العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الطلاق في الحيض حكمه و أثره

إنضم
4 يناير 2008
المشاركات
1,323
التخصص
طبيب تخدير
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
ما وافق الدليل
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد كثر الطلاق في هذه الأيام و كثر الطلاق على خلاف الشرع ، ومن الطلاق المخالف للشرع طلاق الرجل زوجته وهي حائض ،وهذا النوع من الطلاق طلاق محرم بالكتاب والسنة وإجماع العلماء ، وليس بين أهل العلم نزاع في تحريمه .

أدلة تحريم الطلاق في الحيض

أما الكتاب فقد قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ الطلاق من الآية 1 ] أي : يا أيها النبي إذا أردتم - أنت والمؤمنون - أن تطلِّقوا نساءكم فطلقوهن مستقبلات لعدتهن - أي في طهر لم يقع فيه جماع، أو في حَمْل ظاهر – و احفظوا العدة؛ لتعلموا وقت الرجعة إن أردتم أن تراجعوهن[1] .

، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قَالَ: لَا يُطَلِّقْهَا وَهِيَ حَائِضٌ وَلَا فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ: تَتْرُكُهَا حَتَّى إِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً[2].

وقال ابن عباس – رضي الله عنه - أيضا: ( الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ وَوَجْهَانِ حَرَامٌ: فَأَمَّا الْحَلَالُ: فَأَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبْيِنًا حَمْلَهَا، وَأَمَّا الْحَرَامُ: فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ يُطَلِّقَهَا حِينَ يُجَامِعُهَا لَا يَدْرِي أَيَشْتَمِلُ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ )[3]


و أما السنة فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ »[4]، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ فِي طُهْرٍ وَطِئَ فِيهِ، إِلَّا إنْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا [5] فالأمر بإمساكها بعد المراجعة، ثم يطلقها في الطهر دليل على أنه لا يحل له أن يطلقها في الحيض .


و في رواية فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ قَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ حَيْضَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَ اللهُ »[6] ،و النبي - صلى الله عليه وسلم – يتغيظ من ارتكاب الحرام فدل أن الطلاق في الحيض حرام .

و أما الإجماع :

فقد قال ابن عبد البر - رحمه الله –: ( وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مَكْرُوهٌ لِمَنْ أَوْقَعَهُ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ لَمْ يُطَلِّقْ لِلْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْعُدُولِ تَغَيُّظُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - على بن عُمَرَ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ )[7].

و قال النووي- رحمه الله – : ( أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ الْحَائِلِ - أي غير الحامل - بِغَيْرِ رِضَاهَا ) [8].

و قال ابن قدامة - رحمه الله –: ( وَأَمَّا الْمَحْظُورُ، فَالطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَكُلِّ الْأَعْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَيُسَمَّى طَلَاقَ الْبِدْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ خَالَفَ السُّنَّةَ ، وَتَرَكَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطلاق من الآية 1] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « إنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ »[9] )[10]




هل كل طلاق في الحيض حرام ؟


وبعد أن علمنا أن الطلاق في الحيض حرام لا يجوز فهل كل طلاق في الحيض حرام ؟ والجواب لا فليس كل طلاق في الحيض حرام إذ يستثني من تحريم الطلاق في الحيض ما يلي :

الأولى: إذا كان الطلاق قبل أن يخلو بها، أو يمسها فلا بأس أن يطلقها وهي حائض، لأنه لا عدة عليها ، فلا يكون طلاقها مخالفًا لقوله تعالى: ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطلاق من الآية 1]

الثاني : إذا كان الطلاق على عوض، فإنه لا باس أن يطلقها وهي حائض مثل أن يكون بين الزوجين نزاع وسوء عشرة فيأخذ الزوج عوضًا ليطلقها، فيجوز ولو كانت حائضًا. لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما- : «أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " يا رسول الله إني ما أعْتِبُ عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أتردِّين عليه حديقته ؟ قالت: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقْبلْ الحديقة وطلّقها تطليقة » [رواه البخاري] . ولم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كانت حائضًا أو طاهرًا؟ ، ولأن هذا الطلاق افتداء من المرأة عن نفسها فجازَ عند الحاجة إليه على أي حال كان [11].


و قال البغوي - رحمه الله –: ( اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ".

وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ: أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ. وَهَذَا فِي حَقِّ امْرَأَةٍ تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَطُّ أَوِ الْآيِسَةَ بَعْدَ مَا جَامَعَهَا أَوْ طَلَّقَ الْحَامِلَ بَعْدَ مَا جَامَعَهَا أَوْ فِي حَالِ رُؤْيَةِ الدَّمِ لَا يَكُونُ بِدْعِيًا )[12].


الحكمة من النهي عن الطلاق البدعي


و الحكمة من النهي عن الطلاق البدعي أنه إذا طلقها في الحيض أضر بها في تطويل العدة وإذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل لم يأمن أن تكون حاملاً فيندم على مفارقتها مع الولد ؛ لأنه لا يعلم هل علقت بالوطء فتكون عدتها بالحمل أو لم تعلق فتكون عدتها بالإقراء وأما طلاق غير المدخول بها في الحيض فليس بطلاق بدعة لأنه لا يوجد تطويل العدة [13].


ويبين ابن قدامة - رحمه الله – السر في النهي عن الطلاق في الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه قائلا : ( لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا، وَلَا الطُّهْرَ الَّذِي بَعْدَهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَ، وَإِذَا طَلَّقَ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، لَمْ يَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَيَنْدَمَ، وَتَكُونَ مُرْتَابَةً لَا تَدْرِي أَتَعْتَدُّ بِالْحَمْلِ أَوْ الْأَقْرَاءِ؟ )[14].


و قال ابن عثيمين – رحمه الله - : ( فإذا قال قائل: ما الحكمة في تحريم الطلاق في الحيض؟ قلنا: الحكمة في ذلك أمران:

الأول: أنه جرت العادة أن الإنسان إذا حاضت امرأته ومنع منها، فإنه لا يكون في قلبه المحبة والميل لها، لا سيما إن كانت من النساء التي تكره المباشرة في حال الحيض؛ لأن بعض النساء يأتيها ضيق إذا حاضت فتكره الزوج وتكره قربانه، فإذا طلق في هذه الحال يكون قد طلق عن كراهة، وربما لو كانت طاهراً يستمتع بها لأحبها ولم يطلقها، فلهذا كان من المناسب أن يتركها حتى تطهر.

الثاني: إذا طلقها في هذه الحيضة فإنها لا تحسب، فلا بد من ثلاث حيض كاملة غير الحيضة التي طلق فيها، وحينئذٍ يضرها بتطويل العدة عليها )[15] .




[1] - التفسير الميسر ص 588

[2] - تفسير ابن كثير 8/143

[3] - رواه عبد الرزاق في مصنفه رقم 10950 ،والبيهقي في السنن الكبرى رقم 14916 ،والدارقطني في سننه رقم 3890

[4] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5251 , ورواه مسلم حديث رقم 1471

[5] - منهج السالكين وتوضيح الفقة في الدين للسعدي ص 209

[6] - رواه مسلم حديث رقم 1471

[7] - الاستذكار لابن عبد البر 6/141

[8] - شرح النووي على صحيح مسلم 10/60

[9] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5251 , ورواه مسلم حديث رقم 1471

[10] - المغني لابن قدامة 7/364

[11] - رسالة في الدماء الطبيعية للنساء لابن عثيمين ص 33

[12] - تفسير البغوي 8/148

[13] - المهذب للشيرازي 3/6

[14] - المغني لابن قدامة 7/364

[15] - الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين 13/46
 
إنضم
4 يناير 2008
المشاركات
1,323
التخصص
طبيب تخدير
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
ما وافق الدليل
رد: الطلاق في الحيض حكمه و أثره

أثر الطلاق في الحيض
هل يقع الطلاق في الحيض أم لا ؟

قال ابن بطال - رحمه الله – : ( الطلاق يقع فى الحيض عند جماعة العلماء، وإن كان عندهم مكروهًا غير سنة، ولا يخالف الجماعة فى ذلك إلا طائفة من أهل البدع لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع الطلاق فى الحيض ولا فى طهر قد جامع فيه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو شذوذ لم يعرج عليه العلماء؛ لأن ابن عمر الذى عرضت له القصة احتسب بتلك التطليقة، وأفتى بذلك )[1].
و قال ابن قدامة - رحمه الله – : ( فَإِنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، أَثِمَ، وَوَقَعَ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَالشِّيعَةُ قَالُوا: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ) [2].


و قال النووي - رحمه الله – : ( أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ الْحَائِلِ - أي غير الحامل - بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَوْ طَلَّقَهَا أَثِمَ وَوَقَعَ طَلَاقُهُ ويؤمر بالرجعة لحديث بن عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ وَشَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً ) [3].

و قال القرطبي- رحمه الله – : ( مَنْ طَلَّقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ نَفَذَ طَلَاقُهُ وَأَصَابَ السُّنَّةَ. وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا نَفَذَ طَلَاقُهُ وَأَخْطَأَ السُّنَّةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي أُخْرَى: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ في الحيض ؛ لِأَنَّهُ خِلَافَ السُّنَّةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَتِ الشِّيعَةُ )[4].


وقال ابن القطان - رحمه الله – : ( والطلاق يقع في الحيض ثلاثًا كان أو دونها وهو مذهب الفقهاء بأسرهم إلا طائفة شذت لا يعتد بخلافهم، فقالوا: لا يقع الطلاق في الحيض ولا في طهر قد جامع فيه، وروي ذلك عن داود وهشام بن الحكم وابن عليه وعن الشيعة )[5].

و قال ابن تيمية - رحمه الله – : ( الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " إذَا أَوْقَعَهُ الْإِنْسَانُ هَلْ يَقَعُ، أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِوُقُوعِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَقَعُ. مِثْلُ طَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَخِلَاسٍ بن عُمَرَو، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَأَهْلِ الظَّاهِرِ: كَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ .وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: دَاوُد وَأَصْحَابُهُ )[6]


و قال ابن القيم - رحمه الله – : ( الْخِلَاف فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَزَلْ ثَابِتًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَدْ وَهِمَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِهِ، وَقَالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ) [7].

و قال ابن الملقن - رحمه الله – : ( الطلاق في الحيض مكروه واقع عند جماعة الفقهاء، ولا يخالفهم في ذلك إلا طائفة مبتدعة، لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع فيه، ولا في طهر جامعها فيه. وقد سلف عن أهل الظاهر، وهو شذوذ لا يقدح فيما عليه العلماء، وصاحب القصة احتسبها وأفتى به ) [8].



[1] - شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/384

[2] - المغني لابن قدامة 7/366

[3] - شرح النووي على صحيح مسلم 10/60

[4] - تفسير القرطبي 18/151

[5] - الإقناع في مسائل الإجماع 2/43

[6] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 33/81

[7] - زاد المعاد لابن القيم 5/201

[8] - التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن 25/197
 
إنضم
4 يناير 2008
المشاركات
1,323
التخصص
طبيب تخدير
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
ما وافق الدليل
رد: الطلاق في الحيض حكمه و أثره

أدلة وقوع الطلاق في الحيض

الدليل الأول على وقوع الطلاق في الحيض : قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لعمر – رضي الله عنه - : « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ » .


وجه الاستدلال في الحديث : قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لعمر : « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » والمراجعة أن يعيد الرجل زوجته إلى نكاحه إذا كان يملك ذلك منها ، وهو أن يكون قد بقي له من الثلاث بعضها ولم تنقض العدة [1]أي أن المراجعة في الشرع هي إعادة المطلقة ،ولو لم يقع الطلاق لم تكن رجعة مما يدل أنّ الطلاق السابق واقع .

و قال الشافعي- رحمه الله – : ( في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر أن يراجع امرأته دليل على أنه لا يقال له : راجع إلا من قد وقع عليه طلاقه لقوله تعالى في المطلقات : ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ و لم يقل هذا في ذوات الأزواج ، وأن معروفًا في اللسان بأنه إنما يقال للرجل : راجع امرأتك. إذا افترق هو وامرأته ) [2].


و قال ابن بطال - رحمه الله – : ( وفى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ابن عمر بمراجعتها دليل بيِّن على أن الطلاق فى الحيض لازم واقع؛ لأن المراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق ولزومه؛ لأنه من لم يطلق لا يقال له: راجع؛ لأنه محال أن يقال لرجل زوجته فى عصمته لم يفارقها: راجعها، بل كان يقال له: طلاقك لم يعمل شيئًا، ألا ترى قول الله تعالى: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ [ البقرة من الآية 228] ، يعنى فى العدة، وهذا لا يستقيم أن يقال مثله فى الزوجات غير المطلقات ) [3].


وقال ابن عبد البر : ( وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بِمُرَاجَعَةِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَهَا حَائِضًا دَلِيلٌ يُبَيِّنُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ وَاقِعٌ لَازِمٌ لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَلُزُومِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ وَاقِعًا لَازِمًا مَا قَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُطَلِّقْ لَا يُقَالُ لَهُ رَاجِعْ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ امْرَأَتُهُ فِي عِصْمَتِهِ لَمْ يُفَارِقْهَا رَاجِعْهَا بَلْ كَانَ يُقَالُ لَهُ طَلَاقُكَ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا وَامْرَأَتُكَ بَعْدَهُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ وَنَحْوُ هَذَا ) [4] وقال أيضا : ( وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ لَقَالَ دَعْهُ فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ أَوْ نَحْوَ هَذَا ) [5].

وقال الخطابي - رحمه الله – : ( وفيه دليل على أن طلاق البدعة يقع كوقوعه للسنة إذ لو لم يكن واقعاً لم يكن لمراجعته إياها معنى )[6].


وقال ابن القطان - رحمه الله –: ( والمراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق، وعلى هذا جمهور العلماء وجماعة الفقهاء ) [7].


و قال ابن الملقن - رحمه الله –: ( أمره بالمراجعة دليل على ذلك، إذ لا رجعة إلا بعد طلاق. قال تعالى: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [ البقرة من الآية 228 ] يعني : في العدة ، ولا يقال مثله في الزوجات غير المطلقات ) [8].



مناقشة من قال بعدم وقوع الطلاق في الحيض للاستدلال :

قال ابن القيم- رحمه الله – : ( أَمَّا قَوْلُهُ : « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » ، فَالْمُرَاجَعَةُ قَدْ وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَعَانٍ:

أَحَدُهَا: ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ البقرة من الآية 230] ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْمُطَلِّقَ هَاهُنَا: هُوَ الزَّوْجُ الثَّانِي، وَأَنَّ التَّرَاجُعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ نِكَاحٌ مُبْتَدَأٌ.


وَثَانِيهِمَا: الرَّدُّ الْحِسِّيُّ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلًا كَقَوْلِهِ لأبي النعمان بن بشير لَمَّا نَحَلَ ابْنَهُ غُلَامًا خَصَّهُ بِهِ دُونَ وَلَدِهِ : رُدَّهُ ، فَهَذَا رَدُّ مَا لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْهِبَةُ الْجَائِزَةُ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -جَوْرًا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ، وَأَنَّهَا خِلَافُ الْعَدْلِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.


وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْبَيْعَ، وَلَيْسَ هَذَا الرَّدُّ مُسْتَلْزِمًا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ بَاطِلٌ ، بَلْ هُوَ رَدُّ شَيْئَيْنِ إِلَى حَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا كَمَا كَانَا ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ بِمُرَاجَعَةِ ابْنِ عُمَرَ امْرَأَتَهُ ارْتِجَاعٌ وَرَدٌّ إِلَى حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا كَانَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ الْبَتَّةَ )[9].


و قال ابن تيمية - رحمه الله –: ( وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ بِبَدَنِهَا؛ فَقَالَ لِعُمَرِ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَلَمْ يَقُلْ: فَلْيَرْتَجِعْهَا. " وَالْمُرَاجَعَةُ " مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: أَيْ تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ ؛ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ؛ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا )[10].


و قال ابن تيمية - رحمه الله – أيضا : ( قَوْلُهُ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَلْ لَمَّا طَلَّقَهَا طَلَاقًا مُحَرَّمًا حَصَلَ مِنْهُ إعْرَاضٌ عَنْهَا وَمُجَانَبَةٌ لَهَا؛ لِظَنِّهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَا كَانَتْ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : لِمَنْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ: هَذَا هُوَ الرِّبَا فَرُدَّهُ ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَرَدَّ أَرْبَعَةً لِلرِّقِّ ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي العاص بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَهَذَا رَدٌّ لَهَا. وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي بَاعَهُ دُونَ أَخِيهِ . وَأَمَرَ بَشِيرًا أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي وَهَبَهُ لِابْنِهِ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ .


وَلَفْظُ " الْمُرَاجِعَةِ " يَدُلُّ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِعَقْدِ جَدِيدٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا وَقَدْ يَكُونُ بِرُجُوعِ بَدَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ طَلَاقٌ كَمَا إذَا أَخْرَجَ الزَّوْجَةَ أَوْ الْأَمَةَ مِنْ دَارِهِ فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا. فَأَرْجِعْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ .


وَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَأَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ. وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْمُرَاجَعَةِ " يَقْتَضِي الْمُفَاعَلَةَ. وَالرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ بِمُجَرَّدِ كَلَامِهِ فَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الْمُرَاجَعَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَرَجَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَإِنَّهُمَا قَدْ تَرَاجَعَا كَمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَأَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ مِنْ الطَّلَاقِ: هِيَ الرَّدُّ وَالْإِمْسَاكُ ) [11].


وقالوا أيضا : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم – بالأمر بمراجعتها بدون استفصال عن عدد تطليقاته دليل واضح على بداهة عدم وقوع طلاق الحائض إذ لو كانت الثالثة وكان الطلاق في الحيض واقعا لما كان لمراجعتها مكان .


الرد على مناقشة من قال بعدم وقوع الطلاق في الحيض للاستدلال :

إِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِالرَّجْعَةِ الرَّجْعَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ الرَّدُّ إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ لَا أَنَّهُ تُحْسَبُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ قُلْنَا هَذَا غَلَطٌ لِوَجْوه :

الوجه الأول : الرَّجْعَة بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى رَجْعَةِ الطَّلَاقِ ، و أنَّهُ مَا ذَكَرَ إِخْرَاجَهَا فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّلَاقَ[12] .

الوجه الثاني : المسألة في الطلاق فإن كان لفظ الرجعة يستخدم في غير الطلاق فهذا عندما يكون الكلام في غير الطلاق أما في مسائل الطلاق لا يقال رجعة إلا من طلاق ، و الصارف معنى الرجعة عن المعنى الشرعي هو المطالب بالدليل و لا دليل صحيح صريح خال من معارض معتبر بل جاء في رواية أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَّا أَنْتَ فَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَنِي بِهَذَا , وَأَمَّا أَنْتَ فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ وَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ »[13] وَفِي هَذَا السِّيَاقِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَ الرَّجْعَةَ فِي قصَّة بن عمر على الْمَعْنى اللّغَوِيّ[14].
.
الوجه الثالث : أن بن عُمَرَ صَرَّحَ فِي رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ حَسَبَهَا عَلَيْهِ طَلْقَةً [15] ، وإن قيل ليس الحاسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فهذا بعيد ؛ لأن قول الصحابي حُسبت بمنزلة قوله أُمرنا و نُهينا .


الوجه الرابع : قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لعمر : « ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ » بعد « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » مشعر بأن المقصود بالرجعة الرجعة من طلاق ؛ لأن الرجعة إمساك للزوجة واستبقاء لنكاحها ، و إمساك الزوجة يكون بعد الرجعة من طلاق ، وَقد سَمَّى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا ، وَتَرْكَهَا فِرَاقًا وَسَرَاحًا ، فَقَالَ : ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [ الطلاق من الآية 2 ] أي :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلهنَّ قَارَبْنَ انْقِضَاء عِدَّتهنَّ ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِأَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ ﴿ بِمَعْرُوفٍ مِنْ غَيْر ضِرَار ﴿ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ اُتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهنَّ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ .


وَفِي آيَةٍ أُخْرَى : ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ البقرة من الآية 229] أي : الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان، واحدة بعد الأخرى، فحكم الله بعد كل طلقة هو إمساك المرأة بالمعروف، وحسن العشرة بعد مراجعتها، أو تخلية سبيلها مع حسن معاملتها بأداء حقوقها، وألا يذكرها مطلقها بسوء[16] .


الوجه الخامس : أن عمر – رضي الله عنه – عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم – عن طلاق ابنه عبد الله لزوجته في الحيض لم ينكر عليه أنه طلاق ، ولو لم يعتبر الطلاق في الحيض طلاقا لبين ، و النبي- صلى الله عليه وسلم – أنكر الطلاق في الحيض ،ولم يقل أن الطلاق لم يقع ،و النبي - صلى الله عليه وسلم – لا يقر الخطأ ، و في قصة الحديبية و مسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها و فيها : وسار النبي - صلى الله عليه وسلم – حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل، فألحت فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي : « ما خلأت القصواء ، و ما ذاك لها بخلق ، و لكن حبسها حابس الفيل »[17] .


و عن عَبْد اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، صُمْ وَأَفْطِرْ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام ، صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا " فَكَانَ يَقُولُ: « يَا لَيْتَنِي أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ » [18].


الوجه السادس : ليس في الحديث أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخرج زوجته من بيته أو فارقها في البدن حتى يقال ردها إلى حالها الأول ،وما استدلوا به من أحاديث فيها لفظ الرد على أن المراجعة في الحديث هي الرد إلى حالها الأول غير مسلم ؛ لأن محل النزاع عن معنى الأمر بالمراجعة في « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » و ليس مره فليردها .


واستدلالهم بقَوْله تَعَالَى : ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا ﴾ على أن الرجعة قد تكون من غير طلاق غير مسلم فالزوج الأول قد طلق زوجته و أصبحت زوجته مطلقة و تزوجت من غيره بعد العدة ثم طلقت أو مات زوجها الثاني و بعد العدة تزوجها الأول الذي طلقها فهو أيضا تراجع بعد طلاق باعتبار ما كان .


وَقولهم اسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْمُرَاجَعَةِ " يَقْتَضِي الْمُفَاعَلَةَ وَالرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ بِمُجَرَّدِ كَلَامِهِ فَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الْمُرَاجَعَةِ ، والجواب و إن كان لفظ المراجعة يقتضي المفاعلة فلا يمنع هذا أن يستعمل في مراجعة الرجل زوجته ويستقل الرجل بالرجعة ، فقد تَأْتِي الْمُفَاعَلَةُ مِنْ وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، قَالُوا: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَدَاوَيْتُ الْعَلِيلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَالْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ [19] فالمشاركة من اثنين انتفت في المراجعة كانتفائها من عاقَبْتُ وداويت وطارَقْتُ ،و ما دامت المرأة في العدة فهي زوجته وله أن يراجعها ولو لم ترضَ .


وقال الخليل- رحمه الله – : ( والرَّجعة : مراجعةُ الرّجُلِ أهلَه بعدَ الطّلاق )[20] ،و قال ابن فارس - رحمه الله –: ( والرجعة : مراجعة الرجل أهله )[21] ، وقال ابن سيده - رحمه الله –: ( وارتجَع الْمَرْأَة، ورَاجَعَها مراجَعَةً ورِجاعا : رَجَعَها إِلَى نَفسه بعد الطَّلَاق ، وَالِاسْم: الرِّجْعَة، والرَّجْعَة، والرُّجْعَى )[22] وقال ابن منظور - رحمه الله –: ( وارْتَجَعَ المرأَةَ وراجَعها مُراجعة ورِجاعاً: رَجَعها إِلى نَفْسِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَالِاسْمُ الرِّجْعة والرَّجْعةُ. يُقَالُ: طلَّق فُلَانٌ فُلَانَةً طَلَاقًا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعة والرِّجْعةَ )[23].


وقولهم : وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ ؛ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ؛ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا و هذا غير مسلم من وجوه :

الوجه الأول : أنه قياس مع النص ، ولا اجتهاد مع النص .

الوجه الثاني : أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمراجعة ثم إمساكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق فلا يرجعها ليطلقها بل يرجعها ليمسكها فتبقي عنده حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ،ليطول المقام مع زوجته وربما في هذه المدة راجع نفسه أو ذهب ما في نفسه منها أو زال ما كان بينهما من خلاف وربما يذكر من زوجته أموراً أحبها واستحسنها فيمسكها ولا يطلقها فيحصل من ذلك فائدة الرجوع و في هذا حرص على بقاء الزوجية و تضييق لأسباب الطلاق .


الوجه الثالث : مَا أَرَادَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَّلَمَ - مِنَ الْمُرَاجَعَةِ الَّتِي أَمَرَ عُمَرَ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا ابْنَ عُمَرَ، لأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ كَانَ خَطَأً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَّلَمَ - أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى يَقْطَعَ بِذَلِكَ أَسْبَابَ الخطأ ثُمَّ إِنْ آثَرَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَّقَهَا طَلاقًا صَوَابًا حَتَّى يَبِينَ مِنْهُ بِأَسْبَابِ ذَلِكَ الطَّلاقِ الصَّوَابِ وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا الطَّلاقِ بِالْمُرَاجَعَةِ، لِيَقْطَعَ أَسْبَابَهُ عَنْهُ، وَتَخْرُجَ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَسْبَابِ الخطأ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَّقَهَا طَلاقًا صَوَابًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالطَّلاقِ فِيهِ [24].

الوجه الرابع : أن من طلق في الحيض استعجل الطلاق قبل وقته المأذون فيه فعوقب بالحرمان منه بالأمر بالرجعة بعد أن طلق ثم تأخير مدة الطلاق المأذون فيه بأن يمسكها بعد الرجعة حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ و في هذا تغليظ في العقاب جزاءًا لما فعله من الطلاق في الحيض .


و إن قيل : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم – بالأمر بمراجعتها بدون استفصال عن عدد تطليقاته دليل واضح على بداهة عدم وقوع طلاق الحائض إذ لو كانت الثالثة وكان الطلاق في الحيض واقعا لما كان لمراجعتها مكان فالجواب أن الصحابة - رضي الله عنهم – كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم – في كل واقعة تحدث لهم ،و النبي - صلى الله عليه وسلم – كان هو القاضي ،والمفتي بينهم فمستبعد ألا يعرف عدد تطليقات ابن عمر لذلك لم يستفصل عن عدد التطليقات .


الدليل الثاني على وقوع الطلاق في الحيض : عنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا » ، قَالَ: «فَرَاجَعْتُهَا، ثُمَّ طَلَّقْتُهَا لِطُهْرِهَا»، قُلْتُ: فَاعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقْتَ وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ : « مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ »[25].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ ، قَالَ : طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا» قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: فَمَهْ ؟ ، وَعَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » قُلْتُ : تُحْتَسَبُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ [26].


وجه الاستدلال : قول ابن عمر - رضي الله عنهما – لمن سأله عن الاعتداد بهذه التطليقة : « مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ » ، و في رواية : « فمه ؟ » ، و في رواية « أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ » دليل على أن التطليقة في الحيض قد وقعت فقوله : « مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ » أي كيف لا اعتد بها ؟! ، ولو كان الطلاق لم يقع لقال : كيف اعتد بها أو قال : لم اعتد بها .

وقوله : « فمه ؟! » استفهام معناه التقرير: أي فما يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة ؟![27] أَو فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ إِذَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا إِنْكَارًا مِنْهُ لِقَوْلِ أَنَسٍ : أَفَتَعْتَدُّ بِهَا ؟[28] ،أو ما المانع من أن تحسب ، ولو كان الطلاق لم يقع لقال : لا .


وقوله : « أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ » : في الكلام حذف، وتقديره: أفيرتفع عنه الطلاق، إن عجز أو استحمق[29] أو أرأيت إن عجز وفعل فعل الحمقى أيسقط الطلاق عجزه أو حمقه فحذف الجواب[30] أو المعنى نعم تحتسب ، ولا يمتنع احتسابها لعجزه وحماقته [31] .
و العجز في هذا الحديث هو عدم الجد وعدم الفعل للشيء المطلوب منه ،وليس العجز الناتج عن عدم القدرة قال ابن الحربي - رحمه الله –: ( قَوْلُهُ: «إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ» أَيْ : لَمْ يَأْخُذْ بِالْحَزْمِ ، لِأَنَّ الْعَجْزَ : ضِدُّ الْحَزْمِ يَقُولُ: لَمْ يُطَلِّقْ طَاهِرًا، فَيَكُونَ قَدْ أَخَذَ بِالْحَزْمِ )[32] ، وقال أبو منصور الهروي - رحمه الله – : ( الْعَجز وَهُوَ نقيض الحَزْم )[33] وقال ابن سيده - رحمه الله –: ( العَجْز : نقيض الحَزْم )[34].


وقال القاضي عياض - رحمه الله –: ( معناه: إن عجز عن الرجعة، وفعل فعل العجاز أو فعل الحمقى، وقيل: " أرأيت إن عجز فى المراجعة التى أمر بها ": يعنى حين فاته وقتها بتمام عدتها، أو ذهاب عقله فلم يمكنه بعد في الحالتين مراجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة؟ فلابد من احتسابه بذلك الطلاق الذى أوقعه على غير وجهه، كما لو عجز عن بعض فرائضه فلم يقمه، أو استحمق فضيّعه، أكان يسقط عنه؟ وهذا إنكار كثير، وحجة على من قال: لا يعتد به، وقائله راوى القصة، وصاحب النازلة، وقد جاء مفسراً فى حديث آخر: " أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقاً " ) [35] .


و قال الخطابي- رحمه الله – : ( وفي قوله أرأيت إن عجز واستحمق حذف وإضمار كأنه يقول أرأيت إن عجز و استحمق أسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه )[36] ،و قال أيضا : ( قوله: أرأيت إن عجز واستحمق وفيه حذف واختصار كأنه قَالَ أرأيت إن عجز واستحمق أيبطل الطلاق ويذهب هدرا يعلمه أن الطلاق لازم له وأنه واقع في الحيض وقوعه في الطهر وإنما كان عجزه وحمقه أَنَّهُ خالف السنة بإيقاعه الطلاق في غير وقته يُقَالُ استحمق الرجل إذا صار أحمق أو فعل فعل الحمقى )[37] .
و قال الزمخشري - رحمه الله –: ( المعنى : إِن تطليقه إِيَّاهَا فِي حَال الْحيض عجزٌ وحمقٌ فَهَل يقوم ذَلِك عذرا لَهُ حَتَّى لَا يعْتد بتطليقته )[38] .


مناقشة من قال بعدم وقوع الطلاق في الحيض للاستدلال :

ليست هذه الروايات صريحة في وقوع الطلاق بل فيها إنكار للسؤال أو طلب الكف عن السؤال لبداهة عدم وقوع الطلاق في الحيض ،وعلى التسليم بأنها صريحة في وقوع الطلاق فليس في هذه الروايات دليل على أن الطلاق وقع ، لأنها غير مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .



الرد على مناقشة من قال بعدم وقوع الطلاق في الحيض للاستدلال :

أما قولهم هذه الروايات ليست صريحة في وقوع الطلاق فغير مسلم فابن عمر – رضي الله عنه - قال: « مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ » ولو كان الطلاق لم يقع لقال : كيف اعتد بها أو ما لي اعتد بها أو قال : لم اعتد بها أو ما اعتددت بها.


و ابن عمر – رضي الله عنه - قال: « فمه » أي فما المانع ،وكأن فيها استنكار على السؤال عن الوقوع وكأن وقوع الطلاق في الحيض مستقر عندهم فلا يحتاج لسؤال عن وقوعه ،و لو كان الطلاق لم يقع لقال : لا .


و ابن عمر – رضي الله عنهما - قال: « أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ ؟ » ردا على سؤال هل يحسب الطلاق أم لا ،وهذا أبلغ في استنكار السؤال عن الوقوع وكأن وقوع الطلاق في الحيض مستقر عندهم فلا يحتاج لسؤال عن وقوعه ،و لو كان الطلاق لم يقع لقال : لا .


ويؤيد هذا و يقطع به ما رواه أحمد عن قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ؟ فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا طَلَّقَهَا فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا " قَالَ: ابْنُ بَكْرٍ: " أَوْ فِي قُبُلِ طُهْرِهَا "، فَقُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَيُحْسَبُ طَلَاقُهُ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ قَالَ: " نَعَمْ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ؟[39] ،وفي رواية في مسلم قال ابن عمر : «مَا يَمْنَعُهُ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ »[40].


أما قولهم لا حجة في هذه الروايات ؛ لأنها غير مرفوعة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،و إنما اجتهاد ابن عمر ، ونحن غير ملزمين به فالجواب أن واقعة الطلاق في الحيض قد حدثت في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وقد سئل عنها فتغيظ ،و هُوَ الْآمِرُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ الْمُرْشِدُ لِابْنِ عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُ إِذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا بَعْدَ ذَلِك فكيف يتخيل أَن بن عُمَرَ يَفْعَلُ فِي الْقِصَّةِ شَيْئًا بِرَأْيِهِ وَهُوَ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَغَيَّظَ مِنْ صَنِيعِهِ كَيْفَ لَمْ يُشَاوِرْهُ فِيمَا يفعل فِي الْقِصَّة الْمَذْكُورَة ؟![41] .

والصحابة - رضي الله عنهم – كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم – في كل واقعة تحدث لهم ،و النبي - صلى الله عليه وسلم – كان هو القاضي بينهم ، و المفتي لهم فمستبعد أن يكون ابن عمر فعل ذلك بمحض رأيه خاصة أن هذه الواقعة قد استفتي فيها النبي - صلى الله عليه وسلم – فأفتى .


وغير معقول أن يفتي ابن عمر بوقوع الطلاق في الحيض ، وهو يعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقع طلاقه في الحيض .


الدليل الثالث على وقوع الطلاق في الحيض : عن سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ قَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ حَيْضَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَ اللهُ »، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [42].

وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : « حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ »[43] .

و في رواية قَالَ ابْنُ عُمَرَ: « فَرَاجَعْتُهَا، وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتُهَا »[44] .
الشاهد من الحديث : قول ابن عمر : « حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ » ، « وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ » صريح في وقوع الطلاق في الحيض .

مناقشة من قال بعدم وقوع الطلاق في الحيض للاستدلال :

ليس في هذه الروايات ما يفيد رفع ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - و إنما اجتهاد ابن عمر ، ونحن غير ملزمين به.

الرد على مناقشة من قال بعدم وقوع الطلاق في الحيض للاستدلال :

قولهم لا حجة في هذه الروايات ؛ لأنها غير مرفوعة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،و إنما اجتهاد ابن عمر ، ونحن غير ملزمين به غير مسلم ،و قد رد ابن حجر عليهم قائلا: ( إن النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْآمِرُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ الْمُرْشِدُ لِابْنِ عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُ إِذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا بَعْدَ ذَلِك وَإِذا أخبر بن عُمَرَ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ حُسِبَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيدًا جِدًّا مَعَ احْتِفَافِ الْقَرَائِنِ فِي هَذِهِ الْقِصَّة بذلك .

وَكَيف يتخيل أَن بن عُمَرَ يَفْعَلُ فِي الْقِصَّةِ شَيْئًا بِرَأْيِهِ وَهُوَ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَغَيَّظَ مِنْ صَنِيعِهِ كَيْفَ لَمْ يُشَاوِرْهُ فِيمَا يفعل فِي الْقِصَّة الْمَذْكُورَة .

وَقد أخرج بن وهب فِي مُسْنده عَن بن أبي ذِئْب أَن نَافِعًا أخبرهُ أَن بن عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تطهر قَالَ بن أَبِي ذِئْبٍ فِي الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِي وَاحِدَة قَالَ بن أَبِي ذِئْبٍ وَحَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ سَمِعَ سَالِمًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنِ بن أبي ذِئْب وبن إِسْحَاق جَمِيعًا عَن نَافِع عَن بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هِيَ وَاحِدَةٌ وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَقَدْ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْعلمَاء على بن حَزْمٍ فَأَجَابَهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هِيَ وَاحِدَةٌ لَعَلَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْزَمَهُ بِأَنَّهُ نَقَضَ أَصْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يُدْفَعُ بِالِاحْتِمَالِ)[45] .

والصحابة - رضي الله عنهم – كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم – في كل واقعة تحدث لهم ،و النبي - صلى الله عليه وسلم – كان هو القاضي بينهم ، و المفتي لهم فمستبعد أن يكون ابن عمر فعل ذلك بمحض رأيه خاصة أن هذه الواقعة قد استفتي فيها النبي - صلى الله عليه وسلم – فأفتى .
وغير معقول أن يفتي ابن عمر بوقوع الطلاق في الحيض وهو يعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقع طلاقه في الحيض.

الدليل الرابع على وقوع الطلاق في الحيض : عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ، « أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً »[46] ،وفي رواية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « هِيَ وَاحِدَةٌ »[47] .

وجه الاستدلال : « فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً » نص في أن طلاق ابن عمر وقع والذي احتسب التطليقة هو النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

و إن قيل في رواية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « هِيَ وَاحِدَةٌ » : لا يدرى أقاله ابن أبي ذئب من عنده أم نافع فلا يجوز أن يضاف إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا يتعين أنه من كلامه ،والجواب : هذا التجويز لا يدفع الظاهر من الرفع، ولو فتحنا باب دفع الأدلة بمثل هذه الاحتمالات ما سلم لنا حديث ، وأيضا يدفع ما اعترضوا عليه ما رواه أبو داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ، « أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً ».

الدليل الخامس على وقوع الطلاق في الحيض : عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، «فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ » . قَالَ : فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، يَقُولُ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ "[48].

و في رواية : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَّا أَنْتَ فَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَنِي بِهَذَا , وَأَمَّا أَنْتَ فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ وَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ »[49] .



وجه الاستدلال على وقوع الطلاق في الحيض : قول ابن عمر – رضي الله عنه - لمن طلق امرأته البتة في الحيض: فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ . إفتاء منه بوقوع الطلاق في الحيض و غير معقول أن يفتي ابن عمر بوقوع الطلاق في الحيض وهو يعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقع طلاقه في الحيض .


الدليل السادس على وقوع الطلاق في الحيض : وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهَا وَإِنَّمَا هُوَ زَوَالُ عِصْمَةٍ فِيهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَكَيْفَمَا أَوْقَعَهُ وَقَعَ فَإِنْ أَوْقَعَهُ لِسُنَّةٍ هُدِيَ وَلَمْ يَأْثَمْ وَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَثِمَ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ وَمُحَالٌ أَنْ يَلْزَمَ الْمُطِيعَ وَلَا يَلْزَمَ الْعَاصِي وَلَوْ لَزِمَ الْمُطِيعَ الْمُوقِعَ لَهُ إِلَّا عَلَى سُنَّتِهِ وَلَمْ يَلْزَمِ الْعَاصِيَ لَكَانَ الْعَاصِي أَخَفَّ حَالًا مِنَ الْمُطِيعِ[50].
الدليل السابع على وقوع الطلاق في الحيض : أن من عصى الله ، وابتدع في شرعه ، وخالف ما أُمر به من الطلاق على السنة ، فإن الأليق به أن يزجر، وأن يعاقب، و أن يؤاخذ بتطليقه و إلا كان أخف حالا من المطيع الذي طلق على السنة .

الدليل الثامن على وقوع الطلاق في الحيض : إذا كان الشرع قد ألزم الهازل بالطلاق بالطلاق ، وهو لا يقصده تغليظاً عليه فمن باب أولى أن يلزم القاصد للطلاق في وقته المنهي عنه بالطلاق .

الدليل التاسع على وقوع الطلاق في الحيض : القول بعدم وقوع الطلاق في الحيض يجعل الناس تستخف بالطلاق في الحيض و يزيد من الحلف بالطلاق في الحيض بخلاف القول بوقوع الطلاق في الحيض يجعل الناس يفكرون قبل الحلف بالطلاق مما يقل الطلاق في الحيض المخالف للشرع ، وهذا أبلغ في تحقيق مقصود الشرع .



[1] - الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ 4/465

[2] - الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ 4/468

[3] - شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/385

[4] - الاستذكار لابن عبد البر 6/142

[5] - التمهيد لابن عبد البر 15/65

[6] - معالم السنن للخطابي 3/232

[7] - الإقناع في مسائل الإجماع 2/43

[8] - التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن 25/197

[9] - زاد المعاد لابن القيم 5/209

[10] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 33/22

[11] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 33/99

[12] - الحاوي للماوردي 10/116

[13] - رواه الدارقطني في سننه رقم 3969

[14] - فتح الباري لابن حجر 9/353

[15] - شرح النووي على صحيح مسلم 10/60

[16] - التفسير الميسر ص 36

[17] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2731

[18] - رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1159

[19] - تفسير القرطبي 1/394

[20] - العين للخليل الفراهيدي ص 226

[21] - مجمل اللغة لابن فارس ص421

[22] - المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده ص 318

[23] - لسان العرب لابن منظور 8/115

[24] - أحكام القرآن للطحاوي 2/320

[25] - رواه مسلم حديث رقم 1471

[26] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5252 و رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1471

[27] - إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم 5/15 ، التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن 25/196

[28] - التمهيد لابن عبد البر 15/62

[29] - إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم 5/15

[30] - شرح مسند الشافعي للقزويني 3/226

[31] - شرح النووي لصحيح مسلم 3/664

[32] - غريب الحديث لابن الحربي 3/1083

[33] - تهذيب اللغة 1/220

[34] - المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده 1/298

[35] - إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم 5/14

[36] - معالم السنن للخطابي 3/235

[37] - غريب الحديث للخطابي 2/402

[38] - الفائق في غريب الحديث للزمخشري 3/396

[39] - رواه أحمد في مسنده حديث رقم 5025 قال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين ،وفي مستخرج أبي عوانة رقم 4516 ،وفي المعجم الأوسط للطبراني رقم 2505 ،والبيهقي في السنن الكبرى رقم 14918

[40] - رواه مسلم حديث رقم 1471

[41] - فتح الباري لابن حجر 9/353

[42] - رواه مسلم حديث رقم 1471

[43] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5253

[44] - رواه مسلم حديث رقم 1471 ،ورواه النسائي في سننه حديث رقم 3391


[45] - فتح الباري لابن حجر 9/353

[46] - رواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم 68 ،والبيهقي في السنن الكبرى رقم 14928 وقال شعيب الأرناؤوط في صحيح ابن حبان: وهذا إسناد صحيح على شرطهما 10/79 ،وقال الألباني في الإرواء : وإسناده صحيح على شرط الشيخين 7/162

[47] - رواه الدارقطني في سننه رقم 3914

[48] - رواه مسلم حديث رقم 1471

[49] - رواه الدارقطني في سننه رقم 3969

[50] - التمهيد لابن عبد البر 15/59
 
إنضم
4 يناير 2008
المشاركات
1,323
التخصص
طبيب تخدير
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
ما وافق الدليل
رد: الطلاق في الحيض حكمه و أثره

أدلة من قال بعدم وقوع الطلاق ومناقشتها :

الدليل الأول : قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ الطلاق من الآية 1 ]
وجه الاستدلال : الشرع نهى عن الطلاق لغير العدة و الطلاق في الحيض طلاق في غير العدة و النهي يفيد الفساد فالطلاق في الحيض باطل .

مناقشة الاستدلال : النهي عن الطلاق في الحيض ليس لذات الطلاق ،ولا لشرط من شروطه بل لأمر خارج فلا يفيد الفساد ، ولو سلمنا جدلا أن النهي عن الشيء مطلقا يقتضي الفساد فإنما يقتضي الفساد فيما إذا لم يدل دليل على عدم الفساد، وقد دلت أدلة كثيرة على عدم الفساد وعلى وقوع الطلاق في الحيض .

الدليل الثاني : قال تعالى : ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ البقرة من الآية 229]

وجه الاستدلال : المراد من الطلاق في الآية الطلاق المأذون فيه وقد حصر الله الطلاق المأذون فيه الذي يعقب الرجعة في مرتين، لأنه تعريف المسند إليه بلام الجنس يفيد الحصر. فدل ذلك على أن ما عدا الطلاق المأذون فيه وهو الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه ليس بطلاق فلا يقع به شيء.


و أيضا المراد بالتسريح بإحسان التطليق بإحسان. والتطليق في الحيض أو في طهر جامعها فيه منهى عنه بالاتفاق فلا يكون تطليقا بإحسان. وإذا لم يكن تطليقا بإحسان فلا يقع ؛ لأن موجب عقد النكاح أحد أمرين إما إمساك بمعروف وإما تسريح بإحسان والتسريح المنهي عنه أمر ثالث غيرها فلا يقع.

مناقشة الاستدلال : لفظ الطلاق في الآية عام فيشمل الطلاق المأذون فيه و غير المأذون فيه ، والمعنى الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان ولا يجوز تخصيص العام إلا بدليل صحيح خال من معارض معتبر أما قولهم أن الطلاق في الحيض ليس تسريح بإحسان فغير مسلم إذ المراد بالتسريح بإحسان في كتب التفسير تخلية سبيل المرأة مع حسن معاملتها بأداء حقوقها، وألا يذكرها مطلقها بسوء .
الدليل الثالث : عن ابْن جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، مَوْلَى عُرْوَةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ، قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا[1] .

مناقشة الدليل و الاستدلال :

من حيث التصحيح و عدم التصحيح الرواية التي فيها (ولم يرها شيئًا) مختلف في تصحيحها ، وقد ضعفها الكثير من العلماء منهم أبو داود والخطابي والشافعي وابن عبد البر ، ومن حيث الاستدلال " لم يرها شيئا " ليست نصا في عدم وقوع الطلاق .

و قول ابن عمر في رواية أبي الزبير: "فردها علي ولم يرها شيئًا" تكلم الشافعي عليه من وجهين:

أحدهما : أن نافعًا أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به، كيف وقد وافق نافعًا غيرُه من الأثبات، وقال أبو داود السجستاني: جاءت الأحاديث كلها بخلاف ما رواه أبو الزبير.

و الثاني : أنه يجوز أن يكون المعنى أنه لم يره شيئًا باتًّا يمنع من الرجعة، أو لم يره شيئًا جائزًا في السنة مختارًا، وقد قال لغير الصواب: هذا ليس بشيء[2].

وقال الخطابي - رحمه الله –: ( قال الشيخ : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا ، وقال أبو داود : جاءت الأحاديث كلها بخلاف ما رواه أبو الزبير، وقال أهل الحديث : لم يرْو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتاً يحرم معه المراجعة ولا تحل له إلاّ بعد زوج أو لم يره شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في حكم الاختيار وإن كان لازماً على سبيل الكراهة والله أعلم )[3].


وقال ابن عبد البر - رحمه الله –: ( "وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا " مُنْكَرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِهَا وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ عَنْهُ غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ جِلَّةٌ فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَبُو الزُّبَيْرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَمْ يَرَهَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ أَيْ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا مُسْتَقِيمًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ طَلَاقُهُ لَهَا عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ هَذَا أَوْلَى الْمَعَانِي بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ إِنْ صَحَّتْ وَكُلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ مِنَ الْحُفَّاظِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ وَلَيْسَ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ الْحُفَّاظَ بِشَيْءٍ فِيمَا جَاءَ بِهِ ) [4].


و قال ابن رجب - رحمه الله –: ( هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُمَرَ كُلِّهِمْ مِثْلِ ابْنِهِ سَالِمٍ، وَمَوْلَاهُ نَافِعٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَطَاوُسٍ، وَيُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى أَبِي الزُّبَيْرِ مِنَ الْمُحْدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِمَا خَالَفَ الثِّقَاتَ، فَلَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ[5]، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَبَ عَلَيْهِ الطَّلْقَةَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ: إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي بِذَلِكَ: يَعْنِي بِارْتِجَاعِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَ ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ )[6].

و من حيث الإسناد الروايات عن ابن عمر بالوقوع أكثر من الروايات عنه بعدم الوقوع، ولم يخالف إلا أبو الزبير و إن كان هناك شاهداً له في رواية سعيد بن جبير ،وممن روى عن ابن عمر بالوقوع سالم ونافع وهما أدرى و اعلم بابن عمر من أبي الزبير ، وهما من أوثق أصحاب ابن عمر وأعلم بفقهه من أبي الزبير ، حتى قيل : فقه ابن عمر عند نافع والسلسلة الذهبية مالك عن نافع عن ابن عمر ، و نافع يقدم إذا تعارض مع أبي الزبير مع أن أبا الزبير في الرواية إذا عنعن لا تقبل روايته ؛ لأنه مدلس ، و نافع في مرتبة الرواية عن ابن عمر مقدم حتى ولو عنعن ؛ لأنه الثقة الثبت ، فمن حيث الإسناد روايات من أثبت أقوى سنداً من الذي لم يثبت أضف إلى ذلك أن ابن عمر نفسه صرح بالوقوع و أفتى به وعمل به .


و على التسليم بصحة الرواية فهي ليست نصا في عدم وقوع الطلاق ،ويمكن أن يوفق بينها وبين ما جاء في الروايات الأخرى من كونها حسبت عليه تطليقة بأنه لم ير ذلك شيئاً باتاً يمنع من المراجعة، أي أنه كان طلاقاً فيه رجعة وفيه إمكان التدارك .


و قال السندي - رحمه الله –: ( " فَردهَا عَليّ " من كَلَام بن عمر أَي فَرد الطَّلقَة على أَي أنكرها شرعا عَليّ "وَلم يرهَا شَيْئا "مَشْرُوعا فَلَا يُنَافِي هَذَا لُزُوم الطَّلَاق أَو فَرد الزَّوْجَة على وَأَمرَنِي بالرجعة إِلَيْهَا إِذا طهرت )[7] .

وقول ابن عمر – رضي الله عنهما – : (ولم يرها شيئاً) وصف لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتواه، وليس المقصود بها أنه لم يطلق زوجته ، إذ لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرها طلقة لما طلق ابن عمر - رضي الله عنهما - زوجته وأفتى بالطلاق ، وفي رواية : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَّا أَنْتَ فَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَنِي بِهَذَا , وَأَمَّا أَنْتَ فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ وَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ »[8] و في رواية قَالَ ابْنُ عُمَرَ: « فَرَاجَعْتُهَا، وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتُهَا »[9] ،وفي رواية : « حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ »[10] .

و قول ابن عمر – رضي الله عنهما –: (ولم يرها شيئاً) متردد بين العديد من المعاني لم ير الطلاق شيئا يحتسب أو لم يرها طلاقا أو لم ير الطلاق شيئا صوابا لعدم موافقته السنة أو لم ير الطلاق شيئا يمنع الرجعة ؛ لأنه بقي له طلاق أو لم ير الطلاق شيئا مشروعا لعدم موافقته السنة أو لم يرها على السنة أو لم يرها موافقة للسنة أو لم يرها شيئا مباحا فقول ابن عمر – رضي الله عنهما –: (ولم يرها شيئاً) غير صريح في عدم وقوع الطلاق و هناك روايات مصرحة بالوقوع ،و إذا تعارضت روايات صريحة لا تحتمل مع غيرها قدمت الصريحة ،و عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ، « أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً »[11] ،وفي رواية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « هِيَ وَاحِدَةٌ »[12] و في رواية قَالَ ابْنُ عُمَرَ: « فَرَاجَعْتُهَا، وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتُهَا »[13] ،وفي رواية : « حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ »[14] فمن حيث اللفظ روايات الوقوع أقوى من التي تنفي الوقوع .

وقال ابن حجر - رحمه الله –: ( وفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا قَالَ أَبُو دَاوُد الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ هَذَا يَعْنِي أَنَّهَا حُسِبَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو الزُّبَيْرِ فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَعْتَدُّ بِذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَكِنْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ : لَا يَعْتَدُّ بِذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أنه خالف السنة لا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الطَّلْقَةَ لَا تُحْسَبُ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْقَوِيَّةِ ) [15].


الدليل الرابع : عن عَبْد الْوَهَّابِ الثَّقَفِي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال ابن عمر: لا يعتد بذلك[16] .

مناقشة الاستدلال : الأثر ليس نصا في عدم وقوع الطلاق في الحيض فـ" ذلك " إما تعود إلى الطلاق أو إلى الحيض ، والحيض هو أقرب مذكور مما يرجح عود " ذلك " إليه ،ومما يؤكد ذلك أن هذا الأثر قد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ،وابن الأعرابي في معجمه من نفس الطريق عن نافع عن ابن عمر - في الذي يطلق امرأته وهي حائض - قال: «لا تعتد بتلك الحيضة» ، و الأثر كاملا : عن عَبْد الْوَهَّابِ الثَّقَفِي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ: « لَا تَعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ »[17] وهذه الرواية فسرت أنّ المقصود ب" لا يعتد بذلك " أي لا يعتد بالحيض الذي وقع فيه الطلاق و ليس لا يعتد بالطلاق و هذا هو المعروف عند السلف ، وكون المطلقة في الحيض لا تعتد بالحيض الذي وقع فيه الطلاق فهذا يستلزم أن الطلاق قد وقع .


و هناك آثار كثيرة تفيد عدم الاعتداد بالحيض الذي وقع فيه الطلاق فعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِضٌ، أَتَعْتَدُّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيْضَةِ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَلَا تَحْتَسِبُ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا؟ فَقَالَ: « هُوَ الَّذِي النَّاسُ عَلَيْهِ »[18] ، وعن عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: «يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَتَعْتَدُّ ثَلَاثَ حِيَضٍ سِوَى تِلْكَ الْحَيْضَةِ »[19] ،وعَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: «إِذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، لَمْ تَعْتَدَّ فِيهِ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ »[20] ، وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: «إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ»[21]


وقال ابن رجب - رحمه الله –: ( هَذَا الْأَثَرَ – يقصد لا يعتد بذلك - قَدْ سَقَطَتْ مِنْ آخِرِهِ لَفْظَةٌ وَهِيَ قَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَيْضًا، وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَا تَعْتَدُّ بِهَا الْمَرْأَةُ قُرْءًا، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ خِلَاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَوَهِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ، فَحَكَوْا عَنْ بَعْضِ مَنْ سَمَّيْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ لَا يَقَعُ، وَهَذَا سَبَبُ وَهْمِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ )[22].


الدليل الخامس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم- « من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد »[23]

وجه الاستدلال : الطلاق في حال الحيض مخالف لأمر الشارع، فيكون مردوداً لا أثر له.

مناقشة الاستدلال : ونوقش بأن المردود هو بسبب مخالفة ركن أو شرط من أركان أو شروط العمل. وأما المخالفة بسبب تطويل العدة أو عدم وجود الحاجة إلى الطلاق، فليس أحدهما ركناً أو شرطاً للطلاق، فلا تستوجب الرد وعدم وقوع الطلاق[24].

والحديث يفيد عدم قبول العمل أو عدم الإثابة على العمل و ليس عدم ترتب الآثار على العمل ، و لا تلازم بين عدم الإثابة على العمل و عدم ترتب الآثار عليه ، و يمكن حمل الحديث على ما كان على غير أمر الشرع من جميع الوجوه أو ما كان أصله أو شرطه على غير أمر الشرع أو ما كان مورد الأمر هو مورد النهي و ليس ما كان مورد الأمر منفكا عن مورد النهي والطلاق في الحيض : مشروع من وجه إذ ليس أصل الطلاق محرما ،وغير مشروع من وجه كونه في الحيض فالأمر لا يعود لذات المنهي عنه بل لأمر خارج .

و أيضا لا علاقة للحيض بالنكاح ، والزمن ليس شرطاً في صحة الطلاق، ولا ركناً من أركانه .

و على التسليم بأن الحديث يفيد أن أي نهي يفيد الفساد فهو مخصوص بالأحاديث الدالة على وقوع الطلاق في الحيض .

الدليل السادس : الطلاق في الحيض لا يصح ؛ لأن الصحة تضاد النهي ،و الصحيح مأذون فيه، والمنهي ليس مأذونا فيه، فلا يمكن أن يكون منهياً عنه وصحيحاً في آن واحد ،والجواب هذا يصح لو كان مورد الأمر هو مورد النهي و ليس ما كان مورد الأمر منفكا عن مورد النهي ،والنهي من خطاب التكليف و الصحة والفساد من خطاب الأخبار فلا يتنافي أن يقال نهيتك عن كذا فإن فعلته رتبت عليك آثاره فلا يتنافى أن يقال لا تطلق زوجتك وهي حائض فإن طلقتها وهي حائض وقع الطلاق .


الدليل السابع : الشرع لا يتشوف لطلاق، ولا يرغب في إكثاره، ولا يرغب في الإكثار منه، فإذا أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض، ثم تطهر، ثم يطلقها ثانية، وقد حسبت عليها الأولى كأن الشرع ألزمه بغير لازم، ألزمه بثانية، وهو لا يريد إلا واحدة ،والجواب أن الشرع أوقع على المطلق طلقته ،والمطلق هو الذي ألزمها على نفسه ، والرجعة لا ترفع أثر الطلاق ، ولأنه أوقعها في وقت غير مأذون فيه أمر بالمراجعة ثم الإمساك حتى تطهر ثم تحيض، ثم تطهر جزاءا لفعله و حتى تطول المدة و يطول المقام معها فيذهب ما في نفسه منها أو يزول ما كان بينهما من خلاف وربما يذكر من زوجته أموراً أحبها واستحسنها فيمسكها ولا يطلقها فيحصل من ذلك فائدة الرجوع و في هذا حرص على بقاء الزوجية و تضييق لأسباب الطلاق فإذا أراد الرجل الطلاق بعد كل هذه المدة فهو أيضا الذي أراد لنفسه ذلك و الشرع ما أمره بالطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه بل أذن له في الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه ،وفرق بين الأمر بالطلاق و الإذن بالطلاق .

الدليل الثامن : الطلاق في الحيض منهي عنه شرعاً غير مأذون فيه، فلا يكون مملوكاً للزوج كالوكيل بالطلاق إذا خالف أمر الموكل، فإن طلاقه لا يقع، والمنهي عنه لذاته أو لجزئه أو لوصفه اللازم يقتضي الفساد، والفاسد لا يثبت حكمه ،وأجيب بأن النهي عن الطلاق في الحيض ونحوه ليس راجعاً إلى نفس الطلاق، ولا إلى صفة من صفاته، وإنما هو راجع إلى أمر خارج عن المنهي عنه، وهو عدم الحاجة إلى الطلاق، أو ما يترتب عليه من إيذاء الزوجة بإطالة العدة، والنهي لأمر خارج عن المنهي عنه لا يدل على فساده إذا وقع، كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة. والقياس على الوكيل قياس مع الفارق؛ لأن الوكيل في الطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا يملك غير ما فوض إليه، أما الزوج فلا يوقع الطلاق نيابة عن غيره ولا عن الله عز وجل، وإنما يوقعه عن نفسه [25].

الدليل التاسع : لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين ،و لا يوجد دليل يقيني على وقوع الطلاق في الحيض ،والجواب إمضاء الطلاق في الحيض قد ثبت في السنة ،و غالب الأحكام تثبت بغلبة الظن لا باليقين ،و لو اشتراطنا اليقين في ثبوت الأحكام لعطلنا الكثير من أحكام الشرع .



[1] - رواه أبو داود في سننه رقم 2185 ورواه أحمد في مسنده رقم 5524 و الشافعي في مسنده رقم 1242 وعبد الرزاق في مصنفه رقم 10960 والبيهقي في السنن الكبرى رقم 14929والطبراني في المعجم الكبير رقم 13670

[2] - شرح مسند الشافعي للقزويني 3/227

[3] - معالم السنن للخطابي 3/235

[4] - التمهيد لابن عبد البر 15/66

[5] - حيث قال أن ابن عمر قال : فردها علي ولم يرها شيئاً ؛ لأن كل الروايات على أنه أمر بالمراجعة وأنها احتسبت، وهي على خلاف ما ذكره أبو الزبير

[6] - جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 188

[7] - حاشية السندي على سنن النسائي 6/139

[8] - رواه الدارقطني في سننه رقم 3969

[9] - رواه مسلم حديث رقم 1471 ،ورواه النسائي في سننه حديث رقم 3391

[10] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5253

[11] - رواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم 68 ،والبيهقي في السنن الكبرى رقم 14928 وقال شعيب الأرناؤوط في صحيح ابن حبان: وهذا إسناد صحيح على شرطهما 10/79 ،وقال الألباني في الإرواء : وإسناده صحيح على شرط الشيخين 7/162

[12] - رواه الدارقطني في سننه رقم 3914

[13] - رواه مسلم حديث رقم 1471 ،ورواه النسائي في سننه حديث رقم 3391

[14] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5253

[15] - التلخيص الحبير لابن حجر 3/437

[16] - رواه ابن حزم في "المحلى" 10/ 163

[17] - رواه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم 17752 ،وابن الأعرابي في معجمه رقم 1751 ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى رقم 15402

[18] - رواه عبد الرزاق في مصنفه رقم 10965

[19] - رواه عبد الرزاق في مصنفه رقم 10966

[20] - رواه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم 17733

[21] - رواه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم 17757

[22] - جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/190

[23] - رواه البخاري ومسلم في صحيحهما

[24] - الفقه الإسلامي و أدلته لزحيلي 9/6924

[25] - الفقه الإسلامي و أدلته لزحيلي 9/6925
 
إنضم
4 يناير 2008
المشاركات
1,323
التخصص
طبيب تخدير
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
ما وافق الدليل
رد: الطلاق في الحيض حكمه و أثره

هل في القول بوقوع الطلاق في الحيض أو غيره مسبة للإسلام ؟

ليس في القول بوقوع الطلاق في الحيض أو غيره مسبة للإسلام ؛ لأن تشريع الطلاق هو آخر الحلول بين الزوجين عندما تستحيل العشرة بينهما ،و رُبَّمَا فَسَدَتْ الْحَالُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرُ بَقَاءُ النِّكَاحِ مَفْسَدَةً مَحْضَةً، وَضَرَرًا مُجَرَّدًا بِإِلْزَامِ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، وَحَبْسِ الْمَرْأَةِ، مَعَ سُوءِ الْعِشْرَةِ، وَالْخُصُومَةِ الدَّائِمَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ شَرْعَ مَا يُزِيلُ النِّكَاحَ، لِتَزُولَ الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهُ[1].

نتائج البحث :

- الطلاق في الحيض محرم بالكتاب و السنة والإجماع .
- ليس كل طلاق في الحيض حرام إذ يستثني من تحريم الطلاق في الحيض : الطلاق قبل أن يخلو بالمرأة أو يمسها ،و إذا كان الطلاق على عوض .
- الحكمة من النهي عن الطلاق في الحيض أنه إذا طلقها في الحيض أضر بها في تطويل العدة .
- اختلف العلماء في وقوع الطلاق في الحيض على قولين : الأول يقع الطلاق في الحيض و هو قول الجمهور ،والثاني لا يقع وممن قال به الظاهرية و ابن تيمية وابن القيم .
- الراجح من أقوال العلماء كما يتبين لي هو إمضاء الطلاق في الحيض لقوة الأدلة وصراحتها .
- أدلة من قال بعدم إمضاء الطلاق في الحيض غير صريحة في عدم احتساب الطلاق فلا تقوى على معارضة الأدلة الصريحة في احتساب الطلاق أضف إلى ذلك أنه يمكن تأويلها بما لا ينافي وقوع الطلاق في الحيض .
- ليس في القول بوقوع الطلاق في الحيض أو غيره مسبة للإسلام ؛ لأن تشريع الطلاق هو آخر الحلول بين الزوجين عندما تستحيل العشرة بينهما .

هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


[1] - المغني لابن قدامة 7/363
 
إنضم
13 سبتمبر 2008
المشاركات
246
التخصص
تجاره
المدينة
القاهره
المذهب الفقهي
الدليل
رد: الطلاق في الحيض حكمه و أثره

من العلماء من يفتى بعدم وقوع الطلاق فى الحيض اذا كانت الطلقه الثالثه وهو داب مؤسسات الفتوى فى مصر فما قولكم
 
أعلى