العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الضوابط الخاصة بالإجتهاد المقاصدي للخادمي

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
السلام عليكم...

هذا مبحث بعنوان : الضوابط الخاصة بالإجتهاد المقاصدي
من كتاب الخادمي "الإجتهاد المقاصدي" الجزء الثاني

***

وهي جملة القيود التي تتفرع عن الضوابط العامة والشروط الكبرى، وتكون أقرب من حيث الإدراج والإلحاق، وأوضح من جهة الالتصاق والتعلق .

والمقاصد التي تراعى في الاجتهاد، والتي لها ضوابطها وشروطها، إنما هي جملة المعاني الملحوظة في التصرفات الشرعية، والمتوصل إليها باستخدام الأدلة والمصادر التشريعية على نحو النص والإجماع والقياس والاستصلاح والعرف والاستحسان وغيره. لذلك فإن الكلام عن ضوابط وشروط المقاصد يمر حتمًا بالكلام عن ضوابط وشروط المصلحة المتوصل إليها بالاستصلاح المرسل والقياس والعرف وغير ذلك .

فتحديد تلك الضوابط والشروط لدى علماء الأصول والاجتهاد هو عينه ما اتصل بتحديد ضوابط وشروط تلك المصادر التشريعية المتعددة، ومختلف مباحث التأويل الشرعي السليم .

ومن هنا كان لزامًا على الباحث أن يبين ضوابط الاجتهاد المقاصدي من خلال بيان وعرض ضوابط كل من المصلحة المرسلة والعلة والعرف، وشروط التأويل الصحيح .

ضوابط المصلحة المرسلة

الضابط الأول: عدم معارضتها للنص أو تفويتها له:

النص من حيث دلالته على معناه وحكمه نوعان:

أ ـ النص القطعي:

هو النص المقطوع به ثبوتًا ودلالة، فالمقطوع به ثبوتًا هو المقطوع بنسبته إلى صاحبه، وهو يشمل القرآن الكريم والسنة المتواترة.

أما المقطوع به دلالة فهو الذي يحتمل معنى واحدًا وحكمًا واحدًا، ومثاله قوله تعالى : (قل هو الله أحد) ( الإخلاص:1).

فالمصلحة التي يعول عليها المجتهد لا ينبغي أن تعارض نصًا قطعيًا، وذلك لأن هذا التعارض سيؤول حتمًا إلى تقرير التعارض بين القواطع الشرعية : أي بين النص القطعي ودليل المصلحة المرسلة وشاهدها البعيد، وهذا محال ومردود، لأنه موقع في اتهام الشارع بالتناقض والنقص والتقصير .. وكما هو معلوم فإنه لا يجوز للمصالح الحقيقية أن تعارض نصًا قطعيًا، وذلك لأن تلك المصالح جارية على وفق نصوصها وأدلتها القطعية، وما يدعى من وجود التعارض بينهما، ومن وجوب تقديم المصلحة على النص القطعي، إنما آيل في الحقيقة إلى ما يلي :

- أن المصلحة التي ادُّعِيَ معارضتها للنص القطعي إنما هي مصلحة مظنونة أو وهمية .

فإن كانت مظنونة بأن كان لها شاهد عام ودليل على جنسها البعيد، فإنها لا تقوى على النص القطعي المباشر، لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، أو كانت مظنونة بأن كانت غير معلومة على التعيـــــين، فيقدم النـــص عليها (فنحن نـــرى أن من الأمور ما لا يعرف وجه المصلحة فيه على التعيين، فيكون النص أولى بالاعتبار). (إن المصلحة ثابتة حيث وُجد النص، فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص القاطع يعارضها، إنما هي ضلال الفكر أو نزعة الهوى أو غلبة الشهوة، أو التأثر بحال عارضة غير دائمة، أو منفعة عاجلة سريعة الزوال، أو تحقيق منفعة مشكوك في وجودها، وهي لا تقف أمام النص الذي جاء عن الشارع الحكيم، وثبت ثبوتًا قطعيًا لا مجال للنظر فيه ولا في دلالته).

- آيل إلى أن النص المعارض بالمصلحة لم تثبت قطعيته، وإنما هو دائر بين الاحتمالات والظنون، فيكون التعارض الواقع بين المصلحة المنشودة والنص الظني هو من قبيل التعارض بين ظنيين إذا كانت المصلحة ظنية، أو بين ظني وقطعي إذا كانت المصلحة قطعية، وفي كلتا الحالتين يكون هذا التعارض غير مستحيل وممكن الترجيح لأنه ليس واقعًا بين قطعيين .

ومعرفة القطعي من الظني في الشريعة الإسلامية أمر ميسور ومحسوم بفضل الله تعالى الذي حفظ شريعته من الضياع والتحريف والاختلال، والذي بيّن ما هو مقطوع به وما هو مظنون فيه، رحمة بعباده وامتـنانًا، فبيان المقطــوع لدرء الاختــلاف والاضطراب، ولأنه لا يخضع لاعتبارات الزمان والمكان والحال، والمظنون مقصود به التيسير والتخفيف والتنوع والثراء، ومواكبة الاختلاف والتغير في الزمان والبيئات والظروف والأحوال .

كما أن معرفة القطعي من الظني حسمه العلماء المخلصون والمجتهدون الراسخون الذين قيضهم الله تعالى لخدمة شرعه، والذين كانت لهم حظوظ وافرة من فهم الخطاب الشرعي، واستيعاب مراميه ومقاصده وكيفياته ومختلف معانيه ومتعلقاته، والذين كان لرعيلهم الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم فضل القرب الزماني والمكاني، الذي مكّنهم من النظر الدقيق والتتبع العميق لتصرفات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ، هذا فضلاً عن براعتهم في حذق اللغة العربية التي نزل بها الوحي على وفق أساليبها وصيغها ومعهوداتها ومدلولاتها .

- آيل إلى أن النازلة لم ينظر جيدًا في تحقيق مناطها، وبالتالي في إدراجها ضمن أصولها وأدلتها، ومعلوم أن تحقيق المناط يضمن الاستخدام الجيد لتسليط الأدلة على وقائعها ونوازلها .

والمهم من كل ما ذكرنا أنه لا يجوز إطلاقًا وتفصيلاً تقديم المصلحة على ما هو قطعي يقيني، والواجب الفرض على المسلمين - خاصة وعامة - تقديم المدلول القطعي وترك المصلحة المظنونة أو الموهومة. (فإذا اتضحت قطعية دلالته، اتضح سقوط احتمال المصلحة المظنونة في مقابله ). (فإن الظن لو خالف العلم فهو محال، لأن ما علم كيف يظن خلافه ). (فقد ثبت بالدليل الذي لا يقبل الريب أن إجماع الصحابة والتابعين وأئمة الفقه، قد تم على أن المصلحة لا يمكن لها أن تعارض كتابًا ولا سنة، فإن وجد ما يظن أنه مصلحة وقد عارضت أصلاً ثابتًا من أحدهما فليس ذلك بمصلحة إطلاقًا، ولا تعتبر بحال ).

ب ـ النص الظني:

وهو النص الذي يدل على أكثر من معنى وحكم، ومثاله : نص القُرْءِ والملامسة وغيرها، فيكون الاجتهاد قائمًا على حصر كل تلك المعاني والأحكام وتحديد أقربها إلى المراد الإلهي وأنسبها للمصلحة المشروعة، فقد يكون أحد تلك المعاني متماشيًا مع المصلحة فيقع اعتماده بناء على المصلحة، ولا عبرة هنا بمعارضة المصلحة لغير ذلك المعنى المعتمد على وفق المصلحة، إذ لا يعد ذلك معارضة للنص، وإنما هو من قبيل العمل بأحد دلالات النص لاستحالة الجمع، وهو كذلك من قبيل العمل بدليلين، كالعمل بالعام والخاص والمطلق والمقيد، وهو في هذه الحال عمل بالنص الظني في أحد معانيه، وعمل بدليل المصلحة المرسلة وشاهدها البعيد وأصلها الكلي المستخلص من الأدلة والقرائن الشرعية الكثيرة.

أما الذي لا يجوز قطعًا هو أن تعارض المصلحة جميع مدلولات النص الظني، لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا. (أما إذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية، فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية )، فلا يجوز مثلاً مخالفة مدلولي الحيض والطُهْر للقُرْء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، أو لتغير الظرف، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة المتعلقين بمجرد اللمس وبالوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني، التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا ومرجوحًا .

والمعتمد في تحديد سائر مدلولات ومعاني النص الظني هو منهج التأويل الصحيح المقرر في علم الأصول.: (والحد الذي يقف عنده احتمال دلالات الألفاظ حتى يصبح ما وراءه مخالفًا ومعارضًا إياها يتلخص في جملة الشروط التي ذكرها الأصوليون لصحة التأويل، وفي مقدمتها كون التأويل موافقًا لوضع اللغة وعُرف الاستعمال وعادة صاحب الشرع ).

والخلاصة، أن تقدير المصالح ومراعاتها تتفاوت أحجامه ومراتبه بحسب طبيعة النصوص وتنوعها من حيث القطع والظن، فكلما كان النص ظنيًا كان تقديم المصالح واردًا ومطلوبًا ومدعوًا حتى يتوصل إلى ما هو أقرب للمراد الإلهي، وأجلب للمصلحة الإنسانية، وأضمن لتطبيق الحكم على أحسن وجه وأتمه .

غير أن هذا لا يعني أن النص القطعي خال من المصالح والمنافع، وإنما يعني أن تحصيل نوع من المصالح الحقيقية جار على وفق ما جعله الشارع غير قابل للتغيير والتأويل على مر الأيام والأحوال بأن جعله قطعيًا لا يتطرق إليه الاحتمال والافتراض .. كما أجرى نوعًا آخر من تلك المصالح على ما جعله متبدلاً بتبدل الأزمنة والظروف والأحوال، بأن جعله ظنيًا تختلف في مدلولاته الأنظار والأفكار .

الضابط الثاني: عدم معارضتها للإجماع:

الإجماع هو الدليل الشرعي بعد النص، وهو إما أن يكون قطعيًا أو يكون ظنيًا .. فإن كان قطعيًا كالإجماع على العبادات والمقدرات، وعلى نحو تحريم الجدة كالأم، وتحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدة للأب مع الجدة للأم، وغير ذلك من المسائل التي تحقق فيها الإجماعي القطعي.

فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ومنطقيتها ودرجة المعقولية فيها، ولا ينبغي أن يُقال : إنها مصلحة معتبرة وقطعية، لأنها إن كانت كذلك كما يدعى، فقد ألحــــقنا التناقض والنقــــص بالوحي، وهذا محــال ومردود، لاستحـــالة وجود التعــــارض بــيـن القـــواطع، والأمر في حقيقته ليس سوى ادعاء للمصلحة وتوهمها بلا أدنى درجة من درجات الاعتبار الشرعي .

فالإجماع القطعي هو كالنص القطعي في دلالته على حكمه في اليقين وعدم التأويل، وفي أولويته على المصلحة، وليس جائزًا أن يُقال : إن الإجماع المستند إلى نص ظني لا يقوى على معارضة المصلحة، أو أنه في حكم النص الظني نفسه في تعدد دلالاته ووجوب حصرها والاختيار منها بما يتماشى مع المصلحة، فهذا القول مردود عليه بداهة من جهة القطع والظن معًا : أي من جهة قطعية الإجماع وظنية النص الذي استند إليه الإجماع، ومعلوم أن الإجماع قد اكتسب شرعيته القطعية من الدليل الشرعي الظني الذي استند إليه، ومن الاتفاق على ذلك الدليل الظني .

فحكم الإجماع مستفاد إذن من الدليل الشرعي الظني، ومن عنصر الاتفاق واجتماع الأمة الذي زكاه الشرع وصححه .

أما إذا كان الإجماع ظنيًا أي قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال، ومبنيًا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة : (ومجرد الاتفاق في عصر على حكم لمصلحة لا يكفي في أبديته، بل لابد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير).

وقد كان الأئمة يمنعون شهادة القريب على قريبه، والزوج على زوجته والعكس، لضمان حقوق الناس، وقد كان ذلك جائزًا في عصر الصحابة إجماعًا واتفاقًا .

والحق أن هذا التعارض بين الإجماع الظني المنبني على المصلحة الظرفية وبين المصلحة الحادثة هو في حقيقته تعارض بين مصلحتين : مصلحة الإجماع المرجوحة والمصلحة الحادثة الراجحة، وإذا كان كذلك فإنه يعمل فيه بترجيح الراجح عن المرجوح، لسبب من الأسباب المتعلقة بالقطع أو الكلية أو العموم أو الوقوع أو غير ذلك .

فالإجماع متى تأكدت قطعيته فهو في حكم النص القطعي في منع العدول عنه لمجرد توهم مقصد ما أو ظن بمصلحة ما، وذلك لأن المصلحة الشرعية الحقيقية قد أجراها الشارع الحكيم على وفق قطعية الإجماع التي لا تتبدل على مر الزمان، بل التي تتسم بالثبات والدوام في كل الأحوال و العصور.

الضابط الثالث: عدم معارضتها للقياس:

القياس هو المصدر التشريعي بعد النص والإجماع، وهو حمل على النص لعلة أو أمر آيل إلى مصلحة، ومثاله : قياس شحم الخنزير على لحمه في النجاسة والاستقذار والضرر، وقياس النفاس على الحيض في منع الوطء للأذى والضرر، وهو يستند إلى وصف يتناسب مع حكمه، وهذا الوصف قد سماه الأصوليون (المناسب)، الذي متى عرض على العقول تلقته بالقبول.

والمناسب تختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا، إذ هناك وصف اعتبره الشارع، ووصف ألغاه، ووصف لم يعتبره ولم يلغه .

وفي الوصف الذي اعتبره الشارع، نجد أن ذلك الاعتبار قد جعل درجات الوصف المناسب تتراوح بين التنصيص المباشر على العلّية بالتنصيص على مناسبة الوصف للحكم، أي التنصيص على علة الحكم تصريحًا أو إيماءً، وبين التنصيص غير المباشر على العلية، أي بالتنصيص على جنس ونوع الوصف والحكم .

والغرض من بيان تقسيمات المناسب ومراتبه هو معرفة المقبول من غيره ، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند التعارض، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشرع العزيز بتفاوت الاعتبار الشرعي لها، قوة وضعفًا، بصورة مباشرة وغير مباشرة .

جاء عن صاحب تعليل الأحكام قوله الرائع وهو يبرز مكانة المناسب في حيوية القياس والاجتهاد : (وهو حقيق بهذه العناية، فإنه لُب القياس وميدان الاجتهاد الواسع الذي سبحت في بحاره عقول المجتهدين وأتباعهم، وحلّقت في سمائه أفكار الفقهاء والأصوليين، فأتوا من أبحاثه بما لا مزيد عليه لمستزيد، وأحاطوه بسياج منيع يرد عنه كل مهاجم عنيد، وسلّحوه بسلاح قوي يدفع كل اعتداء من المخالفين ).
المصدر:http://www.islamweb.net/newlibrary/...=5&ChapterId=5&BookId=266&CatId=201&startno=0
 
أعلى