العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

القواعد الكاشفة عن الخطأ في الاعتبار بالقاعدة الفقهية لـ د.لخضر بوغفور

حمزة محمد ميسوم

:: متابع ::
إنضم
3 يوليو 2011
المشاركات
66
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
.......................
المدينة
حصن الماء
المذهب الفقهي
اتباع الدليل
القواعد الكاشفة عن الخطأ في الاعتبار بالقاعدة الفقهية
د. لخضر بوغفور
(مجلة الوعي الإسلامي)

ينقدح في ذهن البعض منا أن ربط أحكام الشارع بكلياته وقواعده الكبرى غاية سهلة المنال بالنظر إلى بعض مسلماته وجلياته، ولكن ما إن يسبر هذا المسلك على حقيقته، وينتقل بين أنواعه، وينظر في دقائقه، ويعالج تطبيقاته، ويقف على غامضه وعويصه حتى يدرك خطأ ما عنّ له وظنّه. قال ابن تيمية في إشارة إلى بعض محال هذا العسر: «اعلم أن تعليق الأحكام بالأسباب المقتضية حصول المصالح من الأحكام أمر مضبوط، فأمّا الحكم والمصالح فإن تعليق الأحكام بها عسير؛ لكونها قد تكون خفية، وقد تكون غير مضبوطة»(1).
وإذا كان هذا العسر واردا على النظر المصلحي، فهو كذلك بالنسبة إلى التقعيد الفقهي على معناه الاصطلاحي الخاص؛ لعمق الاشتراك بينهما من جهة الاعتبار بالمقاصد في كليهما، ومن جهة أخرى لما يكتنف هذا المجال من خلاف في جملة واسعة من مفرداته، ومن ثم تشكلت فكرة بحث موضوع قوادح ما بني على الاعتبار بخصوص القاعدة الفقهية بهدف أن يشرق نور الصواب لطارق مثل هذه المسالك، ويزداد لها إحكاما على حد مقولة القائل: «لولا الخطأ ما أشرق نور الصواب»(2).
ويعظم بحث هذه القوادح في زمننا هذا الذي عظمت فيه الجرأة على تقحم مجال الفتوى بناء على ملاحظة جملة من القواعد الفقهية الشهيرة؛ كالحال بالنسبة إلى قاعدة الحاجة، وقاعدة استباحة المحظور بالضرورة وغيرهما من القواعد.
وإذا كانت هذه المشكلة قد عانت منها الأمة قديما، فكيف بحالنا اليوم؟! قال الشاطبي في صدد تحذيره من التساهل في إعمال قاعدة الرخص: «ربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدّعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب، أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب، فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم؛ فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر. ومحال الضرورات معلومة من الشريعة، فإن كانت هذه المسألة منها، فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع، فلا حاجة إلى الانتقال عنها، وإن لم تكن منها، فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش، ودعوى غير مقبولة....»(3).
والقدح في التقعيد الفقهي أو أي استدلال يرد على سبيل القطع، ويرد على سبيل الظن الغالب الذي يقوى حتى يقارب القطع، وربما تراجع هذا الظن حتى ظهر في مقابله رأي المخالف وعسر نوعا ما القدح فيه ودق.
وعسى ما ورد في هذه البحوث من قدح لا يخرج عن هذه الرتب؛ فإنه إذا نزل عن هذه الرتب هوى إلى مجرد الوهم الذي لا يوجد ما يسنده.

المبحث النظري: القوادح

القادح الأول: فساد الاعتبار، وهو في معناه الاصطلاحي العام -الذي يتعلق بكل دليل يرد عليه القدح- هو كما قال سيدي عبدالله العلوي الشنقيطي:
والخلف للنص أو إجماع دعا...فساد الاعتبار كل من وعى(4)

وأما فيما يتعلق ببحثنا فيمكننا حده بأنه: «قادح مخالفة الفرع المبني على القاعدة الفقهية للوحي أو الإجماع».
وإن أيسر طريق وأظهره وأقواه دلالة على كشف خطأ الاعتبار بالقاعدة الفقهية في الاستدلال الفقهي هو أن يثبت الخصم مخالفة الناظر لنص من كتاب أو سنة صحيحة، أو لإجماع ثبت واستقر لعلماء الأمة في زمن معين.

القادح الثاني: المنع، وهو: «منع مقدمة فأكثر من مقدمات الدليل»(5).
وأما فيما يتعلق ببحثنا فيمكننا حده بأنه: «قادح عدم تسليم الخصم بصحة القاعدة الفقهية ذاتها أو غيرها من مقدمات التقعيد الفقهي».

القادح الثالث: المعارضة، وهي: «مقابلة الخصم للمستدل بمثل دليله أو بما هو أقوى منه». قاله الباجي(6).
وأما فيما يتعلق ببحثنا فيمكننا حده بأنه: «قادح معارضة الخصم للاستدلال بالقاعدة الفقهية بمعنى أقوى منها في الاعتبار».
ومن ذلك القدح في المناسبة بإبداء مفسدة أرجح أو مساوية، أو العكس بالنسبة إلى المصلحة مع المفسدة المعتبرة.

القادح الرابع: القلب، وهو: «مشاركة الخصم للمستدل في دليله، ومعنى ذلك أن يستدل المستدل على إثبات حكم بدليل ما يدعي اختصاصه به، فيقلبه السائل ويطبق عليه ضد ذلك الحكم بالدليل نفسه». وهذا التعريف مستفاد من كلام الباجي في حدوده(7)، إلا أنه خص شرحه له بدليل القياس، وأطلقته ليوافق المعنى العام(8).
وأما فيما يتعلق ببحثنا فيمكننا حده بأنه «قادح إبداء الخصم نقيض حكم المستدل بعين القاعدة الفقهية».

القادح الخامس: القول بالموجب، وهو: «تسليم الدليل مع بقاء النزاع». قاله ابن السبكي(9)، وأما فيما يتعلق ببحثنا فيمكننا حده بأنه: «قادح نفي الخصم دلالة القاعدة الفقهية على محل النزاع».

المبحث التطبيقي: آراء فقهية في ضوء القوادح الكاشفة
التطبيق الأول: أورده القاضي عبدالوهاب المالكي في صدد حديثه عن المسح على الخفين للمقيم، حيث نقل عن الإمام مالك روايتين في المسألة، وكان مما علل به رواية المنع أن «المسح جوز لضرورة السفر بانقطاع المسافر عن صحابته ورفقته بتشاغله بخلع خفيه كل وقت أراد الطهارة، وهذا معدوم في الحضر...»(10). وهذا الاستدلال يرجع إلى قاعدة الشريعة في أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها(11).
ولكن يرد عليه قادح فساد الاعتبار لكونه يخالف ما ورد في سنة المصطفى من شمول هذا الحكم للسفر والحضر معا(12).
ومن ذلك ما جاء في الصحيح أن عليا "رضي الله عنه" سئل عن المسح على الخفين فقال: جعل رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم(13).
بل نقل بعضهم ما يفيد استقرار الإجماع على جواز المسح في الحضر قبل زمن مالك، ومن هذا قول ابن عبدالبر: «عمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين أجمعين، وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار، وجماعة أهل الفقه والأثر كلهم يجيز المسح على الخفين في الحضر والسفر للرجال والنساء»(14).
وإذا ثبت هذا كانت رواية المنع أيضا فاسدة الاعتبار من جهة مخالفتها لهذا الإجماع.
ويمكننا أيضا القدح في هذا التقعيد بقادح المنع، ذلك أن الحكمة التي جوز من أجلها المسح -وهي دفع المشقة المصاحبة لنزع الخفين(15)- موجودة في حال الترحال والإقامة، فهي وإن كانت أبلغ في حق المسافر من جهة مبادرته وعدم استقراره في مكان، فإن المقيم لا يخلو منها، خصوصا في حال البرد الشديد الذي لا يفرق بين مكان ومكان.
قلت: ولربما عظمت هذه المشقة في حق المقيم أكثر من جهة أخرى، ألا وهي لزوم كل صلاة في وقتها وكثرة ما يتوضأ عادة مقارنة مع المسافر الذي يترخص بالجمع بين الصلوات الرباعية.

التطبيق الثاني: أورده أيضا القاضي عبدالوهاب في صدد حديثه عن المسح على الجرموق(16)، حيث نقل عن الإمام مالك روايتين في المسألة، وكان مما علل به رواية المنع أن «المسح على الخف رخصة ولا يقاس عليها..»(17)، وهذا الاستدلال يرجع إلى ما قعده بعضهم من عدم جواز القياس على الرخص الشرعية.
وهي قاعدة مختلف فيها، وعن الإمام نفسه روايتان فيها، قال القرافي في بيان تعليلهما: «حجة المنع: أن الرخص مخالفة للدليل، فالقول بالقياس عليها يؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل، فوجب ألا يجوز.
حجة الجواز: أن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك الدليل عملا بالاستقراء، وتقديم الأرجح هو شأن صاحب الشرع، وهو مقتضى الدليل، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي لأجلها خولف الدليل في صورة وجب أن يخالف الدليل بها عملا برجحانها، فنحن حينئذ كثرنا موافقة الدليل لا مخالفته»(18).
وكما يظهر جليا من هذا التعليل فرواية الجواز من القوة بمكان طردا لاعتبار الشارع الحكيم للمصالح المتجددة وطردا لأصل القياس.
وبناء عليه لا يسلم التقعيد الفقهي لهذه المسألة ما دامت القاعدة الفقهية نفسها غير مسلمة، ويرد عليه حينئذ قادح المنع.

التطبيق الثالث: تشدد الأحناف في المسح على العمامة، ومنعوه بالكلية بناء على أنه لا حرج في نزعها(19).
وهذا الاستدلال -كما هو ظاهر- يرجع إلى الاعتبار بمفهوم قاعدة المشقة تجلب التيسير، ولكنه فاسد الاعتبار لمخالفته لما ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة، وفيه أنه " صلى الله عليه وسلم" لما توضأ مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه(20).
ويمكننا أيضا أن نورد على هذا القول قادح المنع من نفيهم مطلق الحرج فيما لو نزعها، قال ابن عثيمين: «الحكمة من المسح على العمامة لا تتعين في مشقة النزع، بل قد تكون الحكمة أنه لو حركها ربما تنفل أكوارها.
ولأنه لو نزع العمامة، فإن الغالب أن الرأس قد أصابه العرق والسخونة فإذا نزعها، فقد يصاب بضرر بسبب الهواء؛ ولهذا رخص له المسح عليها»(21).

التطبيق الرابع: سبقت الإشارة في مقدمة هذا البحث إلى خطأ من يحمل القاعدة الفقهية ما لا تحتمل فيوردها على محل النزاع مع عدم انطباقها عليه، ومن ذلك ما صنعه أحمد أبو المجد حينما مثل لما يمكن أن يتغير من الأحكام بتغير الزمان بسنة إعفاء اللحية، معتبرا إياها تشريعا زمنيا متغيرا، ورام تأييد رأيه بما قرره العز في قواعده من أن كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل(22).
وهذا التقعيد الفقهي المقاصدي من أبي المجد يرد عليه قادح القول بالموجب؛ حيث إن هذه القاعدة لا تنطبق على مسألتنا هذه، بل ستظل هذه السنة النبوية محصلة لمقاصدها الجليلة من مسايرة الفطرة ومخالفة الكفار وظهور المسلم في أشرف هيئة.
قال ولي الله الدهلوي -في صدد تعليله لحديث النبي " صلى الله عليه وسلم" : «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية...» الحديث(23)-: «هذه الطهارة منقولة عن إبراهيم عليه السلام متداولة في طوائف الأمم الحنيفية وأشربت في قلوبهم، ودخلت في صميم اعتقادهم، عليها محياهم، وعليها مماتهم عصرا بعد عصر، ولذلك سميت بـ«الفطرة»، وهذه شعائر الملة الحنيفية، ولا بد لكل أتباع ملة من شعائر يعرفون بها، ويؤاخذون عليها، ليكون طاعتها وعصيانها أمرا محسوسا، وإنما ينبغي أن يجعل من الشعائر ما كثر وجوده، وتكرر وقوعه، وكان ظاهرا، وفيه فوائد جمة تقبلها الناس أشد قبول.
والجملة في ذلك: أن بعض الشعور النابتة من جسد الإنسان يفعل فعل الأحداث في قبض الخاطر، وكذا شعث الرأس واللحية، وليرجع الإنسان في ذلك إلى ما ذكره الأطباء في الشرى(24) والحكة وغيرهما من الأمراض الجلدية: أنها تحزن القلب وتذهب النشاط.
واللحية هي الفارقة بين الصغير والكبير، وهي جمال الفحول وتمام هيئتهم فلا بد من إعفائها. وقصها(25) سنة المجوس، وفيه تغيير خلق الله ولحوق أهل السؤدد والكبرياء بالرعاع...»(26).

التطبيق الخامس: منع جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة من ترخص المسافر العاصي بسفره، كأن يكون عبدا آبقا من سيده أو خرج لقطع الطريق على المسلمين. ومن جملة ما استندوا إليه القاعدة الفرعية: الرخص لا تناط بالمعاصي(27).
ومما ذكروه أيضا أن: «الترخص شُرِع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة، فلو شرع ها هنا لشرع إعانة على المحرم تحصيلا للمفسدة، والشرع منزه عن هذا»(28)، وهذا يشبه أن يكون رجوعا منهم إلى القاعدة الكلية: الوسائل لها أحكام المقاصد.
ولكن كلا التقعيدين أباه المخالفون من الحنفية ومن وافقهم، فأوردوا على الأول ما يمكننا اعتباره قادح المنع، فإنهم لا يسلمون للجمهور بالقاعدة الفرعية السابقة.
وأيدوا رأيهم في خصوص رخصة السفر بأن النصوص الشرعية الواردة في ترخص المسافر جاءت مطلقة وخلت من قيد إباحة السفر، قال ابن تيمية: «لم ينقل قط أحد عن النبي " صلى الله عليه وسلم" أنه خص سفرا من سفر مع علمه بان السفر يكون حراما ومباحا، ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات، ولو بين ذلك لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئا»(29).
وأما التقعيد الثاني فيمكننا القول إنهم قدحوا فيه بقادح القول بالموجب، حيث نفوا انطباق القاعدة على مسألتنا، فإن السفر نفسه ليس بمعصية، وإنما المعصية ما تكون بعدما صار مسافرا كما في مثال قطع الطريق أو ما تكون مجاورة للسفر كما في مثال إباق العبد، ومن ثم يصلح أن يكون السفر سببا للرخصة جريا على مبدأ انفكاك الجهة(30).
كما غلط ابن تيمية هذا التقعيد الفقهي المقاصدي من جهة معارضته لأمر الشارع للمسافر بأن يقصر الصلاة، وفي هذا أيضا تنبيه إلى قادح فساد الاعتبار على غرار ما جاء في نص كلامه السابق(31).

التطبيق السادس: يعد ابن تيمية من أبرز المانعين لزيارة النساء للمقابر، ومن جملة ما استند إليه في اختياره كون مصلحة الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة؛ بناء على أن الشارع قصد إقامة الأولى على سبيل اللزوم الكفائي، وليس شيء من ذلك في الثانية. ومن ثم نتج عنده أنه إذا نهي عن الأولى فالنهي عن الثانية من باب أولى؛ جريا على قاعدة الشريعة المعلومة في تقديم رتبة الفروض على رتبة السنن والمستحبات.
قال: «مطلق الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة؛ لأن في ذلك الصلاة عليه التي هي أعظم من مجرد الدعاء؛ ولأن المقصود بالاتباع الحمل والدفن، والصلاة فرض على الكفاية، وليس شيء من الزيارة فرضا على الكفاية... فإذا كان النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية، ومصلحته أعظم إذا قام به الرجال، فما ليس بفرض على أحد أولى»(32).
وهذا التقعيد الفقهي المقاصدي من ابن تيمية يرد عليه قادح القلب، حيث كان ينبغي -فيما ظهر لي- أن يؤدي إلى عكس الحكم الذي توصل إليه؛ ذلك أن الاتباع لما كان فرض كفاية علم أن مصلحته الأصلية ترجع إلى الميت، وناسب قيام الرجال به وكراهته للنساء لضعفهن عن هذه المقامات، وأما الزيارة فإن مصلحة التذكر قصدها الشارع الحكيم أصالة للأعيان؛ فناسب الإذن بها لهن من باب أولى، وإن لم تكن فرضا.
ويمكننا أيضا أن نورد على هذا التقعيد قادح فساد الاعتبار من جهة مخالفته لما ثبت في الصحيحين دالا على مشروعية زيارة المرأة للقبور، ومن أصرحه ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك "رضي الله عنه" قال: مر النبي " صلى الله عليه وسلم" بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري»، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه..الحديث(33). وروى مسلم من حديث عائشة خروج النبي " صلى الله عليه وسلم" في إحدى الليالي إلى البقيع للاستغفار لأهله وعائشة رضي الله عنها في إثره، وفي آخره: «فقال -يعني جبريل عليه الصلاة والسلام-: إن ربك يأمرك أن تأتي على أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟! قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين..» الحديث(34).
ويرد عليه أيضا قادح المعارضة بإبداء المصلحة الراجحة التي رتبها الشارع الحكيم على زيارة القبور في حال أمنت عليهن وبهن الفتنة، فقد روى مسلم عن بريدة "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها..» الحديث(35). وزاد أبو داود والترمذي -واللفظ له-: «فإنها تذكر الآخرة»، وحكم عليه بأنه حسن صحيح(36).
ولا ريب أن كلا الجنسين بحاجة ماسة إلى تذكر الآخرة.

التطبيق السابع: أفتى علماء متأخرون من الحنفية بجواز بيع الوفاء، وحقيقته: «البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه»(37).
ومن جملة ما فرع عنه هذا الرأي قاعدة أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ومقصود المتعاقدين هنا هو الرهن وليس البيع(38).
وجمهور العلماء على فساده لكون «اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام. وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطا فاسدا يفسد البيع باشتراطه فيه.
ولأن البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء، وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم، وهو إعطاء المال إلى أجل، ومنفعة المبيع هي الربح»(39).
وإذا تأملنا في هذين الدليلين وجدناهما راجعين إلى قادح المعارضة وقادح القلب، وبيانه كالآتي:
أما قادح المعارضة فمن جهة معارضة الاعتبار بهذه القاعدة بمعنى قوي في الاعتبار أيضا، وهو إفضاء هذه المعاملة إلى مخالفة مقتضى البيع في التسليط الكامل ليد المشتري على المبيع.
وأما قادح القلب فمن جهة قلب هذا التقعيد الفقهي على قائله؛ ذلك أن قاعدة الالتفات إلى مقاصد العقود تفضي بنا إلى منع هذه المعاملة لكونها صارت ذريعة يحتال بها على الربا.

التطبيق الثامن: دلت آية النساء دلالة قطعية على إباحة تعدد الزوجات إباحة دائمة بشرط العدل، ولكن رأى علال الفاسي المغربي تعطيل هذا الحكم في خصوص عصره اعتمادا على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وذهب إلى وجوب منع هذا التعدد منعا باتا من طرف الحكومة(40).
وقد خرج رأيه هذا على قاعدة الشريعة في تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام(41).
ويعني بذلك تحمل الضرر الناتج عن منع فئة من الناس من هذا التعدد في سبيل دفع الضرر اللاحق بالإسلام وأهله جراء استعماله، ومما قال في بيان ذلك: «لا شك أن منع الأفراد من تعديد النساء إضرار بهم؛ لأنه منع لهم من إرضاء حاجاتهم وعاداتهم، ولكنه إضرار في الحاضر بالمسلمين عموما لما يحدثه من مشاكل لا تحصى. كما أنه إضرار بالإسلام نفسه؛ لأن تطور المرأة وصل إلى درجة لا تقبل معه مثل ذلك النظام الذي كان سائدا في بعض عهود الحضارة، وتحميلها ذلك يؤدي بها إلى الطعن في الدين أو الالتجاء إلى المطالبة بتشريعات منافية للدين... »(42).
وقال أيضا: «أصبح سوء استعمالنا للتعدد مدخلا لكثير من أعداء الإسلام الذين يتخذونه حجة على ديننا فيحول بينهم وبين فهم الدعوة الإسلامية»(43).
ومحصله استرسال مفرط في بعض المفاسد وغفلة عن محاسن هذا الحكم الشرعي ومصالحه الجمة التي يجلبها، والمفاسد الكبرى التي يدرأُها عن المجتمعات الإنسانية في وقت عمت فيه الإباحية وطمت.

فهذا التقعيد الفقهي من علال الفاسي يرد عليه قادح المعارضة من جهتين:
الجهة الأولى: أنه معارض بالمصالح الراجحة التي يجلبها التعدد على المجتمعات البشرية، وهي مشهورة لا نطيل في سردها، وقد شهد بهذا بعض المنصفين من غير المسلمين؛ فهذا المستشرق الفرنسي الشهير جوستاف لوبون(44) يسطر شهادته فيقول: «إن نظام تعدد الزوجات نظام حسن يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تمارسه، ويزيد الأسر ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تجدهما في أوروبا»(45).
الجهة الثانية: أنه معارض أيضا بالمفاسد الشنيعة الناجمة عن تعميم هذا المنع، فلربما لجأ كثير ممن ضعف وازعهم الديني -وهم يعلمون عواقب القانون الرادعة عن مخالفة هذا المنع- إلى الوقوع في الزنا والفجور بغية تلبية شهوته الجامحة. وهنا نسجل أيضا شهادة بعض الغربيين المنصفين، فقد جاء في مقال لكاتبة بريطانية -بعد أن وصفت حالة الإباحية المفرطة البائسة التي وصلت إليها بنات قومها-ما ملخصه: «أدرك العالم تومس الداء ووصف الدواء الشافي: وهو أن يباح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت. فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة. فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شرودًا، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال. ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل الزواج بأكثر من واحدة....» (46).
وهكذا إذا تجرد العقل الغربي عن الوهم والهوى لم يسعه إلا إجلال هذا التشريع الرباني، والاقتراب من أنوار شريعتنا بدلا من الإعراض عنها. وانحراف بعض المسلمين في تطبيقها لا يلزم منه سد الباب على الجميع على شاكلة غيره من الحقوق.
وفي الأخير فإنني أوصي بدراسة استقرائية تحليلية نقدية تطبيقية لظاهرة الخطأ في الاعتبار بالقاعدة الفقهية، قديما وحديثا، لا تقتصر على المسالك الكاشفة عنه كما نبهت عليها في هذه العجالة، بل تغوص في ملابسات هذا النوع من الخطأ من حيث جوانبه وأسبابه وآثاره وغير ذلك من المتعلقات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل لابن تيمية 1/117.
(2) نقله الخطيب البغدادي عن عبدالله بن المعتز في كتابه: الفقيه والمتفقه 2/8.
(3) الموافقات 5/99.
(4) نظم: مراقي السعود للشيخ عبدالله العلوي، رقم البيت: 799، ص99.
(5) انظر: التحبير شرح التحرير للمرداوي 7/3691،، ونثر الورود على مراقي السعود للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 2/555.
(6) الحدود في الأصول للباجي، ص79.
(7) ص77.
(8) انظر أيضا: جمع الجوامع لابن السبكي 2/311.
(9) جمع الجوامع 2/316. وانظر: التحبير شرح التحرير 7/3674.
(10) الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبدالوهاب المالكي 1/131، وانظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1/18.
(11) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص84، وشرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا ص187.
(12) انظر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1/199.
(13) صحيح مسلم، رقم: 276 (85)، ص141.
(14) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبدالبر 11/137.
(15) انظر: روضة الناظر لابن قدامة ص171. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية(37/262): «الحكمة من المسح على الخفين التيسير والتخفيف عن المكلفين الذين يشق عليهم نزع الخف وغسل الرجلين خاصة في أوقات الشتاء والبرد الشديد، وفي السفر وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السفر».
(16) هو ما يلبس فوق الخف. الصحاح 4/1454، وانظر: المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربي ص119.
(17) الإشراف 1/135.
(18) شرح تنقيح الفصول للقرافي ص324، وانظر: موسوعة القواعد الفقهية 8/907.
(19) انظر: حاشية ابن عابدين 1/457، والموسوعة الكويتية 30/305.
(20) انظر صحيح مسلم، رقم: 276، 274(81)، ص140.
(21) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/238.
(22) انظر: مقال: التجديد في الإسلام (ضمن كتابه: حوار لا مواجهة)، ص65، أحمد كمال أبو المجد، الكويت، مجلة العربي، 1985م، والقواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام 2/249.
(23) أخرجه مسلم في صحيحه، برقم: 261 (56)، 1/223.
(24) خراج صغار لها لذع شديد، الصحاح، للجوهري 6/2391.
(25) قص الشعر في اللغة هو قطعه. انظر مثلا: الصحاح، للجوهري 3/1052، والقاموس المحيط، 2/311، الفيروزآبادي، ومن ثم فيستقيم حمل عبارته هذه على حلق اللحية فهو شعار المجوس، لا على مجرد الأخذ منها، وسباق كلامه لما ذكر ما يحدثه شعث اللحية على النفس يؤيد هذا الحمل.
(26) حجة الله البالغة ولي الله الدهلوي، 1/565.
(27) انظر: المغني لابن قدامة 3/115، والذخيرة للقرافي 2/367، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني 1/403، والأشباه والنظائر للسيوطي ص138، وموسوعة القواعد الفقهية للبورنو القسمان 3و4/401.
(28) المغني 3/115.
(29) الفتاوى 24/109. وانظر: البناية في شرح الهداية للعيني 3/40، وحاشية ابن عابدين 3/403.
(30) انظر: البناية في شرح الهداية 3/40.
(31) انظر: الفتاوى 24/112.
(32) الفتاوى لابن تيمية 24/347،.
(33) صحيح البخاري -واللفظ له-، رقم: 1283، ص252، وصحيح مسلم، رقم: 926 (15)، ص411.
(34) صحيح مسلم، رقم: 974 (103)، ص431-433.
(35) المصدر السابق، رقم: 977 (106)، ص434.
(36) سنن أبي داود، رقم: 3235، 3/362، وسنن الترمذي، رقم: 1054، 2/357؛ كما جاءت هذه الزيادة عند أحمد في مسنده من حديث علي "رضي الله عنه" ، رقم: 1236، 2/397، وجاءت أيضا عند ابن ماجة في سننه، رقم: 1571، 3/94.
(37) الموسوعة الكويتية 9/48.
(38) انظر: القواعد الفقهية، 14-15.
(39) الموسوعة الكويتية 9/260. وانظر: الفتاوى 29/334. وقد جاء أيضا بعدم جواز هذه المعاملة قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، انظر مجلته: ع7/ج3/ص557.
(40) انظر: النقد الذاتي، ص275. علال الفاسي، ط: 1.
(41) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص183، علال الفاسي، ط: 5، وانظر في تقرير هذه القاعدة: الأشباه والنظائر، ص96، ابن نجيم، وشرح القواعد الفقهية للزرقا، ص197.
(42) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص183.
(43) النقد الذاتي ص276.
(44) من فلاسفة علم الاجتماع الفرنسيين، وهو مستشرق منصف إلى حد بعيد لم يدافع عن حضارة العرب فحسب، بل دافع عن حقوق المسلمين أيضا، من كتبه: سر تطور الامم، حضارة العرب، توفي سنة 1931م. كتاب: في الميزان غوستاف لوبون، لشوقي أبو خليل ص12.
(45) نقلا عن: تعدد الزوجات في الإسلام، ص80. عبدالتواب هيكل.
(46) نقلا عن تفسير المنار، 4/360
 

اسماء وليد

:: متابع ::
إنضم
28 أغسطس 2013
المشاركات
24
التخصص
فقه مقارن
المدينة
الموصل
المذهب الفقهي
الدليل الصحيح هو مذهبي
رد: القواعد الكاشفة عن الخطأ في الاعتبار بالقاعدة الفقهية لـ د.لخضر بوغفور

جزيتم خيرا وبارك الله فيكم... ولكن ارجو بيان الفرق بين معنى القاعدة الفقهية والتقعيد الفقهي؟
 
أعلى