العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المقصد من النصوص التي ضبط العلاقة بالحكام

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
تحديد المقصد من النصوص التي تضبط العلاقة بالحكام
د. نعمان جغيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد
يقع التطرف في تحديد الموقف من الحكام من فئتين من الناس: فئة تركِّز على النصوص التي تتحدث عن طاعة الحكام والصبر على أذاهم، وتتعسف في استعمالها لتكريس الاستبداد والفساد. وفئة أخرى تركِّز على نصوص تكفير من لم يحكم بما أنزل الله، ونصوص تجويز الخروج المسلَّح عليهم، وتتعسف في استعمالها للثورة المسلحة بما يؤدي إلى الفتنة والفوضى والدمار. وبين هذين الموقفين المتطرفين لا بد من نظرة متوازنة تحدد المقصود من النصوص التي تضبط الموقف من الحكام في ضوء سياقاتها الخاصة والسياق التشريعي العام.

أولا
: الإطار العام الذي يحكم العلاقات داخل المجتمع المسلم -سواء بين الرعية بعضهم مع بعض أم بين الرعية والحكام- هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل الخاصية الأساس التي ينبغي على المجتمع المسلم أن يحافظ عليها، وهي الثابت الذي لا يمكن تغييره وتجاوزه بأي حال من الأحوال. والذي يدل على ذلك أن الله عز وجل جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخاصية الأساس للمجتمع المسلم، فقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110)، وأمر المسلمين بالالتزام بهذه الخصيصة فقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104). فالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الطريق إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

وجعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص أفراد المجتمع المسلم، فقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71)، وجعل من خصائص المنافقين عكس ذلك فقال تعالى: ï´؟الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَï´¾ (التوبة: 67).

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن المنكر الضمان الوحيد للحفاظ على المجتمع المسلم من الانحراف والغرق في الفساد، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا. فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا."[1]

وقد نص القرآن الكريم على أن الفتنة التي تصيب الناس بسبب انتشار الفساد -سواء كان الفساد من الحكام أم من عامة الناس- لا تقتصر على أهل الفساد، بل تَعُمُّ الجميع. قال تعالى: ï´؟وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِï´¾ (الأنفال: 25). وقد لعن الله عز وجل بني إسرائيل -بعد أن فضلهم على العالمين- بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي المنكر، فآل أمرهم إلى الفساد والانحراف عن شرع الله، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (*) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78-79). وهذا الأمر لا يخص بني إسرائيل، بل يعم من يسير على نهجهم.
وعن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْï´¾ (المائدة: 105)، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ."[2]

ولا ينبغي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى عندما يعم الفساد ويتطرق إلى النفوس اليأس من الإصلاح؛ لأن من مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإعذار إلى الله تعالى، قال تعالى: ï´؟وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَï´¾ (الأعراف: 164).

ثانيا
: الحكم في الإسلام ليس طريقا لتحقيق المصالح الشخصية، بل هو وسيلة لتحقيق مصالح المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ."[3]

والحكم ليس امتيازا لشخص من الأشخاص، إنما هو مسؤولية عظيمة وابتلاء لصاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا."[4]

وفي هذا السياق نشير إلى ما يقع فيه البعض من سوء فهم لقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26)، حيث يقولون إن الحاكم قد آتاه الله الملك (الحكم) فلا ينبغي لنا أن ننازعه في ما آتاه الله! وهذا سوء فهم للآية وتعسُّف في تفسيرها. فالآية تتحدث عن قدرة الله تعالى وقدره؛ فهو عزّ وجلّ الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. ولا تقول الآية إن إيتاء الملك (الحكم) لشخص مَكْرُمَة وامتياز له. إن إعطاء الملك (الحكم) لإنسان ما ليس تشريفا له، بل هو اختبار له: هل يسير فيه على شرع الله أم يطغى وينحرف؟ وهو اختبار لمن تحت سلطته: هل يسلكون معه مسلك الشرع فيقوِّمونه -ما استطاعوا- إذا انحرف ويعينونه إذا استقام؟ قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)؛ فكل ما يُعطَى للإنسان من خير وما يصيبه من بلاء هو اختبار وفتنة له. وقد آتى اللهُ الملكَ فرعونَ والنمرود وأبرهة الحبشي -الذي حاول هدم الكعبة- وقياصرة الروم وأكاسرة الفرس، وآتى اللهُ الحكمَ الألوف من كُفَّار وفُجَّار العجم والعرب. ولم يكن إيتاءُ الـمُلْكِ مكرمة ولا عزا لأولئك الطغاة، بل الكرامة والعزة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.

ثالثا
: الواجب في تدبير الشؤون العامة للمسلمين، سواء فيما يتعلق بتعيين الحكام والمسؤولين أم فيما يتعلق بالسياسات العامة وكيفية تنفيذها، هو الشورى. قال تعالى في وصف المجتمع المسلم: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى: 38). وقد بلغت أهمية الشورى في الأمور العامة أن أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بها، مع كونه مُؤيَّدا بالوحي، فقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159). وبهذا يتبين أن النظام السياسي الإسلامي هو الذي يكون فيه تعيين الحكام بالاختيار الحر، وتكون فيه مؤسساتٌ تراقب السلطات العامة، ولها حق عزل الحكام والمسؤوليين الفاسدين والذين لا تتوفر فيهم الكفاءة لأداء الأمانة الـمُسْنَدة إليهم. وهو النظام الذي تكون فيه للمسؤول عزة وكرامة تدفعه للاستقالة عندما يرفضه عامة الناس -ولا يرفضه عامة الناس عادة إلا لفساده وعدم كفاءته- وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ."[5] فهذا الذي يصل به الأمر أن تبغضه الرعية وتلعنه ينبغي عليه أن يستقيل ويحفظ كرامته ودينه، ولا يترك نفسه ليكون عند الله من شرار الخلق.

والشورى في تعيين الحكام والمسؤولين تعني أن يتم ذلك بالاختيار الحر لأغلبية المسلمين، لا بأن يُفْرَض عليهم شخص ثم يُطالبوا بمبايعته. وإدارة الشؤون العامة للمسلمين تكون قائمة على الشورى الحقيقية لا على تنصيب مجالس صورية تُسمى مجالس الشورى تُستخدم لتشريع وفرض إرادة السلطة الحاكمة.

رابعا
: الحكم في الإسلام قائم على أساس دولة القانون الشرعي، بمعنى أن كل فرد من أفراد المجتمع ينبغي عليه القيام بواجبه فيما يتعلق بالشؤون العامة. والالتزام بأداء الواجبات ليس متروكا لاختيار الشخص ورغبته، بل عليه القيام بواجباته العامة في العُسْر واليُسْر والـمَنْشَط والـمَكْرَه، وفيما يُحبُّ وما يكره، ما لم يكن الأمر معصية. ولو تُرِكَت الطاعة في المسائل المتعلقة بالأمور العامة للمسلمين -خاصة الأمور العسكرية- لرغبة الناس واختيارهم لأدى ذلك إلى الفوضى وضياع مصالح المسلمين، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ السَّمْع وَالطَّاعَة فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ."[6] والحديث ينص على أن الظلم الذي قد يقع على الإنسان من السلطة الحاكمة بمنعه من بعض حقوقه المالية، مثل العطاء المشار إليه في الحديث بـ "الأثرة"، لا يكون مُبَرِّرًا للتقصير في الواجبات، بل على الإنسان القيام بواجباته حتى في حال غَمْطِهِ حُقوقه، وهو الذي يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: "تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ."[7]

ولما كانت استقامة الحياة العامة لا تقوم إلا بطاعة السلطة الحاكمة، فقد أمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر، فقال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْï´¾ (النساء: 59). وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي."[8] قال الخطابي في التعليق على الحديث: "كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة، فكانوا يتمنَّعون على الأمراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول يحضُّهم به على طاعتهم والانقياد لهم فيما يُأمرون به من المعروف إذا بعثهم في السرايا وإذا ولاهم البلدان والقرى، فلا يخرجوا عليهم بالسيف، ولا يحملوا عليهم السلاح لئلا تتفرق الكلمة ولا تنقض الدعوة."[9]

والأمر بطاعة أولي الأمر -وهم أصحاب السلطة السياسية والسلطة العلمية- ليس مستقلا، بل مقرون بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو وارد في سياق المجتمع المسلم الذي يكون فيه أولو الأمر من أهل الصلاح والخير الذين يبذلون جُهدهم في تحقيق مصالح المسلمين. هؤلاء هم أصحاب السلطة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم؛ لأن في طاعتهم صلاح المجتمع المسلم، وفي الامتناع عن طاعتهم الفوضى والفساد وضياع مصالح المسلمين. والأصل أنه لا ولاية للفُسَّاق والفاسدين (سواء أكانوا من أهل العلم أم من أهل السياسة) على جماعة المسلمين، والأصل عدم توليتهم الأمور العامة للمسلمين، ولكن إن حصل توليهم ذلك بالقهر والغلبة، فذاك أمر استثنائي له حُكْمُه الخاص الذي بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولأن الأمير يمثل سلطة الدولة ومصالح جماعة المسلمين، والمفترض في أوامره أن تكون لتدبير شؤونهم بما فيه الخير لهم، فإنه لا عبرة بالمكانة الاجتماعية للأمير، بل تجب طاعته مهما كان أصلُه ونَسَبُهُ وحَسَبُهُ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا"، وفي رواية لأبي ذر الغفاري يقول: "إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ."[10]

والمقصد من الأمر بطاعة أوامر السلطة الحاكمة هو تحصيل مصالح المسلمين ورعايتها، وتحقيق الصلاح الدنيوي والأخروي، ولذلك إذا جاء الأمر من السلطة الحاكمة بالمعصية، فلا سمع ولا طاعة؛ لأن مثل هذه الأوامر والقوانين باطلة في حكم الشرع. عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عَلَى الـمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ. فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ"[11]، وعن عليٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ ادْخُلُوهَا! فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ الآخَرُونَ إِنَّا قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَقَالَ للآخَرِينَ قَوْلا حَسَنًا. وَقَالَ: لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ."[12] وروى الخطابي أنه لما سأل عمرُ بن هبيرة -وكان واليا على العراق- الحسنَ البصري عن ما يفعل فيما يأتيه من أوامر من الخليفة يزيد بن عبد الملك، أجابه الحسن البصري بقوله: "إن الله ينجيك من يزيد، وإن يزيدا لا ينجيك من الله، فإياك أن تعرض لله بالمعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق."[13]

خامسا
: الأمر بطاعة أولي الأمر لا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الواجب الجمع بينهما. عن عُبَادَة بن الوليد بن عُبَادَة عن أبيه عن جَدِّهِ قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ."[14] نلاحظ أن الحديث قرن بين الطاعة وعدم الخروج على الحكام من جهة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (قول الحق) من جهة أخرى. فالمطلوب هو الطاعة في المعروف وعدم الخروج المسلح على الحاكم حتى في حال الظلم، ولكن كل ذلك مع ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ألا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لا، مَا صَلَّوْا."[15]

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النص -الصحيح الصريح- على تغيير المنكر حسب الاستطاعة، فعن أبي سَعِيدٍ الخدري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ."[16] والاستطاعة تشمل حدود سلطة الإنسان؛ فالوالدان في حدود أسرتهما لهما سلطة تغيير المنكر بالفعل (اليد) زيادة على القول والقلب، والمسؤول عن مؤسسة من المؤسسات له سلطة تغيير المنكر بالفعل (اليد) زيادة على التغيير بالقول والقلب، والحاكم الأعلى له سلطة تغيير المنكر بالفعل (اليد) زيادة على التغيير بالقول والقلب. وعلى العموم كل من كانت له مسؤولية في مكان ما، كانت له سلطة التغيير بالفعل (اليد)، ومن لم تكن له سلطة قد لا تكون له القدرة على التغيير بالفعل، فيكتفي بالتغيير بالقول. ومن خاف على نفسه هلاكا أو ضررا مُعتبرا إن هو نهى عن المنكر، فله أن يُمسك عن ذلك حفاظا على نفسه، وله أن يُقْدِم على ذلك وأجرُه على الله عز وجل. وإذا كان السعي إلى تغيير المنكر ينتج عنه منكر أكبر، فينبغي الإمساك عن ذلك وفقا لمبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد.

وينبغي التنبيه على أنه لا تعارض بين ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحاكم وبين الوفاء له بالبيعة، إن وُجِدت بيعة. فالشرع الحكيم نهى عن خلع البيعة الشرعية، والمراد بخلع البيعة الخروج المسلح على الحاكم الشرعي، أو مبايعة شخص آخر بدلا من الحاكم الذي تمت له البيعة الشرعية. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه تتم ممارسته مع استمرار البيعة، واستمرار الوفاء بها، وليس في ممارسته أي إخلال بالبيعة، بل هو من لوازم البيعة، ففي الحديث: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ."[17]

وعلى الرغم من أن البيعة التي يجب الوفاء بها هي البيعة التي استوفت شروطها الشرعية، ومنها أن تكون برضا المبايِع لا تحت طائلة الإكراه، إلا أنه ينبغي على المسلم التريُّث وعدم المسارعة إلى إحداث ما يسبب الفتنة بين المسلمين، وعليه أن ينظر دوما إلى مآلات أفعاله، ويطبق قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد فيما هو مشروعٌ له فعلُه.

سادسا
: ورد النهي عن الخروج المسلح على الحاكم ما لم يكن هناك كفر بواح. ومن الروايات التي تنص على ذلك ما رواه عُبَادَة بن الصَّامت -رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ"، قَالَ: "إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ."[18] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ألا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لا، مَا صَلَّوْا."[19] وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: "تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ."[20]

في هذه النصوص نهي عن الخروج المسلح على الحاكم بسبب ما يقع منه من ظلم، مثل منع بعض الناس من حقوقهم المالية (العطاء)، وهو المراد بالأَثَرَة، أي الاستئثار بالمال وبخس الناس الواجب لهم من الحق.[21] والمطلوب من المسلم أن يقوم بواجباته سواء اتجاه الحاكم أم اتجاه جماعة المسلمين، وإذا مُنِعَ حقَّه من العطاء المالي فإنه لا يجوز له أن يلجأ إلى العنف والثورة المسلحة طلبا لذلك، بل يصبر ويسأل الله تعالى أن يجعل له مخرجا. والأمر بالصبر إنما يكون عندما لا توجد وسيلة سلمية للمطالبة بالحق وتحصيله، أما إذا أمكن تحصيل الحق بالطريق السلمية، فلا شك أن له أن يطالب بحقه وأن يسعى إلى تحصيله. فالقصد من الأمر بالصبر هو منع العنف والخروج المسلح الذي يؤدي إلى الفتنة وتقاتل المسلمين، ولا شك أن الصبر على ضياع الحقوق المالية أقل ضررا من الفتنة والتقاتل بين المسلمين. وقد جاءت هذه النصوص في سياق تاريخي كانت فيه السلطة المطلقة للحاكم والأمير، وهو الذي يقرر العطاء أو يمنعه دون وجود مؤسسات تحكم الشؤون العامة. أما في العصر الحاضر فإنه -في الغالب- توجد مؤسسات يمكن اللجوء إليها لتحصيل الحقوق التي يتعسف الحكام والأمراء في منعها من أصحابها، وعندما يكون الأمر كذلك فإنه ينتفي المقصد من الأمر بالصبر، ولصاحب الحق أن يلجأ إلى تحصيله بالطرق السلمية.

لقد نصت الأحاديث على أن المبرر الوحيد للخروج على الحاكم (أي الثورة المسلحة على الحاكم) هو أن يمارس الحاكم كفرا بواحا. والكفر البواح هو الكفر الصريح. يقول الخطابي: "يريد القول الذي لا يحتمل التأويل، فإذا كان كذلك حلَّ قتالهم، وما دام يحتمل وجها من التأويل لم يجز ذلك. وهو معنى قوله: عندكم من الله فيه برهان، يريد نص آية أو توقيف لا يحتمل التأويل."[22] والثورة المسلحة (الخروج على الحاكم) في حال ظهور الكفر البواح مشروعة، ولكنها تبقى خاضعة لقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد. فإذا كانت الثورة المسلحة تؤدي إلى مفاسد أعظم مما هو موجود، كأن يزداد التمكين للكفر وتكون الثورة المسلحة ذريعة إلى استئصال المؤمنين المصلحين أو إخماد صوتهم، فإنه من الأولى تجنب تلك الثورة، دفعا للفساد الأعظم. وقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الكفار وأذاهم في المرحلة المكية دفعا لمفاسد أعظم.

إن النهي عن الخروج على الحاكم الفاسق قائم على الموازنة بين المصالح والمفاسد الذي هو مقصد من مقاصد الشارع في منهج التشريع؛ إذ إن المفاسد الناتجة عن الثورة المسلحة من تقاتلٍ بين المسلمين وانتهاكٍ للحرمات وإهدارٍ للأموال وفتنةٍ في الدين ومشقةٍ في أمور الحياة الدنيا، أكبر من الظلم والمفاسد الناتجة عن الاستبداد. وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرا شديدا من الثورة المسلحة التي لا تقوم على مبرر شرعي واضح وتؤدي إلى مفاسد كثيرة، فقال: "وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ."[23] فإذا وصل الأمر إلى الكفر الصريح، فلا فساد أكبر من الكفر.

إن النهي في هذه النصوص إنما هو نهي عن الخروج المسلح (المعارضة المسلحة) الذي يؤدي إلى تفريق جماعة المسلمين والتقاتل بينهم. والمقصد منه هو دفع الفساد الناتج عن الثورة المسلحة، وليس المقصد منه إقرار الحكام الفاسدين على فسادهم أو تعليم المسلمين السلوك السلبي واللامبالاة بالشؤون العامة. لقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم أفعال الحكام الفاسدين بأنها مُنْكَرُ، وحمَّلهم المسؤولية كاملة يوم القيامة، وأمر المسلمين بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونهاهم عن الرضا والمتابعة، وحَمَّل من يرضى ويتابع مسؤولية رضاه ومتابعته. وبناء على ذلك فإن المعارضة السلمية التي تقاوم الفساد بالطرق السلمية، وتسعى إلى الإصلاح والتغيير السلمي، سواء من خلال التغيير المباشر للحاكم الفاسد أو العاجز بالطرق السلمية، أو من خلال التغيير التدريجي للمجتمع بما يقود إلى إيجاد قاعدة شعبية صالحة تفرز قيادة صالحة وترفض تولية الفاسدين، هي من صميم الأمر بالمعروف والنهي المنكر الذي أمر به الشرع، ولا علاقة لها بالنصوص التي تنهى عن الخروج على الحكام وتنهى عن خلع البيعة؛ لأن تلك النصوص مقصورة على النهي عن الخروج المسلَّح على الحاكم والأمر بطاعة أوامر السلطة الحاكمة ما لم تكن فيها معصية لله تعالى.

عندما أجاز العلماء ولاية الـمُتَغَلِّب لم يقصدوا من ذلك تشريع الاستيلاء على السلطة بالقوة، بل هم يؤكدون أن الطريق الشرعي الوحيد لتولي السلطة هو الشورى، وإنما كان قصدهم الموازنة بين المفاسد. وعندما أوجبوا الجهاد مع البَرِّ والفاجر لم يقصدوا تشريع تولي الفساق قيادة جيوش المسلمين، ولكنهم أعملوا قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد. إن القول ببطلان ولاية الـمُتَغَلِّب يعني بطلان جميع القرارات التي يتخذها مِثْل تعيين القضاة، وذلك يعني بطلان الأحكام التي يصدرها القضاة المعَيَّنين من طرفه. والقول بهذا يؤدي إلى فوضى وفساد عظيم. وكيف تنتظم حياة الناس إذا قلنا بهذا؟ كما أن القول ببطلان ولايته يعني وجوب عزله ولو بالقوة، وقد تؤدي محاولة عزله بالقوة إلى حرب أهلية وفتنة. والقول ببطلان الجهاد مع الحكام والأمراء الفاسقين يعني ترك بلاد المسلمين نَهْبًا للكفار، وفي ذلك فساد عظيم. ومن أجل دفع تلك المفاسد أفتى أولئك العلماء بتلك الفتاوى، أما إذا أمكن مَنْعُ الـمُتَغَلِّب وعزلُ الفاسق دون وقوع فتنة وفساد، فإن ذلك هو الأصل. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ."[24]

الخلاصة أن المسلم ليس مُخيَّرا بين الثورة المسلحة وبين الخضوع للاستبداد والفساد، فهاتان حالتان طارئتان يتعامل معهما وفق الضوابط الشرعية التي حددها الشرع وسبقت الإشارة إليها. يوجد بين هذين الأمرين الطارئين الطريق العدل الوسط، وهو أن المسلم مُطالَب بالعمل المستمر لإصلاح نفسه وإصلاح من حوله، والعمل على إيجاد مجتمع مسلم يعيش وفق نظام الشورى، وينتشر فيه العدل وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه. ولا يتحقق هذا إلا بإيجاد الفرد الصالح الذي يسير بالعدل ويشعر بالأمانة عند تولي مراكز المسؤولية، ولا يتردد في الاستقالة من منصبه عندما لا يكون قادرا على الوفاء بحقوق ذلك المنصب، وإيجاد مؤسسات تمارس الرقابة الحقيقية على المسؤولين وتقوم بالإجراءات المطلوبة في حق المقصِّرين. إن الحياة العامة لا تستقيم بمجرد ترك الأمر للوازع الداخلي للحكام، بل لا بد من ممارسة الرقابة الخارجية. وقد حققت بعض المجتمعات في هذا العصر تطورا كبيرا في النظام السياسي، فأصبح الحكم فيها قائما على الشورى وحرية الاختيار، وأصبح المسؤول يستقيل بنفسه -قبل أن يُعزل- إذا قصَّر في عمله تقصيرا مُعتبرا وشعر أنه غير مرغوب فيه من طرف عامة الناس، وأصبح المجتمع تحكمه مؤسسات وقوانين تسري أحكامها على جميع أفراد المجتمع دون تفريق بين حاكم ومحكوم أو ضعيف وقوي. وهذا أقرب شيء إلى مبادئ النظام السياسي الإسلامي، والمسلمون أولى الناس بالعمل على تحقيقه. ومَنْ لم يُدْرِك النورَ، لا يجوز له أن يُبرِّر الظلام -بمبررات دينية أو اجتماعية- ويدعو الآخرين إلى المكوث في ذلك الظلام.

من رأى السكوت على الحكام المستبدين الفاسدين إما مخافةً على نفسه أو اعتقادا منه أن ذلك أولى، فله ذلك وهو في سعة من الأمر -إن شاء الله-، ولكن لا يصح الإنكار على الذين يقولون الحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسعون إلى الإصلاح، فهم يقومون بواجبهم الشرعي. وإنما يكون الإنكار على الذين يخرجون على الحاكم خروجا مسلحا أو يدعون إلى ذلك مع عدم وجود المبرر الشرعي الصريح للخروج المسلَّح. والإنكار في هذه الحال هو عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما ينتج عن الخروج من مُنْكَر يتمثل في إزهاق الأرواح البريئة، وإتلاف الأموال المعصومة، وتفريق المسلمين وإضعاف شوكتهم. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالطريق المشروعة فلا صلة له بالفتنة؛ وإنما تكون الفتنة في أمرين:
أحدهما: الخروج المسلح على الحاكم أو الدعوة إلى ذلك والتحريض عليه، إذا لم يكن الخروج مُبَرَّرًا شرعا كما حددته النصوص الشرعية.
والثاني: منع الناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن العمل السلمي لتغيير السلطة الفاسدة المنحرفة عن شرع الله. إن منع الناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الفتنة الحقيقية؛ لأن ذلك المنع يؤدي إلى الفساد الديني والدنيوي الناتج عن تحكُّم المستبدين الفاسدين في أمور المسلمين، وقد يؤدي إلى أن يحل بالمجتمع عقاب إلهي عام إذا عمّ الفساد وغاب النهي عن المنكر: ï´؟وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِï´¾ (الأنفال: 25).

وعندما تكون مشروعية الخروج محلّ اختلاف فكل طرف له الحق في إبداء رأيه والدفاع عنه، ولكن ينبغي أن يأخذ الأمر حقَّهُ من النقاش العلمي قبل المسارعة إلى الخروج، حتى تطمئن النفوس إلى ما هو الحق. ولنا قدوة في الصحابة رضي الله عنهم عندما قرر أبو بكر قتال مانعي الزكاة واعترض عليه بعض الصحابة لاعتقادهم عدم مشروعية ذلك، فما زالوا يتناقشون بالدليل حتى اطماطاأقنعاطمأنت نفوسهم إلى رأي أبي بكر الصديق.

[1] صحيح البخاري، كتاب الشركة.

[2] سنن الترمذي، كتاب الفتن.

[3] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر.

[4] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة.

[5] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم.

[6] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[7] صحيح مسلم، كتاب: الإمارة، باب: الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء.

[8] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

[9] أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي، أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود (مكة المكرمة: جامعة أم القرى) ص2333-2334.

[10] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[11] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[12] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[13] الخطابي، أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، ص1417.

[14] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[15] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا.

[16] صحيح مسلم، كتاب: الإيمان.

[17] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[18] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

[19] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا.

[20] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء.

[21] الخطابي، أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، ص2328.

[22] الخطابي، أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، ص2328-2329.

[23] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.

[24] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب حُكْم من فرَّقَ أمر المسْلمين وهو مُجْتَمِعٌ.
 
إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
رد: المقصد من النصوص التي ضبط العلاقة بالحكام

[FONT=arial, sans-serif]رااااااااااائع، سلمت يمينك، ولا فض فوك.[/FONT]
 

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
رد: المقصد من النصوص التي ضبط العلاقة بالحكام

جزاكم الله خيرا ونفع الله بكم وبارك فيكم وفي علمكم
 
إنضم
21 ديسمبر 2009
المشاركات
52
الجنس
ذكر
التخصص
شريعة وقانون
الدولة
الجزائر
المدينة
البويرة
المذهب الفقهي
المالكي
بارك الله تاعلى فيكم وفي علمكم، ونفع الله بكم.
جزاكم الله خير الجزاء.
 
أعلى