن رأسه فأعظمت أنا ذلك جدا وخفت من هول ما وقع ولم يكترث الخليفة لذلك ، بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه ثم قال لبعض الخدم : مر هذا البائس فليذهب لراحته فإنه قد نعس ، وزيدوا في عدة من يذب بالنوبة . قال الوزير : فأخذت في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه ، فقال : إن هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد لا على المخطئ والساهي . [29]


المقتفي لأمر الله أبو عبد الله
530 هـ - 555 هـ
انها خمس وعشرون سنة من الامن والرفاه والطمأنينة والعدل

المقتفي لأمر الله: أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله.
ولد في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه حبشية وبويع له بالخلافة وعمره أربعون سنه وسبب تلقيبه بالمقتفي أنه رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول الله وهو يقول له سيصل هذا الأمر إليك فاقتف لأمر الله فلقب المقتفي لأمر الله وبعث السلطان مسعود بعد أن أظهر العدل ومهد بغداد فأخذ جميع ما في دار الخلافة من دواب وأثاث وذهب وستور وسرادق ولم يترك في إصطبل الخلافة سوى أربعة أفراس وثمانية أبغال برسم الماء فيقال: إنهم بايعوا المقتفي على أن لا يكون عنده خيل ولا آلة سفر.

قال الذهبي:
"كان المقتفي من سروات الخلفاء عالما أديبا شجاعا حليما دمث الأخلاق كامل السؤدد خليقا للإمامة قليل المثل في الأئمة لا يجري في دولته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه وسمع الحديث من مؤدبه أبي البركات بن أبي الفرج بن السني.
كان عاقلا لبيبا ، عاملا مهيبا ، صارما ، جوادا ، محبا للحديث والعلم ، مكرما لأهله ، وكان حميد السيرة ، يرجع إلى تدين وحسن سياسة ، جدد معالم الخلافة ، وباشر المهمات بنفسه ، وغزا في جيوشه."[30]
اترانا بعدما شهد له الذهبي نتردد في وصفه بالخليفة الراشد، الم نقرأ في القرآن الكريم: {ولا تبخسوا الناس اشيائهم} انه رجل خليق للامامة، قليل المثل والشبيه في الخلفاء مشهود له بالعلم والحلم والشجاعة وكمال السؤدد وهل يحتاج الخليفة الراشد اكثر من هذا، فكيف يصر البعض ان الراشدين كانوا خمسة او ستة ولماذا يصرون على ان العدل والأمن والرفاه لم يقم ولم يدم سوى اربعين سنة . انه مخطط خبيث يريد اصحابه ان يقولون ان حكم الراشدين كان فلتة او مرحلة لا تتكرر وأنها لن تعود لأن اؤلئك الخلفاء كانوا اشبه بالانبياء او الاولياء، وأن اقتفاء آثارهم في العدل والحكم والحلم غير متأتى في زمن آخر، اي انه زمان اسطوري لأنه اجتمع فيه عباقرة لم ولن يجتمع مثلهم في زمن آخر . هذه الفكرة الخبيثة ان انتشرت فسوف تولد الاحباط ولن يفكر المسلمون باعادة التجربة الراشدة في الخلافة، لذلك الف محمود عباس العقاد العبقريات وحاول جاهدا القول ان هؤلاء تألقوا وابدعوا من ذواتهم ومن عقولهم الاسطورية وليس بسبب قوة الاسلام وأفكار الاسلام وعظمة الاسلام .
قال ابن كثير: وقد كان شهما شجاعا مقداما ، يباشر الأمور بنفسه ، ويشاهد الحروب ويبذل الأموال الكثيرة لأصحابه الأخيار ، وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن السلاطين ، من أول أيام الديلم إلى أيامه ، وتمكن في الخلافة وحكم على العسكر والأمراء.[31]
قال ابن السمعاني:
"وسمع جزء ابن عرفة مع أخيه المسترشد من أبي القاسم بن بيان روى عنه أبو منصور الجواليقي اللغوي إمامه والوزير ابن هبيرة وزيره وغيرهما وقد جدد المقتفي بابا للكعبة واتخذ من العقيق تابوتا لدفنه وكان محمود السيرة مشكور الدولة يرجع إلى دين وعقل وفضل ورأي وسياسة جدد معالم الإمامة ومهد رسوم الخلافة وباشر الأمور بنفسه وغزا غير مرة وامتدت أيامه".
وهذه شهادة اخرى من عالم آخر يشهد ان هذا الخليفة يتحلى بكل ما يحتاجه الخلفاء الراشدين فسيرته محمودة وفضله وعقله ورأيه وسياسته جعلته مشكور الدولة .
فلا مناص من ان نشهد له بأنه خليفة راشد بالفم الملآن لأننا مأمورون ان نشهد بالحق حيث كنا .
ان المقتفي لأمر الله خليفة راشد .
وتعالوا نقرأ شهادة الهاشمي وشهادة ابن الجوزي والتي تجد فيها ان شب على العبادة والتقى قبل توليه الخلافة اي انه شاب نشأ في طاعة الله وأنه سمح ولين وشجاع وشهم وصارم في آن واحد، والشهادة الأخرى انه لم يكن له منازع في التحكم بالأمور والسياسة العملية:
قال أبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمي في كتاب المناقب العباسية:
كانت أيام المقتفي نضرة بالعدل زاهرة بفعل الخيرات وكان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه وكان في أول أمره متشاغلا بالدين ونسخ العلوم وقراءة القرآن ولم ير مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة في شهامته وصرامته وشجاعته مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته ولم تزل جيوشه منصورة حيث يممت.
وقال ابن الجوزي:
من أيام المقتفي عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق له منازع وقبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة ومن سلاطين دولته السلطان سنجر صاحب خرسان والسلطان نور الدين محمود صاحب الشام وكان جوادا كريما محبا للحديث وسماعه معتنيا بالعلم مكرما لأهله.
ولما عاد المقتفي الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماما يصلى به دخل عليه فما زاد على أن قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وكان ابن التلميذ النصراني الطبيب قائما فقال ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي وقال يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية وروى الحديث ثم قال يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيا أو يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة لأن الله ختم على قلوبهم ولن يفك ختم الله إلا الإيمان فقال المقتفي صدقت وأحسنت وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه.
وممن مات في أيام المقتفي من الأعلام ابن الأبرش النحوي ويونس بن غيث وجمال الإسلام بن المسلم الشافعي وأبو القاسم الأصفهاني صاحب الترغيب وابن برجان والمازري المالكي صاحب كتاب المعلم بفوائد مسلم والزمخشري والرشاطي صاحب الأنساب والجواليقي وهو إمامه وابن عطيه صاحب التفسير وأبو السعادات ابن الشجري والإمام أبو بكر ابن العربي وناصح الدين الأرجاني الشاعر والقاضي عياض والحافظ أبو الوليد بن الدباغ وأبو الأسعد هبة الرحمن القشيري وابن علام الفرس المقرئ والرفاء الشاعر والشهرستاني صاحب الملل والنحل والقيسراني الشاعر ومحمد بن يحيى تلميذ الغزالي وأبو الفضل بن ناصر الحافظ وأبو الكرم الشهرزوري المقرئ والوأواء الشاعر وابن الجلاء إمام الشافعية وخلائق آخرون.


الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله.
622 هـ - 623 هـ
اعاد سنة العمرين

ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وبايع له أبوه بولاية العهد واستخلف عند الموت والده وهو ابن اثنين وخمسون سنة فقيل له ألا تتفسح؟ قال: لقد يبس الزرع فقيل يبارك الله في عمرك قال: من فتح دكانا بعد العصر إيش يكسب؟.
وكان من أجود بني العباس سيرة ، وأحسنهم سريرة ، وأكثرهم عطاء ، وأحسنهم منظرا ورواء ، ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحا كثيرا على يديه ، ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه ، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانه ورفده . وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الأموال الديوانية ، ورد المظالم ، وإسقاط المكوس ، وتخفيف الخراج عن الناس ، وأداء الديون عمن عجز عن قضائها ، والإحسان إلى العلماء والفقراء ، وتولية ذوي الديانة .[32]
ان من يقرأ شهادة ابن الأثير لا يجد بدا من ان يقف احتراما لسيرة هذا الخليفة العطرة، ويترحم على سيرته وسيرة العمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، ويجب ان ننشر ذكره الحسن في الناس لأننا يجب ان نعرف الفضل لأولي الفضل:
قال ابن الأثير في الكامل:
لما ولي الظاهر الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، فلو قيل إنه ما ولي الخلافة بعد عمر ابن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقا فإنه أعاد الأموال المغصوبة والأملاك المأخوذة في أيام أبيه وقبلها شيئا كثيرا وأبطل المكوس في البلاد جميعها وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق وبإسقاط جميع ما جدده أبوه وكان ذلك كثيرا لا يحصى.
فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديما عشرة آلاف دينار فلما استخلف الناصر كان يؤخذ منها في السنة ثمانون ألف دينار فاستغاث أهلها فأعادها الظاهر إلى الخراج الأول.
ولما أعاد الخراج الأصلي على البلاد حضر خلق وذكروا أن أملاكهم قد يبست أكثر أشجارها وخربت فأمر أن لا يؤخذ إلا من كل شجرة سالمة.
ومن عدله أن صنجة الخزانة كانت راجحة نصف قيراط في المثقال يقبضون بها ويعطون بصنجة البلد فخرج خطه إلى الوزير وأوله " ويل للمطففين " [المطففين: 1 ] الآيات وفيه: قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة الخزانة إلى ما يتعامل به الناس فكتبوا إليه أن هذا فيه تفاوتا كثيرا وقد حسبنا في العام الماضي فكان خمسة وثلاثين ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول يبطل ولو أنه ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار.
ومن عدله أن صاحب الديوان قدم من واسط ومعه أزيد من مائة ألف دينار من ظلم فردها على أربابها وأخرج أهل الحبوس وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليوفيها عمن أعسر وفرق ليلة عيد النحر على العلماء والصلحاء مائة ألف دينار وقيل له هذا الذي تخرجه من الأموال لا تسمح نفس ببعضه فقال أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير فكم بقيت أعيش؟.
ووجد في بيت من داره ألوف رقاع كلها مختومة فقيل له لم لا تفتحها قال لا حاجة لنا فيها كلها سعايات وهذا كله كلام ابن الأثير.
وقال سبط ابن الجوزي:
لما دخل إلى الخزائن قال له خادم: كانت في أيام آبائك تمتلئ فقال ما جعلت الخزائن لتمتلئ بل تفرغ وتنفق في سبيل الله فإن الجمع شغل التجار؟.

والآن تعال نقرأ ما شهد به ابن واصل وأبو شامة من اظهار العدل وازالة الضرائب واحقاق الحقوق ونبذ التجسس على الرعية:
قال ابن واصل:
أظهر العدل وأزال المكس وظهر للناس وكان أبوه لا يظهر إلا نادرا.
قال أبو شامة :
كان حلو الشمائل، شديد القوى، وقد أحسن وفرق الأموال ، وأبطل المكوس ، وأزال المظالم.
توفي رحمه الله في ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين فكانت خلافته تسعة أشهر وأياما.
وقد روي الحديث عن والده بالإجازة وروي عنه أبو صالح نصر ابن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي.


المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله.
623 هـ - 640 هـ
نعمت الرعية في ايامه بسبع عشرة سنة من الخلافة الراشدة والحياة الكريمة

أمير المؤمنين أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله حسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي العباسي البغدادي واقف المستنصرية التي لا نظير لها .
مولده سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأمه تركية.[33]
قال ابن النجار:
( بويع في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة فنشر العدل في الرعايا وبذل الإنصاف في القضايا وقرب أهل العلم والدين وبنى المساجد والربط والمدارس والمارستانات وأقام منار الدين وقمع المتمردة ونشر السنن وكف الفتن وحمل الناس على أقوم سنن وقام بأمر الجهاد أحسن قيام وجمع الجيوش لنصرة الإسلام وحفظ الثغور وافتتح الحصون.)
وقال الموفق عبد اللطيف:
(بويع أبو جعفر فسار السيرة الجميلة وعمر طرق المعروف الدائرة وأقام شعار الدين ومنار الإسلام واجتمعت القلوب على محبته والألسن على مدحه ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معابا.)
هذا الخلافة الذي نرجوا ونتمنى ان يكرمنا الله بالعيش في ظل خليفة مثله ونحمد الله ان من على الأمة بأمثاله، ينبغي ان نذكر محاسنه ونشهد له ولعدله وحلمه فقد اقام منار الدين ونشر السنن وقام بأمر الجهاد وحفظ الثغور وفتح الحصون، كما اجتمعت القلوب على محبته والألسن على مدحه بعدما بذل الانصاف .
قال الذهبي:
كانت دولته جيدة التمكن ، وفيه عدل في الجملة ، ووقع في النفوس . استجد عسكرا كثيرا لما علم بظهور التتار ، بحيث إنه يقال : بلغ عدة عسكره مائة ألف ، وفيه بعد ، فلعل ذلك نمى في طاعته من ملوك مصر والشام والجزيرة ، وكان يخطب له بالأندلس والبلاد البعيدة . [34]
وكان جده الناصر يقربه ويسميه القاضي لهداه وعقله وإنكار ما يجده من المنكر.
قال ابن كثير:
كان جميل الصورة ، حسن السريرة ، جيد السيرة ، كثير الصدقات والبر والصلات ، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه ، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة بدار الخلافة ، فكان يقف على حافتها ويقول : أترى أعيش حتى أملأها ، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول : أترى أعيش حتى أنفقها كلها . كان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات . وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء ، لاسيما في شهر رمضان ، وكان يتقصد الجواري اللاتي قد بلغن الأربعين ، فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن ، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب ، تفرق في المحالببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام.[35]
وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري:
كان المستنصر راغبا في فعل الخير مجتهدا في تكثير البر وله في ذلك آثار جميلة وأنشأ المدرسة المستنصرية ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم.
وقال ابن واصل:
بنى المستنصر على دجلة من الجانب الشرقي مدرسة ما بنى على وجه الأرض أحسن منها ولا أكثر منها وقوفا وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وعمل فيها مارستانا ورتب فيها مطبخا للفقهاء ومزملة للماء البارد ورتب لبيوت الفقهاء الحصر والبسط والزيت والورق والحبر وغير ذلك وللفقيه بعد ذلك في الشهر دينارا ورتب لهم حماما وهو أمر لم يسبق إلى مثله واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه ولا جده وكان ذا همة عالية وشجاعة وإقدام عظيم وقصدت التتار البلد فلقيهم عسكره فهزموا التتار هزيمة عظيمة وكان له أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة وكان يقول لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون وآخذ البلاد من أيدي التتار واستأصلهم فلما مات المستنصر لم يرد الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفا منه وأقاما ابنه أبا أحمد للينه وضعف رأيه ليكون لهما الأمر ليقضي الله أمرا كان مفعولا من هلاك المسلمين في مدته وتغلب التتار فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الذهبي:
وقد بلغ ارتفاع وقوف المستنصرية في العام نيفا وسبعين ألف مثقال وكان ابتداء عمارتها في سنة خمس وعشرين وتمت في سنة إحدى وثلاثين ونقل إليها الكتب وهي مائة وستون حملا من الكتب النفيسة وعدد فقهائها مائتان وثمانية أربعون فقيها من المذاهب الأربعة وأربعة مدرسون وشيخ حديث وشيخ نحو وشيخ طب وشيخ فرائض ورتب فيها الخبز والطبيخ والحلاوة والفاكهة وجعل فيها ثلاثين يتيما ووقف عليها ما لا يعبر عنه كثرة ثم سرد الذهبي القرى والرباع الموقوفة عليها وقال: وفتحت يوم الخميس في رجب وحضر القضاة والمدرسون والأعيان وسائر الدولة وكان يوما مشهودا.
ومن الحوادث في أيام:
وفي سنة اثنتين وثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلا عن قراضة الذهب فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذا الدراهم عوضا عن قراضة الذهب رفقا بكم وإنقاذا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي فأعلنوا بالدعاء ثم أديرت بالعراق وسعرت كل عشرة بدينار فقال الموفق أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد:
لا عدمنا جميل رأيك فينا ** أنت باعدتنا عن التطفيف
ورسمت اللجين حتى ألفنا ** ه وما كان قبل بالمألوف
ليس للجمع كان منعك للصر ** ف ولكن للعدل والتعريف
وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة ولي قضاء دمشق شمس الدين أحمد الجوني وهو أول قاض رتب مراكز الشهود بالبلد وكان قبل ذلك يذهب الناس إلى بيوت العدول يشهدونهم.
ومن مناقب المستنصر أن الوجيه القيرواني مدحه بقصيدة يقول فيها:
لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ** كنت المقدم والإمام الأورعا
فقال له قائل بحضرته: أخطأت قد كان حاضرا العباس جد أمير المؤمنين ولم يكن المقدم إلا أبو بكر فأقر ذلك المستنصر وخلع على قائل ذلك خلعة وأمر بنفي الوجيه فخرج إلى مصر حكاها الذهبي.
وممن مات في أيام المستنصر من الأعلام: الإمام أبو القاسم الرافعي والجمال المصري وابن معزوز النحوي وياقوت الحموي والسكاكي صاحب المفتاح والحافظ أبو الحسن بن القطان ويحيى بن معطي صاحب الألفية في النحو والموفق عبد اللطيف البغدادي والحافظ أبو بكر بن نقطة والحافظ عز الدين علي بن الأثير صاحب التاريخ والأنساب وأسد الغابة وابن عتبي الشاعر والسيف الآمدي وابن فضلان وعمر بن الفارض صاحب التائية والشهاب السهرودي صاحب عوارف المعارف والبهاء بن شداد وأبو العباس العوفي صاحب المولد النبوي والعلامة أبو الخطاب بن دحية وأخوه أبو عمرو والحافظ أبو الربيع بن سالم صاحب الإكتفاء في المغازي وابن الشواء الشاعر والحافظ زكي الدين البرزالي والجمال الحصري شيخ الحنفية والشمس الجوبي والحراني وأبو عبد الله الزيني وأبو البركات بن المستوفي والضياء بن الأثير صاحب المثل السائر وابن عربي صاحب الفصوص والكمال ابن يونس شارح التنبيه وخلائق آخرون.


المستكفي بالله أبو الربيع
824 هـ - 854 هـ
انها ثلاثة عقود من الاقتداء بسنة الخلفاء الراشدين

المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن المتوكل.
ولي الخلافة بعهد وكتب له والده رحمه الله نسخة العهد هذه صورتها: هذا ما أشهد به على نفسه الشريفة حرسها الله تعالى وحماها وصانها من الأكدار ورعاها سيدنا ومولانا ذو المواقف الشريفة الطاهرة الزكية الإمامية الأعظمية العباسية النبوية المعتضدية أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين ووارث الخلفاء الراشدين المعتضد بالله تعالى أبو الفتح داود أعز الله به الدين وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين إنه عهد إلى شقيقه المقر العالي المولوي الأصيلي العريقي الحسيبي النسيبي الملكي سيدي أبي الربيع سليمان المستكفي بالله عظم الله شأنه بالخلافة المعظمة وجعله خليفة بعده ونصبه إماما على المسلمين عهدا شرعيا معتبرا مرضيا نصيحة للمسلمين ووفاء بما يجب عليه من مراعاة مصالح الموحدين واقتداء بسنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وذلك لما علم من دينه وخيره وعدالته وكفايته وأهليته واستحقاقه بحكم أنه اختبر حاله وعلم طويته وأن الذي يدين الله به أنه أتقى ثقة ممن رآه وأنه لا يعلم صدر منه ما ينافي استحقاقه لذلك وأنه إن ترك الأمر هملا من غير تفويض للمشار إليه أدخل إذ ذاك المشقة على أهل الحل والعقد في اختيار من ينصبونه للإمامة ويرتضونه لهذا الشأن فبادر إلى هذا العهد شفقة عليهم وقصدا لبراءة ذمتهم ووصول الأمر إلى من هو أهله لعلمه أن العهد كان غير محوج إلى رضا سائر أهله وواجب على من سمعه وتحمل ذلك منه أن يعمل به ويأمر بطاعته عند الحاجة إليه ويدعو الناس إلى الانقياد له فسجل ذلك عليه من حضره حسب إذنه الشريف وسطر عن أمره قبل ذلك سيدي المستكفي أبو الربيع سليمان المسمى فيه عظم الله شأنه قبولا شرعيا .
وكان من صلحاء الخلفاء صالحا دينا عابدا كثير التعبد والصلاة والتلاوة كثير الصمت منعزلا عن الناس حسن السيرة.
وقال في حقه أخوه المعتضد: لم أر على أخي سليمان منذ نشأ كبيرة.
وكان الملك الظاهر يعتقده ويعرف له حقه وكان والدي إماما له وكان عنده بمكان رفيع خصيصا به محترما عنده جدا وأما نحن فلم ننشأ إلا في بيته وفضله وآله خير آل دينا وعبادة وخيرا وما أظن أنه وجد على ظهر الأرض خليفة بعد آل عمر بن عبد العزيز أعبد من آل بيت هذا الخليفة.
ابعهد هذه الشهادة بأنه الأكثر شبها بالخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز !
اننكر حق هذا الخليفة بعد ذلك !
ايمكن لمنصف ان يبخسه حقه !
الا يحق له الذكر الحسن في الناس !
مات في يوم الجمعة سلخ ذي الحجة سنة أربع وخمسين وله ثلاث وستون سنة ولم يعش والدي بعده إلا أربعين يوما ومشى السلطان في جنازته إلى تربته وحمل نعشه بنفسه.
مات في أيامه من الأعلام: التقي المقريزي والشيخ عبادة وابن كميل الشاعر والوفائي والقاياتي وشيخ الإسلام ابن حجر.


[1] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[2] صحيح مسلم، رقمه: 1855، حكمه: صحيح.

[3] السيوطي، تاريخ الخلفاء

[4] السيوطي، تاريخ الخلفاء

[5] انظر البداية والنهاية 13/543، تاريخ الخلفاء

[6] ابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، البداية والنهاية، دار عالم الكتب، 1424هـ - 2003م، ج13، ص543

[7] ابن كثير، البداية والنهاية،مصدر سابق، ج13، ص540.

[8] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[9] الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، 1422هـ - 2001م، ج7، ص402.

[10] الألباني، صحيح الجامع، رقمه: 5976 ، حكمه: صحيح.

[11] الأحزاب : 56

[12] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[13] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[14] ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج14، ص451.

[15] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[16] ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج14، ص455.

[17] سير أعلام النبلاء12/36، تاريخ الخلفاء

[18] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[19] المنذري، الترغيب والترهيب، ج3، رقمه: 372، حكمه: صحيح.

[20] انظر البداية والنهاية 14/452، تاريخ الخلفاء،

[21] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[22] ابن كثير، البداية والنهاية، ج14، ص689.

[23] الذهبي، سير أعلام النبلاء، مصدر سابق، ج13، ص465.

[24] المصدر السابق.

[25] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[26] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج13، ص476.

[27] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[28] السيوطي، تاريخ الخلفاء،

[29] ابن كثير، البداية والنهاية، ج14، ص708.

[30] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج20، ص400.

[31] ابن كثير، البداية والنهاية، ج16، ج393.

[32] ابن كثير، البداية والنهاية، ج17، ص149.

[33] الذهبي، سر أعلام النبلاء، ج23، ص156.

[34] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج23، ص157.

[35] ابن كثير، البداية والنهاية، ج17، ص260.
 
أعلى