العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

(العمل بالسياسة الشرعية بين مكر الأعداء وعجز العلماء وجهل الأبناء) لـ د سعد العتيبي

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,134
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
العمل بالسياسة الشرعية بين مكر الأعداء وعجز العلماء وجهل الأبناء
للدكتور: سعد بن مطر العتيبي
21/7/1428هـ

سبق في الحلقة الماضية أن ما يذكر من خلاف في جملة العمل بالسياسة الشرعية ، غير مسلَّم به قادحاً في الاتفاق على العمل بها ؛ إذ المتأملُ يتضح له أن ما يُحكى من خلاف في العمل بالسياسة الشرعية ، غايته أن يكون خلافاً في بعض مصادر السياسة الشرعية ، لا في العمل بالسياسة الشرعية ، وأنَّ لذلك أسبابا ، منها : حصر مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، في مفهومٍ ضيق ؛ والخلط بين اختلاف الفقهاء في اعتبار بعض مستندات السياسة الشرعية وبين العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة من جهة ، و بين رفض العلماء لتصرفات بعض الولاة التي يسمونها ( سِيَاسة ) أو ربما ينسبونها إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وبين اعتبار العلماء للعمل بالسياسة الشرعية من جهة أخرى ؛ والخلل في إدراك الفرق بين سوء تطبيق السِّيَاسة الشَّرعيَّة من بعض الولاة والحكَّام ، واعتراض العلماء على ذلك ؛ وبين اعتبار العلماء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة .
ومما ينبغي العلم به هنا أنَّ سوء النظر وسوء التطبيق هذا عائدإلى تفريط طائفة ، وإفراط أُخرى :
فالأولى : طائفة سدٌّت على نفسها وعلى الناس، من طرق السياسية الشرعية ما تستقيم به أمورهم ؛ ظنَّاً منهم منافاتها لقواعدالشرع ؛ " والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصيرٍ في معرفة حقيقة الشريعة ، والتطبيق بينالواقع وبينها " (1) .
ولا زال منهم أقوام في هذا العصر ممن ينتمون إلى أهلالإسلام ، لكنهم لم يأخذوا الكتاب بقوّة ، ولم يتعلموا الشرع بوعي ، وبلغ الأمرببعضهم أن صار جاهلاً مركباً ، يبحث عن تأويلات فاسدة للوازم نظره الفاسد من سوءالظنّ بالمشرِّع ، والتشكيك في لزوم حمل الكافّة على النظر الشرعي في جميع شؤونهم .
والثانية : سوَّغت باسم السياسة ما يناقض حكم الله ورسوله ، من السياساتوالقوانين ؛ لمَّا رأت أن النَّاس لا يستقيم أمرهم إلا بشيءٍ زائدٍ على ما فهمهأولئك المفرِّطون ، من الشريعة ؛ " فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة ، وإحداثهؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل ، وفسادٌ عريض … وكلا الطائفتين أُتيتمن قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعثَ الله به رسولَه …" (2) .

وهذه الفئة هي في عصرنا أشرّ مأخذاً وأخطر أثراً ، إذ قادها في عصرنا أعداء الملّة ، ووسع دائرتها وأبرز شبهها بعض من انخدع بالأفكار الوافدة من تلاميذ المستشرقين ، وهي في كثير من شبهها مستقاة من مياه الفكر الفلسفي الغربي الآسنة .

وثمة فئة معاصرة تجاوزت حدّ الإيمان والتسليم بشرع الله ، ووصل بها الحال إلى المطالبة بالأحكام الوضعية التي تناقض مسلمات الشرع الحكيم ، وتتعدى على ثوابت الدين الحنيف ، فيما يشبه موجة الزنادقة التي ظهرت في مراحل ضعف الدول الإسلامية السالفة ؛ وكان فيهم من يصرح بردته ويتباهى بأيديلوجية كافرة ، وربما ألبست بلبوس مصطلحات معاصرة حكم بكفر أفكارها علماء الإسلام ، كالعلمانية الرافضة لسياسة الدنيا بالدين والليبرالية الملحدة المطالبة بتجاوز أحكام كل دين ؛ وهؤلاء لم يدعوا مجالا لمناقشة فكرهم في دائرة الإسلام ، ولذلك يناقش فكرهم ويفند كما يناقش فكر أهل الكفر والزندقة سواء بسواء .

ولكنَّا وجدنا من بني جلدتنا من علقت بفكره بعض شبههم ، وظهرتأثره ببعض طرحهم ولو على سبيل المطالبة بتفنيد الشبهة لا تبنيها ، فقرأنا لمن يشككفي إمكان تطبيق الشريعة بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة ، زاعمين أن الشرع لم يطبقبعد ذلك ! وسمعنا من يلوك ذات الجهالة .
ومن هنا فإنَّ من المناسب التعريج علىشيء مما يكشف حقيقة هذه الشبهة أو الجهالة التي يحسن وصفها بالفرية ، إذ يكذبهاواقع القضاء على مرّ العصور الإسلامية ، ويردّها التاريخ بأخباره ووقائعه وأحداثهوطبقات الرجال من قضاته ، ويقطع دابرها التفاتة عابرة إلى ضخامة التراث الفقهيالإسلامي الذي دون كثيرا منه قضاةُ الإسلام ، حتى كان وصف القاضي من أظهر أوصافالفقهاء فيما مرّ من الأزمان ؛ بل وجدنا في تاريخ الفقه نقلة في خدمة القضاة ،تتمثل في تدوينٍ فقهيٍ على نمط التنظيم والتقنين الحديث تقريبا للأحكام من غيرإلزام فيما لا يشرع الإلزام به ، وتميز بذلك أشهر مذهبين حكَم أتباعهما الدولالإسلامية السالفة ، وهما المذهب الحنفي في المشرق والمالكي في المغرب ، فلن يعسرعلى باحث منصف أن يرجع إلى كتبٍ من هذا النوع لبعض قضاة الحنفية من مثل : خزانةالفقه ، لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي (ت/373) ؛ وهو الكتاب الذي تبعه في ذاتالنهج مهذبا ومطوِّراً القاضي أبو الحسين علي بن الحسين السّغدي (ت/461) في كتابهالمنظّم : النتف في الفتاوى ، وكان يذكر الآراء إن تعددت دون ترجيح ليُرَجِّحالمتفقه والقاضي منها ما يراه راجحا ؛ ولن يعسر على الباحث أيضا أن يطلع على ما جاءعند المالكية شبيها بذلك من مثل : أصول الفتيا في الفقه ، لمحمد بن حارث الخشني (ت/361) . وأما كتب القضاء وسياساته وتراتيبه في ظلال الدول الإسلامية فأمر لا يخفىعلى عوام باعة الكتب.

أما الحديث المصنفة في القضاء ونوازله فأمر من الظهور بمكان ، حتى إنه لحري أن يعاب جهله على من يدعي ثقافة ، بله طالب فقه . بل إنَّ استشعار حقيقة الجهل حمل د. خالد محمد خالد وهو من أشهر من أثار هذه الفرية إن لم يكن أشهرهم إلى التراجع عنها وعن علمانية الحكم ، وكشف ستر الفكر المنحرف الذي دفعه إلى القول بها ، وأصدر بكل شجاعة كتاباً سماه " الدولة في الإسلام " أعلن فيه أنَّ الإسلام دين ودولة بلا مراء (3) .

وما أعسر الحديث في إثبات الواضحات ، ولمن قلّ اطلاعه على علوم أهل الإسلام وأراد تثقيف نفسه في هذا المجال حتى لا يمرِّر عليه الجائرون ظلمهم للتاريخ ، ومكابرتهم للواقع – أُرشد الباحث عن الحقيقة إلى الاطلاع على الكتب المتخصصة في نظام القضاء الإسلامي ومدارسه ومؤلفاته ، ما بين مؤصّل مطوّل مثل : القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، للدكتور عبد الرحمن الحميضي ، وهو رسالة دكتوراه محكّمة ، ووجيز كاشف للحقيقة بلغة الواقع ، مثل : دراسة في تاريخ القضاء الشرعي في الإسلام وتطوراته منذ عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر ، للدكتور إبراهيم الربابعة ، وإن شاء نوعا آخر من التأليف الكاشف لجهل المنكرين الموضِح لمكانة قضاة المسلمين ، فليطع على كتاب من مثل : أثر القضاء في الدعوة إلى الله تعالى دراسة تأصيلية وتطبيقية في العصر العباسي .


ولست هنا أرمي إلى قصد تفنيد تلك المقولة التي لم يع أصحابهامعنى استشهاد الفقهاء بسنن الخلفاء الراشدين دون غيرهم من الخلفاء ، امتثالا لوصيةالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم باتباع سنتهم ، دون غيرهم من خلفاء الإسلاموإنما القصد الإشارة إلى هذا الانحراف المبني على هذه الفرية الواهية ، وإلا قدفنّدها علماء الإسلام ومفكروه المعاصرون ، وبيّنوا سذاجتها وفكَّكوا فكرتها . ومنهمالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في الباب السادس من كتابه القيم : " الإسلاموالعلمانية وجهاً لوجه " ؛ والدكتور المستشار طارق البشري في كتابه المفيد : " الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي " ؛ ومما كُتب حديثافي رد هذه الفرية ، سلسلة من المقالات لم تكتمل بعد ، بعنوان : " تحكيم الشريعةالإسلامية عبر التاريخ الإسلامي " ، لأخينا الدكتور علي الصلابي وفقه الله (4) .

وعوداً على بدأ ؛ فإنَّ مِمَّا يؤيد ما سبق من أسباب توهم الخلاف في إعمالالسياسة : أنَّ العلم بطرق استنباط السياسة الشرعية الرئيسة ؛ كالعلم بفقه القواعدالكلية ، والمقاصد المرعيّة ، والمنفيّة ، وإلحاق فروع كلٍّ منها بها - من العلومالتي تُعدّ مزية للفقيه المتبحِّر - لا ينهض بها كلُّ أحد ؛ لما قد يظهر من معارضةجزئياتها للأدلة ؛ وحيث قد اشتهر فقه بعض الأئمة بتعليل فروع تلك الكليات بها أكثرمن غيرها ، كمذهب الإمام مالك ؛ فقد كان ذلك منهم محلَّ ثناء وتبجيل ؛ فهذا الحافظالذهبي يُثني على فقه الإمام مالك ، بقوله : " وبكل حال فإلى فقه مالك المنتهى ؛فعامَّة آرائه مُسَدَّدَة ، ولو لم يكن له إلا حسم مادّة الحيل ، ومراعاة المقاصد (5) لكفاه " (6) ، وهذه من حقائق السياسة الشرعية وكبرى ملامح فقهها.

وقال أبو العبَّاس ابن تيمية - بعد أن ذكر وجوب سياسة الناس سياسة شرعية يكون السيف فيها تابعاً للكتاب كما كان الأمر على عهد الخلفاء الراشدين ، وكان أهل المدينة بعد ذلك أرجح فيه من غيرهم - : " وهذه الأمور من اهتدى إليها ، وإلى أمثالها ؛ تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق ، بما لا نسبة بينهما " (7) .


وقال : " خاصَّة الفقه في الدين … معرفة حكمة الشريعـة ومقاصدها ومحاسنها " (8) .
وقال : " … العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم ، وإنَّما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشرع ومقاصده ، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ، والعدل التامّ " (9) .


وقال شهاب الدين القرافي : " تخريج الأحكام على القواعد الأصولية الكلية أولى من إضافتها إلى المناسبات الجزئية ، وهو دأب فحول العلماء ، دون ضَعَفَةِ الفقهاء" (10) . و جلّ فقه السياسة الشرعية من هذا الباب .


وهذا مما يدل على فضيلة علم السياسة الشرعية وعلو منزلته من الفقه في الدين والله تعالى أعلم .
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

---------------------------
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين ، لابن القيم : 4/137 .
(2) المصدر السابق : 4/451-452 ؛ وينظر : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 2/137 .
(3) ينظر : الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه ، د. يوسف القرضاوي : 170 . وقد كشف الشيخ القرضاوي أن الفرية ليست من بنات أفكار فؤاد زكريا ، وهي ملاحظة تكشف قلّة أمانة القوم . وهكذا الشأن في كثير من طرحهم ما هم إلا نقل عن المستشرقين أو تلامذة المستشرقين ، وما أقبح التعالم بالغوية ، فكيف إذا كان مصدرها تقليد إمعة .
(4) وهذه السلسة على هذا الرابط :
http://almanara.org/new/index.php?scid=32&pid=122
(5)المقاصد هي : " المعاني [ العلل ] والحِكَم [ ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة وتكميلها أو درء مفسدة وتقليلها ] ونحوها [ من الألفاظ التي بمعناها كالغاية ] التي راعها [ أرادها ] الشارع في التشريع عموماً [ المقاصد العامة التي تجتمع عليها جميع الأدلة أو أكثرها ] وخصوصاً [ المقاصد الخاصة التي قصدها الشارع في كل حكم من الأحكام ، من حِكَم وعلل ] ، من أجل تحقيق مصالح العباد " . مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية ، د. محمد سعد اليوبي : 37-38 . وعرفها د. عوض القرني بأنَّها : " الغايات التي أنزلت الشريعة لتحقيقها لمصلحة الخلق في الدارين " . المختصر الوجيز في مقاصد التشريع : 19، ط-1419 ، دار الأندلس الخضراء : جدة .

(6) سير أعلام النبلاء : 8/ 92.
(7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/393 ، وينظر : 395 .
(8) المصدر السابق : 11/354 .
(9) المصدر السابق : 20/583 .
(10)الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : 90 . وينظر : تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية ، لمحمد بن علي بن الحسين المالكي [ بهامش الفروق ] : 4/97 .




المصدر: موقع المسلم
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
جزاكم لله خيرا
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل
المستشار طارق البشري في كتابه المفيد : " الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي "

هذا الكتاب - لأستاذنا وشيخنا الجليل المستشار/ طارق البشري- هو من أنفس - إن لم يكن أنفس- ما كتب في بابه .. كيف لا ومؤلفه - فوق كونه أحد كبار المفكرين الإسلاميين المعاصرين- نائب رئيس (مجلس الدولة) المصري - وهو مجلس يوازي في تراثنا وتاريخنا (ديوان المظالم) - .. فأنصح بقراءته ودراسته بشدة .. وهو من مطبوعات دار الشروق المصرية
 
إنضم
18 ديسمبر 2009
المشاركات
45
التخصص
السياسة الشرعية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة حنبلية ... و التطبيق نبوي
جزاكم الله كل خير
 
أعلى