رد: الفتوى الصحيحة لا يتجاوزها الزمن. (ردّ مؤصّل متين للشيخ العلامة صالح الفوزان على بعض الكتاب)
حكم التصوير // الجزء الثاني
* فصل: مناقشة بعض الإشكاليات المتعلقة بالنصوص السابقة
والآن وبعد تحرير الألفاظ والروايات، وبيان ما التبس بحديث أم المؤمنين عائشة من أوهام، جاء وقت استنباط الأحكام من الهدى والنور الذي أنزل على سيدنا أبي القاسم محمد، رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتبريكات وتسليمات من الله.
التصوير: هو رسم صورة الشيء، ومن التصوير صُنْعُ التماثيل، ويشمل النحت. والرسم نفسه أو التمثال هو الصورة، جمعها صور، ويقال لها في اللغة أيضًا تصاوير، ويشمل التماثيل، ويقال في اللغة التصاوير: التماثيل. فالتصوير هو عملية التصوير، أي فعل الإنسان، والصورة، أو التمثال، أو المنحوت هو الشئ الناتج عن عملية التصوير، التي هي فعل الإنسان. هذان أمران متغايران، ولكل واحد منهم حكمه.
وهناك أنواع متعددة من التصوير، ومن ثم أنواع متعددة من الصور والتماثيل الناتجة من ذلك، فمنه:
(1) صناعة الأصنام والأوثان التي تعبد من دون الله، أو التي ترمز إلى عقيدة شرك وكفر فما كان على صورة ذي روح فهو صنم، كتماثيل آلهة الإغريق، ؤالهة العرب، وما لم يكن كذلك فهو وثن كالصلبان، والمنتوج يسمَّى ووثن.
(2) نحت التماثيل ورسم اللصور الفنية مطلقاً للتعبير والإبداع الفني، تماماً كقول الشعر والبليغ من الكلام، والمنتوج عمل فني وإبداع يقتنى للتذوق والمتعة، تماما كما يتذوق الأدب والشعر ويستمتع به.
وهذا ينقسم إلى قسمين بحسب طبيعة الشيء المصور:
(أ) ذوات الأرواح: كالإنسان، والحيوانات، والطيور،
(ب) ما لا روح فيه من الشجر، وإن كان حياً ينمو وينبت، أو ميتاً لا حياة فيه مطلقاً كالجبال، وغيرها.
وينقسم إلى قسمين بحسب طبيعة منتوج عملية التصوير:
(أ) التماثيل: وهي المنحوتات، أي المجسمات، التي لها ظل، أي الموجودة في ثلاثة أبعاد.
(ب) الرقوم: وهي المرسومات، أي المرقومات والمنقوشات، التي لا ظل لها وتكون على الثياب والورق والألواح، ونحوه من المسطحات الموجودة في بعدين.
وبهذا تكون القسمة التامة إلى أربعة أقسام:
(أ) تماثيل ذوات الأرواح
(ب) تماثيل غير ذوات الأرواح
(ج) رقوم ورسوم لذوات الأرواح
(د) رقوم ورسوم لغير ذوات الأرواح
(3) صنع لعب الأطفال كالعرائس ونحوها، والمنتوج يسمَّى «لعبة» أو «عروسة» أو «دمية»، وكانت العرب تسميه، زمن نزول القرآن: «بنات»، حتى ولو كان من لعب الذكور من الصبيان. وهو نوع مخصوص من التماثيل والصور، إلا أن العرب وضعوا له ألفاظا خاصة، وجاء لها الشرع بأحكام خاصة، وهذه تقتنى لتسلية الأطفال ولهوهم، وتعليمهم وتدريبهم. وواقع صنع اللعبة وإنتاجها، يختلف جوهرياً عن واقع التصوير بقصد الإبداع المجرد، والتذوق الفني.
ونبدأ أولا بمناقشة بعض النصوص السابقة والتي قد يستدل به بعض الناس على بعض الأحكام وهي في الحقيقة غير دالة عليها، فمن ذلك:
أولا: القول المنسوب إلى النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة»، لا يثبت هكذا، وإنما هو رواية بالمعنى أن جبريل، عليه السلام، قال: [إنا لا ندخل بيتاً فيه صور (أو تماثيل أو صورة تماثيل)]، كما أخبر به النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام. وهذا اللفظ لا تجوز نسبته إلى عائشة، كما بينا، وإنما هو ثابت بالتواتر عن غيرها.
وهناك فرق بين قوله: «صورة»، أو «تمثال» أو «صورة تمثال»، لأن «صورة» تشمل «التمثال» وهو المجسم المنحوت، والرسم المرقوم، وإن كان الغالب إطلاقها على المجسم أو المنقوش. ولما كانت الواقعة واحدة، والموضوع واحداً، وجب الاعتداد بكل الألفاظ الصحيح المروية، وهذا لا يمكن ها هنا من غير تناقض إلا إذا كانت صورة» ها هنا بمعنى «تمثال»، وهو المنحوت المجسم ذي الظل، كما تشهد بذلك الروايات التي تنص صراحة على قطع رأس التمثال حتى يصبح كالشجرة، في حين أن الستر ذي الرقم فقط يقطع وسائد ونحوها أو يجعل بسطاً فيوطأ ويمتهن من غير مساس بالصورة المرقومة أو إتلاف لها.
وعلى كل حال فهذا خبر عن طبيعة الملائكة النورانية الطاهرة، وليس هو من طبيعتنا البشرية، ولا من أحكامنا التكليفية، وهو في أقصى أحواله من صيغ الكراهية في حقنا نحن المكلفين، وليس من صيغ النهي والتحريم. نعم: إن المؤمن ينشرح صدره، وتطيب نفسه إذا علم أن الملائكة تدخل منزله. تماما كما يفرح بمدد السماء في المعركة، مع أنه يعلم يقيناً أنهم لا دور لهم في نصر أو هزيمة: {وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم}. وقد يقول قائل: فإن أبا طلحة حمله على الحرمة، فيما يظهر، فنقول فكان ماذا؟! مجتهد بدري من السابقين الأولين لم تطب نفسه إلا بالاحتياط الشديد، أي بدرجات السابقين والصديقين، وها هو يقر لسهل اين حنيف باستثناء «الرقم في الثوب» من هذا الحديث، ومع ذلك لا تطيب نفسه إلا بنزع النمط الذي كان تحته. فمن أراد المسابقة والمسارعة فعليه بذلك بشرط أن يبدأ بقتال الكفار، كما فعل أبو طلحة في بدر، ويثني بالتصدق بأعز ماله وأطيبه، كما فعل أبو طلحة، ثم لينزع النمط من تحته، وليبعد كل صورة من بيته، إن كان صادقاً. أما نحن هنا فنبحث في الحرام الثابت والحلال الثابث، لا في درجات الصديقين، ومراتب السابقين واحتياطات الورعين.
على أن أبا طلحة انفرد من بين الصحابة، رضوان الله وسلامه عليهم، بجواز أكل «البرد» للصائم، لأنه ليس بشراب ولا طعام، فلعلكم تقلدونه في ذلك (البرد هو الثلج المتبلور المتكتل الذي ينزل قبيل المطر في العواصف الرعدية!)
أما قول الإمام أبي محمد علي بن حزم في «المحلى» : [مسألة: ولا يحل بيع الصور إلا للعب الصبايا فقط حلال حسن وما جاز ملكه جاز بيعه إلا أن يخص شيئا من ذلك نص فيوقف عنده قال الله تعالى وأحل الله البيع وقال تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم. وكذلك لا يحل اتخاذ الصور إلا ما كان رقما في ثوب لما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن أبي طلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تدخل الملائكة بيتا في كلب ولا صورة ومن طريق مالك عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة يعوده قال فوجد عنده سهل بن حنيف فأمر أبو طلحة بنزع نمط كان تحته فقال له سهل لم نزعته قال لأن فيه تصاوير وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت قال سهل ألم يقل إلا ما كان رقما قال بلى ولكنه أطيب لنفسي. قال أبو محمد: حرام علينا تنفير الملائكة عن بيوتنا وهم رسل الله عزوجل والمتقرب إليه عزوجل بقربهم ومن طريق مسلم نا يحيى بن يحيى قال أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتيني صواحبي فكن يتقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسر بهن إلي فوجب استثناء البنات للصبايا من جملة ما نهي عنه من الصور.
وأما الصلب فبخلاف ذلك ولا يحل تركها في ثوب ولا في غيره لما رويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا بكر بن حماد نا مسدد نا يحيى هو ابن سعيد القطان عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عمران بن حطان عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كره الستر المعلق فيه التصاوير فجعلت له منه وسادة فلم ينكرها فصح أن الصور في الستور مكروهة غير محرمة وفي الوسائد وغير الستور ليست مكروهة الاستخدام بها]، انتهى كلام أبي محمد من «المحلَّى»، وهو جيد في جملته، وإن كان في غاية الاختصار، ولنا عليه استدراكات.
قول أبي محمد علي بن حزم: (حرام علينا تنفير الملائكة عن بيوتنا وهم رسل الله عزوجل والمتقرب إليه عزوجل بقربهم)، زعم مجرد، واستشهاد بالشئ على نفسه، وهو دور باطل فكأنه قال: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة لأنها لا تدخل بيتاً فيه صورة! والمطلوب هو البرهان على أن هذا الكلام يعني: لا تنفروا الملائكة من بيوتكم بالصور، فيكون من صيغ النهي الدالة على التحريم، فأين البرهان على ذلك، وأين البرهان على أن الله يتقرب إليه بقرب الملائكة؟! نعم: هو ينزل الملائكة لتثبيت المؤمنين في ميدان القتال، وغيره، وللدعاء للمؤمنين وحضور حلق ذكرهم، هذا من أفعال الله سبحانه وتعالى، ولسنا مخاطبين به.
على أن الحديث جاء تارة بلفظ جبريل، عليه الصلاة والسلام، عن نفسه، وتارة بلفظ الملائكة، هكذا على العموم. وهو عموم قصد به الخصوص، قطعاً. وإلا فإن الملائكة الحفظة لا يفارقون الإنسان ليل نهار، وملائكة الموت لا فكاك منهم لا بكلب ولا بصورة أو جنابة، وملائكة العذاب تحضر لاستلام أرواح الكفار والمنافقين عند الموت، وكلما كانت الأوثان والتماثيل في بيت الكافر المحتضر أكثر، كلما كان حضور ملائكة العذاب أشد وأولى وأنكر.
على أن الصحيح هو أن المقصود بالملائكة هنا هو: جبريل فقط، أو جبريل وملائكة الوحي خاصة، وأن هذه خصوصية لرسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، تتعلق برفقته الخاصة من الملائكة، بالقرائن التالية:
(1) أن الأحاديث التي جاءت مفسرة مع قصتها كلها عن بيوت النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولم يأت شئ منها عن بيت غيره مطلقاً، وكلها تحكي ذلك عن قصة حصلت مع جبريل، صلوات الله وسلامه عليه، في محيئه لزيارة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والأحاديث التي جاءت مفسرة فيها زيادة علم وبيان، وزيادة لفظ من الثقات الأثبات على تلك التي جاءت مجملة، فلا بد من أخذ الزيادة واعتبارها، ولا يحل إهمالها ولا ردها مطلقاً. والحق أن القصة بكاملها متواترة جاءت عن: أبي هريرة، وأسامة بن زيد، وأم المؤمنين ميمونة، وإمام الهدى علي بن أبي طالب. بل لعل الآخرين من غير أهل بيته، عليه وعليهم الصلاة والسلام، إنما أخذوه منهم، فبعضهم رواه مفصلاً مثل أبو هريرة، وبعضهم اقتصر على اللفظ النبوي الشريف، مثل أبو طلحة وأبو سعيد، ومن حفط وبين وفصل وفسر مقدم على من أجمل ولم يفصل، ضرورة، والله أعلم.
(2) أن النبي رجع عن بيت علي، وهو بيت فاطمة، رضوان الله وسلامه عليهما، وكان مدعواً إلى طعام هناك، لما رأى فيه ستراً فيه تصاوير. فلحق به علي وسأله فقال: «إن في البيت سترا فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير». وقد ذكرنا هذا من قبل بأسانيده عند أبي يعلى والنسائي، وهو ثابت بأصح الأسانيد، تقوم به الحجة اليقينية قطعاً، فيجب التدين به، ولا تجوز مخالفته مطلقاً.
نعم: زلت القدم ببعض الأئمة الورعين الأثبات، من أمثال ابن ماجه الذي بوب لهذا بقوله: «رجوع الضيف إذا رأى منكراً»، والنووي الذي قال كلاماً مشابها، سامحهما الله وعفا عنهما. هذا ذهول شديد منشأه الضعف الذي خلق منه الإنسان صغيراً، ثم يعود إليه شيخاً كبيراً، وإلا فهل سمع في العالم أقبح من من يقول أن نبي الله الخاتم، المعصوم بعصمة الله، الذي عصمه ربه من الناس ومنعه من بطشتهم، والذي أمره بالصدع بما أمر، والذي نصره بالرعب من مسيرة شهر، والذي قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه: وذلك أضعف الإيمان» ثم يولي منصرفا فلا يغير بيد، ولا ينكر بلسان، بل ينتظر حتى يلحق به رب البيت فيسأله؟! ومنكر في بيت من؟! بيت فاطمة وعلي، بيت أحب الناس إليه وأولاهم بنصيحته وشفقته؟! لا ها الله، وحاشا لله. بل انصرف، بأبي هو وأمي، لأن له خصوصية، ومعه ملائكة موكلون بالأنياء خاصة، جبريل وحزبه، عليهم من الله أزكى تحية وسلام، فرجع من أحب البيوت إليه، مراعاة لطبائع رفقته النورانية الطاهرة، ولحقهم ومكانتهم عند الله، لا غير، فليس شئ من ذلك على علي وفاطمة واجباً، ولا هو لهما ملزما. هذا هو الذي يجب اعتقاده، ولا يجوز غيره لمن تنبه لهذا، وعرف حق سيدي أبي القاسم محمد، رسول الله وخاتم النبيين، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
ويزيد حديث سفينة، وهو، في الأرجح الأقوى في نفس الواقعة، ولا يضر إن كان في واقعة أخرى مشابهة، هذا الذي قلناه إيضاحاً، لأن نصه هو: «إنه ليس لي أن أدخل بيتا مزوقا»، أو «إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتا مزوقا»، أو «ليس لنبي أن يدخل بيتا مزوقا»، لا يحتمل إلا أنه خصوصية له، عليه وعلى آله الصلاة والسلام. فعدم دخول الملائكة بيتاً فيه صورة أو كلب خاص بملائكة الوحي وبيوت الأنبياء، وكذلك رجوعه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، عن بيت فاطمة فلم يدخل، خاص به هو، أي أنه خصوصية نبوية.
ويشهد لذلك ما جاء في «المستدرك على الصحيحين» عن أبي هريرة قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دور لا يأتيها فشق ذلك عليهم فقالوا يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن في داركم كلباً»، قالوا: (إن في دارهم سنوراً؟!)، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «السنور سبع». فهذا، وإن كان إسناده لا تقوم به حجة قاطعة، إلا أنه إن صح فهو دليل على قولنا أن ذلك من خصوصيات النبوة فاقتصر النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، على تجنب دخول ذلك المنزل لوجود كلب فيه، ولم ينه أهل البيت، ولا كلَّمهم، حتى كانوا هم الذين سألوه، وهذا هو عين قولنا.
لقد استشعر الإمام أبو حاتم بن حبان البستي ذلك بفطرته السليمة، وإن لم يسعفه البرهان الضروري المقنع، الذي فصلناه أعلاه، فقال، لله دره: [يشبه ان يكون هذا البيت الذي يوحى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم إذ محال ان يكون رجل في بيت وفيه صورة من غير ان يكون حافظاه معه، وهما من الملائكة وكذلك معنى قوله لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس يريد به رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ محال أن يخرج الحاج والعمار من أقاصي المدن والاقطار يؤمون البيت العتيق على نعم وعيس بأجراس وكلاب ثم لا تصحبها الملائكة وهم وفد الله]، ونحن نقول بهذا كذلك.
وهذا حكم ماضي إلى يومنا هذا فيجب إبعاد التصاوير عن قبره الشريف، أما الكلاب فلا نحسبها تقترب من هناك لكثرة الزائرين، والمسلِّمين، ولله الحمد. أما الأجراس والأبواق المزعجة عند ذلك المكان الطاهر فهي موجودة مسموعة، للأسف الشديد، بسبب مرور السيارات، فلعل الناس يلاحظون هذا، ويتجنبونه إلا لضروة قصوى، نسأل الله أن يرزقنا جميعاً حسن الأدب في الحضرة النبوية الشريفة.
وقد تنبه لهذا صاحب «نصب الراية لأحاديث الهداية» فقال: [ولشيخنا علاء الدين ههنا وهمان قلد فيهما غيره أحدهما أنه لم يعز الحديث إلا لأبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة وقد قدمنا أنه في الصحيحين والثاني أن حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي ليس فيه ذكر الملائكة وهذا لفظهما عن مجاهد عن أبي هريرة قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتاني جبرائيل فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن ادخل إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع وليجعل فيه وسادتين منتبذتين توطآن ومر بالكلب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب للحسن أو للحسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج انتهى رواه أبو داود في اللباس والترمذي في الاستئذان والنسائي في الزينة ورواه بن حبان في صحيحه وهذا ليس فيه ذكر الملائكة وإنما هو مخصوص بجبرئيل في واقعه مخصوصة فليس هذا حديث الكتاب لا لفظا ولا معنى]، ولكنه توقف هناك فلم يكمل البحث، ولو استمر فلعله كان فتح عليه بما فتح الله على أبي حاتم بن حبان، وعلى العبد الفقير كاتب هذه السطور، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
* وفي «تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير»: [فائدة: ادعى بن حبان أن عدم دخول الملائكة مختص ببيت يوحى فيه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فإن الحافظين لا يفارقان العبد وأطال في ذلك ويشبه أن يستدل له بما رواه البخاري من طريق بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة مرفوعا إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة قال بسر ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صور قال بسر فقلت لعبيد الله الخولاني ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول قال عبيد الله ألم تسمعه قال إلا رقما في ثوب قال لا قال بلى قد ذكر ذلك]، قلت: أصاب ابن حبان، ولكن ليس هذا هو الاستدلال الصحيح، والبرهان القاطع، وإنما الاستدلال ما ذكرناه آنفاً.
* وفي «تنوير الحوالك شرح موطأ مالك»: [فقال لنا أبو سعيد أخبرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل. قال بن عبد البر هذا أصح حديث في هذا الباب وأحسنه إسنادا قال: ثم قيل هو على العموم في كل ملك، وقيل المراد ملائكة الوحي].
وحيث أننا برهنا على أن هذا الحديث من خصوصيات النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو متعلق بملائكة الوحي، فقط لا غير، فلا يجوز الاستشهاد به في غير موضعه الذي ذكرنا، ويجب البحث عن الأدلة المتعلقة ببحثنا في غيره.
ثانيا: الاستشهاد بهتك الستر أو إبعادها على حرمة تعليق الصور وجواز كونها موطوءة ممتهنة في البسط أو الوسائد والأتكية والنمارق ونحوها، على انتشاره على ألسنة الفقهاء، ليس بمستقيم، لأن المستند في ذلك هو ما في «الجامع الصحيح»: [حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال سمعت عبد الرحمن بن القاسم وما بالمدينة يومئذ أفضل منه قال سمعت أبي قال سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وقال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله»، قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين)، أو في الروايات التي جاءت من غير ذكر الوسائد]
وقد برهنا أن هذا لا يصح هكذا عن عائشة، وأنها أحاديث تداخل بعضها في بعض، في حين أن الواجب هو تمييزها. على أن النص هكذا، إن صح، ليس بمنتج للمطلوب، لأنه. عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قد يكون هتكه لسبب آخر، مثل كراهية ستر الجدر، أو زهداً في الدنيا وزخارفها، أو لأنه منصوب أمامه يشغله عن صلاته، وكل ذلك ثابت مبرهن عليه من طرق أخرى، ولكن الراوية ها هنا اختصره، أو أهمله، أو نسيه، ولكن غيره حفظ وروى وأقام الله به الحجة. ولعله في أثناء ذلك عرضت مناسبة ذم المصورين، أو ربما بعض المصورين، وأنهم من أشد الناس عذاباً. وذم المصور، لا علاقة له بتحريم الصورة أو حلها أو بيان كيفية استخدامها، كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله.
ثالثا: اللفظ الخامس لحديث القاسم عن عائشة كما هو في «الجامع الصحيح» للبخاري: [حدثنا محمد أخبرنا مخلد أخبرنا بن جريج عن إسماعيل بن أمية أن نافعا حدثه أن القاسم بن محمد حدثه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (حشوت للنبي، صلى الله عليه وسلم، وسادة فيها تماثيل كأنها نمرقة فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه فقلت ما لنا يا رسول الله قال ما بال هذه الوسادة قالت وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها قال: «أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول أحيوا ما خلقتم»). وهي في الأرجح قصة واقعة غير التي تتعلق بها الروايات السابقة والألفاظ الأخرى، فيها، إن صحت، أمران:
الأول: عدم دخول الملائكة، وهذا قد فرغنا منه، وأشبعناه بحثاً، بحمد الله،
والثاني: أن صناع الصور يعذبون ويكلفون يإحياء ما خلقوا، وهذا موضوع آخر لا علاقة له باستخدام الصور، كما أسلفنا. غير أن الأرجح أن هذا وهم من القاسم، وليس هذا هو حديث عائشة، بل هو من غيرها تداخل في ذهنه مع حديثها، كما فصلناه سابقاً، فلا يجوز الاحتجاج به حتى يحرر واقعه.
* فصل: استنباط الحكم والأحكام من النصوص السابقة
كانت هذه هي مواضع الإشكال المهمة، فإذا اتضحت سهل استنباط بقية الأحكام من النصوص الأخرى إذا أخذت كلها، واستعملت كلها كما جاءت على عمومها وإطلاقها، من غير معارضة بقياس أو بخيال فاسد، أو وهم مريض، أو تقديم بين يدي الله ورسوله. ونبتدئ بعملية التصوير نفسها، لا بالصورة التي هي منتوجها، فنقول:
أولا: تصوير ذوات الأرواح من إنسان أو حيوان أو طير محرم قطعاً. دليل ذلك ما ورد من لعن المصورين وذكر عذابهم وتكليفه بنفخ الروح فيما صوروا، أو إحياء ما صوروا، فيما أوردنا سابقاً، من مثل قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم»، أو قوله: «من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ». أو قوله: «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم». فهذا قطعي في أنهم يعذبون، وهذا لا يكون على مكروه فحسب، وأنهم يكلفون بإحياء ما «خلقوا»، أو بنفخ الروح فيها» وهذا لا يكون إلا في ذوات الأرواح والأنفس، ويستحيل في غيرها. وهذا التحريم مغلظ، أي أن التصوير لذوات الأرواح كبيرة من كبائر الذنوب، كما يؤيده بدقة حديث أبي جحيفة وفيه: «لعن النبي، صلى الله عليه وسلم، الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي، ولعن المصورين». واللعن، وهو الطرد من رحمة الله، لا يكون إلا في كبائر الذنوب.
ويؤكد خروج الشجر والنبات، ومن باب أولى الصخور والجبال، من التحريم ما جاء في حديث جبريل: «فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصير كهيئة الشجرة»، وهذا نص في اختلاف حكم الشجرة عن الإنسان الذي لم تقطع رأسه، أي هو نص في اختلاف واقع هذا عن واقع ذاك، أي في أمر موضوعي، وليس استنباطاً للحكم من غير دليله، أو زعماً أن أحكام الملائكة تسري علينا، وقد أبطلنا ذدلك آنفاً. وكذلك يشهد له قول ابن عباس، رضي الله عنهما: (إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له).
هذا الحكم ثابت لا شك فيه، وهو إجماع متيقن فيما يتعلق بالمجسمات ذوات الظل، ولكن هل ينطبق هذا على ما لم يكن مجسماً له ظل، أو منقوشاً بارزاً، أو مرقوما مرسوماً علي الورق أو الجلد أو الثياب أو الأواني أو النقود أو غيرها؟!
قال أكثر المجتهدون: أما كون الحكم يشمل المجسم والمرقوم لا فرق فهو واضح من النصوص أعلاه لأنها جاءت في حق مصور كل صورة، وهو يطلق في اللغة على المجَّسم، وعلى المرقوم. وأحاديث عدم دخول الملائكة بيتاً فيه صور، وهي متواترة، ترشد بدقة أن أكثر الصور المقصودة إنما هي مرقومة في ثوب، وليست مجسمة ذات ظل. نعم: لقد بينا بطلان بعض الأقوال التي يحتج عليها بهذه الأحاديث، ولكنها حجة في اللغة، وفي معنى لفظة: «صورة»، وهو المطلوب هنا. فلا يجوز تخصيص لفظة «صورة» بالمجسم اللمتد في ثلاثة أبعاد بحيث يكون له ظل إلا ببرهان، وما ثمة برهان. فلا فرق إذاً بين ما كان مجسماً له ظل، أو منقوشاً بارزاً، أو مرقوما مرسوماً علي الورق أو الجلد أو الثياب أو الأواني أو النقود أو غيرها، كل ذلك تصويره حرام، إذا كان من ذوات الأرواح.
وقال بعض المجتهدين: الذم واستحقاق التعذيب إنما ربط بالإحياء ونفخ الروح، وهذا لا يكون إلا في جسم ممتد، أما المسطح فلا تكون فيه حياة، فلا يجوز تطبيق الحديث على الرقم، كما أنكم لم تطبقوه على النبات والجماد.
فقال المحرمون: هذا اعتراض جيد، إلا أنه ما ثمة برهان على أن الحياة مقصورة على ثلاثة أبعاد، فلعل الحياة ممكنة في بعدين. وما ندري عن الجن والملائكة هل هم أجسام في إطار الزمان والمكان، أم لا؟!
فرد المحلون: ليس البحث في قدرة الله، عز وجل، على خلق حياة في مسطح، وهو على ذلك إذا يشاء قدير، جل ذكره، كلا وإنما هو في تصوير ذوات أرواح موجودة الآن فعلاً في العالم، وليس منها مسطح مطلقاً، نعم قد يكون نحيلاً قليل الثخانة، أما مسطح مطلقاً، فلا، ثم ما شأن الجن والملائكة، وهل رآها على حقيقتها أحد، اللهم إلا نبي، وإنما يتخيلها الناس تخيلاً، الشيطان في صورة قرد قبيح، أو إنسان قبيح له حوافر، والملك في صورة رجل جميل، أو غير ذلك من شطحات الخيال.
وأحاديث امتناع دخول الملائكة بيتاً فيه صورة أو تمثال فرقت بين الاثنين، فدل ذلك على أن المجسم صنف غير المرقوم. تأمل قول جبريل: (إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب: فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن، ومر بالكلب فيخرج) ففرق فرقاً واضحاً بين معاملة التمثال الذي لا بد من إتلافه بقطع رأسه، حتى يعود كهيئة الشجرة، وبين الستر المرقوم الذي يقطع كيفما اتفق، وربما بقيت فيه صور كاملة ويجعل وسائد، أو يجعل بسطاً ممتهنة، فالمهم هو أن يكون ممتهناً، والكلب الذي يُخْرَج فحسب. ونحن لا نقول أننا مكلفون بتكاليف الملائكة، خصوصاً ملائكة الوحي عليهم السلام، ولكن نقول فقط: أن واقع هذه الأشياء الثلاثة مختلف، بدليل اختلاف معاملة جبريل لها. فليست هي صنفاً واحداً، وهذل يؤذن لا محالة باختلاف حكمها. ويشهد لذلك الأحاديث الكثيرة الصحاح التي نصت على: «إلا رقماً في ثوب»، فهي ترشد بدقة إلا أن المرقوم ليس كالمجسم من التماثيل. وإذا كان قطع رأس التمثال مخرجا له من الحياة ومغيراً للحكم، فكذلك لو هرسنا إنساناً أو حيواناً أو طيراً حتى يصبح مسطحاً لمات فوراً.
فقال المحرمون: فقد جاء لفظ آخر، لا يسعفكم، وهو: «كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تماثيل خيلا ورجالا فإما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بساطا يوطأ، فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تصاوير». فها هنا تخيير: إما قطع الرأس، وإما بساط يوطأ. وكما جاء في الحديث التالي، وهو صحيح على شرط مسلم:
* وكما جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا عبد الله بن الحرث عن بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يزعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك». وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، زمن الفتح، وهو بالبطحاء: «أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه». وهذا وإن كان مخصوصاً بالمسجد الحرام، والمساجد، إلا أنه فيه «محو الصور»، والمحو إنما يكون في المرسوم المرقوم رقماً، لا المجسم. أما المجسم فهو يكسر كسراً، ولا يمحى محواً.
فقال المحلون: لفظ التخيير لا شك أنه من تصرفات الرواة، لأن التمثال المجسم لا يصلح بساطاً، ولا معنى أن يوطأ. والحديث سبق بألفاظ أخرى، وأغلب الألفاظ من أحسن الطرق وأحسنها فرَّقت في المعاملة بين المجسم كالتمثال، وبين المرقوم في ثوب، مما يدل ضرورة على اختلاف واقعهما، ولا يجوز الأخذ بلفظ ثابت دون لفظ ثابت آخر، بل لا بد من ملاحظتها كلها عند استنباط الحكم. أما حديث جابر فهو متعلق بالكعبة البيت الحرام، وهو منصب في المقام الأول على استخدام الصور هناك، وأنتم تقرون بذلك، فلا تعلق له بالتصوير أي صنع الصور.
وقال المحلون: ثم إن لفظة: «إلا رقماً في ثوب»، جاءت هكذا على عمومها وإطلاقها بأصح الأسانيد، فلا يجوز أن تخصص بأمر من الأمور المتعلقة بالتصوير دون أمر آخر. أي أنه يجب تطبيقها على: صنع الصور، والانتفاع بها، وتعليقها، ..إلخ إلا أن يأتي برهان على أن حالة مخصوصة بخلاف ذلك فتستثنى هذه الحالة المخصوصة، كما هو الشأن بالنسبة للمساجد، ويبقى النص على عمومه في غير ذلك، كما استدركتم أنتم.
فقال المحرمون: لا يسعفكم هذا الحديث عن أسامة بن زيد كما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «المصنف» حين قال: حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمر مولى ابن عباس عن أسامة قال دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأيت في البيت صورة فأمرني فأتيته بدلو من الماء فجعل يضرب تلك الصورة ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون». وهذا نص صريح في (ذم صانعي تلك الصورة)، وهي ضرورة رقم في جدار يمكن محوه برش الماء عليه ودلكه، أما الصورة المجسمة فإنما تكسر تكسيراً، ومحال أن يؤثر فيها ضربها بالماء أو دلكها بخرقة مبلولة.
فقال المحلون: حديثكم هذا لا شيء: عبد الرحمن بن مهران، وهو الهاشمي، شيخ ابن أبي ذئب، مجهول لا يعرف من هو مطلقاً من خلق الله، وكذلك عمر مولى ابن عباس، أو عمير مولى ابن عباس، وهناك عمير أو عمران بن عمير مولى ابن مسعود متأخر عن هذا، وهو مجهول كذلك. وهذا يتناقض مع ما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله من بعث النبي لعمر لكسر التماثيل وطمس الصور التي كانت في الحرم، فكيف فاتته تلك الصورة اليتيمة، هذا حديث مكذوب موضوع بلا شك؟!
فقال المحرمون: على كل حال هذا نظر عميق جيد، أنتم جعلتم: «إلا رقماً في ثوب»، مخصصاً للوعيد على عملية التصوير، أي أنكم قلتم أن عموم الوعيد هو الأصل، ثم جاءت لفظة: «إلا رقماً في ثوب» فخصصت ما كان رقماً في ثوب، وبقيت أي عملية تصوير آخر على الحرمة المغلظة،
ونحن جعلنا الوعيد على عملية التصوير مخصصاً لقوله: «إلا رقماً في ثوب»، أي أننا جعلنا «إلا رقماً في ثوب» هي الأعم والأصل فيباح الرقم في الثوب عملاً، وتعليقاً، وبيعاً وشراءً، ... إلخ، ثم جاء الوعيد على عملية التصوير فاستثنينا من ذلك العموم عملية الرقم على الثوب، وبقي التعليق والانتفاع والبيع والشراء، وغيرها، مباحة، وإنما حرم صنعها فقط.
فقال المحلون: كلامكم هذا لا معنى له لأن النص يقول: ««إلا رقماً في ثوب» وهذا من صيغ الاستثناء، أي أنه استثناء من شيء ما، ومن المحال أن يكون هو العموم الذي يستثنى منه أشياء، كما زعمتم، فما هو هذا الشي الذي تم من الاستثناء؟! ولما كان الكلام عن التصاوير وجب أن يكون الاستثناء من كل ما حرم في موضوع التصاوير: فيجوز صنع الرقم، واستخدامه بكل أنواع الاستخدام، وتعليقه، والصلاة عنده أو أمامه، وجعله في المساجد والشوارع، ...إلخ، حتى يأتي برهان بحرمة بعض ذلك فيؤخذ بحرمة ذلك البعض فقط، ويبقى ما سواه على الحل، الذي هو على كل حال الحكم الأصلي في الأشياء والأفعال.
قلت: والذي ترجح عندنا هو أن تحريم التصوير، أي عمل الصورة أو صنع الصورة أو إنتاج الصورة، إنما هو قصر على (تماثيل ذوات الأرواح)، أي على المجسمات والمنحوتات، وهو القسم الأول في القسمة الرباعية الحاصرة، أما الأقسام الثلاثة الأخرى فلا بأس بها، إن شاء الله تعالى. ومع هذا فموضوع إباحة الرقم والرسم جملة،على قناعتنا بصحة الحكم بإباحته، يستحق مزيداً من المراجعة والتأمُّل، ومن أتانا بحجة أقوى مما أسلفنا، رجعنا إليها، إن شاء الله تعالى.
وقال فئة ثالثة من الفقهاء: التحريم مقصور على من أراد المضاهاة بخلق الله، لأن المضاهاة هي علة التحريم. قلت: هذا لا شئ، وهو كلام ساقط، وفكر تافه هابط. فالمضاهاة يستحيل أن تكون علة التحريم، لأن غير ذوات الأرواح من خلق الله أيضاً، وتصويرها جائز، وهم مقرون بذلك، إلا من شذ، وهل ثمة خالق حقيقة إلا الله؟!
والأحاديث التي جاءت بتحريم التصوير غير معللة، و لم يرد تعليل التصوير بأية علة، و لذلك لا تلتمس له علة. والألفاظ الواردة، مثل: «يقال لهم أحيوا ما خلقتم»، «حتى ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ»، «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق اللّه»، فإن ذلك كله لم يرد على وجه التعليل، والألفاظ و الجمل التي في هذه الأحاديث لا تفهم منها العلية، وكل ما في الأمر أن الرسول، صوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، يشبّه التصوير بالخلق، والمصورين بالخالق. والتشبيه لا يفيد التعليل، ولا يكون علة إذ تشبيه الشيء بشيء آخر لا يجعل المشبه به علة للمشبه، وإنما يمكن أن يكون وصفًا له، ووصف الشيء ليس علة له. ولذلك لا يقال إن التصوير حرام لأن فيه مضاهاة لخلق اللّه. فاللّه تعالى خلق الإنسان والحيوان والطير وخلق الشجر والجبال والأزهار، فلو كانت «المضاهاة». لخلق الله علة التحريم، لحرم ذلك كله، لا محالة. وعليه فتصوير الإنسان والحيوان والطير حرام للنصوص الواردة في تحريمه، وليس لعلة من العلل، ولا يجوز أن تلتمس له علة. وتصوير الشجر والجبال وكل ما ليس فيه روح جائز، ولا شيء فيه للنصوص الواردة في إباحته.
ثم إن المضاهاة، أو المشابهة، هنا هي وصف لواقع فعلهم، ففعلهم لا محالة فيه شبه من الإيجاد والـ«خلق»، الذي تفرد بهما الله تعالى، مجرد شبه. وليس هذا وصفاً لإرادتهم أو نيتهم، وهو الواقع فهم «مضاهون» شاؤوا أم أبوا، كما قال عليه الصلاة والسلام.
أما من تعمَّد المضاهاة لخلق الله تكبراً وتحدياً لله فهذا مشرك كافر، وليس هو محل بحثنا، وهو المعنى الأرجح من حديث أبي هريرة القدسي: «قال الله، عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة». قلت: هو الأرجح لأن الله تحداهم أن يخلقوا ذرة، وهي النملة الصغيرة، أو أن يخلقوا حبة أو شعيرة خلقاً حقيقياً، من غير فرق بين حيوان كاذرة، ونبات كالحبة. وجاءت ألفاظ مثل: بعوضة. ويحتمل أن يكون هذا في بعض المشركين الذين ينسبون الخلق إلى آلهتهم، فيكون في الكلام اختصاراً، أو سقطاً، ويكون أصله: «ومن أظلم ممن ذهب يزعم أن غيري يخلق كخلقي، فليخلقوا(أي ذلك الغير) ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة»، أو نحواً من ذلك، ولعل هذا هو الأرجح، فلا يكون هذا النص داخلاً في موضوعنا أصلاً.
وقد يقصد الإنسان المضاهاة بخلق الله، إعجاباً به، وإقراراً بأنه لا يوجد أحسن منه، فيكون محسناً مصيباً كالطبيب يأتيه المكسور أو من تهشم ذراعه فيبذل غاية الجهد في تجبيره وترقيعه بحيث يعود أقرب ما يكون إلى حالته الأولى، أي أنه يبذل أقصى الجهد لـ«يضاهي» و«يشابه» خلق الله، فهل هذا إلا ممدوح مثاب، إذا أراد وجه الله، بل هو مذموم مجرم آثم لو تعمد تغيير خلق الله أو تشويه خلق الله أو مسخ خلق الله.
وهؤلاء المهندسون يقرون بأن تحرك السيارات على عجلات ليس هو الأمثل لحركتها في الأماكن الوعرة، ولا يزالون يحاولون صنع مركبات تمشي على ما يشبه الأرجل، فتصعد الجبال، وتقفز فوق العقبات. وتراهم يدرسون حركة الدواب، ويبذلون الجهد في «مضاهاتها» و«مشابهتها» ولو تقريباً، فهم أبدا متعمدون «المضاهاة» لخلق الله، فما أحسن صنيعهم، مع أنهم لم ينجحوا كل النجاح حتى الآن، لأن هندسة حركة الأرجل في غاية التعقيد، ولكنهم على الطريق.
فالمضاهاة لخلق الله تارة تكون حتمية غير مقصودة، لا يسأل عنها الإنسان، لأنها ليست من فعله الاختياري، كما هو في التصوير، ولكنه يسأل، لا محالة: لم صوَّر عامداً مختاراً وعصى النبي؟! وتارة تكون مقصودة وتكون كفراً، وتارة تكون مقصودة وتكون حسنة جميلة. فليس فيها انطراد العلة ولا انعكاسها. وغاية أمرها أنها مشابهة، ومشابهة الشئ لآخر لا تنشئ حكماً، فليس في الوجود شئ إلا وهو يشبه شيئاً آخر في جانب ويختلف عنه في جوانب آخرى، حاشا رب العالمين: {ليس كمثله شئ وهو السميع البصير}.
وقالت قلة قليلة من المفكرين المعاصرين: أن تحريم التصوير إنما يقصد به فقط الأصنام والأوثان، أي أن ألفاظ (صورة) أو (تمثال) التي جاءت في الأحاديث إنما هي مرادف لصنم، فلا بأس بالتماثيل والمنحوتات من ذوات الأرواح ما لم تكن صنماً. وهذا قول مرسل، يقال هكذا عشوائياً، ولم نره محررا قط على نحو مقنع، مع بيان كاف واحتجاج مفصل ورد مقنع لأقوالنا أعلاه. لذلك لا يجوز القول به أو اعتماده مطلقاً إلا إذا حرر، وقام عليه البرهان.
نعم: قد جاد بعض ما يشير في هذا الاتجاه مثل ما جاء في «سنن الترمذي»: حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا يتبع كل إنسان ما كونوا يعبدونه فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون ... إلخ»] وقال الإمام الترمذي: حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح
ــ وهو كذا في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا هيثم قال ثنا حفص بن ميسرة عن العلاء، وحدثنا قتيبة قال ثنا عبد العزيز عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين ثم يقال ألا تتبع كل أمة ما كانوا يعبدون فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب الصور صوره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ... إلخ».
نعم، والله: هذا مؤشر في ذلك الاتجاه، إلا أنه هكذا لا يكفي ولا يشفي، بل لا بد من الإجابة الشافية على كل معارضة، والرد الكافي على كل اعتراض، قبل تبني مثل هذا القول، وهو: (أن ألفاظ (صورة) أو (تمثال) التي جاءت في الأحاديث إنما هي مرادف لصنم، فلا بأس بالتماثيل والمنحوتات من ذوات الأرواح ما لم تكن صنماً)
نعم: لصناع الأصنام ذم خاص ووعيد خاص، ولكن هذا لا يعني أن غيرهم من المصورين ليسوا قد ارتكبوا حراماً من نوع آخر، له عقوبة مناسبة له، كما سنفصله قريباً.
ثانياً: صنع الأوثان والأصنام التي تعبد من دون الله كفر وشرك، أي أن العمل بذاته من أعمال الكفر، كإهانة المصحف، وقتل النبي، بغض النظر عن الاعتقاد، أي سواء كان الصانع يؤمن بألوهيتها، أو يفعل ذلك لرياسة أو دنيا أو مال أو تجارة: كل ذلك من أفعال الكفر من حيث هو فعل مجرد، بل هو من شر الأفعال وأخسها وأقبحها. وفاعل هذا كافر إلا من قام به مانع من موانع التكفير المعروفة كالجهل والتأويل والإكراه. كما يستثنى من فعل ذلك للاستهزاء بها أو حرقها بعد ذلك، فليس ذلك من أفعال الكفر قطعاً، وإن كان الأرجح حرمته لأنه من جنس (سب آلهة الذين كفروا) المفضي إلى اعتدائهم على مقام الألوهية السامي الرفيع، أو مقام النبوة الشريفة المعصومة بالسب أو الإهانة ونحوه.
وهذا النوع من التصوير، أي صنع الأصنام، هو الذي يجب أن يحمل عليه قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «أشد الناس عذابا يوم القيامة: رجل قتله نبي أو قتل نبيا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين»، وقوله: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون». وكذلك ما جاء «سنن الترمذي» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين».
ومن قال بأن هذا وعيد شديد، ليس على ظاهره، في حق كل المصورين، فقد أخطأ خطأً عظيماً. وما هي إلا خطوة أو خطوات بعد هذا التأويل الفاسد ونجد من يقول: (الصيام هو كتمان أسرارنا، والحج هو السفر إلى أئمتنا)، وهكذا يكون هدم اللغات، وهدم العقل، وهدم الشرائع. والحق أنه وعيد شديد على ظاهره ولكن لنوع مخصوص من المصورين، ألا وهم صناع الأوثان والأصنام، لا غير، لأن هؤلاء من رؤوس الكفر وأئمته، كمن قتل نبياً، أو كان من أئمة الكفر والضلالة، أو كان من آل فرعون الموعودين بأشد العذاب، ومن كان في نحو مرتبتهم وكفرهم، لا غير. قرينة ذلك الملزمة لهذا التخصيص هي لفظ: «أشد الناس عذاباً»، وذكر «من اتخذ مع الله إلها آخر» في نفس المقام والسياق، مع قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}. فكلام الله ورسوله لا يتناقض أو يتعارض: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}، وإنما يتناقض ويتعارض قول من قل ورعه، ومسخ عقله، فنسب الوعيد، الذي هو خلاف الحقيقة، أي نسب الوعيد الكاذب إلى الله ورسوله، بدعوى أن عادة العرب كذلك، حاشا لله، ثم حاشا لله: تقدس ربنا أن تسري عليه عوائد العرب وصفاتهم!!
فليس المصورون من المسلمين أشد الناس عذاباً يوم القيامة، ولا هم ممن يخرج لهم عنق مخصوص من النار، وإنما هذا حال الكفار صناع الأصنام فقط، وأما المصورون من المسلمين فهم من أهل الذنوب والكبائر، كغيرهم من أهل الذنوب، الذين ماتوا من غير توبة، توزن أعمالهم، وإلى الله أمرهم: إن شاء عذب، وإن شاء غفر ابتداءً، وإن شاء أذن بالشفاعة وقبلها ثم غفر لاحقاً. ومن عذب منه بتكليفه بنفخ الروح فيما صور، لا يستطيع هو ذلك أبداً، ولكن الله الذي كلفه بذلك قادر على رفع العقوبة وقطع العذاب متى شاء. ولم يقل نبي الله، المعصوم بعصمة الله، قط: أنه يعذب حتى يحيي ما صوّر، وإنما قال: وليس بنافخ فيها أبداً، أي أنه لا يستطيع أن ينفخ فيه أبداً، نعم: وهل يقدر غير الله على إحياء الموتى؟!وليس فيه أن التعذيب لا يرفع عنه أبداً فليلاحظ بدقة.
يؤيد هذا أن لفظ الصور أو التصاوير يستخدم أحياناً ويراد به الأصنام، لا غير، كما:
* جاء في «سنن الترمذي»: حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا يتبع كل إنسان ما كونوا يعبدونه فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون ... إلخ»] وقال الإمام الترمذي: حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح
* وهو كذا في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا هيثم قال ثنا حفص بن ميسرة عن العلاء، وحدثنا قتيبة قال ثنا عبد العزيز عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين ثم يقال ألا تتبع كل أمة ما كانوا يعبدون فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب الصور صوره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ... إلخ»
فثبت قولنا: أن المصورين أهل العذاب الأشد، أو الذين يخرج لهم عنق مخصوص من النار، يوم القيامة هم صناع الأصنام، الكفرة الفجرة، لا غير، والله أعلم وأحكم.
والأصنام نوع مخصوص من الأوثان، فكل صنم وثن، وليس كل وثن صنماً. فالصليب وثن، أي رمز حسي لعقيدة كفر، وهي عقيدة الصلب لابن الله فداءً عن الخطيئة الأولى، وليس الصليب صنماً، لأنه ليس على هيئة إنسان أو حيوان أو طير أو مركب منهما، ولا هو رمز لكائن إلاهي، وإن كان رمزاً لعقيدة باطلة. والأوثان كلها رجس يجب اجتنابها، قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به، ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء، فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}. فمن صنع الأوثان، ومنها الأصنام، أو باعها، أو حملها أو حملها على دابة أو سيارة، أو كتب عقود بيعها وتداولها، أو شهد على ذلك، من فعل ذلك أو نحوه فهو قطعاً لم يجتنبها، وهو قد قارف عملاً من أعمال الشرك والكفر، بمجرد عمله وبغض النظر عن معتقده، وهو كافر، مرتد عن الإسلام إن كان صح إسلامه من قبل، إلا من عذر بعذر شرعي معتبر كالإكراه والتأويل والجهل ونحوها، فتعساً له وبعداً.
وهناك مسائل مهمة تجب مراعاتها في هذا الموضوع، موضوع الأصنام والأوثان، منها:
(1) إن التصور الاعتقادي في المنحوت أي اعتقاد أنه يرمز لمن يعتقد فيه الألوهية كما هو حال الصنم، أو أنه رمز لعقيدة معينة، كما حال الوثن، كالصليب ونحوه، ووجود القصد والنية لتمثيل ذلك منحوتاً أو مرقوماً هو ركن في تعريف «الصنم» أو «الوثن». فمثلاً بعض من العدد والآلات لا تكون فعالة أو لا يمكن استخدامها إلا إذا كانت على هيئة صليب، كتلك التي تستخدم لفك عجلة السيارة، فهذه العدة ليست وثناً، ولا علاقة لصنعها بصناعة الوثن، ولا علاقة لها ببحثنا ها هنا أصلاً، ولا بوجه من الوجوه مطلقاً.
لاحظ بدقة أننا قلنا التصور الاعتقادي في المنحوت، ولم نقل اعتقاد الصانع أو الناحت أو الراسم. فلو صنع «فنان» أو «صائغ» مسلم صنما لأحد آلهة الوثنيين، وهو يعلم أن الوثني يعتقد الألوهية في من يمثله ذلك الصنم، أو صنع وثناً من ذهب، كصليب ذهبي مثلاً، وهو يعلم أنه يصنع صليباً لامرأة نصرانية تريد أن تتخذه حلية تعبر بها عن معتقدها في الصلب والفداء، لو فعل ذلك لكان صانعاً لصنم أو وثن، لكان مرتكباً لجرم مكفر بمجرد فعله ذلك، حتى ولو لم يكن هو معتقداً الألوهية في من يرمز إليه الصنم، ولا مؤمناً بعقيدة الصلب والفداء، كما أسلفنا، وهو بذلك كافر مرتد بذاته، إلا من عذر بأحد أعذار التكفير المعروفة.
(2) أن ما ذكرناه عن الحرمة المغلظة لصنع الأصنام والأوثان، وبيعها، وحملها، ونقلها، وكافة وجوه الانتفاع بها إنما هو لأهل الإسلام. أما غيرهم من أهل الذمة فلهم ذلك في إطار معتقدهم، إذ: {لا إكراه في الدين}، فلهم صنعها، وتداولها بينهم، والانتفاع بها، وجعلها في معابدهم، وبيوتهم، وسياراتهم، ودوابهم، وسبكها مجوهرات ومصوغات يتحلون بها، كتعليق الصليب في العنق، وجعلها نقوشاً ورقوماً في ملابسهم، ونحوه، بل وحملها في مسيراتهم الدينية المأذون بها في عقد الذمة بحيث يطاف بها في البلدة أو البلاد. وملكيتهم لها ثابتة مشروعة، فلا يجوز تكسيرها، أو محوها، ولا الاعتداء عليها، وكل من فعل ذلك وجبت عقوبته أشد العقاب لأنه نقض ذمة الله وذمة رسوله، وفتح باب الشر والفتنة والاقتتال الطائفي.
(3) إذا سقط عن شيء من ذلك مسمَّى «صنم» أو «وثن» عاد «تمثالاً» عادياً، أو «شكلاً» فنياً. هذا يكون مثلاً في الأصنام والأوثان الموجودة في معابد قديمة مهجورة لأديان منقرضة لم يعد لها وجود في دار الإسلام، أو في العالم بأسره. فتماثيل بوذا التي كانت إلى قريب في أفغانستان هي من هذا النوع: فليست هي في معبد «محترم» لأهل الذمة، لا يجوز المساس به، أو تكسير أصنامه، بل هي مجرد أثر تاريخي تجوز المحافظة عليه وإبقائه، ويجوز إتلافه والقضاء عليه، وفق اجتهاد ولي الأمر الشرعي، وما يرى في ذلك من مصالح دينية ودنيوية. فتحطيم طالبان لتلك التماثيل جائز، خلافاً لاحتجاجات الغربيين والمستغربين ممن مسخت عقولهم الحضارة والثقافة الغربية، وتركهم لها لو تركوها جائز، خلافاً لمزاعم أهل الغلو من أدعياء السلفية أو جهلة المقلدة من المشايخ الظلاميين.
ثالثا: صنع لعب الأطفال كالعرائس ونحوها، وهو نوع مخصوص من التصوير، والمنتوج يسمَّى «لعبة» أو «عروسة» أو «دمية» أو«بنات»، كما هو في حديث عائشة، يختلف واقعه عن واقع التصوير الفني والإبداعي العام. والثابت أن عائشة، رضي الله عنها، كانت عندها «بنات»، أي «لعب»، كما جاء:
* كما جاء مطولاً في «سنن البيهقي الكبرى»: [عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: [قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غزوة تبوك وقد نصبت على باب حجرتي عباءة وعلى عرض بيتي ستر أرمني فدخل البيت فلما رآه قال: «ما لي يا عائشة والدنيا؟!»، فهتك الستر حتى وقع بالأرض، وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة، لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟!»، قالت: (بناتي)، قالت: ورأى بين طوبها فرسا له جناحان من رقع، قال: «فما هذا الذي أرى في وسطهن؟!»، قالت: ( فرس!)، قال: «ما هذا الذي عليه؟!»، قالت: (جناحان!)، قال: « فرس له جناحان؟!»، قالت: ( أو ما سمعت أن لسليمان بن داود خيلا له أجنحة؟!)، قالت: (فضحك حتى بدت نواجذه).] قال البيهقي: (رواه أبو داود في السنن عن محمد بن عوف عن سعيد بن أبي مريم وقال في الحديث من غزوة تبوك أو خيبر). قلت: إسناد البيهقي صحيح، وجاء فيه غزوة تبوك بالجزم دون شك، وحديث أبي داود صحيح أيضاً، كحديث البيهقي وفيه بعض اختصار، وقد سبق ذكره بسنده في موضعه، فلا نطول به.
* وفي «صحيح مسلم»: [حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ( وكانت تأتيني صواحبي، فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم)،قالت: ( فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي). وقال مسلم: حدثناه أبو كريب حدثنا أبو أسامة (ح) وحدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير (ح) وحدثنا بن نمير حدثنا محمد بن بشر كلهم عن هشام بهذا الإسناد وقال في حديث جرير كنت ألعب بالبنات في بيته وهن اللعب]
ــ وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( كنت ألعب باللعب فيأتيني صواحبي فإذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فررن منه فيأخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيردهن إلي)]
ــ وهو في «السنن الكبرى للنسائي»: [أخبرنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال نا أحمد بن إسحاق عن وهيب بن خالد عن عبيد الله بن عمر عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت: (كنت ألعب بالبنات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، وهذا إسناد صحيح أيضا، بل هو غاية في الصحة، رجاله كلهم ثقات أثبات حجج عن آخرهم، بداية بأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري، شيخ الإمامين: النسائي ومسلم، إلى أم المؤمنين عائشة، رضوان الله وسلامه عليها، يتميز بأنه من غير طريق هشام بن عروة، فيه يزيد بن رومان عن عروة. وأبو روح يزيد بن رومان عالم مقرئ، ثقة بالإجماع، أخرج له الجماعة، وهو مولى آل الزبير فله بهم، وبعروة بن الزبير خصوصية، ذكرنا الحديث هنا بطوله حتى لا يخرج «فيلسوف» في آخر الزمن فيتكلم في صحة الحديث لأن هشام بن عروة قد دلَّس شيئاً يسيراً جداً عن أبيه.
قلت: الحديث في أكثر الصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم: كالبخاري، والنسائي، وابن ماجه، والحميدي، وإسحاق، ومسند أحمد من طرق صحاح كثيرة، وكاد الطبراني في «المعجم الكبير» أن يستوعبها، بأصح الأسانيد التي توجد في الدنيا، لا يكاد يخلو منه شئ منها، ولا تخرج ألفاظها عما ذكرناه، فلا نطيل بذكرها.
غير أننا نستعرض بعض أقوال العلماء في هذا الموضوع حتى ترى مدى الارتباك، وكثرة الظنون:
* فمن ذلك ما جاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن قال وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ واليه مال بن بطال وحكى عن بن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ وقد ترجم بن حبان الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب وترجم له النسائي إباحة الرجل لزوجته اللعبه بالبنات فلم يقيد بالصغر وفيه نظر قال البيهقي بعد تخريجه ثبت النهي عن اتخاذ الصور فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم وبه جزم بن الجوزي وقال المنذري إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة وبهذا جزم الحليمي فقال إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز]، ثم قال الحافظ بعد استطراد يسير: [و قال الخطابي في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ قلت وفي الجزم به نظر لكنه محتمل لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فيترجح رواية من قال في خيبر ويجمع بما قال الخطابي لأن ذلك أولى من التعارض] * وفي «الديباج على صحيح مسلم» قول واحد فقط: [... ولعبها معها المراد هذه اللعب المسماة بالبنات التي يلعب بها الجواري الصغار وهي جائزة مخصوصة من أحاديث النهي عن اتخاذ الصور لما فيه من المصلحة وهي تدريبهن لتربية الأولاد وإصلاح شأنهن وبيوتهن]
* وفي «شرح السيوطي على سنن النسائي»: [وكنت ألعب بالبنات قال في النهاية أي التماثيل التي يلعب بها الصبايا قال القاضي عياض فيه جواز اتخاذ اللعب وإباحة لعب الجوارى بها وقد جاء في الحديث أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رأى ذلك فلم ينكره قالوا وسببه تدريبهن بتربية الأولاد وإصلاح شأنهن وبيوتهن قال النووي ويحتمل أن يكون مخصوصا من أحاديث النهي عن اتخاذ الصور لما ذكر من المصلحة ويحتمل أن يكون هذا منهيا عنه وكانت قضية عائشة هذه ولعبها في أول الهجرة قبل تحريم الصور قلت ويحتمل أن يكون ذلك لكونهن دون البلوغ فلا تكليف عليهن كما جاز للولي الباس الصبي الحرير]، قلت: الكلام عن الحرير من الاستدلال بالباطل على الباطل، وهل أجمعت الأمة على أن للولي إلباس الصغير الحرير، أو جاء به نص؟!
* وقد سبق تعقيب البيهقي: [وقد ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، النهي عن التصاوير والتماثيل من أوجه كثيرة عنه فيحتمل أن يكون المحفوظ في رواية أبي سلمة عن عائشة قدومه من غزوة خيبر وأن ذلك كان قبل تحريم الصور والتماثيل ثم كان تحريمها بعد ذلك فمن جملة من روى النهي عنها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أبو هريرة وإسلامه كان زمن خيبر فيكون السماع بعده وفي حديث جابر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها فلم يدخلها النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى محيت كل صورة فيها قال الشيخ زمن الفتح كان بعد خيبر وأيضا فإنها كانت صغيرة في الوقت الذي زفت فيه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ومعها اللعب].
أرأيت التخليط والظنون، والله يقول: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}، وقد حذر نبي الله منه: «إياكم والظن، فإنه أكذب الحديث». فإن كانت هذه كلها ظنوناً، فما هو الحق واليقين إذاً؟!
نبدأ بكشف البواطيل، حتى تظهر ملامح الحق وتنجلي:
(1) ما كان ينبغي للإمام البيهقي، وهو الذي أخرج الرواية الصحيحة، وفيها الجزم أن الغزوة هي غزو تبوك، ما كان ينبغي له أن يعول على ما عند أبي داود من الشك أهي: تبوك أم خيبر، لأن من حفظ ولم يشك حاكم على من شك أو لم يحفظ، إلا أن يقوم برهان على خلاف ذلك. ولو قال قائل: بل إن القصة، كما تشهد لها إخبار عائشة نفسها لزيد بن خالد الجهني، كما سبقت من قبل، تدل على أنها أعدت البيت وزخرفته، واستقبلت النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، عند الباب بأحسن عبارة وأطيب استقبال تدل على نضج وأنوثة امرأة مكتملة، تستبعد ممن كانت في الرابع عشر من عمرها لكان أولى بالصواب. وليس هذا الظن بأولى من ذلك الظن، وإنما هي ظنون وتخاليط.
(2) أن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، كان قد بنى بالسيدة عائشة، رضوان الله وسلامه عليها، بعد أن أخر دخوله عليها نحو ثلاثة أعوام، إلي أن أصبحت صالحة للبناء بها، وهي في التاسعة أو أواخر التاسعة من عمرها، إن صحت الروايات، وهذا يقتضي بأنها كانت ناضجة نضوجاً مبكراً جداً، كاملة البنية، تصلح للدخول، ومن كانت بهذه الدرجة من النضج المبكر تفارق الطفولة والصغر، وتبلغ مبلغ النساء في أقل من أربعة عشر بكثير، وقد سمعنا ببنات بلغن المحيض، بل وأصبح بعضهن حوامل، وهن بنات اثني عشر سنة. وعليه فتكون عائشة في حكم النساء البالغات المكلفات قبل خيبر، ومن باب أولى قبل تبوك، فلا يجوز الزعم بأن الرخصة في اللعب بـ«البنات» إنما هي للصغيرة التي لم تبلغ سن التكليف بعد، كما زعم بعضهم. فالزعم بأنه أرخص لعائشة في ذلك لأنها لم تبلغ، هو إلى الجرأة على الكذب أقرب. ونحن نشهد بالله، الذي لا إله إلا هو، أنه لو كان هذا حقاً لجاءنا به برهان من الله، فأين البرهان؟!
هذا هو الحق، وهو ما يبطل الدعاوى الكاذبة على كل حال: لا فرق بين غزوة تبوك أو خيبر. أضف إلى ذلك أنها كانت، كسائر نساء النبي، قد حجبت الحجاب الكامل، وكلفت به، وذلك عان الأحزاب، قبل خيبر بكثير، وهذا مستبعد أن يكون حكم الأطفال غير البالغين.
(3) أما ترجمة الإمام النسائي، سامحه الله، للحديث: (إباحة الرجل لزوجته اللعبه بالبنات)، فهو مصيبة، لا يفوقها إلا ترجمة الإمام ابن ماجه لحديث رجوع النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، عن بيت علي لما رآي التصاوير. وهل لرجل في العالم أن يبيح لزوجته ما حرم الله أو يحرم عليها ما أحل الله؟! ربما قال قائل: إنه النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فنقول وهل إباحة النبي مخصوصة لزوجته؟! ثم ألا يوجد في الدنيا خير من هذه العبارات السقيمة الركيكة؟!
(4) وأوغل في الكذب والوقاحة دعوى النسخ بغير برهان، وهي والله إحدى الكبر، أن يبطل حكم الله بالدعوى الفارغة المجردة، أو لأن الإمام مالك كره هذا أو أحبه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
على إن كل هذا لا علاقة له بموضوعنا، وإنما أطلنا به حتى يتدرب القارئ على القراءة النقدية لأقوال العلماء السابقين، ويترفع عن موقف المذهول المسلِّم، الذي يتعلق بالأكابر تعلق الطفل الصغير بثوب أمه. نعم، والله، لقد أحال كثير من الدعاة وطلبة العلم، الذين لا عذر لهم، دع عنك العوام الذين عذرهم الله، عقولهم على التقاعد، حتى جاز أن نسميهم: مدرسة «العقل المستقيل»
والحق هو أن «اللعب» و «البنات» لفظ وضعته العرب، قبل نزول القرآن، لنوع مخصوص من «الأشكال»، يختلف جوهرياً عن «الأصنام» التي تعبد، وعن «التصاوير» و«التماثيل»، التي يستمتع بحسنها وجمالها. هذا مدرك بضرورة الحس قبل مجئ الشرع، فليست اللعبة تمثالاً، ولا هي منه في صدر ولا ورد، وليست أسعارها هذه في السوق كأسعار تلك، وليس باعة هذه مثل باعة تلك، ومن باب أولى ليست هي صنماً ولا من جنس الصنم.
نعم: يجوز جمعها مع تلك في جنس أعلى لأغراض البحث العلمي، أو التحليل المعرفي والفلسفي، ولكن لا يجوز مطلقاً أن ينزلق الإنسان إلى اعتقاد أن حكمها الشرعي لذلك واحد، لا سيما، إن كان الإسم المشترك لفظاً اصطلاحياً موهما. ولإيضاح هذا نضرب أمثلة، منها: لا شك أن البيع عقد ومبادلة تجارية، وكذلك الربا. فلو جمعهما جامع تحت مسمَّى: «العقود التجارية»، فهل يعني ذلك أن أحكامها الشرعية واحدة؟! عياذاً بالله. وقد يدرسها عالم الاقتصاد في نسق واحد ليحرر الفروق بين العقائد والنظم الاقتصادية المختلفة من الناحية الموضوعية.
وكذلك المعاشرة، معاشرة الرجل للمرأة، قد تكون بعد عقد نكاح، وقد تكون من غير ذلك عند من يتخذون العشيقات ومن يتخذن الأخدان، فهذه معاشرة، وتلك معاشرة، وحكمها ليس واحداً، ولكن قد يدرسها عالم الاجتماع أو عالم النفس أو طبيب النساء أو طبيب الأطفال في نسق واحد لأمور موضوعية أو طبية.
فإن جاز جمع صناعة الأصنام، وتصوير ذوات الأرواح، وتصوير غير ذوات الأرواح، وإنتاج اللعب تحت مسمَّىً واحد كـ«التصوير»، فلا يخرج هذا عن كونه اصطلاحاً، لا قيمة له في الشرع، ولا فرق بين ذلك وبين تسميته «تشكيل»، بل إن لفظة «الفنون التشكيلية» أولى، وهي التي شاع استخدامها مؤخراً، لتشمل هذا وغيره.
ومع أن هذا يكاد يكون بديهياً إذا تأمله الإنسان بعناية، إلا أنه منزلق خطير كثيراً تزل فيه الأقدام، ويقع الخلط، ويتكلم الناس بتحليل وتحريم، بغير إذن من الله. ولا غرو، فقد حذر نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات، من أقوام يستحلون الخمر: يسمونها بغير اسمها، ولا فرق بين استحلال الخمر، وتحريم لعب الأطفال، كل ذلك افتئات على ربوبية الله، جل ذكره، المتفرد بالخلق والأمر، السيد المطلق السيادة.
وإليك البرهان اليقيني على أن الشرع أقر تفرقة العرب بين «الصورة» و«اللعبة»، كما روته المبرأة من فوق سبع سموات، أم المؤمنين عائشة، وهي من أصدق خلق الله، وأحفظ خلق الله: [قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غزوة تبوك وقد نصبت على باب حجرتي عباءة وعلى عرض بيتي ستر أرمني فدخل البيت فلما رآه قال: «ما لي يا عائشة والدنيا؟!»، فهتك الستر حتى وقع بالأرض، وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة، لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟!»، قالت: (بناتي)، قالت: ورأى بين طوبها فرسا له جناحان من رقع، قال: «فما هذا الذي أرى في وسطهن؟!»، قالت: ( فرس!)، قال: «ما هذا الذي عليه؟!»، قالت: (جناحان!)، قال: « فرس له جناحان؟!»، قالت: ( أو ما سمعت أن لسليمان بن داود خيلا له أجنحة؟!)، قالت: (فضحك حتى بدت نواجذه).].
فعائشة تسمى لعبها «بنات»، ومن بينها فرس مجنح، مصنوع من رقاع، أي قطع الجلد، لعله على درجة عالية من الإتقان والجمال، فيقرها أبو القاسم، بأبي هو أمي، ثم يستمر في مداعبتها وملاطفتها، بما تعجز الأيام أن تأتي بمثله، وهو الذي سبب لها قبيل لحظات خيبة أمل شنيعة وصدمة عنيفة عندما هتك الستر الأرمني، فور دخوله من الباب، قبل أن يسلم أو يقبل أو يعانق، لأنه زاهد في الدنيا، لا يريد زخارفها. نعم: قد يقول قائل، إنما لاطفها، وأخَّر الإنكار عليها، حتى تذهب الصدمة الأولى، ثم أنكر بعد ذلك. فنقول لهذا: كلامك هذا بالعربية الفصحى لا بد من ترجمته إلى: (اصدع بالحق يا محمد، فإنك لم تصدع!)، فحسبك الكفر والخروج من الإسلام واللحاق بسلفك «الصالح» ذي الخويصرة التميمي الذي قال: (يا محمد: إعدل فإنك لم تعدل). وقد يقول قائل: لعله أنكر تلك التسمية ولم ينقل لنا ذلك إلا على وجه الإجمال تحت عنوان «التصوير»؟! فنقول له: هنيئاً لك الكفر وتكذيب وعد الله بالبيان: {ثم إن علينا بيانه}، ووعده بحفظ الذكر: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ومدينة الرسول، عليه وعلى آله أتم الصلاة وأزكى التسليم، فيها آلاف من الناس، ومئات من البيوت، لا يكاد يخلو بيت من أطفال صغار، وكل هؤلاء عندهم لعب، كما هو مشاهد حتى في بيوت الفقراء، ومضارب البادية، والبنات من الأطفال خاصة لا يستغنين عن «العرائس» أو «البنات». فهل يعقل أن يكون شئ من هذا حرم فلا ينقل لنا هذا نقل تواتر؟! ولا شك أنه لو حرم لكانت معاناة الناس شديدة في إيجاد البديل لأطفالهم، وتخفيف صدمتهم، فهلا نقل هذا؟! لا سيما عند بعض «الفقهاء» الذين يردون الأحاديث الصحيحة بدعوى «عموم البلوى»، وهل ثمة بلوى أعم من هذا؟! ولكن من قل ورعه، قل حياؤه: «والحياء شعبة من الإيمان»و«إذا لم تستح فاصنع ما شئت»
أما نحن فنشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن «البنات» أي «اللعب» ليست هي «التصاوير» أو «التماثيل»، وأن «التصاوير» ليست هي «البنات» لا فرق بين ذوات الأرواح سواء كانت أفراساً مجنحة من جلد، أو عرائس من قماش، أودببة محشوة بليف، أو كانت سيارات وطائرات من حديد أو صفيح أو خزف. كل ذلك جنس واحد وصنف واحد يسمَّى «بنات» أو «لعب». وحكمه واحد هو الحل، لا غير. ولما ثبت أنه طيب حلال في ذاته، وجب ضرورة أن تكون جميع الأفعال الإنسانية المتعلقة به حلالاً: من صناعتة، إلى تعليبه، وبيعه، وتوزيعه، وإهدلئه، والانتفاع به، وكل فعل يتعلق به حاشا ما حرم الشرع: كسرقته، أو إتلافه بغير حق، لأنه مال محترم.
ولا فرق في حكم «اللعبة» من لعبة تعد للصغار وأخرى يلهوا بها الكبار، ما دامت لعبة وواقعها واقع اللعبة، إلا أن يأتي برهان من الله بخلاف ذلك، وما نعلم أن ثمة خلاف ذلك من برهان، أللهم إلا ما ذكرنا آنفاً من الظنون الفاسدة، والأقيسة الباطلة، والتقليد الأعمى، التي نحمد الله على أن طهر عقولنا وقلوبنا منها، ونسأله مزيداً من فضله.
ومن باب اللعبة أيضاً تلك «الدمى» التي تتخذ في المظاهرات والمسيرات على هيئة أحد الحكام أو الشخصيات العامة ثم يقوم المتظاهرون بحرقها، أو دهسها بالأقدام، أو القاء القاذورات عليها ونحو ذلك إظهاراً للشجب والسخط لسياسة ذلكم الشخص أو لبعض تصرفاته.
رابعاً: والتصوير الذي حرمه اللّه تعالى إنما هو الرسم والنقش وغيره مما يباشره الإنسان بقيامه بنفسه بالتصوير، أي بتحويل الصورة المرتسمة في ذهنه، أو التي ركبها ذهنه، إلى واقع محسوس مجسم أو غير مجسم. أما التصوير عن طريق الآلة الفوتوغرافية فلا يدخل فيه، وليس من التصوير المحرم، بل هو مباح. وذلك لأن حقيقته هي أنه ليس تصويراً، وإنما هو نقل للظل من الواقع إلى الفلم، أو إلى لوحة الكترونية حساسة ثم إظهاره على شاشة عرض مناسبة، وليس هو تصويرًا للشخص من قبل المصور. فالمصور بآلة الفوتوغراف لم يصور الشخص وإنما انطبع ظل الشخص على الفلم بواسطة الآلة، فهو نقل للظل و ليس تصويرًا، و بواسطة الآلة وليس من قبل المصوِّر، فلا يدخل في النهي الوارد في الأحاديث، ولا علاقة له بموضوع الأحاديث مطلقاً.
فالأحاديث تقول: «الذين يصنعون هذه الصور»، «إنني أصور هذه التصاوير»، «كل مصور»، «المصوِّرين». ومن يأخذ صورة الشخص أو الحيوان بآلة الفوتوغراف لا يصنع هذه الصورة، ولا يقوم هو بالتصوير، وليس هو المصوِّر، وإنما آلة الفوتوغراف هي التي نقلت الظل إلى الشريط أي «الفلم» أو اللوحة الفوتوغرافية، ونحوها، وهو لم يصنع شيئًا سوى تحريك الآلة، ولذلك ليس هو المصوِّر، ولا يمكن أن يكون هو المصوِّر ولا بوجه من الوجوه، و لهذا لا يشمله النهي مطلقًا.
على أن التصوير الذي ورد تحريمه في الأحاديث قد حدد نوعه، ووصف وصفاً دقيقاً: فوهو الذي يشبه الخلق، والذي يكون فيه المصوِّر يشبه الخالق، من حيث أنه إيجاد لشيء، فهو ايجاد صورة، إما برسمها من صورة خيالية في ذهنه، أو برسمها عن أصلها الموجود أمامه كما هو مرتسم في الذهن، وفي كلتا الحالتين هو إيجاد للصورة في الخارج على مثال موجود في الذهن، لأنه هو الذي فيه إبداع وإنشاء أي خلق بالمعنى اللغوي. أما التصوير الفوتوغرافي فليس من هذا النوع، لأنه ليس إيجادًا للصورة، ولا يوجد فيه إبداع، وإنما هو انطباع ظل الشيء الموجود على الشريط أي «الفلم» أو اللوحة الفوتوغرافية، ونحو ذلك. ولذلك لا يعتبر من نوع التصوير الوارد تحريمه في الأحاديث، فلا تنطبق عليه الأحاديث ولا يدخل تحتها في التحريم.
والواقع الفني للصورة التي باليد وللصورة الفوتوغرافية يؤيد ذلك تمام التأييد فإنهما نوعان مختلفان كل الاختلاف فالصورة الفنية هي التى ترسم باليد، وهي غير الصورة الفوتوغرافية من حيث الفن ومن حيث الابداع. فمن هنا أيضا يكون التصوير الفوتوغرافي على أصل الإباحة حلالاً لا شيء فيه. نعم: يوجد في التصوير الفوتوغرافي جوانب من الإبداع: في اختيار «اللقطة»، وزاويتها، وتوزيع الظل والنور، وغير ذلك، ولكن ليس له إبداع في إنشاء الصورة، أو «تخليقها»، إن صح التعبير.
ومن كابر فجعل «الصورة الفوتوغرافية» أي «العكس» كالتصوير المحرم سواء بسواء لزمه ضرورة أن من وقف أمام المرآة متعمداً، ورتب الإنارة على نحو معين، بحيث يظهر في المرآة أكثر بياضاً أو شقرة، أو أكثر كآبة من حقيقة واقعه تلك اللحظة، أنه «مصور» أو «ممثل»، بالمعنى الشرعي، وأنه من ثم مستحق لللعنة والوعيد. هذا لا أحسب أن أحداً في العالم يقوله. وأما القول بأن الصورة هذه في المرآة لحظية غير دائمية، فليست من باب «التصوير» المحرم، فيلزمهم أن يرخصوا لمن رسم صورة بذلك شرط أن يمحوها فور الانتهاء منها، وهم لا يقولون بذلك، ويلزمهم الترخيص في الصور المتحركة، لأنها لا تثبت، وتزول فوراً، وهم متناقضون في ذلك.
واصطلاح الناس على تسميته «تصويراً» هو مجرد اصطلاح متأخر، بعد فساد اللسان العربي، وليس هو من وضع العرب الفصحاء الأقحاح، عند نزول القرآن، وهم وحدهم الحجة في اللغه، لا المولدين، ولا اصطلاحات الناس بعدهم. على أن أهل الديار النجدية كانوا، وما زال كثير منهم، يسمونه «عكساً»، لأنه في حقيقته مثل انعكاس الصورة على المرآة، وليس هو إنشاء صورة من ذهن آدمي مطلقاً، كما في «التصوير» أو «التمثيل» في العربية الفصحى التي نزل بها القرآن، وهذه اللفظة «التصوير» ليست أولى بالصواب في حق «التصوير الضوئي أو الفوتوغرافي من لفظة «العكس»، فكلها اصطلاحات مجردة، وليست هي العربية التي نزل بها القرآن.
لذلك لا يصح قول فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله ورفع درجته، في كتيبه القيم «تحريم التصوير، والرد على من أباحه»: («الوجه التاسع»: أن يقال أن التفريق بين التصوير باليد والتصوير بالآلة الفوتوغرافية، وجعل الأول حراماً والثاني مباحاً، تفريق بين متماثلين في الإسم والحكم لأن كل النوعين يسمًى تصويراً، وكل منها داخل في عموم الأحاديث ....إلخ)، لا يصح لأن الإسم مختلف، واشتقاق المتأخرين من غير أهل العربية الحقة، عربية القرآن، لا قيمة له، بل لو سميناه «عكساً» لكان هذا أولى. واختلاف الإسم والواقع يؤذن باختلاف الحكم لا محالة، إلا بدليل، وأين هو الدليل؟!
وكذلك لا صحة لقوله، رحمه الله في «الوجه العاشر»: أن العلة في تحريم التصويرهي: (المضاهاة بخلق الله)، لأن الحكم جاء كما أسلفنا غير معلل، وإلا كان من تعمد إظهار صورة نفسه في المرآة مضاهئاً لخلق الله، وكذلك من يبدع في رسم المناظر الطبيعية الخالية من ذوات الأرواح، كالجبال، والغابات ونحوها، لأن ذلك كله من خلق الله، ولكان فعل هؤلاء إثما فظيعاً وجرماً شنيعاً، وهذا خلاف الإجماع المتيقن، والشيخ لا يقول به. والتعليل بعلة ساقطة خطير جداً في الشرائع.
أما «الوجه الثاني عشر» من كتيبه فهو أبعد عن الصواب، إذ يقول، سامحه الله: (كلا من التصوير باليد والتصوير الفوتوغرافي لا يتم إلا بعمل الإنسان. فأما التصوير باليد فإنه لا بد فيه من وجود أربعة أشياء وهي: القلم والحبر والورق أو ما يقوم مقامه في من الأشياء التي تقبل التصوير، والرابع عمل المصور بيده، فإذا عدم واحد من هذه الأشياء الأربعة لم يوجد التصوير باليد... إلخ) ثم ذكر بعض ما يلزم للتصوير الفوتغرافي من فيلم، ومواد كيماوية، وتحميض متأخر أو فوري وإضاءة وأكد على أن كليهما يحتاجان إلى فعالية الإنسان وعمله الإرادي، وأن (كلاً من النوعين من أفعال بني آدم وصناعاتهم). قلنا: سبحان الله، وهل قال أحد أن أحدهما من عمل «الجن والعفاريت» والآخر من عمل الإنسان؟!
أليس إركاض الرجل فرسه نحو العدو من أفعال الإنسان وإركاضها هرباً من العدو من أفعال الإنسان، وليس هذا مثل هذا، بل بينهما في الحكم مثل ما بين السماء والأرض، فالأول إقدام وشجاعة والثاني جبن وخور وتولي وربما كان تولي من الزحف إن كان ينوي مغادرة ساحة القتال غير متحرف لقتال، ولا متحيز لفئة، وهو من أشنع الكبائر. فإذاً ما قام بالنفس من إرادات ونوايا، وما قام بالذهن من تصورات، كل ذلك جوهري في تصنيف الفعل، وتسميته، ثم إصدار الحكم الشرعي عليه. كل إنسان يدرك ذلك ضرورة. والشيخ أسقط ما يقوم بالذهن من صورة يريد «المصور» المذموم شرعاً تحويلها إلى واقع، في حين أن صانع الصورة الفوتوغرافية أو «العاكس» لم تقم في ذهنه أي صورة من ذلك مطلقاً، وإنما هو يريد تثبيت واقع موجود في الخارج، أو بلفظ أدق، صورة ذلك الواقع، على الفيلم أو إظهارها على شاشة العرض. فأين هذا من هذا؟! إن الجماع في نكاح مشروع أقرب شيهاً إلى الجماع في زنا، ومشابهة الربا للبيع، أقرب في الشبه من مشلبهة «التصوير» المذموم شرعاً بـ«العكس» الفوتوغرافي. والخلط بين واقعين متباعدين يؤدي إلى إبطال الشرائع، والعبث بالدين.
وأما تأكيد الشيخ أن الخمر حرام بغض النظر عن كونها عصرت باليد أو بألة، فهو من بديهيات الإسلام، وسببه أن الخمر هي كل مسكر، ومنه أنواع جوامد كالحشيش والأفيون والكوكائين، لم تكن عصيراً في الأصل قط. ومع ذلك حرم النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، الانتباذ في ظروف معينة أول الأمر، ثم نسخ ذلك وبقي كل مسكر حرام أسواء كان أصله نبيذاً أو عصراً أو غير ذلك، لأن الخمر حرمت لذاتها أي بـ«عينها». ونحن لا نبحث في عين «الصورة»، وإنما نبحث في «التصوير»، أي في حكم الفعل. أما الصورة، من حيث هي، مهما نشأت، سواء كانت في مرآة، أو بإبداع فنان، أو بآلة فوتوغرافية، أو بانطباع شكل في طين، كآثار الأقدام في الطين، فهي شئ من الأشياء وهي على الإباحة الأصلية، نعم والطهارة الأصلية، حتى يأتي دليل بخلاف ذلك يتعلق بذاتها، وما ثمت دليل مطلقاً، ولكننا سنوفي البحث في «ذات» الصورة أدناه. ويظهر أن الشيخ، رحمه الله، خلط بين الأمرين، فلم يفتح الله عليه في هذه القضية.
ونزيد هذا وضوحاً فنقول أن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قد لعن في الخمر عشراً، منهم عاصرها. ومعلوم ضرورة أن من عصر عنباً بنية بيعه عصيراً، وليس للتخمير، لا يقع قطعاً تحت هذا الوعيد، وإلا لحرم عصر العنب مطلقاً، وإنما يدخل تحته من عصر العنب عالماً مريداً لانتاج الخمر بنفسه، أو مسلما العصير، وهو يعلم، إلى من يصنعه خمراً. هذا الفرق فرق شاسع مع أن عملية العصر، وآلات العصر هي هي، ونتيجة العملية هي هي: عصير العنب.
وإنما أطلنا الكلام مع الشيخ لأنه ثقة مأمون، من علماء المسلمين المخلصين، كذا نحسبه والله حسيبه، تغمده الله بأوسع رحمته، ولو كان الكتيب المذكور من تأليف غيره من أمثال ابن باز أو ابن عثيمين، لما أضعنا لحظة معهما أو مع من شاكلهما من فقهاء السلاطين الدجاجلة، إلا لفضحهم وكشف عوارهم.
ومن اللطيف أن الناس يطلقون اليوم لفظة: «التمثيل» اختصاراًَ على التمثيل المسرحي، لا على صنع «التماثيل» أي «الصور المجسمة ذات الظل». فليلاحظ. ولو زعم أحد أن «التمثيل المسرحي» حرام استناداً إلى ما ورد من لعن «الممثلين» لأصبح أضحوكة الدهر!!
وهذا الحكم بجواز التصوير الفوتوغرافي ينطبق على الصور الثابته والمتحركة، ولا فرق. وهو كذلك ينطبق على المسطح منها والمجسم ولا فرق. قد يقول قائل: ما رأينا في العالم صوراً فوتوغرافية مجسمة. فنقول: اصبر قليلاً فلعلك تدرك زمنا يصنع فيه قوالب حساسة للضوء يتم تشعيعها بإنارة فراغية (هولوغرافيا)، ثم معالجتها كيماويا أو بأشعة الليزر، أو غيرهما، فتخرج صورة مجسمة كالتمثال. وهم يصنعون هذا بالفعل الآن لإنتاج المركبات الإلكترونية الدقيقة. كما أنه يمكن بعض هذا الآن وذلك باستخدام المخارط والمقاشط والمكابس فيحصل تكرار تماثيل كثيرة من نموذج ابتدائي، كما هو الحال في صناعة اللعب في المصانع الكبيرة. وعلى كل حال: إذا وجد هذا فحكمه هو هذا، أي الإباحة، لا غير: لأنه كله إنما هو تثبيت لظل، أو انتساخ لصورة، أو تكرار لشكل موجود، أو ما شابه ذلك، وليست هي أبداع فني بإخراج صورة خيالية في الذهن إلى الواقع المحسوس!
خامساً: هذا بالنسبة للتصوير من حيث هو، أي بالنسبة لعملية التصوير من حيث هي، أي لعملية إيجاد الصورة، التي تشبه الخلق، فيكون المصور مشابها أو مضاهياً للخالق. أما بالنسبة لاقتناء الصور، وشرائها، والمتاجرة بها، وتعليقها، وسائر أوجه الانتفاع والاستمتاع به، فهو بحث مستقل.
وهذا البحث إنما يرد في «التماثيل» و«التصاوير» حقيقة التي يشمل الأفعال المنتجة لها حكم التحريم، أما «العكوس» و«تثبيت الظل» في الفوتوغرافيا، وإنتاج «البنات» و«اللعب»، فهذه ليست من «التصوير» في صدر ولا ورد، بل هي أفعال مباحة، وكل ما ينتج منها من منتوجات وأشياء فهو ضرورة مباح، يجوز تداوله والانتفاع به بكل أوجه الانتفاع، إلا ما استثناه الشرع بدليله، ولا يتصور أو يجوز غيرهذا. هذا هو الوضع كذلك بالنسبة للصور المرقومة أو المرسومة على ثياب أو ورق أو جلد أو أواني، أو أثاث أو غيره عند من قال بجواز عملها، وأنها ليست من التصوير المحرم.
وأما الأصنام والتماثيل والأوثان، فقد فرغنا منها، وأمرها أوضح من الشمس، كما أسلفنا، لأنها رجس واجب الاجتناب: فمن صنع الأوثان، ومنها الأصنام، أو باعها، أو حملها، أو حَّملها على دابة أو سيارة، أو جعلها في بيته أو مقر عمله، أو كتب عقود بيعها وتداولها، أو شهد على ذلك، من فعل ذلك أو نحوه فهو قطعاً لم يجتنبها، وهو قد قارف عملاً من أعمال الشرك والكفر، بمجرد عمله وبغض النظر عن معتقده، وهو كافر، مرتد عن الإسلام إن كان صح إسلامه من قبل، إلا من عذر بعذر شرعي معتبر كالإكراه والتأويل والجهل ونحوها، فتعساً له وبعداً.
بقيت التماثيل المجسمة، وكذلك الصور المرقومة والمرسومة على ثياب أو ورق أو جلد أو أواني، أو أثاث أو غيره عند من قال بتحريم عملها، فما هو حكم بيعها، وتداولها، وتعليقها، والانتفاع بها بشتى أنواع الانتفاع؟! هذه التماثيل المجسمة لذوات الأرواح، وكذلك «التصاوير» المرقومة والمرسومة، أشياء مما خلق الله في الكون الأصل فيه الإباحة والحل وجواز الانتفاع بكل أوجه الانتفاع المتصورة، إلا أن يأتي دليل بخلاف ذلك من الشرع. وكون من صنعها أثم بصنعه إياها لا علاقة له بكونها محرمة أو نجسة بذاتها، فلا يجوز اقتناؤها أو تداولها. فهاهم صناع الأسلحة أكثرهم يصنعونها للدنيا والمال، غير مبالين بباستخدامها في قتل الأبرياء، بل إن بعض السلاح، مثل المسدس عيار 45 الأمريكي إنما طور وصنع في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي لقتل المسلمين المجاهدين في جنوب الفيليبين، الذين أعيوا القوات الأمريكية هناك وأرعبوها. فهل أصبح تملك ذلك السلاح، بشراء أو غنيمة، والاستفادة منه من المسلم المجاهد حراماً؟! لا ها الله!
فذم المصورين وعملهم لا يترتب عليه ضرورة ذم الصورة أو حرمتها، لذلك وجب مراجعة جميع النصوص الواردة في الباب لاستنباط حكم الاستفادة من الصور واقتنائها وتداولها.
ومراجعة النصوص في الباب قد أظهرت أن:
* حديث: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كاب أو صورة»،وهو متواتر، وفي بعض الروايات «أو جنب»، لا علاقة لها بالموضوع لأنها على الصحيح مخصوصة بجبريل، صلوات الله عليه، وملائكة الوحي. وحتى مع التساهل المفرط وحملها على ملائكة الرحمة، أو الملائكة السيارة الذين يتتبعون حلق الذكر، حتى مع هذا فصيغتها ليست من صيغ التحريم، وغاية ما هنالك الكراهية، لا غير. لا سيما عند من صحح لفظة: «أو جنب»، فليست الجنابة إثما أو قبحاً، إلا أن يتعمد الجنب اللبقاء عليها حتى تخرج صلاة من وقتها، أو نحوه من المعاصي، لا غير.
* أحاديث (هتك الستور)، وهي متعددة، لم يظهر منها بيقين أن ذلك بسبب التصاوير. وقد بينا سابقاً، أن تداخل بعض الروايات قد أحدث إرباكاً عند بعض الفقهاء فقالوا بهذا. أما وقد ظهر أن السبب كان زهداً في الدنيا وزخارفها، أو لعدم الانشغال بها عن كامل الخشوع في الصلاة، فقد بطل هذا الاستدلال جملة.
* فلم يبقى سوى حديث جابر، وإليك ألفاظه مرة أخرى:
* فقد جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا عبد الله بن الحرث عن بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يزعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك». وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، زمن الفتح، وهو بالبطحاء: «أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه».
* وجاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» شقه الأول: حدثنا حجاج قال قال بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يزعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك».
* وهو في «سنن البيهقي الكبرى» بطوله: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي وأبو سعيد بن أبي عمرو قالوا ثنا أبو العباس ثنا العباس بن محمد ثنا حجاج الأعور قال قال بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنعه»، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه
* وجاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» شقه الثاني: حدثنا روح ثنا بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب يوم الفتح وهو بالبطحاء: «أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه».
* وفي «مسند أبي يعلى» شقه الأول: حدثنا أبو خيثمة حدثنا روح حدثنا بن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يزعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك».]، وقال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح
* وفي «المسند» شقه الثاني: [حدثنا حسن ثنا بن لهيعة ثنا أبو الزبير حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه زمان الفتح: «أن يأتي البيت وهو بالبطحاء فيمحو كل صورة فيه ولم يدخله حتى محيت كل صورة فيه»]
* وفي «سنن أبي داود» حديث آخر: [حدثنا الحسن بن الصباح أن إسماعيل بن عبد الكريم حدثهم قال حدثني إبراهيم يعني بن عقيل عن أبيه عن وهب بن منبه عن جابر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، زمن الفتح وهو بالبطحاء: «أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها».]، وقال الألباني: حسن صحيح
ــ وهو في «صحيح ابن حبان»: [أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم أخبرني إبراهيم بن عقيل بن معقل عن أبيه عن وهب بن منبه حدثنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء: «ان يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها»]، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده جيد.
ــ وهو في «سنن البيهقي الكبرى»: أخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود ثنا الحسن بن الصباح أن إسماعيل بن عبد الكريم حدثهم إبراهيم بن عقيل عن أبيه عن وهب بن منبه عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها
فحديث جابر يتكون من شقين:
الشق الثاني: وهو أمر النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لعمر بن الخطاب، زمن الفتح وهو بالبطحاء: «أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه». وهذا قد جاء بأصح الأسانيد، وقد صرح ابن جريج بأن أبا الزبير أخبره بسماعه من جابر، وقد رواه ابن لهيعة مصرحاً بالسماع من أبي الزبير، ورواه حسن الأشيب عن ابن لهيعه وسماعه، في الأرجح، قديم صحيح. وأيد ذلك سماع وهب بن منبه للحديث من جابر، ورواه عنه وهب اثنان من الثقات، وكفاك بهذا قوة. وهذا يكذب المزاعم الواردة في الروايات المرسلة والمنقطعة أن بعض الصور بقيت في الكعبة إلى زمن متأخر، إلا أن يكون تعذر محوها فطمسها عمر بالدهان أو الصباغ ثم يبس ذلك الدهان، وتشقق، ثم تساقط مع تقادم الزمن فظهرت الصور، ولو باهتة، في عصور متأخرة. ومصداق قولنا هذا ما أخرجه الإمام الحافظ الحجة ابن حجر العسقلاني:
* في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [قوله أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت وقع في حديث جابر عند بن سعد وأبي داود أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها فلم يدخلها حتى محيت الصور وكان عمر هو الذي أخرجها والذي يظهر أنه محا ما كان من الصور مدهونا مثلا وأخرج ما كان مخروطا وأما حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورة إبراهيم فدعا بماء فجعل يمحوها وقد تقدم في الحج فهو محمول على أنه بقيت بقية خفي على من محاها أولا وقد حكى بن عائذ في المغازي عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أن صورة عيسى وأمه بقيتا حتى رآهما بعض من أسلم من نصارى غسان فقال إنكما لبلاد غربة فلما هدم بن الزبير البيت ذهبا فلم يبق لهما أثر وقد أطنب عمر بن شبة في كتاب مكة في تخريج طريق هذا الحديث فذكر ما تقدم وقال حدثنا أبو عاصم عن بن جريج سأل سليمان بن موسى عطاء أدركت في الكعبة تماثيل قال نعم أدركت تماثيل مريم في حجرها ابنها عيسى مزوقا وكان ذلك في العمود الأوسط الذي يلي الباب قال فمتى ذهب ذلك قال في الحريق وفيه عن بن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطمس الصور التي كانت في البيت وهذا سند صحيح ومن طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى بن عباس عن أسامه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فأمرني فأتيته بماء في دلو فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصور ويقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون وقوله وخرج ولم يصل تقدم شرحه في باب من كبر في نواحي الكعبة من كتاب الحج وفيه الكلام على من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ومن نفاها].
قلت: حديث أسامة بن زيد الذي أشار له الحافظ هو هذا الآتي، وليس فيه جديد خلاف ما درسناه في رسالتنا هذه من قبل، وإسناده ليس بذاك، ولا تقوم به حجة:
* كما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «المصنف»: حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمر مولى ابن عباس عن أسامة قال دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأيت في البيت صورة فأمرني فأتيته بدلو من الماء فجعل يضرب تلك الصورة ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون». قلت: هذا إسناد مظلم، والمتن باطل فالصحيح الثابت أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لم يدخل الكعبة حتى محى عمر بن الخطاب الصور أو طمسها، وحتى أخرجت المجسمات وحطمت.
فأما بالنسبة لهذا الشق الثاني من حديث جابر فهذا نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكالت من الله، يمتنع عن دخول أقدس بقعة في الدنيا، تفضل فيه الصلاة بأضعاف كثيرة الصلاة في غيره من المواقع، بل تعدل الصلاة فيه مائة الف صلاة في غيره إلا المسجد النبوي والمسجد الأقصى، حتى تمحى كل صورة، ولم يدخل حتى محيت أو طمست. وهو إلى البيت العتيق بالأشواق، وهو إلى التمتع بحلاوة النصر والفتح وتتويجه بالدخول إلى أشرف بقعة في مكة في أشد الاحتياج: حتى يلقي خطبته، ويقول كلمته، ثم ينظر في شأن قريش، التي طالما حاربت الله ورسوله، كل ذلك على رؤوس الأشهاد، عند باب الكعبة، البيت الحرام، ثم يصر على ألا يدخل حتى تمحى الصور: هذا لا يتصور ولا يكون في العالم إلا إذا كان وجود الصور في الكعبة، البيت الحرام، محرم أشد التحريم، لا فرق بين صورة في سقف، وأخرى في جدار، وثالثة على الأرض أو في بساط، كما هو واضح من إطلاق لفظ الحديث.
فإن كان هذا التشدد في البيت الحرام، الذي كان الصحابة يحجون إليه ويعتمرون قبل الفتح، بإذن رسول الله، وهو ملطخ بالأوثان، فيعرضون عنها ماضين في نسكهم. فإن كان ذلك كذلك، وهو بلا ريب كذلك، فهو في غيره من المساجد من باب أولى، لأنها أقل فضلاً، وأحرى أن لا تشد إليها الرحال، فلو وجدت فيها صور لوجب طمسها، وكانت أولى بالهجر. فإن لم تطمس الصور لم يجز لأحد دخول تلك المساجد. فمن جعل في المسجد صورة فإنه لا محالة معطل للمسجد، مانع من ذكر الله فيه، ساع في خرابها: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها؟!}. لذلك يحرم وضع الصور في المسجد حرمة قطعية.
والمساجد نوعان:
النوع الأول: مساجد دائمية ثابتة، وهي الأماكن المعدة المخصوصة للصلاة والاعتكاف، لقوله تعالى: {وأن طهرا بيتي للطائفين، والعاكفين، والركع السجود}، هذه هي الوظائف الأصلية للمسجد الحرام: الطواف، والاعتكاف، الصلاة المشرعة المعروفة المشتملة على الركوع مع السجود، وهي كذلك وظائف كل مسجد، إلا الطواف لأنه إنما يكون حول المكان الذي يستقبل من كل مكان آخر، أي حول نقطة مركزية يستقبلها الناس، أي حول قبلة، فيستحيل حساً وعقلاً أن تكون هناك أكثر من قبلة واحدة في العالم في نفس الوقت، فصار هذا مقصوراً على البيت الحرام، فهو أبو المساجد، ومكة أم القرى، وشاركته كافة المساجد في سائر الوظائف، وهي المذكورة، وغيرها مما نص الشارع على جوازه أو استحبابه في المساجد: من حلق الدرس والعلم، إلى إدارة أعمال الدولة واجتماع المؤمنين للشورى، وتجهيز الجيوش، وغيرها.
فالمسجد الدائمي هو إذاً بقعة معلومة مخصصة من الأرض، تكون عادة مبنية، وفي بعض الأحوال القليلة، تكون حدوده مجرد خطوط في الأرض، أو مرسومة بالدهان على الأرض الصخرية، أو معلمة بالحجارة، كمساجد البدو الرحل، ونحوها: فهذه كلها مساجد دائمية مرفوعة مشيدة حكماً، وإن لم تكن كذلك باللبن والحجارة والإسمنت المسلح فعلاً.
النوع الثاني: الميجد المؤقت وهو مكان الصلاة عند دخول المصلي في الصلاة، وهو البقعة المستطيلة التي تمتد من مؤخرة أعقاب المصلي من وراءه، إلي موضع السجود، أو الحائط، أو الحائل من أمامه، وعن يمينه ويساره بقدر مجافاته بين مرفقيه في السجود. فإذا سلم المصلي من صلاته ذهب ذلك المسجد المؤقت وزال.
فليست الأسواق مساجد، ولا بيوت السكنى مساجد، ولا الحيطان والبساتين والمزارع مساجد، ولا الشوارع والطرق مساجد، ولا الصحراء المفتوحة، أو المراعي، أو الغابات، مساجد، وإن كان أكثر ذلك يصلح للصلاة فهو بهذا المعنى «مسجد وطهور»، أي يجوز أن تصبح بقعة معينة منه «مسجداً مؤقتاً»، خصوصية وفضيلة لأبي القاسم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بأبي هو وأمي، على من سبقه من الأنبياء والمرسلين. ولكن هذا لا يعني أنه مسجد دائمي بمعنى أنه مكان مرتب معد مخصوص للصلاة والاعتكاف. فأما غير المساجد فلا ينطبق عليها هذا الحكم، وإلا لوجب تطبيقه على كل بقعة في الدنيا، وهذا باطل يقيناً، لأن الصور الممتهنة الموطوءة جائزة حتى في بيت الوحي والنبوة، كما سلف، فظهرت صحة هذا القول يقيناً.
والشق الأول: أن النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك»، بهذا اللفظ بلا خلاف من مشايخ أحمد فيه، وقد تفرد بها اين جريج إخباراً عن أبي الزبير الذي صرح بسماعه ذلك من جابر، وهي طريق صحيحة اعتمدها الإمام مسلم في صحيحه في أزيد من سبعين موضع، وأخرج مثلها البخاري في المتابعات والشواهد.
أما هذا الشق الأول: وهو أن النبي، صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك». وقد اتفقت الطرق على هذا اللفظ بعينه، إلا من قال: «يصنعه» بلاً من «يصنع ذلك»، فلا يحتوي حكماً يختلف كثيراً عما سبق في نقاش الشق الأول، خلافاً لما قد يتوهمه البعض، وذلك لأن لفظة «البيت»، المعرفة بالألف واللام، لا يمكن أن تعني إلا البيت الحرام ها هنا. لأنه لو كان المقصود بيوت الناس عامة لقال: «نهى عن الصور في البيوت»، لو كان المقصود بيت الرجل الذي يسكنه لقال: ««نهى الرجل عن الصور في بيته ونهى أن يصنع ذلك»، أو نحو ذلك، وجابر رضي الله عنه، لم ينقل لنا نص لفظ النبي بأحرفه، وإنما نقل لنا المعني، وكان ذلك بمناسبة الحديث عن الكعبة والبيت الحرام. فكأن الناس كانت قد اعتادت في الجاهلية إهداء الصور إلى الكعبة، كما يفعلون بزيت الاستصباح، والشموع، ونحوه، أو بتعليقها للتبرك، أو نحوه، فنهى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن ذلك، ونهى أن تصنع الصور لهذا الغرض، أي بقصد استخدامها في المسجد الحرام، ومن باب أولى في غيره المساجد.
ولكن بعض السلف، ومنهم ابن عباس، رضي الله عنهما، كره الصلاة في أي موضع فيه تصاوير أو تماثيل، كما جاء:
* في «الجامع الصحيح المختصر» تعليقاً بصيغة الجزم من غير أسناد: باب الصلاة في البيعة وقال عمر، رضي الله تعالى عنه: (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور)، وكان بن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
قلت: النصوص الواردة، خصوصاً حديث جابر، لا يسعفه لأن الكلام فيها عن المساجد، من حيث هي أماكن معدة للصلاة والاعتكاف، وليس هو عن الصلاة، من حيث هي أفعال المكلَّف. أما الصلاة فقد جاء عنه، عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، متواتراً: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراَ»، أي مكاناً صالحاً للصلاة، كما أسلفنا بيانه، وثبت عنه: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» وثبت عنه أنه: «لعن المتخذين القبور مساجد»، قاله على فراش الموت. وصلى في بيته وفيه تصاوير ممتهنة، وأخرى معلقة، فأمر بإزالة المعلقة لأنها ألهته في صلاته، وهكذا غير ذلك كثير. وما كان رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، ليقبض قبل أن يبين أن البيعة التي فيها تصاوير لا تجوز فيها الصلاة، فبقيت على عموم طهارة الأرض وصلاحيتها للصلاة، خلافاً لابن عباس، رضي الله عنهما، إلا أن يكون أخذ بالأحوط والأشد. وقد جاء هذا الاختلاف عن غير عمر وابن عباس من السلف أيضاً:
* ما هو في «مصنف ابن أبي شيبة»: [باب: الصلاة في الكنائس والبيع:
ــ حدثنا أبو بكر قال حدثنا سهل بن يوسف عن حميد عن بكر قال كتبت إلى عمر من نجران لم يجدوا مكانا أنظف ولا أجود من بيعة فكتب انضحوها بماء وسدر وصلوا فيها
ــ حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم وعن يونس عن الحسن وعن حصين عن الشعبي أنهم قالوا لا بأس بالصلاة في البيع
ــ حدثنا حفص بن غياث عن حجاج قال سألت عطاء عن الصلاة في الكنائس والبيع فلم ير بها بأسا
ــ حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم وعن جابر عن الشعبي قالا لا بأس بالصلاة في الكنيسة والبيعة
ــ حدثنا غندر عن أشعث عن محمد قال لا بأس بالصلاة في الكنيسة
ــ حدثنا محمد بن أبي عدي عن أشعث عن الحسن أنه كرهه وأن محمدا لم ير به باسا
ــ حدثنا وكيع عن سفيان عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير
ــ حدثنا وكيع عن عثمان بن أبي هند قال رأيت عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فوق كنيسة والناس أسفل منه.
ــ حدثنا وكيع عن إسماعيل بن رافع قال رأيت عمر بن عبد العزيز يؤم الناس في كنيسة بالشام.]، انتهي من مصنف ابن أبي شيبة، ومعلوم ضرورة أن الكنائس خاصة مملوئة بالتصاوير والتماثيل.
فالكنيسة أو البيعة أو معابد الوثنيين، وهي عادة مملوءة بالتصاوير عادة، هي في الأصل بعض من الأرض الطاهرة، التي تجوز الصلاة فيها. ومتى دخل الإنسان في الصلاة فإن البقعة التي يصلي فيها تصبح مسجداً مؤقتاً، وهذه البقعة فقط هي التي يجب أن تخلو من الصور، صور ذوات الأرواح، على كل حال. فالصور الموجودة في هذه الأماكن لا يجوز أن تكون في بقعة الصلاة مطلقاً، ولا بأس أن تكون خلف المصلي، أو عن يمينه، أو عن شماله، ولكنها لا يجوز أن تكون في قبلته إلا من وراء ساتر حاجز، ولو رمزياً كالعنَزَة التي كانت ُتْنَصب بين يدي النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، في الأرض الفضاء، أو ثوباً أو غطاءً تغطى به الصورة أو التمثال. وقد أجاز بعض المجتهدين أن تكون ممتهنة تحت أقدام المصلي، ولكن الأحوط اجتناب ذلك، ولو بسترها بسجادة أو بساط أو قطعة من القماش.
فصنع الصور، وقد أشبعناه بحثاً، والحمد لله، فيما سلف تتلخص أحكامه في ما يلي:
(1) صنع الأصنام، أي التماثيل التي ترمز لما يعبد من دون الله، وكذلك الأوثان، وهي أعم من الأصنام لأنها تشمل كل رموز الكفر الشرك من: صلبان، وأنصاب، وأشجار، وغيره، محرم حرمة مغلظة، وهو من أفعال الكفر بذاته، يخرج من تعمده عن الملة، إلا من قام به مانع من موانع التكفير المعروفة.
(2) تصوير ذوات الأرواح مجسمة، أي صنع التماثيل ذات الظل، من إنسان أو طير أو حيوان، من الكبائر، محرم قطعاً بالإدلة المتواترة، وإجماع الصحابة المتيقن.
(3) رسم ذوات الأرواح، أو رقمها في تصاوير ليست بذات ظل: على القماش، أو الورق، أو الجلد، أو غيره من السطوح، فمحل اجتهاد ونظر، والكثير من الفقهاء على تحريمه، إلا أن القوي الأرجح من الأقوال عندنا هو أنه مباح.
(4) صنع «اللعب» و«البنات» كله مباح، سواء كانت تماثيل، أو غير ذات ظل، من ذوات الأرواح أو من غيرها، كالأفراس المجنحة، أو غير ذلك، وليس هو من باب «التصوير» في صدر ولا ورد، وإن اشتبه على الكثيرين بذلك.
(5) التصوير الضوئي، أي الفوتوغرافي، والانتساخ الآلي، وما شابه، كله مباح، سواء كانت تماثيل، أو غير ذات ظل، من ذوات الأرواح أو من غيرها، وليس هذا أيضاً من باب التصوير في صدر ولا ورد، وإن اشتبه هذا كذلك على الكثيرين بذلك.
وبهذا نكون قد فرغنا من تلخيص نتائج البحث في عملية «التصوير»، أي إنتاج الصورة، أو صنع الصورة، والآن نلخص نتائج بحثنا هنا في عين «الصورة» وهل هناك ناقل لاقتنائها والانتفاع بها من الإباحة الأصلية؟! فكل ما ذكرنا أعلاه إنما يدل على التالي فقط فيما يتعلق بالانتفاع بالصور، لا بإنتاجها:
(1) تحريم الانتفاع بالأصنام والأوثان مطلقاً: بيعاً، وحملاً، وتداولاً، وغيرها من الأفعال والتصرفات المتعلقة بها، كحرمة انتاجها سواء بسواء، ما دامت أصناماً أو أوثاناً. فإن تطاول عليها الأمد فأصبحت أثراً تاريخياً فحسب، بانقراض عبادها مثالاً، أصبحت مجرد تمثال، أي صورة مجسمة لا غير.
(2) تحريم جعل صور ذوات الأرواح في المساجد، مهما كان نوعها، مجسمة أو غير مجسمة.
(3) إباحة «البنات» و«اللعب» سواء كانت تماثيل، أو من ذوات الأرواح، كالأفراس المجنحة، أو غير ذلك: صنعاً وإنتاجاً، وبيعاً، وانتفاعاً.
(4) إباحة الصور الفوتوغرافية، والتصوير التلفازي والسينمائي، مطلقا: انتاجاً وانتفاعاً، وبيعاً، وتوزيعاً، وغير ذلك، مهما كان نوع الانتفاع.
(5) لا بأس من الانتفاع بالتماثيل المجسمة، وكذلك بالصور التي لا ظل لها، والرسوم المرقومة، ونحوها (حاشا الأوثان والأصنام وصور ما يعبد من دون الله ما دامت أصناماً وأوثاناً) في غير المساجد: في البيوت، والشوارع، والأسواق، والأماكن العامة. ولا بأس من اقتنائها، وتداولها، وبيعها، وشرائها، وسائر أنواع الانتفاع المشروعة، لا فرق بين أن تكون «محترمة»، أي معلقة على الجدران، أو في ستائر، أو قي السقوف، أو تكون «موطوئة مهانة» فتكون في الأرض أو البسط والنمارق والوسائد وسائر ما يفترش. ذلك لأن عدم دخول الملائكة في بيت فيه صورة أو تمثال إنما هو مخصوص بجبريل، صلوات الله عليه، وبملائكة الوحي خاصة.
وحتى من قال بأن ذلك عام في ملائكة الرحمة، أو الملائكة السيارة الذين يتبعون حلق الذكر، ونحوهم، فيلزمه فقط الحكم بكراهية الانتفاع بالتماثيل المجسمة على كل حال، إلا أن تقطع رؤوسها فتصبح على هيئة الشجرة، وكذلك بالصور التي لا ظل لها، والرسوم المرقومة، ونحوها، إذا كانت في موضع تعظيم لها، كأن تكون في ستائر، أو معلقة على الجدران، أو في السقوف، ونحوه، وذلك في البيوت فقط، لأن النص جاء بخصوص البيوت. والبيوت المعدة لسكن الإنسان، بضرورة الحس والعقل واللغة والشرع، غير الشارع، وغير المزرعة، وغير الأرض الفضاء، وغير الأسواق، وغير الأماكن العامة.
أما القول بالحرمة، أو حتى الحرمة المغلظة، كما يزعم البعض، فلا دليل عليه يعتد به مطلقاً. والظاهر أن من قال بالحرمة المغلظة لم يفرق بين «صنع» التماثيل والصور، الذي جاء فيه الوعيد الشديد، وبين «الانتفاع» بها، وهما قضيتان متباينتان، وحكمهما كما بينا مختلفان. ولعل البعض قاس هذا على هذا، من غير علة شرعية مشتركة ثابتة، وهذا من أفسد القياس وأقبحه.
وبهذا أو بعضه قال السلف، كما يظهر من القصة التالية التي حصلت لابن عباس، رضي الله عنهما:
* الذي جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا يزيد أخبرنا بن أبي ذئب عن شعبة قال: (دخل المسور بن مخرمة على بن عباس يعوده في مرض مرضه فرأى عليه ثوب استبرق وبين يديه كانون عليه تماثيل فقال له يا أبا عباس ما هذا الثوب الذي عليك قال وما هو قال استبرق قال والله ما علمت به وما أظن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عنه الا للتجبر والتكبر ولسنا بحمد الله كذلك، قال فما هذا الكانون الذي عليه الصور قال بن عباس الا ترى كيف أحرقناها بالنار).
* وهو في «مسند ابن الجعد»: أخبرنا بن أبي ذئب عن شعبة بمثله، إلا أنه زاد: ( فلما خرج المسور قال انزعوا هذا الثوب عني واقطعوا رؤوس هذه التماثيل والطيور!). وهو في «المعجم الكبير» من طريق ابن الجعد: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل ثنا علي بن الجعد ثنا بن أبي ذئب عن شعبة به.
* وهو في «مسند أحمد» بأتم رواية: [حدثنا أبو النضر عن ابن أبي ذئب عن شعبة به، إلا أنه زاد: (فلما خرج المسور قال انزعوا هذا الثوب عني واقطعوا رءوس هذه التماثيل قالوا يا أبا عباس لو ذهبت بها إلى السوق كان أنفق لها مع الرأس قال لا فأمر بقطع رؤوسها)].
قلت: أبو عبد الله شعبة بن دينار، مولى ابن عباس، صدوق، وإنما تكلموا في حفظه، ولم يرو عنه مالك، فلما سئل قال: (لم يكن يشبه القراء)، وهذه ليست بجرحة معتبرة، لا سيما أن هذه قصة شهدها وعايشها، وليس مجرد كلام رواه، وبقية الإسناد أئمة كبار أثبات.
فإن صح هذا، والأرجح أنه صحيح ثابت، فها هو ابن عباس يستخدم في بيته تماثيل مجسمة منصوبة على كانون. نعم: اعترض المسور بن مخرمة على ذلك، ولكن ابن عباس أفقه وأعلم. أما أمر ابن عباس بقطع رؤوسها، وعدم انزالها السوق، فهو ليس ضرورة رجوعاً عن رأيه ذلك، وهو على الأرجح، للخروج من الحرج وكثرة الاعتراض والمسائلة لأنه رأى أصحابه لا يوافقونه في الرأي ولا يستسيغون الصور فأحب أن لا يحرجهم. والعالم المتبوع كثيراً ما يفعل هذا، فيترك بعض المباحات، خروجاً من الإشكال والحرج.
وقد حصل للإمام محمد بن سيرين ما حصل لابن عباس من إكثار الناس للنقد والكلام فخرج من الحرج، والقيل والقال، فأمر بإيعاد الوسائد ذات التصاوير:
* كما هو في «مصنف ابن أبي شيبة»: [حدثنا ابن علية عن ابن عون قال: كان في مجلس محمد وسائد فيها تماثيل عصافير فكان أناس يقولون في ذلك فقال محمد: (إن هؤلاء قد أكثروا فلو حولتموها؟!). مع أنه كان لا يرى بذلك بأساً كما قال أبو بكر بن أبي شيبة: (حدثنا ابن إدريس عن هشام عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا بما وطىء من التصاوير)]، وهذه من أصح أسانيد الدنيا، فلا شك من ثبوت هذا كله عن ابن سيرين، رحمه الله.
وظاهر كذلك من قصة ابن عباس أن تلك الكوانين كانت تباع في السوق وكانت التماثيل تزيدها قيمة من غير نكير، والمدينة مملوءة بالصحابة والتابعين. وكان الأولى بالإمام مالك وهو يزعم أن عمل أهل المدينة دليل وحجة أن يقول بهذا بدلاً من كراهية «البنات» التي هي لعب الأطفال، خلافاً للنصوص اليقينية!
وكذلك القصة التالية عن سالم بن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهم:
* كما هي في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا حفص بن غياث ثنا ليث قال: دخلت على سالم بن عبد الله وهو متكئ على وسادة فيها تماثيل طير ووحش فقلت أليس يكره هذا قال لا إنما يكره ما نصب نصبا حدثني أبي عبد الله بن عمر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «من صور صورة عذب (وقال حفص مرة كلف)، أن ينفخ فيها وليس بنافخ»]. قلت: قد فرق سالم هنا بين استخدام الصورة، وبين عملها.
* وهي بأطول من هذا في «شرح معاني الآثار»: [حدثنا يزيد بن سنان قال ثنا أبو كامل قال ثنا عبد الواحد بن زياد قال ثنا الليث قال: (دخلت على سالم بن عبد الله وهو متكئ على وسادة حمراء فيها تصاوير قال فقلت أليس هذا يكره فقال لا إنما يكره ما يعلق منه وما نصب من التماثيل وأما ما وطئ فلا بأس به)، قال ثم حدثني عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة حتى ينفخوا فيها الروح يقال لهم أحيوا ما خلقتم»].
ومثل هذا مذكور عن عكرمة، مولى ابن عباس، رضي الله عنهما:
* كما هو في «سنن البيهقي الكبرى»: [وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد أنا إسماعيل بن محمد الصفار نا سعدان بن نصر نا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن عكرمة قال: (كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بما وطئته الأقدام بأسا)]، كانوا: يعني مشايخه وعلماء عصره في جمهورهم.
* وقال ابن سعد في «الطبقات الكبرى»: [أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا قيس بن الربيع عن جابر عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال أصاب عقيل بن أبي طالب خاتما يوم مؤتة فيه تماثيل فأتى به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنفله إياه فكان في يده قال قيس فرأيته أنا بعد]
* وقال الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في «العلل ومعرفة الرجال»: [وجدت في كتاب أبي بخط يده حدثنا إبراهيم بن خالد المؤذن قال حدثنا رباح عن معمر قال أخرج عبد الله بن محمد بن عقيل خاتما نقشه تماثيل زعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لبسه مرتين أو نحو ذلك فغسله بعض من كان معنا وشرب ماءه]، قلت: هو نفس الخاتم المذكور في القصة السابقة، وغسله بعض القوم وشربوا الماء تبركاً لأن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لبسه.
* وفي «العلل ومعرفة الرجال» أيضاً: [قرأت على أبي قال ونسخنا من كتاب الأشجعي يعني مما أعطاهم ابنه عن سفيان عن أبي شراحيل عن أبي معشر قال كان إبراهيم يصلي على البساط فيه تماثيل]، فهذا إبراهيم النخعي، رحمه الله، لا يرى بأساً بالصلاة على الصورة إذا كانت موطوءة ممتهنة في البساط!، وكذلك هو رأي عروة بن الزبير:
* كما هو في تاريخ ابن معين (رواية الدوري): [حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالصلاة على البساط فيه تصاوير]
* وفي «مصنف ابن أبي شيبة» روايات جمة عن السلف في هذا الخصوص، منها: [
ــ حدثنا ابن علية عن ليث قال كان إبراهيم يكرهه: الرجل يتكئ على المرافق المصورة
ـــ حدثنا حفص عن الجعد رجل من أهل المدينة قال حدثتني بنت سعد أن أباها جاء من فارس بوسائد فيها تماثيل فكنا نبسطها
ــ حدثنا ابن فضيل عن ليث قال رأيت سالم بن عبد الله متكئا على وسادة حمراء فيها تماثيل فقلت له فقال إنما يكره هذا لمن ينصبه ويصنعه.
ــ حدثنا ابن مبارك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل الطير والرجال
ــ حدثنا ابن علية عن علقمة عن محمد بن سيرين قال نبئت عن حطان بن عبد الله قال أتى علي صاحب لي فناداني فأشرفت عليه فقال قرئ علينا كتاب أمير المؤمنين يعزم على من كان في بيته ستر منصوب فيه تصاوير ما وضعه فكرهت أن نبيت عاصيا فقمنا إلى قرام لنا فوضعته قال محمد كانوا لا يرون ما وطىء وبسط من التصاوير مثل الذي نصب
ــ حدثنا إسماعيل عن أيوب عن عكرمة قال كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها
ــ حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن عكرمة قال كان يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا ولا يرون بأسا بما وطئت الأقدام
ــ حدثنا ابن يمان عن عثمان بن الأسود عن عكرمة بن خالد قال لا بأس بالصورة إذا كانت توطأ
ــ حدثنا ابن يمان عن الربيع بن المنذر عن سعيد بن جبير قال لا بأس بالصورة إذا كانت توطأ
ــ حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن عبد الملك عن عطاء في التماثيل ما كان مبسوطا يوطأ ويبسط فلا بأس به وما كان ينصب فإني أكرهه
ــ حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري أنه كان يكره التصاوير ما نصب منها وما بسط
ــ حدثنا ابن علية عن أيوب عن عكرمة قال إنما الصورة الرأس فإذا قطع فلا بأس
ــ حدثنا يحيى بن سعيد عن سلمة بن بشر عن عكرمة في قوله الذين يؤذون الله ورسوله قال أصحاب التصاوير
ــ حدثنا أزهر عن ابن عون قال دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير لقندس والعنقاء
ــ حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله قال كانوا لا يرون بما وطىء من التصاوير بأسا والله أعلم
ــ حدثنا عبد السلام عن ليث عن مجاهد أنه كان يكره أن يصور الشجر المثمر]
وفي الملحق مزيد من ذلك، كما رواه الإمام الحافظ في «الفتح»، فأنت ترى أن الخلاف والنزاع في هذه المسألة قديم، ولم يزده تطاول الزمن إلا شدة، وليس أحد دون رسول الله حجة، فوجب الرد إلى الله ورسوله، لا غير: {فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً}، وقد فعلنا ذلك أعلاه متباعدين عن الأقيسة الفاسدة، والمزاعم المجردة، بعد تحرير النصوص التي يجوز نسبتها إلى الله ورسوله، فلله الحمد والمنة، ونسأله مزيداً من فضله، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، عليه نتوكل، وبه نتأيد.
وصلى الله وبارك على خير خلقه، خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، الرسول النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
نصوص مختارة، ودراسة لبعض الأسانيد
* جاء في «المستدرك على الصحيحين»: [أخبرنا عبد الله بن الحسين القاضي ثنا الحارث بن أبي أسامة ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ثنا عيسى بن المسيب ثنا أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دور لا يأتيها فشق ذلك عليهم فقالوا يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن في داركم كلباً»، قالوا: (إن في دارهم سنوراً؟!)، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «السنور سبع». وقال الحاكم: (حديث صحيح ولم يخرجاه وعيسى هذا تفرد عن أبي زرعة الا انه صدوق ولم يجرح قط)، وعقب الذهبي في التلخيص: (قال أبو داود ضعيف يعني عيسى بن المسيب، وقال أبو حاتم ليس بالقوي). قلت: إن كان الحاكم رحمه الله أراد آنه لم يتهم بكذب قط فنعم، أما التضعيف لقلة الضبط فهو قول الأكثر من الأئمة، فهذا الإسناد لا تقوم به الحجة، غير أن النفس مطمئنة إلى صحة الحديث، وسلامة متنه.
* وهو في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق الحاكم مع متابعة للحارث بن أبي أسامة: [أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس الدوري ثنا أبو النضر (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا العباس بن الحسن القاضي ثنا الحارث بن أبي أسامة ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ثنا عيسى يعني بن المسيب قال حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة به. ثم قال البيهقي: (أخبرنا أبو سعد الماليني قال قال أبو أحمد بن عدى الحافظ عيسى بن المسيب صالح فيما يرويه، وأخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه قال قال علي بن عمر الحافظ عيسى بن المسيب صالح الحديث)
* وهو في «سنن الدارقطني» مع تعقيب الدارقطني المشار أليه آنفاً عند البيهقي: [ثنا الحسين بن إسماعيل نا أحمد بن منصور نا أبو النضر نا عيسى بن المسيب حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة به]. ثم قال الدارقطني: (تفرد به عيسى بن المسيب عن أبي زرعة وهو صالح الحديث).
* وفي «سنن البيهقي الكبرى» متابعة أخرى: أخبرناه أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس بن محمد ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ثنا عيسى يعني بن المسيب قال حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة به.
* وفي «الكامل في ضعفاء الرجال» مع تعقيب ابن عدي الذي أشار إليه البيهقي: حدثنا الحسين بن محمد بن مودود قال ثنا هوبر بن معاذ الكلبي قال ثنا مسكين الحذاء عن عيسى بن المسيب عن أبي زرعة عن أبي هريرة به، وقال ابن عدي: (وهذا لا يرويه غير عيسى بن المسيب بهذا الإسناد ولعيسى بن المسيب غير هذا الحديث وهو صالح فيما يرويه)
فأنت ترى أن عيسى بن المسيب البجلي، قاضي الكوفة، مختلف فيه، وهو إلى الضعف أقرب: قال يحيى بن معين
كوفي ضعيف ليس بشيء)، وقال النسائي: (ضعيف)، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم
سألت أبى عن عيسى بن المسيب فقال: محله الصدق، ليس بالقوي، قلت هو أحب إليك أم بكير بن عامر قال بكير أثبت عندي)، وقال أبو زرعة: (شيخ، ليس بالقوي). وقال الدارقطني، وكذلك ابن عدي: (صالح الحديث)، وتناقض فيه ابن حبان فذكره في المجروحين ثم عاد فعده في «الثقات»، وأخرج له في صحيحه. ومال الحافظ إلى التضعيف فقال في «التقريب»: (ضعيف).
* جاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [قوله درنوكا زاد مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام على بابي والدرنوك بضم الدال المهملة وسكون الراء بعدها نون مضمومة ثم كاف (ويقال فيه درموك بالميم بدل النون، قال الخطابي هو ثوب غليظ له خمل إذا فرش فهو بساط وإذا علق فهو ستر) قوله فيه تماثيل زاد في رواية أبي أسامة عند مسلم فيه الخيل ذوات الأجنحة واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد قال النووي وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وهو قول الثوري ومالك وأبي حنفية والشافعي ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له فإن كان معلقا على حائط أو ملبوسا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام قلت وفيما نقله مؤاخذات منها أن بن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالإجماع سواء كانت مما يمتهن أم لا وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة وحكى القرطبي في المفهم في الصور التي لا تتخذ للابقاء كالفخار قولين أظهرهما المنع قلت وهل يلتحق ما يصنع من الحلوى بالفخار أو بلعب البنات محل تأمل وصحح بن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت سواء كانت مما يمتهن أم لا وإن قطع رأسها أو فرقت هيئتها جاز وهذا المذهب منقول عن الزهري وقواه النووي وقد يشهد له حديث النمرقة يعني المذكورة في الباب الذي بعده وسيأتي ما فيه ومنها أن إمام الحرمين نقل وجها أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له ما كان على ستر أو وسادة وأماما على الجدار والسقف فيمنع والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعا فيخرج عن هيئة الامتهان بخلاف الثوب فإنه بصدد أن يمتهن وتساعده عبارة مختصر المزني صورة ذات روح إن كانت منصوبة ونقل الرافعي عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع وقال المتولي في التتمة لا فرق ومنها أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب ولو كان معلقا على ما في خبر أبي طلحة لكن إن ستر به الجدار منع عندهم قال النووي وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقا وهو مذهب باطل فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك ومع ذلك فأمر بنزعه قلت المذهب المذكور نقله بن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح ولفظه عن بن عون قال دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء ففي إطلاق كونه مذهبا باطلا نظر إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله الا رقما في ثوب فإنه أعم من أن يكون معلقا أو مفروشا وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبا من كونه مصورا ومن كونه ساترا للجدار ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم فأخرج من طريق سعيد بن يسار عن زيد بن خالد الجهني قال دخلت على عائشة فذكر نحو حديث الباب لكن قال فجذبه حتى هتكه وقال أن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قال فقطعنا منه وسادتين الحديث فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور فلا يساويه الثوب الممتهن ولو كانت فيه صورة وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة وكان من أفضل أهل زمانه وهو الذي روى حديث النمرقة فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح وأن الذي رخص فيه من ذلك ما يمتهن لا ما كان منصوبا وقد أخرج بن أبي شيبة من طريق أيوب عن عكرمة قال كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها ومن طريق عاصم عن عكرمة قال كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام ومن طريق بن سيرين وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير فرقهم أنهم قالوا لا بأس بالصورة إذا كانت توطأ ومن طريق عروة أنه كان يتكىء على المرافق فيها التماثيل الطير والرجال]
* جاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [قوله وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم زادت عائشة في ساعة يأتيه فيها أخرجه مسلم قوله فراث عليه بالمثلثة أي أبطأ وفي حديث عائشة فجاءت تلك الساعة ولم يأته قوله حتى أشتد على النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة وفي يده عصا فألقاها من يده وقال ما يخلف الله وعده ولا رسله وفي حديث ميمونة عند مسلم نحو حديث عائشة وفيه أنه أصبح واجما بالجيم أي منقبضا قوله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه فشكا إليه ما وجد أي من إبطائه فقال له إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب في هذا الحديث اختصار وحديث عائشة أتم ففيه ثم ألتفت فإذا جرو كلب تحت سريره فقالت يا عائشة متى دخل هذا الكلب فقالت وأيم الله ما دريت ثم أمر به فأخرج فجاء جبريل فقال واعدتني فجلست لك فلم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك وفي حديث ميمونة فظل يومه على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه فلما أمسى لقيه جبريل وزاد فيه الأمر بقتل الكلاب وحديث أبي هريرة في السنن وصححه الترمذي وابن حبان أتم سياقا منه ولفظه أتاني جبريل فقال أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية النسائي إما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بسطا توطأ وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أن الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه باقية على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت من هيئتها إما بقطعها من نصفها أو بقطع رأسها فلا امتناع وقال القرطبي ظاهر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قيل إن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقما في الثوب وظاهر حديث عائشة المنع ويجمع بينهما بان يحمل حديث عائشة على الكراهة وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز وهو لا ينافي الكراهة قلت وهو جمع حسن لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه والله تعالى أعلم]