العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الرخصة العامة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
الرخصة العامة

الأصل في الرخصة أنها لا تكون إلا خاصة بالأفراد المضطرين إليها، ولا تكون عامة للمجتمع المسلم بحيث يمارسها جميع أفراد المجتمع في وقت واحد؛ لأن مبدأ الضرورة قائم على عدم القدرة على تجنُّب الشيء، أو عدم القدرة على تغييره. وهذا يكون عادة في الحالات الفردية، أما أن يكون ذلك عاما للمجتمع كله فلا يمكن تصوُّرُه إلا في حال الكوارث العامة التي تصيب المجتمع بجميع فئاته، مثل حال المجاعة العامة، أو في حالٍ يكون فيها المسلمون أقلية في بلد كافر يعيشون تحت قهر وتضييق الأغلبية الكافرة، ويُـمنعون من النشاط الحلال.

أما في الأحوال الطبيعية فلا يمكن تصوُّر وقوع المجتمع المسلم كله في حال الاضطرار إلى المعاملات المحرمة، إلا إذا كان المجتمع نفسه هو الذي اختار تلك المعاملات المحرمة بإرادته، وعند ذلك تنتفي حال الضرورة ويصير المجتمع يفعل المحرمات باختياره ويتذرع بالضرورة! ومثال ذلك المعاملات الربوية الموجودة في البلاد الإسلامية، فهي لا صلة لها بحال الضرورة الجماعية؛ لأن تلك الدول هي التي اختارت تلك المعاملات الربوية بإرادتها، ولو أرادت تغييرها لاستطاعت فعل ذلك. نعم، قد يضطر بعض الأفراد إلى الوقوع في تلك المعاملات الربوية لدفع ما يحلّ بهم من ضرورة، ولكن تلك الضرورة تكون فردية، ولا يمكن عدُّها ضرورة جماعية.

وقد زلَّ أحد الفضلاء -وهو من الكتاب المعروفين في المقاصد- وأبعد النجعة حين حاول تبرير القروض الربوية في البنوك وتجويزها تحت مبدأ الضرورة والرخصة العامة، حيث تبنى دعوى أحد الباحثين، وكتب قائلا: "القول بإباحة الاقتراض البنكي مبني على أن الفائدة البنكية عن القروض ضرورة من الضرورات التي تقوم عليها الحياة الاقتصادية والمالية المعاصرة. القول بحظرها ليس قولا شرعيا وإنما هو فهم وقول فقهي. وعليه إذا كانت القاعدة الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات الشرعية، فإن الأصح أن يقال -ومن باب أولى- عن الضرورات الواقعية تبيح المحظورات الفقهية."[1]

وهذه الدعوى يُرَدُّ عليها بالآتي: من قال إن القروض الربوية ضرورة من ضرورات النظام الاقتصادي؟ نعم، هي سمة من سمات النظام الرأسمالي الغربي الذي انتشر في بلدان العالم الإسلامي، ولكنه ليس ضرورة من ضرورات الاقتصاد، بل يمكن للنظام الاقتصادي أن يقوم من غير قروض ربوية. ومن المعلوم أن رفض القروض الربوية ليس مقصورا على النظام الإسلامي، بل الفكر الماركسي أيضا يرفض ذلك ويعده من عوامل هدم الاقتصاد. وحتى في ظل الوضع الحالي الذي تنتشر فيه البنوك الربوية في البلدان الإسلامية يمكن للناس الاستغناء عن تلك القروض الربوية ليس فقط في النشاطات الخاصة، بل حتى في النشاطات الزراعية والصناعية والتجارية، لو توفرت فيهم الهِمَّة العالية والتفكير الإبداعي. بإمكانهم تكوين جمعيات تعاونية وشركات من أموالهم الخاصة يستعيضون بها عن الاقتراض الربوي من البنوك. ولكن المشكلة أن غالبية الناس لا يثقون في بعضهم البعض ولا يرغبون في التعاون والتضحية، وهذا من آثار الأخلاق السيئة المنتشرة بيننا. إننا شعوب تنتشر فيها الأخلاق السيئة وضعف الهمة وغياب التفكير الإبداعي، وبدلا من حلّ هذه المشكلات حتى نتأهل للعيش حياة كريمة، نستعيض عن ذلك بتبرير الواقع بفتاوى الضرورة والحاجة والحيَّل! ومما يُأْسَفُ له أن كثيرا مما يُسمَّى "البنوك الإسلامية" قد تحولت إلى مؤسسات للتحايل على المعاملات الربوية بعقود صورية تحمل مسميات فقهية.
ومن المعلوم أن الإسلام جاء لتغيير الأوضاع الفاسدة، وليس من منهجه إقرار الفساد العام بذريعة الضرورة. وقد جاء الإسلام والخمر والربا منتشرين في المجتمع العربي فحرمهما تحريما قاطعا.

يستند القائلون بمبدأ الرخصة العامة -عادة- إلى ما ورد في كلام بعض الفقهاء المتقدمين من إدخال بعض المعاملات الشرعية -مثل السَّلَم والقرض الحسن والإجارة والمزارعة- في باب الرخصة، والتعبير عنها بأنها جاءت على خلاف القياس أو على خلاف الأصل، وهو أمر فيه نظر. والواقع أن تلك المعاملات لها أصولها المستقلة التي تقوم عليها.

فالسَّلَم -مثلا- يختلف عما ورد من النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها والنهي عن بيع المعدوم. فالمعدوم المراد به ما لا يوجد أصلا، وتسليمه غير ممكن. وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها إذا حصل يكون البائع قد استحق الثمن وصارت السلعة في ضمان المشتري، فإذا فسدت الثمرة بعد ذلك صار الأمر ظلما للمشتري وأكلا لماله بالباطل؛ فالبائع قد قبض الثمن والمشتري خسر الثمن والسلعة.
أما في السَّلَم فإن السلعة مضمونة، والغرر الفاحش مُنْتَفٍ عن الصفقة بتحديد الأجل والكمية والوصف، والبائع مُلْزَمٌ بأن يُسلِّم السلعة للمشتري سواء صلحت زراعته أم لم تصلح، فإن صلحت سلَّمه من منتوجه، وإن لم تصلح أخذ له مثلها من السوق. أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ."

والقرض -في الحقيقة- ليس مبادلة الدرهم بالدرهم إلى أجل حتى يُعدّ استثناء من قاعدة الربا، بل هو دفع مبلغ من المال على أن يُرجعه المدين بعد أجل محدد. وهو ليس مبادلة مال بمال، إنما هو إرجاع المدين ما أخذ. ولما كانت النقود من المثليات، فإنه لا يشترط في ردها أن يكون بعين النقود التي دُفعت، بل يصحّ ردّ مثلها. وفضلا عن ذلك فإن الفرق بين القرض الحسن والربا واضح؛ فالقرض الحسن لا يقصد منه المقرِض أي فائدة مادية، وإنما يرجو فيه الثواب من الله. أما المبادلة في المعاملات الربوية فإن المقصود منها الفائدة المادية.

والإجارة ليست من باب العقد على معدوم؛ لأن العقد يقع على أساس الانتفاع بشيء معيَّن موجود، ومنفعته موجودة، بمعنى أنه قابل لتحصيل المنفعة المرادة منه، ولكن استيفاء المنفعة لا يتم عادة دفعة واحدة، بل يتم على مراحل. والدفع يكون –عادة- بعد استيفاء المنفعة المعقود عليها، وحتى إذا تم الدفع مقدما قبل استيفاء المنفعة، فإن ذلك يشبه استيفاء الثمن في البيع قبل تسليم المبيع، وهو معمول به في البيع، كما أنه معمول بتسليم المبيع قبل استيفاء الثمن. ولا حرج في هذا ما دام ذلك قائم على الثقة والتراضي بين الطرفين. ولا غرر في هذا.

وفي مسألة الأجير المشترك، لا يُعد تسليم الأشياء له بغرض الصناعة أو التصليح من باب الوديعة التي الأصل فيها أنها يد أمانة، بل هو يختلف عن الوديعة. الوديعة تكون على سبيل الأمانة، ولا يعقل أن تستحفظني شيئا ثم تغرمني بعد ذلك، وأنت الذي استأمنتني وطلبت مني أن أسدي إليك معروفا بحفظ تلك الأمانة! فالاستئمان والتغريم متنافيان. أما الأجير المشترك فالأمر فيه قائم على سبيل المعاوضة، فأنا أدفع إليه شيئا ما ليُدخل عليه عملا ما مقابل أجرة، وأنا لا أستأمنه في الأصل؛ لأني قد أكون لا أعرفه ولا أعرف خُلُقه، وليس قصدي من دفع الشيء إليه أن يحفظه لي، ولكن ليعمل فيه. وهو عندما قبض الشيء لم يقبضه على سبيل إسداء المعروف إلي بحفظه وإرجاعه إلي عند طلبه، إنما قبضه على سبيل المعاوضة ليأخذ أجرةً مقابل عمله.


[1] إسماعيل الحسني، نحو مقاربة مقامية في الإفادة من خطاب الاضطرار في الكتاب المجيد، ضمن أعمال ندوة: أهمية اعتبار السياق في المجالات التشريعية وصلته بسلامة العمل بالأحكام، ص518. وينبغي التنبيه على أن ما نقلته هنا من مقال المؤلف بعضه من كلامه هو نفسه، وبعضه نقله -على سبيل الإقرار- من كتاب: البنوك الإسلامية لعائشة الشرقاوي، ص94.
 
أعلى