العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المصلحة عند الطوفي: اضطراب وتناقض

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
المصلحة عند الطوفي: اضطراب وتناقض


تحدث الطوفي عن قضية تقديم المصلحة على النص والإجماع في معرض شرحه لحديث "لا ضرر ولا ضرار". والناظر فيما كتبه يجد فيه اضطرابا وكلاما غير دقيق يخالف ما هو واقع وثابت في الشريعة. والناظر في ما كتبه في ذلك الموضع يراه أحيانا معتدلا ضابطا لكلامه، وأحيانا أخرى يبلغ غاية الشطط، حتى تظن أنه لم يكتب ما كتبه في حال عقلية واحدة!
وفيما يأتي أبرز مواضع اضطرابه وتناقضه:

1- نجده -في معرض سعيه إلى إثبات أن رعاية المصلحة أمر قطعي- يتحدث عن أن نصوص الشريعة جاءت برعاية المصالح إجمالا وتفصيلا، ويذكر آيات كثيرة من القرآن الكريم تدل على رعاية المصالح، ثم يقول: "وبالجملة فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح."[1] وكذلك السنة النبوية "لأنها بيان الكتاب، وقد بيّنا اشتمال كل آية منه على مصلحة، والبيان على وفق المبيَّن."[2] وعلى النقيض من ذلك نجده في معرض سعيه إلى إثبات تقديم المصلحة على النصوص الشرعية في المعاملات والعادات، وادعاء أن المصلحة يجب أن تكون هي المعيار الوحيد في الحكم عليها، يصف النصوص الشرعية بأنها مُبْهَمَة ويشكِّك في كونها تؤدي إلى تحقيق المصالح، فيقول: "ثم إن الله عز وجل جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقا إلى المصلحة، ويحتمل أن لا يكون."[3] ويبلغ غاية الشطط ومنتهى الزلل حين يزعم أن النصوص الشرعية هي سبب الخلاف المذموم، ولذلك ينبغي تركها، وأن المصلحة حبل الله المتين الذي ينبغي التمسك به، فيقول: "النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعا، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه ولا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا، فكان اتباعه أولى. وقد قال الله عز وجل: (
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103) (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (الأنعام: 159)."[4] هكذا أصبحت المصلحة هي حبل الله المتين الذي إذا تمسكنا به لم نتفرق، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية هي التي جعلت المسلمين يفرقون دينهم ويكونون شيعا فينبغي تركها وتقديم المصلحة عليها!
انظر التناقض: عندما أراد إثبات قوله بقطيعة رعاية المصلحة مدح النصوص الشرعية وذكر أنها كلها تحتوي على المصالح، وبذلك يثبت كون رعاية المصلحة قطعيا. وعندما أراد إثبات تقديم المصلحة على النص انقلب وبدأ يقدح في النصوص الشرعية وجعلها سبب التفرق المذموم، وشكَّك في إمكانية تحقيقها للمصالح!

2- على الرغم من أن الطوفي يكرر في مواضع كثيرة أن قوله بتقديم المصلحة على النص إنما هو من باب التخصيص والبيان للنصوص، لا من باب الإلغاء لها، إلا أنه عند اقترابه من نهاية الحديث عن المسألة يصرح بأن طريقته "ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدَّرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام."[5] ومقتضى هذا الكلام إلغاء النصوص فيما يتعلق بالمعاملات والعادات. ولكنه بعد هذا الكلام بقليل يناقض نفسه مرة أخرى فيقول عن حال اختلاف النص مع المصلحة: "وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جُمِعَ، مثل أن يُحمل بعض الأدلة على بعض الأحكام أو الأحوال دون بعض، على وجه لا يُخل بالمصلحة ولا يفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، فإن تعذَّر الجمعُ بينهما قُدِّمت المصلحة على غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" وهو خاص في نفس الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيجب تقديمه."[6] ومقتضى هذا الكلام أننا إذا وجدنا نصا يؤدي إعمالُهُ إلى إحداث ضرر، فإنه يُنْظَر إذا أمكن الجمع بينه وبين حديث "لا ضرر ولا ضرار" بأن يُطبَّق ذلك النص بطريقة تنفي الضرر، فعلنا ذلك، وإن لم يمكن إعمالُهُ إلا بإحداث ضرر فإنه يُقدَّم نص "لا ضرر ولا ضرار" على النص الآخر لكونه خاصا بنفي الضرر. وهذا نوع من الموازنة بين النصوص الشرعية، وليس هو تقديم المصلحة على النص الشرعي، فلماذا هذه الجعجعة الكبيرة التي أقامها على تقديم المصلحة على النص وهي في النهاية لا تنتج طحينا؟!


3- يقول إن مبدأ رعاية المصلحة -أو ما يسميه دليل المصلحة- يُعد مخصِّصا للنصوص الشرعية التي تُعارِضُه، ومع ذلك يجعلهما شيئين متقابلين يخضعان للترتيب والتقديم والتأخير، فيقول بتقديم ما يسميه دليل المصلحة على النصوص الشرعية. يقول عن النص والإجماع: "إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها. فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار"، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدَّم السنة على القرآن بطريق البيان."[7]
وهذا كلام متناقض، فمن المعلوم أن المخصِّص (بالكسر) والمخصَّص (بالفتح) متممان لبعضيهما البعض ويُعدان جزئين لكلام واحد، وذلك أن العام لم يُرَدْ به العموم وما ورد الخاص بإخراجه من العام لم يكن دخوله في العموم مقصودا، ولذلك يعتبر التخصيص من باب البيان، حيث يكون المبيِّن (بالكسر) جزءا متمِّما للمبيَّن (بالفتح)، ولا يصح القول إن أحدهما مُقدَّم على الآخر؛ لأنهما عنصران يُتمِّم بعضهما البعض. ومعلوم في أصول الفقه أن التخصيص من باب الجمع بين الأدلة، وليس من باب تقديم دليل على آخر، وإنما يكون التقديم في حال التعارض الذي لا يمكن معه الجمع. ومن المعلوم أن السنَّة التي تبيِّن القرآن الكريم بالتخصيص أو التقييد أو غيرهما من أوجه البيان لا يُقال إنها قُدِّمت على القرآن الكريم، بل هي بيَّنت كيفية العمل بالنص القرآني، فصارت جزءا مُتمِّما لذلك النص.

4- يقول عن النص والإجماع: "إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها... وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما."[8] وهذا يعني أن نصوص الشرع تأتي بما يخالف المصلحة في المعاملات والعادات، وأن الإجماع ينعقد على تجويز فعل الضرر، ولذلك ينبغي رد النصو والإجماع وتقديم المصلحة عليهما. وهذا افتراض باطل ينقضه هو نفسه في مواضع منها قوله: "وبالجملة فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح."[9]
لا يمكن أن يوجد نص شرعي صحيح يأمر بفعل الضرر أو يجوِّز ذلك؛ لأن الشريعة هداية ورحمة وحكمة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: 90)، وقال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف: 157). نعم، قد يحصل ضرر من تطبيق نص شرعي، ولكن ذلك لا يعني أن النص هو الذي جاء بالضرر، وإنما وقع الضرر لعوامل خارجية لابست تطبيق ذلك النص، وقد أرشدتنا النصوص الشرعية إلى كيفية التعامل مع هذه الحالات، وهو مُبيَّن في قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد. ومن التخليط القول إن المصلحة عارضت النص الشرعي؛ لأن النص الشرعي لم يرد أصلا بالضرر ومعارضة المصلحة، ولكن وقع الضرر وفاتت المصلحة بسبب عوامل خارجة عن النص. ولا نقول في هذه الحال إننا نقدم المصلحة على النص، بل يُطبق النص بالطريقة التي تدفع الضرر وتحقق المصلحة.
والقول بأن الإجماع قد يخالف رعاية المصالح مجرد افتراض وادعاء، ولا يمكن أن يوجد إجماع حقيقي ثابت على خلاف رعاية مصلحة شرعية ثابتة. ولذلك فإن الموازنة بين الإجماع والمصلحة لا معنى لها أصلا؛ لأن الموازنة إنما تكون عند التعارض فنوازن بين الشيئين المتعارضين لنرجح أحدهما على الآخر، أما إذا لم يكن هناك تعارض فالكلام عن الموازنة وتقديم أحد الأمرين على الآخر لا معنى له.

5- جعل رعاية المصلحة أصلا قائما بذاته يقابل النص والإجماع، مع أنه هو نفسه يقول إن رعاية المصلحة مضمون نص من النصوص هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، كما أنه هو نفسه يقول إنه ما من آية أو حديث ثابت إلا ويشتملان على مصلحة أو مصالح. وما دامت رعاية المصلحة هي مضمون نص شرعي فكيف يستقيم جعلها شيئا مفصولا عن النص الشرعي ومعارضا له؟ من المعلوم أن النص يتكون من الألفاظ والمعاني المرادة منها، والمعنى المراد من النص هو جزء منه، فكيف يستقيم جعله مقابلا للنص الذي هو أصله؟ وإذا افترضنا وجود نص شرعي معارض لمبدأ دفع الضرر (وهو الذي يعبر عنه الطوفي برعاية المصلحة) فإنه في الحقيقة يكون معارضا لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وليس معارض لمبدأ المصلحة مجردا، ويكون التعارض بين النصوص، وليس بين النصوص ومبدأ رعاية المصلحة الذي يعتبره دليلا من الأدلة الشرعية.
لا شك أن رعاية المصلحة مقصد من مقاصد الشريعة، وهو أمر ثابت حتى جعل بعض العلماء المقصد العام للشريعة هو درء المفاسد وجلب المصالح، ولكن من الخطأ منهجيا جعل رعاية المصلحة دليلا شرعيا مستقلا، فهو مجرد مبدأ من المبادئ -وإن شئت قل مقصد من المقاصد- التي يراعيها الشارع في تشريع الأحكام وتطبيقها، ومن الخطأ الحديث عن تقديم المصلحة على النص أو تقديم النص على المصلحة، فهما أمران متداخلان متكاملان، فلا يصح القول بتقديم النص على رعاية المصلحة، كما لا يصح القول بتقديم رعاية المصلحة على النص، لأن التقديم والتأخير يكون في الشيئين المنفصلين المتنافرين. والصواب أن يقال إنه ينبغي النظر في رعاية المصالح الشرعية عند تطبيق النصوص الشرعية، فتطبق النصوص بالكيفية التي تحفظ المصالح الشرعية المقصودة منها.

6- دعوى كون رعاية المصلحة أقوى أدلة الشرع، حيث يقول: "إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع."[10] وقد بنى دعوى كون المصلحة أقوى من الإجماع على القول بأن الاجماع مُخْتَلَفٌ فيه ورعاية المصلحة أمر قطعي لا خلاف فيه. وهذه دعوى لا تُسَلَّمُ له، لأننا حتى إذا قلنا بوجود الخلاف في حجية الإجماع، فإن تعليل الأحكام الشرعية بالمصالح فيه خلاف أشدّ من الخلاف في الإجماع. إن مبدأ رعاية المصلحة -بمعنى كون الشريعة تحقق مصالح العباد- أمر ثابت، وهو مستفاد من عشرات النصوص من القرآن والسنة النبوية، ولكن الحكم على آحاد المنافع بكونها مصالح شرعية إنما يكون ثابتا فيما هو منصوص عليه، ويكون مظنونا فيما ليس فيه نص خاص، ويكون موهوما في ما يعتقد بعض الناس أنه مصالح ولكنه في ميزان الشرع غير معدود في المصالح، بل معدود في المفاسد. والطوفي هنا يخلط بين مبدأ رعاية المصلحة الذي هو قطعي في ثبوته، وبين رعاية آحاد المصالح في التطبيقات العملية التي تكون في أغلبها ظنية، والحديث في العلاقة بين النصوص والمصالح هو عن التطبيقات العملية وليس عن المبدأ، ولذلك فالاستدلال بقطيعة المبدأ على قطعية التطبيقات العملية لرعاية المصلحة مغالطة منهجية كبيرة.

7- دعوى أن النص يُعْمَل به فقط في العبادات والمقدرات وعندما يوافق المصلحة في المعاملات والعادات، حيث يقول: "فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص والإجماع دليلا لهم على معرفة الأحكام؟ قلنا: هو كذلك، ونحن نقول به في العبادات وحيث وافقا المصلحة في غير العبادات، وإنما نحن نرجح رعاية المصالح في العادات والمعاملات ونحوها، لأن رعايتها في ذلك هي قطب مقصود الشرع منها، بخلاف العبادات فإنها حقُّ الشرع، ولا يُعرف كيفيةُ إيقاعها إلا من جهته نصا أو إجماعا."[11] وهذا كلام ساقط؛ لأن النصوص الشرعية هي مصدر الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والعادات وجميع جوانب الحياة.


الدليل التفصيلي على تقديم رعاية المصلحة

حاول الطوفي الاستدلال ببعض الوقائع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على دعوى تقديم رعاية المصلحة على النص الشرعي، وعند النظر في تلك الأدلة نجد أنه لا علاقة لها بموضوع معارضة النص بالمصلحة، ومن الأدلة التي ذكرها ما يأتي:

1- معارضة الصحابة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"، ووجه المعارضة -في رأيه- أن بعض الصحابة صلوا في الطريق، وهذا -في رأيه- تقديم للمصلحة على النص. والواقع أن الحادثة ليس لها أي علاقة بتعارض المصلحة مع النص. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" يحتمل أنه أراد بذلك الحث على السرعة بأن يحاولوا الوصول هناك قبل وقت العصر، ويحتمل أن لا يصلوا العصر إلا هناك مهما كان وقت وصولهم. وقد فهم بعضهم المعنى الأول، وفهم آخرون المعنى الثاني، وقد عمل كل فريق بما ظنه مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه، ولم يخطئ الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.


2- ترك النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم بعد فتح مكة مخافة أن يُحدث ذلك فتنة بين حديثي العهد بالإسلام من قبائل العرب. لا شك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا كان لمصلحة، ولكن أين النص الذي عارضه بتلك المصلحة؟ نحن نعلم أن الله تعالى لم يأمره بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وقول الطوفي عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم "وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها"[12] مجرد دعوى منه، فمن أي عرف أنه الواجب؟ والواجب لا يثبت إلا بنص شرعي ولا نص أصلا! ولو كان هناك أمر من الله تعالى بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لما تردد النبي صلى الله عليه وسلم في فعله، وإنما هو أمر مباح ترك فعله دفعا للمفسدة.

3- كما استدل ببعض أفعال الصحابة في رد الأحاديث النبوية وتقديم المصلحة عليها وهي روايات غير صحيحة أصلا، مثل قصة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر ثم عمر بقتل رجل كان يصلي في المسجد فذهب كل منهما ثم رجع دون قتله معترضين بكونه يصلي، ثم أرسل عليا فلم يجده. وقد بنى على القصة الخرافية تقديم رعاية المصلحة على باقي أدلة الشرع![13]

4- القول بأن ابن مسعود رضي الله عنه عارض النص والإجماع بالمصلحة في قوله بمنع الجنب من التيمم. أما معارضة الإجماع فهو مجرد دعوى، فلم يكن هناك إجماع أصلا، وإنما هو قول أكثر الصحابة وخالف في ذلك عمر وابن مسعود، وكيف يُزعم انعقاد الإجماع مع خلاف عَلَمين من أعلام الصحابة؟ هذه دعوى إجماع وليس إجماعا حقيقيا. أما مخالفة النص فإنما تكون عند اعتقاد المخالف صحة النص، والوارد في الروايات أن عمر وابن مسعود لم يكونا مقتنعين برواية عمار بن ياسر بأن تيمم من الجنابة وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. فالمخالفة هنا مبنية على الشكّ في ثبوت النص، أما ما ذكره ابن مسعود في نقاشه مع أبي موسى من سد ذريعة اللجوء إلى التيمم في حال الشعور بالبرد، فلم يكن هو عمدة استدلال ابن مسعود، وإنما كان لغرض الاستظهار بذلك فقط. وعلى كل حال، حتى إذا ثبت عن أحد الصحابة أو أهل العلم مخالفة نص شرعي فإن هذا لا يمكن أن يكون حُجَّة على ردّ النص الشرعي بالمصلحة، بل يكون خطأ من صاحبه ناتج عن تأوُّلٍ في فهم النص أو الشك في صحته.

خلاصة

الخلاصة أننا عندما نتحدث عن المصلحة إنما نتحدث على المصلحة الشرعية، التي عرفها الطوفي نفسه بأنها: "السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة"،[14] ولسنا نتحدث عن أي منفعة مادية أو نفسية للإنسان بغض النظر عن كونها تحقق له صلاحا شرعيا أم تكون عاقبتها الفساد في الدنيا والخسران في الآخرة. وما دامت المصلحة هي ما يحقق مقصود الشرع، فإن الذي يحدد المصلحة هو الشارع نفسه، وليس مجرد رغبة الإنسان وشهوته. ومن المعلوم أن المصلحة في الإسلام تنقسم إلى مصلحة معتبرة شرعا، ومصلحة ملغاة. والمصلحة المعتبرة هي التي دل الشرع على اعتبارها إما على وجه الخصوص، وهو ما وردت فيه نصوص خاصة، وإما على وجه العموم، وهو ما يتبين بعد إمعان النظر فيه أنه يدخل في المفاهيم الجامعة التي عبر عنها القرآن الكريم بالخير والنفع والبر والمعروف والطيبات والحسنات. والمصلحة الملغاة هي ما قد يعده البعض مصلحة لهم، ولكنه في الحقيقة يعود عليهم بالفساد في الدنيا والخسران في الآخرة، ولذلك لم يعتبره الشرع مصلحة، بل عده مفسدة، سواء أكان ذلك بنص خاص فيه، أو بإدخاله في المفاهيم الجامعة التي عبر عنها القرآن الكريم بالشر والفساد والفحشاء والمنكر والبغي والخبائث. وعلى رأي من تَبِع تقسيم الغزالي للمصلحة، تنقسم المصلحة إلى ثلاثة أقسام: مصلحة معتبرة وهي ما شهدت له بالقبول نصوص شرعية خاصة، ومصلحة ملغاة وهي ما شهدت له نصوص شرعية خاصة بالإلغاء، ومصلحة مرسلة وهي ما لا يوجد نص شرعي خاص يشهد له بالاعتبار، ولكن تشهد له بعض النصوص الشرعية العامة بالاعتبار.
وإذا ثبت -بإقرار الطوفي نفسه- أن النصوص الشرعية متضمِّنَة للمصالح الشرعية، وكذلك الإجماع لا يمكن ينعقد على ما يخالف المصالح الشرعية، فإنه لا يمكن الفصل بين النص والمصلحة؛ لأنهما متداخلان متكاملان، وتكون دعوى الموازنة بينهما وتقديم إحدهما على الآخر لا معنى لها أصلا. وإذا كانت هناك موازنة فهي بين النصوص التي قد يؤدي تطبيقها إلى مفسدة شرعية وبين النصوص التي تنهى عن الضرر واالمفسدة، وقد أرشدنا الشارع الحكيم إلى منهج الموازنة بين المصالح والمفاسد، وإلى منهج تطبيق النصوص بالطريقة التي تحقق مقاصدها. وبذلك نكون في محاولاتنا الاجتهادية لتحديد مقاصد الشارع وتحديد المصالح والمفاسد مهتدين بهدي الشارع الحكيم المتمثل في نصوصه الحكيمة، بعيدين عن الدعاوى والكلام المرْسَل الذي يصعب ضبطه بالضوابط الشرعية.
لا شك أنه لا يمكن الفصل بين النصوص وبين المقاصد والمصالح، ولا يصح القول بتقديم أحدهما على الآخر، فالنصوص هي الوعاء الذي يحمل المقاصد والمصالح، والمقاصد والمصالح هي الغاية من النصوص. النصوص تكون معطلة الفائدة إذا لم ندرك مقاصدها ونعمل بها، ولا يمكن الحديث عن المقاصد والمصالح بعيدا عن نصوص الشارع.
[1]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص243.
[2]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص243-244.
[3]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص272.
[4]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص259-260.
[5]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص274.
[6]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص277.
[7]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص238.
[8] الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص238.
[9]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص243.
[10]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص239.
[11]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص241.
[12]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص268.
[13]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص269-270.
[14]الطوفي، كتاب التعيين في شرح الأربعين النووية، ص239.
 

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
رد: المصلحة عند الطوفي: اضطراب وتناقض

الغريب أنه على الرغم مما في كلام الطوفي من اضطراب وتناقض، فقد قام العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله بتجريد هذا الكلام -بعد أن حذف منه مقاطع أهمها تشغيب الطوفي على الإجماع- وامتدحه وعلق عليه بما يؤيده وقام بنشره في رسالة خاصة. وكذلك فعل الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، حيث بالغ في امتداح كلام الطوفي وقام بإعادة نشره.
 

صلاح الدين

:: متخصص ::
إنضم
6 ديسمبر 2008
المشاركات
713
الإقامة
القاهرة
الجنس
ذكر
الكنية
الدكتور. سيد عنتر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
مصر
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
المذهب الحنفي
رد: المصلحة عند الطوفي: اضطراب وتناقض

وممن دافع عن هذه النظرية د. مصطفى زيد في كتابه حول المصلحة
 
أعلى