رد: الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية
السلام عليكم
بارك الله في الجميع وجزاكم الله خيرًا.
،،
http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=756&p=114553&viewfull=1#post114553
ذهب عُلماء الأصول إلى أن المُراد من أصول الفقه معرفة أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها وحال المُستفيد - الإبهاج شرح المنهاج (1/ 19). أو هو استنباط الفروع الفقهيّة من أدلتها، والمُراد بأدلة الفقه ما كان مُتّفقًا عليها أو مُختلفًا فيها، أما المثتّفق عليها فهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وأما المُختلف فيها، مثل: الاستحسان، والاستصلاح، والعُرف وغير ذلك.
فالأصولي يبحث في هذه الأدلة الإجمالية ليتوصل من خلالها إلى القواعد التي تمكِّنه من فهم الأحكام واستخراجها من مصادرها، وذلك مبني على أن أصول الفقه تعني: إدراك القواع التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه. وهو ما قاله الكمال بن الهمام، وذلك يعني: أن أصول الفقه هو العِلم بالقواعد التي يتبيَّن منها كيفيَّة استنباط الأحكام العمليَّة من أدلتها التفصيليَّة. وعلى هذا يتقرَّرُ في علم الأصول: أن الأمر يقتضي الوجوب، وأن النهي يقتضي التحريم، وأن الدليل المانع مُقدَّمٌ على الدليل المثبيح، وأن الخاص مُقدَّم على العام وأن المتواتر مقدَّم على الآحاد - انظر: مقدمة الدكتور محمد مدكور، كتاب "تخريج الفروع على الأصل" للزنجاني، تحقيق الدكتور محمد أديب صالح ص(29).
فالقاعدة الأصوليَّة: منشؤها النص الشرعي وما تحفُّه من دراسات لغويَّة وبيانيَّة، واستقراء للأساليب والصيغ العربية، وعلوم قرآنية وحديثية، فمن هذه العناصر والمقوِّمات نشأت القاعدة الأصولية وتخلَّقت، ثم صارت ناضجة كاملة مستوية.
أما القاعدة الفقهية: فهي لم تنشأ إلَّا بعد مُباشرة القضايا الحياتيَّة ومواجهتها باستنباط ما يُناسبها من الأحكام الشرعية بواسطة القواعد الأصولية، فهي إنما تنشأ بعد القواعد الأصولي ونضجها، بالاعتماد عليها في العملية الفقهية الاستنباطية، وهي أيضًا لم تنشأ إلَّا في خِضم الفروع والجُزئيَّات والأحداث والوقائع التي تعجّ بها الدنيا، حيث لم يجد الفقهاء لجمع هذا الركام من الفروع، وحصر هذا السيل من القضايا الجزئية، والنوازل اليومية، وضبطه، وحفظه إلا القواعد الفقهية الكلية التي كانت هي الوسيلة الكبرى للضبط والحصر والتقييد.
وبدونها كان الفقيه اليوم يحتاج في الفتوى والاستنباط والتخريج والتفريع إلى القناطير المقنطرة والأحمال الموقرة من الكتب - قواعد الفقه الإسلامي، للدكتور محمد الروكي ص(119).
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة -كما في كتابه "مالك، آراؤه وفقهه" ص(236- 237)-: "القواعد الفقهية متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع؛ لأنها جمع لأشتاتها وربط بينها، وجمع لمعانيها، أما الأصول: فالفرض الذهني يقتضي وجودها قبل الفروع؛ لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط ككون ما في القرآن مُقدَّمًا على ما جاءت به السُّنة، وأنَّ نصَّ القرآن أقوى من ظاهره، وغير ذلك من مسالك الاجتهاد، وهذه مقدَّمة في وجودها على استنباط الفروع بالفعل، وكون هذه الأصول كشفت عنها الفروع ليس دليلًا على أن الفروع متقدمة عليها، بل هي في الوجود سابقة والفروع لها دالَّة كاشفة، كما يدل المولود على والده، وكما تدل الثمرة على الغراس، وكما يدل الزرع على نوع البذور". اهـ. وراجع: القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية، للدكتور ناصر بن عبدالله الميمان ص(131).
ويذكر الدكتور الندوي -كما في القواعد الفقهية له ص(462)- الفرق الأساسي بين قواعد أصول الفقه وقواعد الفقه، فيقول: "إن القاعدة الأصولية هي وسط بين الأدلة والأحكام، فهي التي يستنبط بها الحكم من الدليل التفصيلي. وموضعها دائمًا الدليل والحُكم. أما القاعدة الفقهية فهي قضية كُليَّة أو أكثرية جُزئياتها بعض مسائل الفقه، وموضعها دائمًا فعل المثكلَّف". اهـ.
ويُمكن القول: "بأن قواعد أصول الفقه: هي أدوات المُجتهد التي يستعين بها على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، وقواعد الفقه: هي مرجع الفقيه والمُفتي الذي يستعين به على معرفة واستحضار أحكام كثيرة من مسائل الفقه المُتشابهة" - مقدمة تحقيق إيضاح المسالك للونشريسي، كتبها الدكتور الصداق محمد الغرياني ص(32- 33).
هذا، وقد تتّحد القاعدة الفقهية مع القاعدة الأصولية في لفظها ونصّها ولكن يختلف استعمال الفقيه لها عن استعمال العالم بأصول الفقه، فمثلًا: قاعدة الأمر هل يقتضي التكرار أم لا؟ إذا استخدمها عالم الأصول يقول: الأمر يقتضي التكرار، كما في قوله تعالى: (أَقِيمُواْ الصَّلَاةَ) [الأنعام: 72]، ويقتضي المرة كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّواْ) -أخرجه مُسلم في صحيحه (1337)، (2/ 975)-. والفقيه يستخدم هذه القاعدة استخدامًا آخر، فيقول: إنْ قُلنا: إن الأمر يقتضي التكرار، فيتعدد طلب حكاية الأذان بتعدد المؤذنين، وإن قُلنا: إن الأمر لا يقتضي التكرار فلا تطلب إعادة حكاية الأذان بتعدد المؤذنين، وهكذا. انظر: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام أبي عبدالله مالك ص(32).
وهكذا يُمكن إبراز أهم الفروق بين القواعد الأصولية والفقهية -بإيجاز- فيما يأتي:
1- من جهة الاستمداد: فعلم الأصول مُستمد من ثلاثة أشياء، هي: علم الكلام، والعربية، وتصور الأحكام -انظر: الإحكام للآمدي (1/ 9)، ومختصر المنتهي (1/ 32)، وشرح الكوكب المنير (1/ 48)-. أما القواعد الفقهية فإنها مُستمدّة من الأدلة الشرعية، أو المسائل الفرعية المتشابهة وأحكامها -انظر: القواعد للحصني: مقدمة التحقيق للدكتور عبدالرحمن بن عبدالله الشعلان ص(25)، والقواعد الوضوابط الفقهية عند ابن تيمية للدكتور ناصر الميمان ص(131)-. ذكر ذلك بعض علماء الأصول.
2- من جهة متعلقهما: فالقواعد الأصولي متعلقة بالأدلة الشرعية، أما القواعد الفقهية فهي متعلقة بأفعال المكلفين.
فمثال القاعدة الأصولية: الأمر يقتضي الوجوب. فهذه القاعدة متعلقة بكل دليل في الشريعة فيه أمر.
ومثال القاعدة الفقهية: اليقين لا يزول بالشك. فهذه القاعدة متعلقة بكل فعل من أفعال المكلفين تيقنه أو تيقن عدمه، ثم شك في العكس - انظر: القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية ص(131).
3- من جهة المُستفيد منها: فالقاعدة الأصولية يستفيد منها المُجتهد خاصة، حيث يستعملها عند استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها. أما القاعدة الفقهية فيُمكن أن يستفيد منها الفقيه والمُتعلِّم؛ حيث إن كل قاعدة تشتمل على حكم كلي لعدد من المسائل فالرجوع إليها أيسر من الرجوع إلى حكم كل مسألة على حدة - انظر القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي للدكتور محمد الزحيلي ص(21- 22).
4- من جهة توقف كل منهما على الأخرى في استنتاجها: فالقاعدة الأصولية لا يتوقف استنتاجها والتعرف عليها على قاعدة فقهية، بخلاف العكس، فإن القاعدة الفقهية يتوقف استنتاجها على القاعدة الأصولية - انظر: الأصول العامة للفقه المقارن للدكتور محمد تقي الحكيم ص(43).
5- من جهة المسائل: فمسائل علم القواعد هي: القواعد الفقهية من حيث التطبيق على الفروع، أما مسائل علم أصول الفقه؛ فهي عائدة إلى أربعة أركان: الحكم، والدليل، وطُرق الاستنباط، وشروط المُستنبط - انظر: القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية ص(132).
وبهذا يظهر أن العلاقة بين هذين النوعين من القواعد هي: العموم والخصوص الوجهي حيث يجتمعان في وجه هو: أن كُلًّا من قواعد العلمين يندرج تحته فروع، ويختلفان فيما عدا ذلك من نوع هذه الفروع المندرجة وكيفية اندراجها.
ويُراجع: أثر الخلاف الفقهي في القواعد المختلف فيها للدكتور محمود إسماعيل مشعل، الصفحات(217- 221).
والله أعلم.