العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

السياسة بين النص والمصلحة للشيخ يوسف القرضاوي

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
السياسة
بين النص والمصلحة
ومن النقاط المهمة التي يتحدث عنها كثيرون من الحداثيين والعلمانيين: أن السياسة إذا ارتبطت بالدِّين، فإن الدِّين يقيدها، ويعوقها عن الانطلاق، وخصوصا إذا فُهم الدِّين على أنه التزام بالنصوص الجزئية والتفصيلية من الكتاب والسنة.
فالسياسة تحتاج إلى أن تتحرك في فضاء واسع من النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينهما إذا تعارضتا. وكثيرا ما تحتاج السياسة إلى الكر والفر، وإلى نوع من الدهاء والمكر مع الأعداء. وقد لا يبيح الدِّين لأصحابه كل هذا القدر من التوسع والترخص. وبذلك تكون الغلبة لأعداء الدِّين، حيث يكونون هم في حِل من الالتزام بأية قيود، ونكون -نحن المسلمين- المكبلين بالأوامر والنواهي.
وهذا ما لم نتخذ طريقا آخر في فَهم الدِّين، وهو النظر إلى المقاصد الكلية للدين، لا إلى النصوص الجزئية له. على وفق ما فعل عمر الخليفة الثاني، الذي عطل بعض النصوص لتحقيق مصالح المسلمين، فيما زعموا.
وبدون هذا يظل الدِّين -في إطاره القديم وفَهمه التقليدي- عقبة أو حجر عثرة في طريق السياسة، أو طريق الدولة الحديثة، في عالمنا المتشابك.
وهذا الكلام فيه خلط ولبس كثير، إن أحسنا الظن بقائله، وفيه تلبيس شديد، إن لم نحسن الظن.
الشريعة إذا أحسن فهمها ليست قيدا بل منارة تهدي:
لقد بينا -بمنطق الشرع والعقل- أن الدِّين منارة تهدي، وليس قيدا يعوق. وأن الشريعة -كما قال ابن القيم- عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل[1]!
ومن ثَمَّ تكون الآفة في أفهام المسلمين للإسلام وشريعته، وليست في الإسلام نفسه.
ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى حسن فَهم الإسلام وأحكامه، لا إلى تنحيته من الطريق، لتمضي السياسة حرة، لا تتقيد إلا بالمصلحة، كما يراها من يراها من الناس.
إن بعض الناس ينظر إلى الإسلام نظرة مثالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهو يتخيل إسلاما يحلق بأصحابه في أجواء مجنحة، ولا ينزل إلى أرض الواقع.
وهذا غير صحيح، فالإسلام -مع مثاليته الرفيعة- يعالج الواقع كما هو، بخيره وشره، وحلوه ومره، ويجيز استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء، ويقول: " الحرب خدعة"[2]، ويرى أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرار، ما لا يجوز في وقت السَّعَة والاختيار. ومن قواعده: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص الإسلام وشريعته[3].
أما (النظرة المقاصدية) للدين وللشريعة، فنحن في مقدمة الداعين إليها، والأحفياء بها، ولكن الذي نحذر منه أبدا: أن تتخذ النظرة المقاصدية واعتبار المصالح ذريعة لتعطيل النصوص من الكتاب والسنة، وخصوصا إذا كانت النصوص مُحكمة قاطعة؛ فهذه لا يملك المؤمن أمامها إلا أن يقول: (سمعنا وأطعنا). والقرآن صريح كل الصراحة في ذلك، وأن هذا الإذعان هو مقتضى الإيمان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
الموازنة بين النصوص والمقاصد:
والذي ندعو إليه دائما هو: الموازنة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، أو بعبارة أخرى: النظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية[4]، ولا يجوز أن نضرب إحداهما بالأخرى، فهي تتكامل ولا تتناقض.
وقد ذكرنا في كتابنا عن مقاصد الشريعة: أن هناك مدارس ثلاثا في هذه القضية:
الأولى: المدرسة الحرفية: أو من سميتهم (الظاهرية الجدد) الذين يركزون على النص الجزئي، ويفهمونه فَهما حرفيا، ولا يكادون يفهمون أي وزن للمقصد الكلي. وبهذا يصطدمون بالواقع، ويضيقون على الناس فيما وسع الله فيه، ويعسرون ما يسر الله.
والثانية: المدرسة المقابلة لتلك، وهي التي تُغفل النصوص تماما، ولا تعيرها أي التفات، بدعوى أنها تنظر إلى المقاصد، وتهتم بالفحوى. وهم الذين سميتهم (المدرسة المعطلة). فقد كان هناك قديما من سماهم علماؤنا (المعطلة) ولكن كان تعطيلهم في مجال العقيدة، وهؤلاء الجدد تعطيلهم في مجال الشريعة.
وهؤلاء الذين يريدون أن يلغوا تحريم الربا في مجال الاقتصاد، ويلغوا الحدود في مجال العقوبات، ويلغوا الطلاق وتعدد الزوجات في مجال الأسرة، ويلغوا الاحتشام (الحجاب) في مجال المرأة، ويلغوا الجهاد في مجال الدفاع عن الدعوة والأمة ... إلخ.
والثالثة: هي التي تنظر إلى النص الجزئي والمقصد الكلي نظرة متوازنة، وهي المدرسة الوسطية، التي ينبغي أن نعتمد نظرتها إلى الشريعة وإلى الواقع. وهي التي يمكن أن يرتضيها جمهور المسلمين، والمدرستان الأخريان لا تحظيان عمليا بالقَبول. ناهيك بأنهما -من الناحية العلمية المحض- غير مُسلَّمتين.
الادعاء على عمر رضي الله عنه أنه عطل النصوص باسم المصالح:
والعلمانيون يتبنون المدرسة الثانية -مدرسة التعطيل للنصوص- ويتكئون على مقولات تزعم أن عمر بن الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح. وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك. وقد كان وقافا عبد كتاب الله. وقد ردت عليه امرأة في مسألة مهور النساء، فانصاع لقولها، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر!
وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام، من المهاجرين والأنصار، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لا يقبلون بحال: أن يُعطَّل كتاب الله، وأن يبدَّل شرع الله، وهم ساكنون. لو افترضنا أن عمر فعل ذلك -وما هو بفاعل- ما قَبِل هؤلاء أبدًا، وفيهم عرق ينبِض.
ومما نأسف له: أن مفكرا معتدلا مثل د. عابد الجابري، سار في هذا الدرب، وقال ما قاله دعاة (العلمانية) التي ينكرها ولا يقرها. فقد ذكر في كتابه (الدِّين والدولة وتطبيق الشريعة): أن الصحابة كثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، ولو كان صريحا قطعيا! إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص[5].
ولقد ذكر د. الجابري بعد ذلك: أن الممارسة الاجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءا ومنطلقا، فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات، وجدناهم يعتبرون المصلحة، ويحكمون بما تقتضيه، ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها[6].
وهذه دعوى خطيرة على الصحابة الذين كانوا يحتكمون إلى النصوص إذا اختلفوا، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وإذا ووجه أحدهم بالنص، لم يسعه إلا أن ينقاد له بلا تلكُّؤ ولا تردد.
ولقد ذكر الدكتور الجابري من أدلة ذلك: ما جرى من أبي بكر وعمر، حول أداء الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل تؤدى للدولة أو تترك للأفراد يؤديها كل منهم كما يشاء؟
كان رأي سيدنا أبي بكر أن تؤدى الزكاة إليه، وإلى ولاته وعماله، كما كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعلوا قاتلهم الخليفة من أجل هذا الحق المعلوم، الذي هو الركن الثالث من أركان الإسلام.
وهنا توقف عمر في قتالهم، وقال لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قالوا: لا إله إلا الله؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه[7]!
وهنا نجد المناقشة بين الصحابيين الكبيرين تقوم كلها على الاحتجاج بالنصوص، لا الاستدلال بالمصالح كما يقول الدكتور. رأينا عمر يعتمد على نص الحديث، وينسى القيد الذي فيه (إلا بحقها)، فذكَّره أبو بكر: أن الزكاة حق المال، ثم أكد ذلك بأن الزكاة كالصلاة يقاتل عليها، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [لتوبة:5].
وزاد ذلك تأكيدا بأنه متبع وليس بمبتدع، فما كان في عهد رسول الله، يجب أن يستمر.
وما قاله الجابري من أن عمر كان ينظر إلى المسألة من جهة الدِّين وأن أبا بكر كان ينظر إليها من جهة الدولة[8]: قول لا دليل عليه من حياة الرجلين. والزعم بأن الزكاة رمز للولاء السياسي ليس هو الدافع لأبي بكر إلى قتال مانعي الزكاة، كما قاتل المرتدين.
بل نظر أبو بكر إلى الزكاة من خلال نصوص القرآن، وسنة الرسول القولية والعملية، فوجد أنها من مسؤولية الدولة أو الخلافة. لهذا قال القرآن: {خُذْ مِن أموَالِهِم صَدقَةً تُطهِّرهُم وتُزَكِّيهِم بهَا} [التوبة:103]، وفي الحديث المتفق عليـه: "تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم"[9]، وجعل القرآن من مصارف الزكاة: مصرف (العاملين عليها). فهي فريضة دينية اجتماعية تشرف عليها الدولة، وتأخذها من أصحابها طوعا، وإلا أخذتها كرها، فإن تمردوا وكانوا ذوي شوكة، قاتلهم الإمام حتى يؤدوها. وبهذا كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين. وكل ما كان يؤدى في عهد رسول الله يجب أن يظل يؤدى، ولو كان عقال بعير.
وكل ما ذكره د. الجابري عن عمر، وزعم مع من زعم أنه عطل فيه النص لأجل المصلحة، من مثل: إلغاء سهم (المؤلفة قلوبهم)، وإيقاف تنفيذ (حد السرقة) في عام المجاعة، ومنع -أو كراهية- الزواج من الكتابيات ... إلى آخر الدعاوى المعروفة في هذا الجانب ... كلها لا تثبت على محكِّ النقد العلمي، وهي مبنية على سوء الفَهم لموقف عمر رضي الله عنه. وقد رددنا عليها بالتفصيل، وبالأدلة المحكمة الناصعة في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها)[10].
أكتفي هنا بإيراد مثل واحد من الأمثلة التي ذكروها عن عمر، وادَّعو فيها أنه عطَّل النص من أجل المصلحة. ولعل أشهر الأمثلة التي يردِّدونها باستمرار، هو ما عبَّروا عنه بقولهم: (إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم) وهو منصوص عليه في القرآن.
ونود أن نذكر هنا: أن المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة. وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين كافة في جميع الأعصار.
دعوى أن الطوفي يعطل النصوص بالمصلحة دعوى كاذبة:
والذين ادَّعوا أن نجم الدِّين الطوفي قدَّم المصلحة على النص القطعي: قوَّلوا الرجل ما لم يقل، بل قال عكسه تماما، فكل كلامه على النصوص الظنية ثبوتا أو دلالة، وإنما قال من قال ذلك، لأنهم لم يستوعبوا كلامه كله، وإنما اختطفوا جزءا منه ولم يستكملوه، وقد وضحنا ذلك ونقلنا من نصوصه ما يدفع هذا الوهم بيقين، في كتابنا (السياسة الشرعية)[11].
ومما قاله في هذا السياق عن النص:
(وأما النص، فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في الحكم، أو محتمل، فهي أربعة أقسام، فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه. منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمالا في دلالته بوجه، لفوات قطعيته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده)[12] اهـ.
فهو هنا يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دلالته: المصلحة.
لا تناقض بين مصلحة يقينية ونص قطعي:
ومما لا نزاع فيه بين أهل العلم عامة: أن المصلحة اليقينية (القطعية) لا يمكن أن تناقض النص القطعي أو يناقضها بحال من الأحوال. وهو ما أكده علماء الأمة قديما وحديثا.
وإذا تُوهم هذا التناقض، فلا بد من أحد أمرين:
إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة، مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الأجانب، أو الخمر لاجتذاب السياحة، أو الزنى للترفيه عن العزاب، أو إيقاف الحدود، مراعاة لأفكار العصر، أو غير ذلك مما يموِّه به مموهون من عبيد الفكر الغربي.
وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي، وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين، ولا سيما من غير المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها، من أساتذة الحقوق والاقتصاد والآداب، فحسبوا بعض النصوص قطعية، وليست كذلك[13].
المصلحة في نظر الشريعة أوسع وأعمق من المصلحة عند الغربيين:
ومن الضروري هنا: أن نبيِّن أن المصلحة التي يتحدث عنها علماء الشريعة الإسلامية، ليست هي المصلحة التي يتحدث عنها الغربيون ... إن المصلحة عند الغربيين تدور حول (اللذة) كما يذهب كثير من الفلاسفة، أو حول (القوة) كما يذهب إلى ذلك منظرو السياسة. وليس هناك ضوابط لتحصيل القوة عند هؤلاء أو اللذة عند أولئك.
والأفراد يتنافسون في ذلك، وكذلك الأقوام والأمم تتنافس في ذلك، بدون ضابط من وازع ديني أو أخلاقي.
المصلحة هنا مصلحة مادية لا روحية، دنيوية لا أخروية، فردية لا اجتماعية، آنية لا مستقبلية، قومية لا إنسانية.
أمَّا المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها، فهي أشمل من ذلك وأوسع. فهي ليست المصلحة الدنيوية فحسب، كما يدعو خصوم الدِّين، ولا المصلحة المادية فقط، كما يريد أعداء الروحية، ولا المصلحة الفردية وحدها، كما ينادي عشَّاق الوجودية وأنصار الرأسمالية، ولا مصلحة الجماعة أو البرولتاريا، كما يدعو إلى ذلك أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية، ولا الملصلحة الإقليمية العنصرية كما ينادي بذلك دعاة العصبية، ولا المصلحة الآنية للجيل الحاضر وحده، كما تتصور بعض النظرات السطحية. إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وراعتها في عامة أحكامها، هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة، وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلة، والموازنة بالقسط بين هذه المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من الأحيان لا ينهض بها علم بشر، وحكمة بشر، وقدرة بشر.
فالبشر أعجز من أن يحيط بكُنْه هذه المصالح ويوفِّق بينها، ويعطي كل ذي حق منها حقه بالقسطاس المستقيم. وعجزه يأتي من ناحيتين:
1. ناحية محدودية عقله وعلمه، وذلك تابع لطبيعته البشرية المخلوقة الفانية المتأثرة -حتما- بالزمان والمكان والمحيط والوراثة.
2. وناحية تأثير الميول والأهواء والنزعات عليه، سواء أكانت ميولا شخصية أم أُسْرية أم إقليمية أم طبقية أم حزبية أم قومية. وكل واحدة من هذه لا تخلو من تأثير عليه من حيث يشعر أو لا يشعر. والمعصوم من عصمه الله.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي:
(أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد: لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا فى مصلحة نفسه من وجه لا يوصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصِّله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي -فى الموازنة- على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها.
وكم من مدبر أمرًا لا يتمُّ له على كماله أصلا، ولا يجنى منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع، رجوع إلى وجه حصول المصلحة ... بخلاف الرجوع إلى ما خالفه ...)[14].
ولهذا كانت رعاية المصالح كلها (فردية واجتماعية) للإنسان كله (جسمه وروحه وعقله)، وللطبقات كلها (أغنياء وفقراء، وحكاما ومحكومين، وعمالا وأرباب عمل)، وللإنسانية كلها (بيضا وسودا، ووطنين وأجانب)، وللأجيال كلها (حاضرة ومستقبلة)، لا يقدر عليها إلا رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
وهذا المعنى هو ما جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتوقف في توزيع الأرض المفتوحة على الفاتحين، لأنه رأى إغداقا على الجيل الحاضر في زمنه -جيل الفتح- على حساب الأجيال اللاحقة من أبناء الأمة، ولهذا كان يقول: إنني إن قسمتها بينكم جاء آخر الناس وليس لهم شيء.
وقد وجد عمر بعد طول تأمُّل في كتاب الله ما يؤيد وجهة نظره في سورة الحشر، حيث أشارت الآيات في مصرف الفيء -بعد المهاجرين والأنصار- وهم الجيل الحاضر آنذاك، إلى الذين يجيئون بعدهم من الأجيال، ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10].
وبهذه الآيات وجد عمر الحجة على مخالفيه من الصحابة رضي الله عنهم جميعا. قال عمر: ما أرى هذه الآية إلا عمت الخلق كلهم[15]. وقال للذين عارضوه: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم[16]؟ ويقول: لولا آخر الناس ما فتحت قرية[17] ... إلخ، فقد فهم عمر من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد شريعته: أن مصالح الأجيال كلها يجب أن تراعى ولا يستأثر جيل واحد أو جيلان بالخير والرفاهية على حساب من بعدهم، ولهذا كان ينظر إلى آخر الناس (الأجيال اللاحقة التي يخبئها الغيب) ويعمل لصالحها كالأجيال الحاضرة.
ولقد كان معاذ -الفقيه الأنصاري الجليل وأعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث[18]- من أنصار عمر في رأيه، وقد قال محذرا من الاستجابة إلى رغبة المطالبين بالقسمة: إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي هؤلاء القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة (أي أنه ينبِّه في هذا الوقت المبكر إلى خطر الملكية العقارية الواسعة) ثم يأتي من بعدهم قوم يسدُّون من الإسلام مسدًا (أي يبلون في الدفاع عنه بلاء حسنا) وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم[19].
والمقصود هنا: أن الشريعة ترعى مصالح المكلفين بهذا الشمول المتوازن، أو بهذا التوازن الشامل، فمن أراد أن يفهم المصلحة في الشريعة فليفهمها في ضوء هذا التصور[20].
http://www.qaradawi.net/site/topics...o=4439&version=1&template_id=254&parent_id=12
 
أعلى