العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

القول بالموجبّ، أحد الأسئلة الواردة على القياس

إنضم
27 مارس 2008
المشاركات
365
التخصص
أصول الفقه
المدينة
قسنطينة
المذهب الفقهي
حنبلي
القول بالموجبّ، أحد الأسئلة الواردة على القياس
للشيخ الأستاذ الدكتور
محمد علي فركوس
حفظه الله تعالى


يرى بعض الأصوليين أنّ أصل الأسئلة الواردة على القياس وهي المعبر عنها -أيضا- بالاعتراضات من فن الجدل، وهو ما اختاره أبو حامد الغزالي، حيث اعتبرها كالعلاوة على علم أصول الفقه(٣). غير أنّ جمهورهم جعلوها من علم الأصول، لكونها من مكملات القياس المعدود من أصول الفقه، ومكمل الشيء من ذلك الشيء، لذلك أطنب جماعة من الأصوليين في ذكر مباحث المنطق والعربية والأحكام الكلامية لهذه الشبهة، وهي كونها من موارده ومكملاته(٤).
وهذه الأسئلة قد ترد من مستفيد يقصد معرفة الحكم خالصا، أو من معاند يقصد –من وراء السؤال- قطع حجة خصمه في حكم حادثة من الأقيسة، حيث يعترض على صلاحية العلّة التي تمسك بها المستدل لإبطال تمسكه بالقياس، أو يسلّم المعترِض بمقتضى دليل المستدل مع بقاء الحكم المتنازع فيه، فمن هذه الأسئلة ما يقدح في العلة فقط كالنقض والمعارضة، ومنها ما ترد على الدليل والعلّة أو غيرها كالقول بالموجب.
فحقيقة القول بالموجب إذن هي: "تسليم ما جعله المستدل موجبا لدليله مع بقاء الخلاف"(٥).
بمعنى أن يسلّم المعترض مدلول الخصم مع بقاء النزاع في الحكم، وذلك بجعل المدلول الذي سلّمه الخصم ليس هو محل النزاع، أي ورود دعوى نصب الدليل في غير محلّ النزاع، غير أنّ ما عرف به الحدّ لا يجعله يختص بالقياس بل يصلح لكلّ دليل، لذلك جعله البيانيون من جملة أنواع البديع(٦)، ومثلوا له بقول الشاعر علي بن فضل المجاشعي القيراوني:
وإخوانٍ حسبتُهم دروعاً فكانوها ولكن للأَعَادي
وخلتُهم سهاما صائبات فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صَغَت منّا قلوبٌ لقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعينا كل سعي لقد صدقوا ولكن في فسادي(٧)
وبقول ابن الحجاج:
قلت: ثقلتُ إذا أتيت مرارا قال: ثقّلت كاهلي بالأيادي
قلت: طوّلتُ قال: أولَيتَ طولا قلت: أبرمتُ قال: حبلَ ودادي(٨)
ومن شواهده في القرآن الكريم قوله تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ..."(٩)، حيث ورد تعقيبا على قول عبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ "(١٠)، فأراد إثبات حكم الإخراج من المدينة بواسطة الصفة المذكورة وهي العزّة، فكان أن ردّ عليه بأنَّ تلك الصفة ثابتة، لكن لغيره لا لمن أراد إثباتها لنفسه، مع بقاء مقتضى الحكم وهو الإخراج، بمعنى أنّ العزة ثابتة لكن لا له وإنّما لله ولرسوله وللمؤمنين(١١).
ومنهم من حدّه:" بتسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع فيه "، قال ابن المنير:" وهو غير مستقيم لأنّه يدخل فيه ما ليس منه، وهو بيان غلط المستدل على إيجاب النية في الوضوء بقوله: "في أربعين شاة شاة"، فقال المعترض: أقول بموجَب هذا الدليل لكنّه لا يتناول محلّ النزاع، فهذا ينطبق عليه الحدّ وليس قولا بالموجَب، لأنّ شرطه أن يظهر عذر للمستدل في الغلط، فتمام الحد أن يقال:" هو تسليم نقيض الدليل مع بقاء النزاع حيث يكون للمستدل عذر معتبر"(١٢).
هذا ويمكن تعريفه بقولنا: "هو التسليم بمقتضى الدليل المنحرف عن محلّ النزاع"، وهذا التعريف-في نظري- يدفع الإشكال الوارد على التعريفات السابقة من جهة عدم الشعور بتحقق ولاود الدليل على حكم المسألة المتنازع فيها، لأنّ الاستدلال على غير محلّ النزاع لا يمكن القول بموجَبه، والاستدلال على غير محلّ النزاع لا يُعتدّ به، ومنه يستفاد تسليم المعترِض ما يظن المستدل بأنّ المأتي به متضمن لمطلوبه في حكم المسألة المتنازع فيها، مع كونه غير متضمّن.
والفرق بينه وبين المعارضة أنّ حاصله يرجع إلى خروج الدليل عن محلّ النزاع، والمعارضة فيها اعتراف بأنّ للدليل دلالة على محلّ النزاع.
ومن أمثلة القول بالموجَب ما يأتي:
- كاحتجاج المستدلّ على أنّ الوقوف في الصلاة في السفينة فرض، لأنّه فرض في الصلاة في غير السفينة، فوجب أن يكون فرضا فيها كسائر الفروض.
فيقول المخالف: أقول بموجَب هذه العلة، فإنّ القيام عندي فرض في السفينة إذا كانت واقفة، وإنّما النزاع فيما إذا كانت جارية(١٣).
كقول المستدل في الإجارة : إنّها لا تنفسح بالموت، لأنّ الموت معنى يزيل التكليف فلا يبطل الإجارة مع سلامة المعقود عليه كالجنون والإغماء.
فيقول الخصم: أسلم بموجَب هذه العلّة، لأنّ الذي يزيل التكليف هو الموت، والموت لا يبطل الإجارة، وإنّما يبطلها انتقال الملك، فلو انتقل بغير موت بطلت الإجارة، وإن لم يوجد الموت المزيل للتكليف(١٤).


مورد القول بالموجب


ودعوى المستدلّ التي يرد عليها القول بالموجب أربعة مواضع:
الأول: أن ينصب المستدلّ دليله على إبطال ما يظنه مدركا لخصمه ومأخذا لمذهبه، يعني استنتاج من الدليل إبطال ما يتوهم منه أنّه مبنى الخصم في المسألة المتنازع فيها، والخصم يمنع ذلك، وعليه فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه. وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب على المسائل والمناظرات من جهة أنّ خفاء المآخذ والمدارك أغلب من خفاء الأحكام ومحالِّ الخلاف بالنظر إلى قلة العارفين بها والمطلعين على أسرارها، ولهذا قد يشترك الخواص والعوام في معرفة الحكم المنقول عن الإمام دون اشتراكهم في معرفة مداركه ومبانيه، ومن ثَمّ ورود احتمال الخطأ في مأخذ الإمام أقرب من احتمال الخطأ في الحكم المدلول عليه فيما ينسب إليه(١٥).
ومثاله: قول المستدلّ في مسألة القتل بالمثقل: "التفاوت في الوسيلة(١٦) لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه "(١٧).
فيقول المعترض الحنفي: " أقول بموجَب هذا الدليل ولكن لا يلزم من إبطال مانع انتفاء جميع الموانع، وإثبات وجوب القصاص لجواز انتفاء المقتضي لذلك، أو وجود مانع آخر أو فوات شرط"(١٨).
الثاني: أن يستنتج المستدل من الدليل ما يتوهمه محلّ النزاع أو لازم محلّ النزاع، وليس الأمر كذلك.
مثال: كمن يستدلّ على أنّ من أتى حدا خارج الحرم ثمّ لجأ إلى الحرم فإنّه يستوفى منه الحدّ لوجود سبب جواز الاستيفاء منه فكان جائزا.
فيقول الخصم: " أسلم بموجَب دليلك، وأنّ استيفاء الحدّ جائز، وأنا أنازع في هتك حرمة الحرم، وليس في دليلك ما يقتضي جوازه"(١٩).
مثال آخر: قول المستدلّ : "القتل بمثقل قتل بما يقتل غالبا، فلا ينافي القصاص، فيجب فيه القصاص قياسا على الإحراق بالنار".
فيقول المعترض: " أسلم بعدم المنافاة بين القتل بمثقل وبين ثبوت القصاص، غير أنّ عدم المنافاة ليس محلّ النزاع أو لازمه وليس في دليلك ما يستلزم وجوب القصاص"(٢٠).
الثالث: أن يعترض المستدلّ لحكم يمكن للمعترض أن يحمله بالتسليم على الصورة المتفق عليها، ويبقى الخلاف قائما فيما عداها.
مثاله: قول المستدلّ في وجوب زكاة الخيل : "حيوان تجوز المسابقة عليه فوجبت فيه الزكاة قياسا على الإبل".
فيقول الخصم: "أنا أقول بموجَبه، وعندي أنّه تجب فيه زكاة التجارة، والنزاع إنّما هو في زكاة العين"(٢١).
الرابع: أن يسكت المستدل في دليله عن صغرى غير مشهورة(٢٢) من قياسه خشية منع الخصم لها حال التصريح بها.
مثاله: قول المستدل في اشتراط النية في الوضوء والغسل: " كلّ ما هو قربة شرطه النية كالصلاة"، ويسكت عن مقدمة قياسه وهي: "الوضوء والغسل قربة".
فيقول الخصم: " هذا مسلم أقول بموجَبه أنّ ما فيه قربة يشترط فيه النية، ولا يلزم اشتراطها في الوضوء والغسل"(٢٣)، لأنّ المقدمة الواحدة لا تنتج، فلو صرح المستدل بالصغرى لمنعها الخصم وخرج عن القول بالموجب(٢٤).

طرق دفع القول بالموجب

ويدفع المستدل القول بالموجب بحسب الاعتبارات من المواضع السابقة على ما يأتي:
الأول: وجواب المستدلّ على القول الموجب في الاعتبار الأول يكون بالطرق التالية:
1/ أن يبين المستدل حكم محلّ النزاع منه بوجود مقتضيه ممّا ذكره في دليله إن قدر على بيانه.
مثاله فيما تقدم في مسألة القتل بالمثقل، فللمستدلّ أن يجيب عن الخصم بقوله : " إن سلمت أن تفاوت الآلة لا يمنع القصاص، فالقتل المزهق هو المقتضي والتقدير أنّه موجود".
أو يجيب: " بأنّه يلزم من كون التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص وجود مقتضى القصاص بناء على أنّ وجود المانع وعدمه قيام المقتضي، إذ لا يكون الوصف مانعا بالفعل إلا لمعارضة المقتضي فيستدعي وجوده، ولذلك لمّا كان الحكم يدور مع مقتضيه وجودا وعدما لم يصح عرفا الاهتمام بسلب المانع إلاّ عند قيام المقتضي، وإلاّ فالاهتمام بسبب المقتضي أولى"(٢٥).
2/ أن يبين المستدلّ أنّ الخلاف مقصود يعرض له في الدليل إمّا بإقرار أو باعتراف من المعترض، كأن يجيب المستدلّ: " بأنّ الكلام في محلّ النزاع وهو صحة بيع الغائب مثلا، لا فيما اعترض به الخصم وهو ثبوت خيار الرؤية وقد ورد فيه الاستدلال. وذلك فيما تيسر له وفي حدود الإمكان.
3/ أن يبين أنّ المسألة مشهورة بالخلاف بالنقل عن أئمة المذهب، كاستدلال المستدلّ في مسألة المديون لو ذكر في الدليل حكما أنّ الدين لا يمنع وجوب الزكاة، فيقول المعترض: " أسلم أنّه لا يمنع ذلك، لكن لم قلت أنّ الزكاة تثبت ؟ " فيجيب المستدل: "هذا القول بالموجب لا يُسمع لأنّ محل النزاع في هذه المسألة مشهورة "، والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه، ودعوى جهل بالمشهورات غير مقبولة(٢٦).
الثاني : أن يبين المستدل بأنه محل النزاع أو لازمه.
ومثاله أن يستدل في مسألة قتل المسلم بالذمي بقوله: " لا يجوز قتل مسلم بذمي قياسا على الحربي ".
فيقول الخصم: " أقول بالموجب، وهو عدم الجواز، بل يجب قتله به "، لأن المراد من قولهم: " لا يجوز " نفي الإباحة التي معناها استواء الطرفين، ونفيها ليس نفيا للوجوب ولا مستلزما له.
وللمستدل أن يجيب: " إن المعني بعدم الجواز تحريمه، ويلزم من ثبوت التحريم نفي الوجوب لاستحالة الجمع بين الضدين: الوجوب والتحريم "(٢٧).
الثالث: وطريق المستدلّ في الدفع أن يبين أنّ القول بالموجب فيه تغيير لكلام المستدل عن ظاهره فلا يكون قولا بموجبه.
ففي مسألة وجوب زكاة الخيل واعتراض الخصم بالقول بموجبه غير أنّه يحمله المعترض على الصورة المتفق عليها وهي زكاة التجارة، ويبقى النزاع في زكاة العين.
فللمستدلّ أن يجيب بأنّه: "إذا كان النزاع في زكاة العين، فإنّ ظاهر كلامي منصرف إليها بقرينة الحال، أو بتعريفنا للزكاة بالألف واللام في سياق الكلام فينصرف إلى موضع الخلاف ومحل الفتيا، ولأنّ لفظ الزكاة يعمّ زكاة العين والتجارة، فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة ولا يستقيم لأنّ موجب الدليل التعميم، والقول ببعض الموجب لا يكون قولا بالموجب بل ببعضه(٢٨).
هذا، وينقطع المعترض بإيراد القول بالموجب على وجه يغيّر كلام المستدل عن ظاهره لأنّ وجوده كعدمه.
ومثاله: فيما إذا قال المستدل في مسألة إزالة النجاسة: "مائع لا يزيل الحدث، فلا يرفع النجس والخبث، كالمرق".
فيقول المعترض: "أقول بموجبه، فإنّ الخل النجس –عندي- لا يزيل الحدث والخبث".
وللمستدل أن يجيب بأنّ ظاهر كلامه إنّما هو الخل الطاهر، ضرورة وقوع النزاع فيه، وهو معلوم من حال المستدل، واللفظ يتناوله، فلا يصح إيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره(٢٩).
الرابع: وطريق المستدل في الدفع أن يبين جواز الحذف لإحدى المقدمتين، مع العلم بالمسكوت عنه كونه مرادا ومعلوما، فلا يضر حذفه بدليل المجموع لا المذكور لوحده، لأنّ مراد المستدل أن الصغرى وإن كانت محذوفة لفظا فإنّها مذكورة تقديرا، والمجموع يفيد المطلوب.
هـذا، وله أن يدفع في الأنواع الأربعـة بقرينة أو بلام العهد، لأنّ العهد مـقـدم على الجنس والعموم أو نحوه(٣٠).


في إبداء مستند القول بالموجب



اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب كأن يقول: " التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص، ولكن لا يجب لانتفاء السبب"، أو يقول: " أسلم أنّ زكاة التجارة تجب في الخيل، لكن زكاة العين لا تجب، ويدل على عدم الوجوب ما يبديه من دليل".
فذهب بعضهم إلى إلزامه بإبداء المستند لقربه من ضبط الكلام وصونه عن الخبط، ولاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده كيلا يأتي به نكرا وعنادا على المستدل ليفحمه، وربما لم يكن خفاء في نفس الأمر فيفضي إلى تضييع فائدة المناظرة.
وذهب آخرون إلى عدم إلزامه بذلك، لأنّه وفّى بما هو حقيقة القول بالموجب وبقي الخلاف بحاله، فيظهر أنّ ما ذكره ليس بدليل، وعلى المستدل الجواب وهو أعرف بمأخذ مذهبه، فوجب تصديقه فيما ادعاه لغيره من الأخبار(٣١) واختاره الآمدي(٣٢).
والظاهر أنّ هذا الاختيار سديد في المعترض المتدين العدل، أمّا غير العدل المعروف بعناده وحب الانتصار على الخصم ولو بالاسترسال في الكلام الذي يخرجه عن قواعد الجدل، فإنّه يلزم مطالبته بمستند القول بالموجب تجنبا لإفحام المستدل بغير حق ولتضييع فائدة المناظرة ونشر الكلام.


في تسمية القول بالموجب اعتراضا



يذهب بعض أهل العلم إلى أنّ القول بالموجب لا يسمّى اعتراضا لأنّه مطابقة للعلة فلا يبطلها، فإذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى(٣٣).
والظاهر أنّ الخلاف لفظي، وقد عدّه إمام الحرمين من الاعتراضات الصحيحة، قال الزركشي: "والمقترح في تعليله: إن أرادوا بقولهم: لا يبطل العلة مطلقا فمسلم، فإنّها لا تبطل في جميع مجاريها، وإن أرادوا لا تبطل في محلّ النزاع فغير صحيح، فإنّه يلزم من القول بالموجب إبطال العلة في محلا النزاع، وهذا هو الذي تصدى المعترض له، وهو إبطال علة المستدل في المحل المتنازع فيه، فلم يصح قولهم: إنّه ليس مبطلا للعلة إلاّ على تقدير إرادة أنه لا يبطلها في جميع مجاريها"(٣٤).
في كون القول بالموجب قادحا في العلّة
جعل الفخر الرازي والآمدي والهندي وغيرهم القول بالموجب من قوادح العلة، ووجهوه بأنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإجماع غير متناولة لمحل النزاع، ولأنّه إذا كان تسليم موجب ما ذكر المستدل من الدليل لا يرفع الخلاف، علمنا أنّ ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي قصد إثباته.
وظاهر كلام الجدليين أنّه معارضة في الحكم لا قدح في العلة، لأنّ القول بموجب الدليل تسليم فكيف يكون مفسدا ؟(٣٥) قال التاج السبكي: " إنّ هذا التقدير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أنّ القول بالموجب تسليم له. وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عدّه من مبطلات العلة"(٣٦).
في اعتبار القول بالموجب انقطاعا
الظاهر ممّا نقل عن الجدليين أنّ في القول بالموجب انقطاعا لأحد المتناظرين، قال الخوارزمي: " إذا توجه القول بالموجب انقطع أحد الخصمين: إن بقي النزاع انقطع المستدل، وإن لم يبق النزاع انقطع السائل"(٣٧). وما ذكروه يصحّ في غير المورد الرابع المتقدم بالنظر إلى اختلاف مراد المستدل والمعترض، حيث أنّ مراد المستدلّّّ هو الاستدلال بمجموع ما يفيد المطلوب، لأنّ الصغرى المحذوفة لفظا مذكورة تقديرا. أمّا مراد المعترض فإنّ الصغرى عنده محذوفة والكبرى المذكورة وحدها لا تنتج فلا تفيد المطلوب، ومنه يتجلى تتباين المرادين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الجزائر في : 17 رمضان 1415هـ
الموافق : 17 فيفري 1995م
أ/ محمد علي فركوس



--------------------------------------------------------------------------------

١- "الموجب" بفتح الجيم، ومعناه : "القول بما أوجبه دليل المستدل"، أما "الموجب" بكسرها فهو : "الدليل المقتضي للحكم" (البحر المحيط للزركشي : ٥/٢٩٧).
٢- أنظر تفصيل الأصوليين لهذا المبحث في :
المعتمد لأبي الحسين : ٢/٨٢١، أصول الشاشي : ٣٤٦، المعونة في الجدل للشيرازي : ٢٤٦، المنهاج للباجي : ١٧٣، الجدل لابن عقيل : ٦٠، البرهان للجويني : ٢/٩٧٣، المنخول للغزالي : ٤٠٢، روضة الناظر لابن قدامة : ٢/٣٩٥، الإحكام للآمدي : ٣/١٧٠، البحر المحيط للزركشي : ٥/٢٩٧، إرشاد الفحول للشوكاني : ٢٢٨، المذكرة للشنقيطي : ٣٠٨.
٣- المستصفى للغزالي : ٢/٢٤٩.
٤- نزهة الخاطر العاطر لابن بدران ٢/٣٤٦
٥- أنظر : روضة الناظر : ٢/٣٩٥، إرشاد الفحول للشوكاني : ٢٢٨.
٦- أنظر : الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني : ٥٣٢-٥٣٦، شرح الكفاية البديعية للصفي الحلي : ٩٦.
٧- أنظر : لسان الميزان لابن حجر : ٤/٢٤٦، طبقات المفسرين للسيوطي : ٧٢، بغية الوعاة للسيوطي : ٣٤٥.
٨- الإيضاح للقزويني : ٥٣٣، شرح الكافية للصفي الحلي : ٩٦.
٩- جزء من آية ٨ من سورة المنافقون.
١٠- جزء من نفس الآية السابقة.
١١- أنظر : البحر المحيط للزركشي : ٥/٢۹۹، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ٤/٣٤٠، الإبهاج للسبكي وابنه : ٣/١٣٢.
١٢- انظر البحر المحيط للزركشي:٥/٢۹٨ ،إرشاد الفحول للشوكاني ٢٨٨
١٣- المنهاج للباجي : ١٧٣.
١٤- المصدر السابق نفس الصفحة، المعونة للشيرازي : ٢٤٦/٢٤٧.
١٥- أنظر : روضة الناظر لان قدامة : ٢/٣٩٧، الإحكام للآمدي : ٣/١٧٠ منتهى السول لابن الحاجب : ٢٠١، شرح العضد : ٢/٢٧٩، الإبهاج للسبكي وابنه : ٣/١٣٢.
١٦- أي التفاوت في آلة القتل من سيف أو رمح أو سهم أو رصاص أو مطرقة ونحو ذلك سواء كانت الآلة محددة أو مثقلة.
١٧- أي التفاوت في القتل كالطعن والقتل والجز وضرب العنق ونحو ذلك.
١٨- أنظر المصادر السابقة. والظاهر من اعتراض الحنفي في منع القصاص بالمثقل عدم تحقّق بعض أجزاء العلّة المركبة المتمثلة في العمدية حيث لا يلزم من قصده الضرب بالمثقل تعمد إزهاق روحه، ولهذه الشبهة جعله من الخطإ شبه العمد.
١٩- الإحكام للآمدي : ٣/١٧٠، نزهة الخاطر لابن بدران : ٢/٣٩٦.
٢٠- شرح الكوكب المنير للفتوحي : ٤/٣٤٢، المذكرة للشنقيطي : ٣٠٩.
٢١- روضة الناظر لابن قدامة : ٢/٤٠٠، الإحكام للآمدي : ٣/١٧١.
٢٢- يشترط في صغرى القياس المسكوت عنها أن تكون غير مشهورة، فلو كانت مشهورة فهي كالمذكورة، فللخصم منع الصغرى فقط ولا يأتي فيه القول بالموجب. وتكون مشهورة إذا كانت ضرورية أو متفقا عليها بين الخصمين (أنظر : شرح الكوكب المنير للفتوحي : ٤/٣٤٤، نشر البنود للعلوي : ٢/٢٢٨، المذكرة للشنقيطي : ٣١٠).
٢٣- الوضوء والغسل عند الأحناف طهارة معقولة المعنى وليست قربة (تبيين الحقائق للزيلعي : ١/٥، الاختيار لابن مودود : ١/٩، بداية المجتهد لابن رشد : ١/٨).
٢٤- نشر البنود للعلوي : ٢/٢٢٨، المذكرة للشنقيطي : ٣١٠.
٢٥- نزهة الخاطر العاطر لابن بدران : ٢/٣٩٨.
٢٦- روضة الناظر لابن قدامة : ٢/٣٩٨، الإحكام للآمدي : ٣/١٧١.
٢٧- شرح الكوكب للفتوحي : ٤/٣٤٥.
٢٨- روضة الناظر لابن قدامة : ٢/٤٠٠، الإحكام للآمدي : ٣/١٧١.
٢٩- نفس المصدرين السابقين.
٣٠- شرح الكوكب المنير للفتوحي : ٤/٣٤٦.
٣١- روضة الناظر لابن قدامة : ٢/٣٩٩، البحر المحيط للزركشي : ٥/٣٠١، إرشاد الفحول للشوكاني : ٢٩٩، نزهة الخاطر العاطر لابن بدران : ٢/٣٩٩.
٣٢- الإحكام للآمدي : ٣/١٧١.
٣٣- المنخول للغزالي : ٤٠٢.
٣٤- البرهان للجويني : ٢/٩٧٣، البحر المحيط للزركشي : ٥/٣٠٠.
٣٥- المحصول للرازي : ٢/٢/٣٢١، ٣٥٥، البحر المحيط للزركشي : ٥/٣٠٠، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ٤/٣٤٧، إرشاد الفحول للشوكاني : ٢٩٩.
٣٦- الإبهاج للسبكي وابنه : ٣/١٣٢.
٣٧- البحر المحيط للزركشي : ٥/٣٠١.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك ونفع بما تقوم به من طرق هذه الموضوعات الدقيقة والمهمة أيضا والتي تدل على دقة العلوم الشرعية وتقدم أهلها في معرفة مقتضيات البراهين بما لا تجده عند غير أهل الإسلام لاسيما إذا أخذنا بالاعتبار الزمن الذي نضجت فيه هذه المسائل.

وهذا بحث آخر في نفس هذه المسألة عنوانه "القول بالموجَب" للدكتور خالد العروسي
http://www.mmf-4.com/vb/showthread.php?t=986&highlight=%C7%E1%DA%D1%E6%D3%ED
 
إنضم
27 مارس 2008
المشاركات
365
التخصص
أصول الفقه
المدينة
قسنطينة
المذهب الفقهي
حنبلي
وفيكم يبارك الله أخي الحبيب
فؤاد
على طالب العلم أن يحي ويطرق مثل هذه الموضوعات و المهمات
التي تكاد
تندثر وتموت
فالله المستعان
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.

أحلام

:: متميز ::
إنضم
23 ديسمبر 2009
المشاركات
1,046
التخصص
أصول فقه
المدينة
........
المذهب الفقهي
.......
رد: القول بالموجبّ، أحد الأسئلة الواردة على القياس

فحقيقة القول بالموجب إذن هي: "تسليم ما جعله المستدل موجبا لدليله مع بقاء الخلاف"(٥).
بمعنى أن يسلّم المعترض مدلول الخصم مع بقاء النزاع في الحكم، وذلك بجعل المدلول الذي سلّمه الخصم ليس هو محل النزاع، أي ورود دعوى نصب الدليل في غير محلّ النزاع، غير أنّ ما عرف به الحدّ لا يجعله يختص بالقياس بل يصلح لكلّ دليل، لذلك جعله البيانيون من جملة أنواع البديع


الله يجزاكم خير
وهذا ليس قول أهل البيان فقط , وأيضاً هو قول بعض علماء الأصول ــــ وهو صحيح ـــــ إذ جعلوا الاعتراض بالقول بالموجب واقع أيضاً على الأدلة الأخرى , وغير مقصور فقط على القياس ؛ فقد ذكر ذلك غير واحد من علماء الأصول
كالقرافي في شرح التنقيح , إذ قال "والقول بالموجب يدخل في العلل والنصوص , وجميع ما يستدل به"
وقد ضرب مثال يبيِّن ذلك , نحو لو قال المستدل ,إن المحرم لا يغسل ولا يمس بطيب , لقول الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ في المحرم الذي وقصته راحلته :"لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً "
فقد يعترض عليه بالقول بالموجب كأن يقول أنا اسلم بصحة الدليل , ولكن ليس فيه ما يدل على صحة الدعوى بأن يشمل الأمر جميع المحرمين , لأن هذا الدليل مخصوص بشخص معين وقد ورد فيه النص , وليس فيه ما يدل على الشمول فلا يلتزم بموجبه .
ينظر: شرح التنقيح , ص(402 ـــ 403)
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وأيضاً ابن عقيل في الواضح , إذ اعتبره أحدى الأسئلة الواردة على دليل الكتاب , وبيان كيفيته : بأن يحتج المستدل بالآية الكريمة من ناحية الوضع اللغوي , فيعترض عليه الخصم بأن موجبها الوضع الشرعي , أو العكس
ومثل لذلك بتحريم المصاهرة بزنا , بقول البارئ الحكيم " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " فالنكاح في اللغة هو الوطء , فيصبح المراد من الآية "لا تطئوا ما وطئ آباؤكم"
فيقول المعترض أنا اسلم بصحة الدليل ولكن ليس فيه ما يدل على صحة الدعوى وهي أن التحريم يكون بالوطء , لآن النكاح هو العقد بالحقيقة الشرعية , ومراده " لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم "
ينظر: الواضح (2/128)
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وأيضاً محي الدين ابن الجوزي في الإيضاح , فقد جعل القول بالموجب بأنه أحد الاعتراضات الواردة على دليل الكتاب والسنة
وقد وذكر مجموعة من الأمثلة التي تبين صحة ذلك
ومن هذه الأمثلة ما يرد على دليل السنة
كأن يقول المستدل بأن خيار المجلس ثابت بالبيع لقول الرسول الكريم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"
فيقول المعترض
أنا أسلم بصحة الدليل ولكنه ليس محل الدعوى التي يتم ثبوت خيار المجلس من خلاله ,بل يثبت خيار القبول
وعلته أن الشارع قال "البيعان" وإنما يصدق هذا في حالة التشاغل بالبيع , أما بعده ــــ أي بعد البيع ــــ فإنه يطلق عليهما كانا متبايعين .
ينظر : الإيضاح في قوانين الجدل والمناظرة لابن الجوزي,ص(227)
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وقد يرد الاعتراض بالقول بالموجب على دليل الإجماع وهذا ما أظهره الدكتور سعد الشتري في معرض حديثه " الاعتراضات الواردة على دليل الإجماع " فقد فصَّل القول فيه وضرب مجموعة من الأمثلة تبيِّن ذلك
ومنها الإجماع الوارد على تحريم نكاح المرأة على عمتها
فإذا قال المستدل: لا يجوز العقد على ابنة أخ الزوجة مادمت حية بالإجماع
وقد حكى الإجماع ابن المنذر إذ قال " وأجمعوا أن لا تنكح المرأة على عمتها "
فيعترض عليه بالقول بالموجب , بأنه يسلم بدليل الإجماع , ولكن ليس فيه ما يدل على صحة الدعوى , وذلك لأن الإجماع إنما قد عُقِدَ على تحريم النكاح , والنكاح في اللغة هو الوطء , والحقيقة اللغوية مقدمة على غيرها
ينظر: قوادح الاستدلال بالإجماع ...., (449)
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
يقصد بخيار القبول : هو حق يثبت للطرف الثاني عند التعاقد , وذلك بعد صدور الإيجاب من الطرف الأول. ينظر الموسوعة الفقهية (39/ 267) )
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 
أعلى