العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

فقد طرحتُ موضوعًا في آواخر العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحَجِّ)‘‘، ثم أتبعتُه بموضوعٍ في أوائل هذا العام جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتابي الطهارة والصلاة بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)‘‘، وأطرحُ الآن بين أيديكم هذا الموضوع وقد جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب البُيُوع، ..
.. والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من كتاب الحج اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430) -الصفحات 431- 448-.

أولًا/ مُسْأَلَةُ بَيْعِ الْمُدَبِّرِ
(1) حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ غُلامًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النذَجَّامِ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ الأَوَّلِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْر. أخرجه البخاري (2231)، ومسلم (997).
(2) حدَّثنا شَرِيكٌ عن سَلَمَةَ عَن عَطَاءٍ وَأَبي الزُّبَيْرِ عن جَابرٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَاعَ مُدَبَّرًا بِسْمِ اللهِ. أخرجه البخاري (2230).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا يُبَاعُ.
***
تعريف التدبير: يقال دَبَّرْتُ العبد إذا علقت عتقه بموتك، وهو التدبير: أي أنه يُعتلق بعدما يدبره سيده ويموت - راجع النهاية (2/ 98).
فالتدبير نوعٌ من أنواعِ العتيق، يؤدي إلى حرية المدبر بعد موت من دبره، والشارع يحرص على تحرير الرقاب والتدبير طريقة ميسرة لذلك؛ لأنه تدوم معه منفعة الرقيق مدة حياته ثم يكون قربة له بعد وفاته.
ويعتق المدبر بعد الموت من ثلث المال في قول أكثر أهل العلم، ويعتق من جميع مال الميت في قول ابن مسعود وغيره.
والفقهاء مختلفون في الآثار التي تترتب على التدبير، فذهب الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد إلى أنه لا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يخرج من الملك إلا بالإعتاق أو الكتابة ويستخدم ويستأجر، ومولاه أحق بكسبه وأرشه.
وذهب الشافعية والظاهرية وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد أنه يباع مطلقًا في الدين وغيره، وعند حاجة السيد إلى بيعه وعدمها - الموسوعة الفقهية (11/ 124).
قال في الهداية: لا يجوز بيع المدبر، ولا هبته ولا إخراجه عن ملكه إلا إلى الحرية، كما في الكتابة، وقال الشافعي: يجوز؛ لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يمتنع به البيع والهبة كما في سائر التعليقات، وكما في المدبر المقيد؛ ولأن التدبير وصية وهي غير مانعة من ذلك. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: (المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من الثلث). ولأنه سبب الحرية؛ لأن الحرية تثبت بعد الموت ولا سبب غيره، ثم جعْلُهُ سببًا في الحال أَوْلَى لوجوده في الحال وعدمه بعد الموت، ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية التصرف فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية بخلاف سائر التعليقات. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 20)، والعناية (5/ 22)، ونصب الراية (4/ 25)، وراجع: المبسوط (7/ 178)، وبدائع الصنائع (4/ 120)، والبحر الرائق (4/ 288)، وتبيين الحقائق (3/ 98).
وقال مالك -كما في المنتقى شرح الموطأ (7/ 45)-: لا يجوز بيع المدبر ولا يجوز لأحد أن يشتريه إلا أن يشتري المدبر نفسه من سيده فيكون ذلك جائزًا له، أو يعطي أحد سيد المدبر مالًا ويعتقه سيده الذي دبره فذلك يجوز له أيضًا، قال مالك: وولاؤه لسيده الذي دبره. اهـ. وراجع: التاج والإكليل (8/ 461)، ومواهب الجليل (6/ 342)، وشرح مختصر خليل للخرشي (8/ 133).
وقال النووي في المجموع شرح المذهب (9/ 292): مذهبنا جواز بيع المدبر، سواء أكاد محتاجًا إلى ثمنه أم لا، سواء أكان على سيده دين أم لا، وسواء كان التدبير مطلقًا أو مقيدًا هذا مذهبنا، وبه قالت عائشة أم المؤمنين ومجاهد وطاوس وعمر بن عبدالعزيز وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وغيرهم. وقال الحسن وعطاء: يجوز إذا احتاج إلى ثمنه سيده. وقال أيو حنيفة: إن كان تدبيرًا مطلقًا لم يجز، وإن كان مقيدًا بأن يقول: إن مت من مرضي هذا فأنت حر جاز. وقال مالك: لا يجوز مطلقًا، وهو رواية عن أبي حنيفة وبه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري، ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء من السلف وغيرهم من أهل الحجاز والشام والكوفة. واحتجوا بالقياس على أم الولد، واحتج أصحابنا بحديث جابر المذكور في الكتاب، وقد بيناه وبالقياس على الموصي بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ. وراجع المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 473)، ونهاية المحتاج (8/ 401)، وتحفة المحتاج (10/ 386)، والأم (7/ 257)، (8/ 19).
قال ابن قدامة في المغني (1/ 320) شارحًا قول الخرقي: "وله بيعه في الدَّيْن": ظاهر كلام الخرقي أنه لا يباع في الدين، وقد أومأ إليه أحمد. وروي عن أحمد أنه قال: أنا أرى بيع المدبر في الدين، وإذا كان فقيرًا لا يملك شيئًا رأيت أن أبيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد باع المدبر، لما علم أن صاحبه لا يملك شيئًا غيره، باعه النبي صلى الله عليه وسلم لما علم حاجته، وهذا قول إسحاق، وأبي أيوب وأبي خيثمة، وقالا: إن باعه من غير حاجة أجزناه. ونقل جماعة عن أحمد جواز بيع المدبير مطلقًا في الدين وغيره، مع الحاجة وعدمها. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن بيع المدبر إذا كان بالرجل حاجة إلى ثمنه، قال: له أن يبيعه، محتاجًا كان إلى ذلك أو غير محتاج، وهذا هو الصحيح. اهـ. وراجع: الإنصاف (7/ 437).
قال أبو محمد بن حزم في المحلى بالآثار (7/ 925): وبيع المدبر والمدبرة حلال لغير ضرورة ولغير دين، لا كراهة في شيء من ذلك، ويبطل التدبير بالبيع كما تبطل الوصية ببيع الموصى بعتقه ولا فرق. اهـ.
استدل القائلون بجواز بيع المدبر بأدلة، منها:
1- حديث جابر بن عبدالله المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع عبدًا مدبرًا. وقد سبق ذكره في أول المسألة.
2- روى أحمد في مسنده عن عَمْرَةَ قالت: اشتكتْ عائشةُ فطال شكواها، فقدم إنسانٌ المدينة يَتَطَيَّبُ، فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها فقال: والله إنكم تَنْعَتُونَ نَعْتَ امْرَأَةٍ مَطْوُبَةٍ. قال: هذه امرأةٌ مسحورةٌ سَحَرَتْهَا جاريةٌ لها. قالت: نعم أردتُ أن تموتي فَأُعْتَقَ. قال: وكانت مُدَبَّرَةً. قالت: بيعوها في أَشَدِّ الْعَرَبِ مَلَكَةً واجعلوا ثمنها في مثلها. مُسند أحمد (6/ 40)، وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 140)، والحاكم في المستدرك (4/ 244)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد أجاب جمال الدين الزيلعي -في نصب الراية (4/ 26)- على هذه الأدلة بجوابين:
الجواب الأول: بحملها على المدبر المقيد، والمدبر المقيد عند الحنفية يجوز بيعه، إلا أن يثبتوا أنه كان مدبرًا مطلقًا وهم لا يقدرون على ذلك.
وكونه لم يكن له مال غيره ليس عله في جواز بيعه؛ لأن المذهب فيه أن العبد يسعى في قيمته، يدل عليه ما أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه" عن زياد الأعراج -مصنف عبدالرزاق (9/ 164) وزياد تصحف في المطبوعة إلى أبي زياد، وهو أبو يحيى المكي الأعرج، وثقه يحيى بن معين وأبو داود وأبو زرعة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يُروى عنه. راجع: تهذيب الكمال (9/ 530)، وتهذيب التهذيب (3/ 391)، والجرح والتعديل (3/ 549)، والثقات لابن حبان (4/ 261)- عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أعتق عبده عند الموت، وترك دينًا وليس له مال قال: يستسعى العبد في قيمته ثم أخرج عن عليٍّ نحوه سواء، والأول مرسل يشده هذا الموقوف -وفي إسناد الحديثين الحجاج بن أرطاة قال فيه أحمد بن حنبل: كان من الحافظ. وقال يحيى بن معين: صدوق ليس بالقوي يدلس. وقال أبو زرعة: صدوق مدلس. وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق كثير الخطأ والتدليس. راجع: تهذيب الكمال (5/ 420)، والجرح والتعديل (3/ 155)، وتهذيب التهذيب (2/ 172)-.
الجواب الثاني: بحملها على بيع الخدمة والنفقة لا بيع الرقبة، بدليل ما أخرجه الدارقطني -سنن الدارقطني (4/ 137)- عن عبدالغفار بن القاسم -عبدالغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري رافضي ليس بثقة قال علي بن المديني: كان يضع الحديث. وقال يحيى ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك الحديث. راجع: ميزان الاعتدال (2/ 640)، والجرح والتعديل (6/ 53)، والتاريخ الكبير (6/ 122)- عن أبي جعفر -وأبو جعفر القائ المدني مولى عبدالله بن عياش وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. راجع: تهذيب الكمال (33/ 200)، والجرح والتعديل (9/ 285)، والثقات (5/ 543)-، قال: ذكر عنده أن عطاء وطاوسًا يقولان عن جابر في الذي أعتقه مولاه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان أعتقه عن دبر فأمره أن يبيعه ويقضي دينه، فباعه بثمانمائة درهم. قال أبو جعفر: ضهدت الحديث من جابر إنما أذن في بيع خدمته. انتهى.
قال الدارقطني -كما في سنن الدارقطني (4/ 138)-: عبدالغفار ضعيف، ورواه غيره عن أبي جعفر مرسلًا. ثم رواه بإسناد صحيح عن أبي جعفر مرسلًا قال: باع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة المدبر. اهـ.
واستدل القائلون بعدم جواز بيع المدبر إضافة لما ذكره الزيلعي أثناء جوابه على أدلة المخالفين، استدلوا بما رواه الدارقطني في سننه (4/ 138) من طريق عبيدة بن حسان -عبيدة بن حسان العنبري السنجاري قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 26)، والجرح والتعديل (6/ 92)، وكتاب المجروحين (2/ 189)- عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من ثلث المال). قال الدارقطني في سننه (4/ 138): لم يسنده غير عبيدة بن حسان وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر من قوله.
ثم رواه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أنه كره بيع الدبر، ثم قال: هذا هو الصحيح موقوف، وما قبله لا يثبت مرفوعًا ورواته ضعفاء. اهـ.
ورواه ابن ماجه في سننه (2514) من طريق علي بن ظبيان -علي بن ظبيان قال فيه يحيى بن معين وأبو داود: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: واهي الحديث جدًّا. وقال أبو حاتم وأبو الفتح الأزدي: متروك، وقال ابن حبان: سقط الاحتجاج بأخباره. وعد الحفاظ هذا الحديث من مناكيره. راجع: تهذيب الكمال (20/ 498)، والجرح والتعديل (6/ 191)، وكتاب المجروحني (2/ 105)- عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدبر من الثلث).
وقد سُئل أبو زرعة الرازي عن حديث علي بن ظبيان هذا فقال: هذا باطل. قال ابن أبي حاتم: ورواه خالد بن إلياس عن نافع عن ابن عمر من قوله. العلل لابن أبي حاتم (2/ 432).
إذًا فالصحيح في هذا الحديث عند المحدثين عن ابن عمر موقوفًا.
ويرى الحنفية أن الحديث إذا روي من طريق مرفوعًا ومن طريق آخر موقوفًا، فإن الحديث يكون مرفوعًا وأن الموقوف يؤيد ثبوت الحديث ولا ينفيه، وبهذا نعلم أن احتجاج الحنفية بمثل هذه الأحاديث يتفق ومنهجهم في قبول الأخبار.
كما أن تقييد حديث ابن النحام ببيع الخدمة بهذا المرسل الصحيح يتفق مع قبولهم للمرسل والاحتجاج به.
فالأدلة في هذه المسائل -كما ترى- متكافئة، وكل فريق رجح بحسب منهجه في قبول الأخبار وردها، فإذا كان الأمر على ما وصفت، فإن الحنفية برآء مما اتهمهم به ابين أبي شيبة من مخالفة الحديث في هذه المسألة.
***

ثانيًا/ مَسْأَلَةُ اسْتِعْمَالِ الرَّهْنِ وَالاسْتِفَادَةِ مِنْهُ
(1) حدَّثنا وَكيعٌ عن زكرِيّا عَن عامرٍ عن أبي هُريرة قالَ: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (الظَّهْرُ يُرْكَبُ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ إذا كانَ مَرهُونًا، وَعَلَى الَّذي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ نَفَقَتُهُ). أخرجه البخاري (2521).
(2) حَدَّثَنَا وَكيعٌ حدَّثنا الأَعْمَشُ عن أبِي صالحٍ عن أبي هُريْرةَ قال: الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ ومَرْكُوبٌ. أخرجه البيهقي في السنن الكبري (6/ 38) موقوفًا ومرفوعًا.
(3) حدَّثنا وَكيعٌ عن سُفْيَانَ عن مَنْصُورٍ عن إِبراهيمَ عن أبي هُريرة قال: الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ ومَرْكُوبٌ.
وذُكِرَ أنَّ أبَا حَنيفةَ قال: لا يُنْتَفَعُ بِهِ ولا يُرْكَبُ.
***
اختلف الفقهاء في انتفاع المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية: إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء. وذهب أحمد في المشهور عنه وإسحاق وابن حزم: إلى جواز الانتفاع بالرهن للمرتهن، إذا قام بمصلحته ولو لم يأذن له المالك، وقصروا الانتفاع على حالة ما إذا كان الرهن مما يُركب أو يُحلب تبعًا للحديث ولم يتعدوه إلى غيره من المنافع.
قال صاحب الهداية: (وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن لا باستخدام ولا بسكنى ولا بلبس إلا أن يأذن له المالك)؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع. اهـ. الهداية مع فتح القدير (10/ 150)، وراجع: أحكام القرآن (1/ 724)، والمبسوط (21/ 107).
وقال في شرح رسالة أبي زيد القيرواني: منفعة الرهب للراهن؛ لأنه باقٍ على ملكه ويجوز للمرتهن أن يشترط أخذها. اهـ. الفواكه الدواني (2/ 167)، حاشية العدوي (2/ 273)، وراجع: المدونة (4/ 149)، ومختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (6/ 561)، ومواهب الجليل (5/ 17)، وشرح الخرشي (5/ 250)، ومنح الجليل (5/ 458).
وقال النووي في روضة الطالبين (4/ 79، 99): للراهن استيفاء المنافع التي لا تضر بالمرتهن؛ كسكنى الدار، وركوب الدابة واستكساب العبد، ولبس الثوب إلا إذا نقص باللبس... وليس للمرتهن في المرهون إلا حق الاستيثاق، وهو ممنوع من جميع التصرفات القولية والفعلية ومن الانتفاع. اهـ. وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (5/ 76)، ونهاية المحتاج (4/ 225)، ومغني المحتاج (3/ 37).
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 254) شارحًا قول الخرقي: "ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا، فيركب ويحلب بقدر العلف": أما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك. ونص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق. وسواءٌ أنفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته أو امتناعه من الإنفاق، أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه. وعن أحمد روايةٌ أخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوعٌ بها، ولا ينتفع من الرهن بشيء. وهذا قول أبي حنيفة ومالكٍ والشافعي. اهـ.
وقال ابن حزم في المحلى (6/ 365): ومنافع الرهن كلها لا تحاشٍ منها شيئًا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن ولا فرق، حاشا ركوب الدابة المرهونة، وحاشا لبن الحيوان المرهون، فإنه لصاحب الرهن كما ذكرنا إلا أن يضيعهما فلا ينفق عليهما، وينفق على كل ذلك المرتهن فيكون له حينئذٍ: ركوب الدابة، ولبن الحيوان، بما أنفق لا يحاسب به من دينه كَثُر ذلك أم قَلَّ. اهـ.
-أدلة الحنابلة والظاهرية:
استدلوا بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهرُ يُرْكَبُ إذا كان مرهونًا ولبنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقتُه) -سبق تخريجه-. فذكر هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره وشرب لبنه، ومعلومٌ أن الراهن إنما يلزمه نفقته لملكه لا لركوبه ولبنه؛ لأنه لو لم يكن مما يركب أو يحلب لزمته النفقة، فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن بالنفقة التي ينفقها.
وقد تأول الشافعي الحديث على الراهن فقال -في الأم (3/ 167)-: يشبه قول أبي هريرة -والله أعلم- أن من رهن ذات در وظهر لم يمنع الراهن درها وظهرها؛ لأن له رقبتها، وهي محلوبة ومركوبة كما كانت قبل الرهن، ولا يمنع الراهن برهنه إياها من الدر والظهر الذي ليس هو الرهن بالرهن الذي هو غير الدر والظهر. اهـ.
ويدفع هذا التأويل رواية هشيمٍ، فإنه رواه عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت الدابة مرهونةٌ فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب) -أخرجه أحمد في مسنده (2/ 229)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 99)-. فبيَّن في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه النفقة ويكون له ظهره ولبنه.
واحتج ابن قدامة -في المغني (4/ 254)- بأن نفقة الحيوان واجبةٌ، وللمرتهن حق قد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن، والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه، فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه، والنيابة عنه في الإنفاق عليها. اهـ. وراجع: إعلام الموقعين (2/ 18).
-أدلة الجمهور:
ذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء، وتأولوا حديث أبي هريرة لكونه ورد على خلاف القياس من وجهين: أحدهما: التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه. والثاني: تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة - فتح الباري (5/ 144).
قال ابن عبدالبر في التمهيد (14/ 216): هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها. اهـ. واستدل على نسخه بحديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُحلب ماشية امرئ بغير إذنه) -رواه البخاري (2435)، ومسلم (4608)-. وبأن ذلك كان قبل تحريم الربا.
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 99): وكان هذا عندنا -والله أعلم- في وقت ما كان الربا مباحًا، ولم يُنْه حينئذٍ عن القرض الذي يجر منفعةً، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حُرم الربا بعد ذلك وحُرم كل قرضٍ جرَّ نفعًا، وأجمع أهل العلم أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، فلما حُرم الربا حرمتْ أشكاله كلها، ورُدَّت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحُرم بيع اللبن في الضروع، فدخل في ذلك النهي عن النفقة التي يملك بها المنفق لبنًا في الضروع، ولتك النفقة غير موقوفٍ على مقدارها واللبن كذلك أيضًا. فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التي يجب له عوضها منها وباللبن الذي يحتلبه فيشربه. اهـ. واستدل الحنفية على نسخه من جهة أخرى، وهي عمل راويه بخلافه، فقد روى إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشعبي قال: لا ينتفع من الرهن بشيءٍ -أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 39)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 100)-. فقد ترك الشعبي العمل بالحديث وهو راويه عن أبي هريرة، فهذا يدل على أحد معنيينِ: إما أن يكون الحديث غير ثابتٍ في الأصل، وإما أن يكون ثابتًا وهو منسوخٌ عنده، وهذا مُقرر في منهج الحنفية.
قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 725): وهو كذلك عندنا منسوخ؛ لأن مثله كان جائزًا قبل تحريم الربا فلما حُرم الربا ورُدّتْ الأشياء إلى مقاديرها؛ صار ذلك منسوخصا. ألا ترى أنه جعل النفقة بدلًا من اللبن قَلَّ أو كَثُر؟ وهو نظري ما روي في المصراة أنه يردها ويرد معها صاعًا من تمرٍ، ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه، وذلك أيضًا عندنا منسوخٌ بتحريم الربا. اهـ.
يتضح مما سبق أن جمهور العلماء على تأويل حديث أبي هريرة لتعارضه مع أصول مجتمع عليها، فتأوله الشافعي بأن المراد بالانتفاع الراهن، وتأوله ابن عبدالبر والطحاوي بأنه منسوخ، حتى إن أحمد وردتْ عنه روايتان: رواية وافق فيها الجمهور، وأخرى وافق الحديث، والحق أن هذه الرواية هي أعدل الأقوال في المسألة، ولكن ذلك لا يعني أن الجمهور خالف الحديث؛ لأن القول بنسخ الحديث لا يعد مخالفة له، وعمل الراوي بخلاف مارَوي من القواعد التي ردَّ بها الحنفية خبر الواحد في عدة مسائل.
**

ثالثًا/ مَسْأَلَةُ الخِيَارِ فِي الْبَيْعِ
(1) حَدثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن عبدِاللهِ بن دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قال رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلا أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ). أخرجه البخاري (2109)، ومسلم (1543).
(2) حدَّثنا يَزيدُ عن شُعْبةَ عَن قَتَادَةَ عنْ صَالِحٍ أبِي الْخَلِيلِ عن عبدِاللهِ بنِ الحَارِثِ عن حَكِيمِ بن حِزَامٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: (البَيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا). أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
(3) حدثَنَا هَاشِمُ بنُ القَاسِمِ حدَّثنا أَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ حدَّثنا أَبُو كَثِيرٍ السُّحَيْمِيّ عَن أبِي هُريرَة قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (البيِّعَانِ بالخِيَار في بَيْعِهِمَا مَا لَم يتفرَّقا، أو يَكُنْ بَيْعُهُمَا عن خِيَارٍ). أخرجه أحمد في مسنده (2/ 311)، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 100) وقال: رواه أحمد وفيه أيوب بن عتبة، ضعفه الجمهور وقد وثق.
(4) حدَّثنَا الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ عن حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ عن جَمِيلِ بن مُرَّةَ عن أبِي الوَضِيءِ عَن أَبِي بَرْزَةَ قالَ: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (البضيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرَّقَا). أخرجه أبو داود (3457)، وابن ماجه (2182).
(5) حَدثَنا عَفَّانُ حدثنا همَّامٌ عن قتادةَ عن الحسَنِ عن سَمُرَةَ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: (البيِّعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَتفرَّقَا). أخرجه النسائي (4481) -44_ كتاب البيوع، 51_ باب ذكر الاختلاف على عبدالله بن دينار في هذا الحديث-، وابن ماجه (2182).
وذُكِرَ أنَّ أبَا حنِيفَةَ قَالَ: يضجُوزُ الْبَيْعُ وإِن لم يتفَرَّقَا.
***
اختلف أهل العلم في خيار المجلس للمتبايعين، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس: إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لها وإن لم يتفرقا. وقال الثوري والليث والشافعي وأحمد: إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا.
قال صاحب الهداية: وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحدٍ منهما إلا من عيبٍ أو عدم رؤيةٍ. وقال الشافعي: يثبت لكل واحدٍ منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا). ولنا: أن في الفسخ إبطال حق الغير فلا يجوز، والحديث محمولٌ على خيار القبول وفيه إشارةٌ إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق فيه تفرق الأقول. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (6/ 257)، والعناية (6/ 257)، ونصب الراية (4/ 418).
وجاء في المدونة (3/ 223) -والموطأ (1364)-: قلت لابن القاسم: هل يكون البائعان بالخيار ما لم يفترقا في قول مالكٍ قال: قال مالكٌ: لا خيار لهما وإن لم يفترقا. قال مالكٌ: البيع كلامٌ، فإذا أوجبا البيع بالكلام وجب البيع، ولم يكن لأحدهما أن يمتنع مما قد لزمه. قال مالكٌ في حديث ابن عمر: ليس لهذا عندنا حد معروفٌ ولا أمرٌ معمولٌ به فيه. اهـ.
وقال أبو إسحاق الشيرازي -كما في المهذب مع شرحه المجموع (9/ 205)-: وإذا انعقد البيع ثبت لكل واحدٍ من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا، لما روى ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر). والتفرق أن يتفرقا بأبدانهما بحيث إذا كلمه على العادة لم يسمع كلامه لما روى نافعٌ: أن ابن عمر كان إذا اشترى شيئًا مشى أذرعًا ليجب البيع ثم يرجع؛ ولأن التفرق في الشرع مطلقٌ فوجب أن يحمل على التفرق المعهود، وذلك يحصل بما ذكرناه. وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فيقول الآخر: اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار لقوله عليه السلام: (أو يقول أحدهما للآخر اختر). اهـ. وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (4/ 332)، ومغني المحتاج (2/ 403)، ونهاية المحتاج (4/ 3).
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 5) شارحًا قول الخرقي: "والمتبايعان كل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما": لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم. اهـ. وراجع: فتح الباري (4/ 328)، والمحلى (7/ 233).
-أدلة الحنفية والمالكية:
1- قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29] يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراضٍ قبل الافتراق، إن كانت التجارة إنما هي الإيجاب والقبول في عقد البيع، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء، ولا يُسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة، فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراضٍ، فمانع ذلك بإيجاب الخيار خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة - أحكام القرآن (2/ 250).
2- أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) -أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (3922)-. فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق، فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه، وذلك ينفي خيار البائع؛ لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه - أحكام القرآن (2/ 253).
وقد أجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 222)- عن الاحتجاج بهذين الدليلين بأن عموم الآية والحديث مخصوص بحديث إثبات خيار المجلس، ومن المقرر عند الحنفية ان خبر الواحد لا يخصص عموم القرآن ولا عموم السنة المشهورة.
3- واستدل بعض المالكية على نفي خيار المجلس بأنه على خلاف عمل أهل المدينة، ومذهب مالك أن الحديث إذا خالف عمل أهل المدينة تركه، واشتد إنكار ابن عبدالبر وابن العربي على من زعم ذلك، قال ابن العربي: إنما لم يأخذ به مالك؛ لأن وقت التفرق غير معلوم فأشبه بيوع الغرر كالملامسة. اهـ. - فتح الباري (4/ 330)، وسيأتي الكلام على ذلك في الدليل التالي. والحق أن عبارة مالك بالموطأ يُفهم منها أن ترك العمل به للأمرين جميعًا.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (9/ 221): وأما قول مالكٍ فهو اصطلاحٌ له وحده منفردٌ به عن العلماء، فلا يقبل قوله في رد السنن لترك فقهاء المدينة العمل بها، وكيف يصح هذا المذهب مع العلم بأن الفقهاء ورواة الأخبار لم يكونوا في عصره، ولا في العصر الذي قبله منحصرين في المدينة ولا في الحجاز؛ بل كانوا متفرقين في أقطار الأرض، مع كل واحدٍ قطعةٌ من الأخبار لا يشاركه فيها أحدٌ، فنقلها ووجب على كل مسلمٍ قبولها، ومع هذا فالمسألة متصورةٌ في أصول الفقه غنيةٌ عن الإطالة فيها هنا، هذا كله لو سلم أن فقهاء المدينة متفقون على عدم خيار المجلس، ولكن ليس هم متفقين، فهذا ابن أبي ذيبٍ أحد أئمة فقهاء المدينة في زمن مالكٍ أنكر على مالكٍ في هذه المسألة، وأغلظ في القول بعباراتٍ مشهورةٍ، حتى قال: يستتاب مالكٌ من ذلك، وكيف يصح دعوى اتفاقهم. اهـ.
4- واستدلوا من جهة النظر بأن المجلس قد يطول ويقصر، فلو علقنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك، ألا ترى أنه لو باعه بيعًا باتًّا وشَرِطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه، كان البيع باطلًا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد - أحكام القرآن (2/ 452). روى الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 405) عن سفيان بن عيينة قال: بلغ أبا حنيفة أني أروي: (إن البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). فجعل يقول: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أرأين إن كانا في سفر، كيف يفترقان.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (9/ 221، 223): والجواب عن قولهم خيارٌ مجهولٌ أن الخيار الثابت شرعصا لا يضر جهالة زمنه كخيار الرد بالعيب والأخذ بالشفعة، بخلاف خيار الشرط فإنه يتعلق بشرطهما، فاشترط بيانه، وأما قول أبي حنيفة: لو كانا في سفينةٍ فنحن نقول به، فإن خيارهما يدوم ما داما مجتمعين في السفينة، ولو بقيا سنةً وأكثر، والدليل إطلاق الحديث. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري (4/ 330): والغرر في خيار المجلس معدوم؛ لأن كلًّا منهما متمكن من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر. اهـ.
5- واستدلوا أيضًا من جهة النظر باتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد، إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما، والمعنى فيه بالإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط - أحكام القرآن (2/ 258).
وأجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 223)- عن قياسهما على النكاح والخلع بأنه ليس المقصود منهما المال؛ ولهذا لا يفسدان بفساد العوض بخلاف البيع.
وأجاب ابن قدامة -كما في المغنى (4/ 5)-: بأنه لا يصح قياس البيع على النكاح؛ لأن النكاح لا يقع غالبًا إلا بعد رؤيةٍ ونظرٍ وتمكثٍ، فلا يحتاج إلى الخيار بعده، ولأن في ثبوت الخيار فيه مضرةً، لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد، وذهاب حرمتها بالرد، وإلحاقها بالسلع المبيعة، فلم يثبت فيه خيارٌ لذلك؛ ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط، ولا خيار الرؤية.
-أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة ومعهم جمهور العلماء على ثبوت خيار المجلس بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايع المتبايعان فكل واحدٍ منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيارٍ). قال: وكان ابن عمر إذا تبايع البيع وأراد أن يجب، مشى قليلًا ثم رجع -أخرجه مسلم (3953)، وقد سبق تخريجه عن جماعة من الصحابة في أول المسألة. وذكر البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (2116) عن ابن عمر قال: بعث من أمير المؤمنين عثمان مالًا بالوادي بمالٍ له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يُرَادَّنِي البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا. قال ابن عمر: فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليالٍ، وساقني إلى المدينة بثلاثٍ ليالٍ. وأخرجه موصولًا البيهقي في السنن الكبرى (5/ 271)-. وقد دلَّ الحديث على أن البيع إذا انعقد ثبت لكل واحدٍ من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا بأبدانهما.
وتأول الحنفية والمالكية الحديث على حال التساوم فقالوا: إن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم، فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع، فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة، وإنما يقال لهما كانا متبايعين، كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل، وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق، وإنما يقال كانا متقايلين ومتضاربين؛ وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به - أحكام القرآن (2/ 255)، وشرح معاني الآثار (4/ 13)، والمنتقي شرح الموطأ (5/ 55).
وأجاب النووي وابن قدامة عن ذلك من أوجهٍ: أحدها/ أنهما ما داما في المقاولة يسميان متساومين، ولا يسميان متبايعين؛ ولهذا لو حلف بطلاقٍ أو غيره أنه ما بايع، وكان مساومًا وتقاولا في المساومة وتقرير الثمن ولم يعقدا، لم يحنث بالاتفاق. والثاني/ أن المتبايعين اسمٌ مشتق من البيع، فما لم يوجد البيع لم يجز أن يشتق منه؛ لأن كل اسم من معنى لا يصح اشتقاقه حتى يوجد. الثالث/ إن حمل الخيار على ما قلنا يحصل به فائدةٌ لم تكن معروفةً قبل الحديث، وحمله على المساومة يخرجه عن الفائدة، فإن كل أحدٍ يعلم أن المتساومين بالخيار إن شاءا عقدا وإن شاءا تركا. الرابع/ أن راوي الحديث ابن عمر كان إذا أراد إلزام البيع مشى قليلًا لينقطع الخيار، كما ثبت عنه في الصحيحين على ما قدمناه عنه، وهو أعلم بمراد الحديث - المجموع شرح المهذب (9/ 222).
وأجاب الجصاص عن الوجه الثاني: بأن ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما تسمي القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد، وكما قيل لولد إبراهيم المأمور بذبحه: الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح، وقال تعالى: (
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق: 2]، والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] وأراد به حقيقة البلوغ، فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد - أحكام القرآن (2/ 255).
وأجاب عن الوجه الثالث: بأن الحديث أفاد اعظم الفوائد، وهو أنه قد كان جائزًا أن يظن ظانٌّ أن البائع إذا قال للمشتري: قد بعتك. أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة؛ فأبان النبي صلى الله عليه وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر، وأنه مفارق للعتق والخلع.
وأجاب على الرابع: بأنه لا دلالة فيه على أنه من مذهبه؛ لأنه جائز أن يكون خافٍ أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرًا مما لحقه في البراءة من العيوب، حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه - أحكام القرآن (2/ 254)، وراجع: فتح الباري (4/ 331).
-كما تأول الحنفية والمالكية التفرق الوارد في الحديث على الافتراق بالقول، كما قال الله تعالى: (
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة: 4] ويقال: تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا، يراد به الاجتماع على قول والرضا به وإن كانوا مجتمعين في المجلس - أحكام القرآن (2/ 256)، وشرح معاني الآثار (4/ 13)، والمنتقى شرح الموطأ (5/ 55).
وأجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 222)-: بأن الإيجاب والقبول ليس تفرقًا منهما في القول؛ لأن من أوجب القول فغرضه أن يقبله صاحبه، فإذا قبله فقد وافقه ولا يسمى مفارقةً.
واستدل الحنفية والمالكية على أن المراد الافتراق بالقول بما رُوي عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله) -أخرجه أبو داود (3456)، والترمذي، والنسائي (4483)-.
وفسروا هذا الحديث باعتباره واردًا في الإقالة فقوله: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا). يُحمل على الافتراق بالقول، وقوله: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) يُحمل على افتراق الأبدان خشية أن يطلب منه الإقالة بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به، وهذا يدل على نفي الخيار بعد وقوع العقد من وجهين:
أحدهما/ أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة؛ بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه.
والثاني/ أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه، فهذا أيضًا يدل على نفي الخيار وصحة البيع - أحكام القرآن (2/ 256).
وأجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 223)- عن هذا الحديث بأنه وارد في خيار المجلس، ومعناه مخافة أن يختار الفسخ، فعبر بالإقالة عن الفسخ؛ لأنه لو كان المراد حقيقة الإقالة لا يمنعه من المفارقة مخافة أن يقيله؛ لأن الإقالة لا تختص بالمجلس. وهذا يتفق مع صنيع أبي داود والترمذي والنسائي؛ حيث أوردوا الحديث في مصنفاتهم في باب خيار المجلس.
قال الترمذي بعد روايته: ومعنى هذا أن يفارقه بعد البيع خشية أن يستقيله، ولو كانت الفرقة بالكلام، ولم يكن له خيار بعد البيع، لم يكن لهذا الحديث معنى. اهـ.
وقد فطن الجصاص إلى أن الإقالة لا تختص بالمجلس فقال -كما في أحكام القرآن (2/ 257)-: وقوله: (ولا يحل له أن يفارقه) يدل على أنه مندوب إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس، مكروه له أن لا يجيبه إليها، وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه، في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويُكره له قبلها. اهـ.
والخلاف في المسألة -كما ترى- محتدم بين الفريقينِ، وقد حشد كل فريق للآخر أدلةً وردودًا، وما تركتُه من أدلة ومناقشات أضعاف ما ذكرتُه، ولكني اكتفيتُ بالمشهور منها، والذي نخلص إليه من كل ذلك أن رد الحنفية لحديث خيار المجلس يرجع أساسًا لمخالفته ظاهر القرآن، فظاهر القرآن قطعي، وخبر الواحد ظني، والقطعي لا يعارض بالظني، كما هو مقرر في منهجهم.
قال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 258): إن الحديث محتمل لما وصفنا ولما قال مخالفنا؛ وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال؛ بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه. اهـ.
ورد الحديث لمخالفته شروط القبول لا يعد مخالفة له كما هو معلوم؛ ومن ثم فدعوى مخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة ليست مقبولة.
***

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيرًا.

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

السلام عليكم

بّيْع الرُّطَب بالتَّمْرِ
[من أمثلة مخالفة خبر الواحد للسنة المشهور]
(مُخالفة خبر الواحد للسنة المعروفة)

(مُخالفة خبر الواحد للسنة المعروفة)
من قواعد الحنفية في قبولة حديث الآحاد أن لا يخالف السنة المعروفة، ويعتبرون تلك المخالفة انقطاعًا باطنًا يقدح في صحة الحديث وثبوته، ومعنى المخالفة هنا هو ذاته المتقدم عند الحديث على مخالفة الحديث للكتاب.
والمراد بالسبنة المعروفة: المتواترة أو المشهورة أو ما تلقته الأمة بالقبول، والمشهور عند الحنفية كما سبق قسم من أقسام المتواتر، وليس من أقسام الآحاد كما في اصطلاح المحدثين؛ لذا فالآحاد عندهم وهو ظني لا يعارض السنة المعروفة؛ لأنها قطعية.
قال السرخسي في أصوله (1/ 366): الغريب من أخبار الآحاد إذا خالف السنة المشهورة فهو منقطع في حكم العمل به؛ لأنه ما يكون متواترًا من السنة أو مستفيضًا أو مجمعًا عليه فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به، وما فيه شبهة فهو مردود في مقابلة اليقين، وكذلك المشهور من السنة فإنه أقوى من الغريب لكونه أبعد عن موضع الشبهة؛ ولهذا جاز السخ بالمشهور دون الغريب؛ فالضعيف لا يظهر في مقابلة القوي. اهـ.
ثم أوضح السرخسي أهمية هاتين القاعدتين السابقتين -أعني عرض الحديث على الكتاب والسنة المشهورة- فقال -كما في أصول السرخسي (1/ 367)-: ففي هذينِ النوعينِ من الانتقاد للحديث علم كثير، وصيانة للدين بليغة، فإن أصل البدع والأهواء إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة المشهورة، فإن قومًا جعلوها أصلًا مع الشبهة في اتصالها برسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أنها لا توجب علم اليقين، ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة فجعلوا التبع متبوعًا، وجعلوا الأساس ما هو غير متيقن به فوقعوا في الأهواء والبدع، بمنزلة من أنكر خبر الواحد فإنه لما لم يجوز العمل به احتاج إلى القياس به وفيه أنواع من الشبهة، أو إلى استصحاب الحال وهو ليس بحجة أصلًا، وترك العمل بالحجة إلى ما ليس بحجة يكون فتحًا لباب الإلحاد وجعل ما هو غير متيقن به أصلًا، ثم تخريج ما فيه التيقن عليه يكون فتحًا لباب الأهواء والبدع، وكل واحد منهما زيف مردود، وإنما سواء السبيل ما ذهب إليه علماؤنا -رحمهم الله- من إنزال كل حجة منزلتها، فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلًا، ثم خرجوا عليهما ما فيه بعض الشبهة وهو المروي بطريق الآحاد مما لم يشتهر، فما كان منه موافقًا للمشهور قبلوه، وما لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة المشهورة له ذكرًا قبلوه أيضًا وأجبوا العمل به، وما كان مخالفًا لهما ردوه، على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل بالغريب بخلافه، وما لم يجدوه في شيء من الأخبار وصاروا حينئذ إلى القياس في معرفة حكمه لتحقق الحاجة إليه. اهـ. وانظر: كشف الأسرار (3/ 13)، والفصول في الأصول (3/ 144)، وشرح المنار (2/ 647)، والتلويح على التوضيح (2/ 17).

وفي هذا المبحث أمثلة؛ منها:
-مسألة (القضاء بالشاهد واليمين).
-ومسألة (بيع الرطب بالتمر).

ويُراجع كتاب منهج الحنفية في نقد الحديث ص(192، 193 [الأمثلة193- 197]).
روى مالك في "الموطأ" ومن طريقه أصحاب السنن الأربعة عن عبدالله بن يزيد أن زيدًا أبا عياش أخبره: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فقال له سعد: أيتهما أفضل؟ قال: البيضاء. فنهاه عن ذلك. وقال سعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن اشتراء التمر بالرطب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أينقص الرطب إذا يبس). فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك -الموطأ (1312)، أبو داود (3359)، والترمذي (1269)، وقال الترمذي: حسن صحيح. والنسائي (4545، 4546)، وابن ماجه (2264)-.
فذهب أبو حنيفة إلى أنه مخالف للسنة المشهورة، وهو ما روي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التمر بالتمر مثلًا بمثل) -مسلم (4147)-. وذلك من وجهين:
أحدهما/ أن فيها اشتراط المماثلة في الكيل مطلقًا لجواز العقد؛ فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الأحوال وهو بعد الجفوف يكون زيادة.
والثاني/ أنه جعل فضلًا يظهر بالكيل هو الحرام في السنة المشهورة، فجعلُ فضلٍ يظهر عند فوات وصف مرغوب فيه ربًا حرامًا يكون مخالفًا لذلك الحكم.
وقال أبو يوسف ومحمد: السنة المشهورة لا تتناول الرطب؛ لأن مطلق اسم التمر لا يتناوله، بدليل أن من حلف لا يأكل تمرًا فأكل رطبًا لم يحنث، ولو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرًا لم يحنث، فإذا لم تتناوله السنة المشهورة وجب إثبات الحكم فيه بالخبر الآخر. وأبو حنيفة قال: التمر اسم للثمرة الخارجة من النخل من حين تنعقد صورتها إلى أن تدرك، وما يختلف عليه أحوال وأوصاف حسب ما يكون على الآدمي لا يتبدل به اسم العين، وفي الأيمان تترك الحقائق لدلالة العرف، واليمين تنعقد بوصف في العين إذا كان داعيًا إلى اليمين - أصول السرخسي (1/ 366)، وكشف الأسرار (3/ 13).
واستدل صاحب الهداية لأبي حنيفة بأمرين:
1- أن الرطب تمر لقوله صلى الله عليه وسلم حين أُهدي إليه رطبًا: (أَكل تمر خيبر هكذا). سماه تمرًا، وبيع التمر بمثله جائز لحديث عبادة بن الصامت.
وحديث تمر خيبر ثابت في الصحيحين وغيرهما وليس فيه ذكر للرطب: عن أبي سعِيد الخدري وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جَنِيبٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَكُلُّ تمر خيبر هكذا). قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعينِ، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل بعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا) -أخرجه البخاري (2201)، ومسلم (4165)، والجنيب نوع جيد من أنواع التمر. والجمع تمر مختلف من أنواع متفرقة وليس مرغوبًا فيه، وما يخلط إلا لرداءته. راجع: النهاية (1/ 296، 304)-.
قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 518): احتج المصنف بالحديث على جواز بيع الرطب بالتمر مثلًا بمثل، بناءً على تسميته في الحديث تمرًا، وقد كشفت طرق الحديث وألفاظه، فلم اجد فيه ذكر الرطب. اهـ.
2- روى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبرِ، والشعير بالشعيرِ، والتمر بالتمر، والمِلح بِالملح، مثلًا بمثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ، فإذا اخْتَلَفَتْ هذه الأصنافُ فبيعُوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ) -سبق تخريجه-. فلو كان الرطب تمرًا لجاز البيع بأول الحديث، وإن كان غير تمر فبآخره - الهداية وشروحها: فتح القدير (7/ 28)، والعناية (7/ 28)، ونصب الراية (4/ 516).
قال الحافظ ابن حجر -كما في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 158)-: هو قياس صحيح، ولكنه في معارضة النص فهو فاسد، وأيضًا فالحديث إنما ورد باختلاف الأصناف لا الأنواع كما قال. اهـ.
وتمسك الجمهور بحديث سعد بن أبي وقاص في عدم جواز بيع الرطب بالتمر، وجعلوه أصلًا في عدم جواز بيع المطعوم بجنسه وأحدهم رطب والآخر يابس.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 6): فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه وجعلوه أصلًا، ومنعوا به بيع الرطب بالتمر، وممن ذهب إلى ذلك: أبو يوسف ومحمد بن الحسن -رحمة الله عليهما- وخالفهما في ذلك آخرون فجعلوا الرطب والتمر نوعًا واحدصا، وأجازوا بيع كل واحد منهما بصاحبه مثلًا بمثل وكرهوه نسيئةً. اهـ.
قال البغوي في شرح السنة (8/ 79): وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وجوزه أبو حنيفة وحده. اهـ. وراجع: التمهيد (19/ 182)، والمغني (4/ 32)، والمجموع (10/ 290).
وقد رد الحنفية حديث سعد بن أبي وقاص لعدة امور؛ منها:
1- أنه مخالف للسنة المشهورة كما سبق بيانه.
2- جهالة زيد بن عياس راوي الحديث عن سعد بن أبي وقاص حُكي ذلك عن الإمام أبي حنيفة -تهذيب التهذيب (3/ 365)-. وقد وافق ابنُ حزم أبا حنيفة في ذلك فقال -كما في المحلى (8/ 462)- عقب ذكره للحديث: لا يصح؛ لأنه من رواية زيد بن أبي عياش وهو مجهول. اهـ.
قال ابن الجوزي: قال أبو حنيفة: زيد أبو عياش مجهول، فإن كان هو لم يعرفه فقد عرفه أئمة النقل. وقال الدارقطني: هو ثقة -التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 172)، وتهذيب التهذيب (3/ 365)-. وقال الذهبي: صالح الأمر -ميزان الاعتدال (2/ 105)-.
قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 45): هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على غمامة مالك بن أنس، وأنه مُحْكمٌ لكل ما يرويه في الحديث؛ إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح خصوصًا في حديث أهل المدينة، ثم لمتابعة هؤلاء الأئمة إياه في روايته عن عبدالله بن يزيد، والشيخان لم يخرجاه لما خشيا من جهالة زيد بن أبي عياش. اهـ.
وقال الخطابي في معالم السنن (3/ 67): وقد تكلم بعض الناس في إسناد الحديث، وقال: زيد أبو عياش مجهول، ومثل هذا الإسناد على أصل الشافعي لا يحتج به. وليس الأمر على ما يتوهمه، فإن أبا عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في الموطأ وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته. اهـ.
وزيد بن عياش رَوَى عنه ثقتان: عبدالله بن يزيد وعمران بن أبي أنس -راجع: تهذيب الكمال (10/ 101)، فارتفع عنه ما يخشى من جهالة العين، وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 251)، وصحح حديثه الترمذي والحاكم وابن حبان -في صحيحه (11/ 378)-، والحديث مقبول على وفق منهج الحنفية في قبول رواية المستور.
3- الاختلاف الواقع في متن الحديث فقد رواه أبو داود من طريق يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن يزيد عن أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة -سنن أبي داود (3360)-.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 6، 7): فكان هذا أصل الحديث فيه ذكر النسيئة، زاده يحيى بن أبي كثير على مالك بن أنس فهو أَوْلَى، وقد روى هذا الحديث أيضًا غير عبدالله بن يزيد، على مثل ما رواه يحيى بن أبي كثير أيضًا. ثم روي بسنده عن عمران بن أبي أنس مولى لبني مخزوم حدثه: أنه سئل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يسلف الرجل الرطب بالتمر إلى أجلٍ؟ فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا.
ثم قال: فهذا عمران بن أبي أنس، وهو رجل متقدم معروف، قد رَوَى هذا الحديث كما رَوَاه يحيى. فكان ينبغي في تصحيح معاني الآثار أن يكون حديث عبدالله بن يزيد لما اختلف عنه فيه أن يرتفع ويثبت حديث عمران هذا. فيكون هذا النهي الذي جاء في حديث هذا، إنما هو لعلة النسيئة لا لغير ذلك. اهـ.
قال الدارقطني -في سننه (3/ 49)- منتقدًا رواية يحيى بن أبي كثير: خالفه مالك وإسماعيل بن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد روَوه عن عبدالله بن يزيد ولم يقولوا فيه نسيئة، واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه يحيى يدلُّ على ضبطهم للحديث، وفيهم إمام حافظ وهو مالك بن أنس. اهـ.
وكما اتشهد الطحاوي برواية عمران ابن أبي أنس ورواها بلفظ يؤيد رواية يحيى بن أبي كثير، فعل ذلك أيضًا البيهقي ورواها بلفظ يوافق رواية مالك.
قال البيهقي في السنن الكبير (5/ 265): والعلة المنقولة في هذا الخبر تدلُّ على خطأ هذه اللفظة -يعني النسيئة- وقد رواه عمران بن أبي أنس عن أبي عياش نحو رواية الجماعة. ثم ذكره بسنده. اهـ. وانظر: المستدرك للحكام (2/ 50).
فتحصل من ذلك أن الاختلاف في الحديث وقع في رواية عبدالله بن يزيد وفي رواية عمران بن أبي أنس، وتمسك كل فريق بالرواية التي تؤيد مذهبه.

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

السلام عليكم

http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=10834&p=101317&viewfull=1#post101317
مسألة الخيار في المصراة: روى البخاري (2148)، ومُسلم (3890) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع التمر.
والمصراة: هي الناقة أو البقرة أو الشاة التي يُصّرَّى اللبن في ضَرْعها، أي يُجمع ويُحبس فلم يُحلب أيامًا. وهي مأخوذة من التصرية، وأصل التصرية حبس الماء، يُقال: صريت الماء إذا حبسته. والمعنى: جمع اللبن وحبسه في ضرع الحيوان بفعل البائع ليكبر الضرع، فيغتر المشتري بذلك ويشتريها ظنًّا منه أن عظم الضرع لسبب كثرة اللبن كثرة طبيعية، وهو منهي عنه شرعًا.
قال الشافعي: هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. اهـ. راجع: فتح الباري (4/ 362)، والنهاية (3/ 28).
واختلف الفقهاء فيمن اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ولم يعلم بأنها مصراة ثم علم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف: هو بالخيار بين أن يُمسك وبين أن يردها بالعيب، فإن ردها رد معها صاعًا من تمر. وقال أبو حنيفة ومُحمد بن الحسن: ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب.
جاء في الفقه على المذاهب الأربعة: أن الشافعية- قالوا: إذا اشترى المصراة فحلبها فإن له ردها مع رد صاع من تمر معها. وكذا إذا استهلك لبنها بغير الحلب كأن ترك ولدها يرضعها. وإذا علم أنها مصراة قبل أن يتلف لبنها فإن له ردها بدون أن يكون ملزمًا برد شئ معها: كما لا يلزم برد صاع التمر بخصوصه إذا اتفق المتعاقدان على غيره فيصح أن يرد بدل اللبن نقودًا أو برًا أو غيرهما مع الاتفاق. واللبن الذي يجب معه الرد هو لبن مأكول اللحم، أما لبن غيره كالأتان فإنه لا يرد بدله. وإن كانت التصرية عيبًا فيه يرد به. وكذا لا يرد بدل القليل التافه، وإذا كرر حلبها فإنه لا يلزم إلا برد صاع واحد، نعم إذا كانت الناقة أو الشاة ملكًا لشركاء متعددين، أو اشتراها شركاء فإن لكل واحد من البائعين صاعًا، وعلى كل واحد من الشارين صاعًا. اهـ.
والمالكية- قالوا: إذا اشترى المصراة فحلبها فإن له ردها بشرط أن يرد معها صاعًا من غالب قوت بلده، ولا يشترط رد صاع التمر بخصوصه، ويحرم أن يرد اللبن فقط، إنما له رده مع رد الصاع. وكذا يحرم رد بدل الصاع من نفوذ أو غيرها. وإذا لم يحلبها ثم علم بأنها مصراة فله ردها بدون أن يلزم بالصاع. واللبن الذي يجب معه الرد هو لبن مأكول اللحم، أما غير مأكول اللحم فإنه لا يجب معه رد الصاع وإن كان يرد نفس الحيوان بالتصرية لأنها عيب فيه. وإذا كرر حلبها فلا يرد إلا صاعًا واحدًا ما لم يدل تكرار الحلب على الرضا، وذلك كأن يحلبها لينتفع بلبنها. أما إذا حلبها لاختبارها مرة أخرى فإنه يدل على الرضا، وإذا حلبها مرة ثالثة فإنها تدل على الرضا إلا إذا ادعى أنه حلبها الثالثة ليختبرها، لأن الحلبة الثانية لم تكف في اختبارها ولكن عليه اليمين. فإذا حلبها بعد الثالثة كان ذلك رضًا قولًا واحدًا. وإنما يعتبر تكرر الحلبات ثلاثة أو أقل إذا حلبها في مواعيد حلبها، فإذا حلبها في يوم واحد ثلاث مرات وكانت عادتها حلبتين حسب له اثنان فقط. وإذا اشترى من بائع واحد شياهًا متعددة في عقد واحد فوجدها مصراة كلها فإن له ردها، وعليه أن يدفع على كل واحدة حلبها صاعًا على الأرجح.
والحنابلة- قالوا: إذا اشترى المصراة فإن له ردها بذلك العيب وعليه أن يرد معها صاعًا من تمر عملًا بالحديث المذكور، ويسمون هذا خيار التدليس.
والحنفية- قالوا: إذا اشترى المصراة فليس له ردها بذلك العيب مطلقًا، وإنما له المطالبة بالتعويض عما نقص من قيمتها بذلك العيب. ويقولون: إن الحديث الوارد في ذلك وإن كان صحيحًا في ذاته ولكن يُعارضه شئ واحد آخر، وهو أن القياس الثابت بالكتاب والسنة والإجماع قد دل على أن ضمان العدوان يكون بالمثل أو القيمة، وفي مسألة المصراة قد تعدى البائع بالتصرية تغريرًا بالمشتري فعليه أن يضمن قيمة النقص الحاصل بالعيب. أما المشتري فلم يتعد بالحلب، وعلى فرض أنه تعدى فإنه يلزم بقيمة اللبن أو مثله، والتمر ليس واحدًا منهما، فكان الحديث مُخالفًا للقياس فلم يُعمل به. وقال أبو يوسف: إنها ترد ويرد معها قيمة اللبن.
وراجع: الفقه على المذاهب الأربعة (2/ 182).
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (6/ 397): إذا حلب المصراة ليس له ردها عندنا، وهل يرجع بالنقصان؟ في رواية الكرخي: لا، وفي رواية شرح الطحاوي: يرجع لفوات وصف مرغوب فيه بعد حدوث زيادة منفصلة. وقيل: لو اختيرت هذه للفتوى كان حسنًا لغرور المشتري بالتصرية، ولو اغتر بقول البائع هي حلوب فتبين خلافه بعد الولادة يرجع فكذا هنا. اهـ. وراجع: شرح معاني الآثار (4/ 19)، والمبسوط (13/ 38).
وقال النووي في روضة الطالبين (3/ 466)، والمجموع (11/ 198): يثبت بالتصرية الخيار للمشتري، وفي خياره وجهان: أصحهما أنه على الفور. والثاني يمتد إلى ثلاثة أيام. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 104): من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام، لم يعلم تصريتها ثم علم، فله الخيار في الرد والإمساك. اهـ.
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (18/ 202): اختلف العلماء في القول بحديث المصراة؛ فمنهم من قال به، ومنهم من رده ولم يستعمله، وممن قال به: مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل الحديث. ذكر أسد وسحنون عن ابن القاسم أنه قال لمالك: تأخذ بهذا الحديث؟ قال: نعم. وقال مالك: أَوَ لأَحَدٍ في هذا الحديث رأي. قال أبو عمر: ورده أبو حنيفة وأصحابه وزعم بعضهم أنه منسوخ وأنه كان قبل تحريم الربا، وبأشياء لا يصلح لها معنى إلا مجرد الدعوى، وقد روى أشهب عن مالك نحو ذلك، ذكر العتبي من سماع أشهب عن مالك: أنه سئل عن حديث المصراة فقال: قد سمعت ذلك وليس بالثابت ولا الموطأ عليه، ولئن لم يكن ذلك: إن له اللبن بما أعلف وضمن. قيل له: نراك تضعف الحديث؟ فقال: كل شئ يوضع موضعه، وليس بالموطأ ولا الثابت وقد سمعته. قال أبو عمر: هذه رواية منكرة والصحيح عن مالك ما رواه ابن القاسم، والحديث عن أهل العلم بالحديث صحيح من جهة النقل. اهـ. وراجع: المدونة (3/ 3013)، والمنتقى شرح الموطأ (5/ 106).
وما حكاه ابن عبدالبر عن أصحاب أبي حنيفة صرح به الطحاوي كما في شرح معاني الآثار (4/ 19) فقال: ليس للمشتري رد المصراة بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب. وممن قال ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وذهبوا إلى أن ماروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك منسوح فروى عنهم هذا الكلام مجملًا، ثم اختلف عنهم من بعد في ناسخ ذلك ما هو. اهـ. وراجع: أحكام القرآن للجصاص (1/ 726).
ثم حَكَى الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 20) عن عيسى بن أبان: أن ذلك كان في أول الإسلام حين كانت العقوبات في الذنوب يُؤخذ بها الأموال حتى نسخ الله الربا، يوضح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن بيع المصراة، جعل عقوبة من يفعل ذلك أن يكون اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصعًا كثيرة، ثم نُسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها، فلما كان ذلك كذلك، ووجب رد المصراة بعينها وقد زايلها اللبن، علمنا أن ذلك اللبن الذي أخذه المشتري منها، قد كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع عليها فهو في حكم المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فذلك للمشتري، فلما لم يكن رد اللبن كله للمشتري إن كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاه التي قد ردها عليه بالعيب، وكان ملكه له إياه بجزء من الثمن إذا كان وقع به البيع، فلا يجوز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللين سالمًا له بغير ثمن، فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها، ورجع على بائعه بنقصان عيبها. اهـ.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 12): والذي قال عيسى من هذا يحتمل غير ما قال، إني رأيت في ذلك وجهًا هو أشبه عندي بنسخ هذا الحديث من ذلك الوجه الذي ذهب إليه عيسى، وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتري منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها، قد كان بعضه في ملك البائع قبل الشراء، وحدث بعضه في ملك المشتري بعد الشراء، إلا أنه قد احتلبها مرة بعد مرة، فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعًا، إذا أوجب نقض البيع في الشاة وجب نقض البيع فيه، وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضًا، وحكمه حكم الشاة؛ لأنه من بدنها هذا على مذهبنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها، جميع لبنها الذي كان حلبه منها بالصاع من التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة، وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه، فكان المشتري قد ملك لبنًا دينًا بصاع تمر دين، فدخل ذلك في بيع الدَّين بالدَّين ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد عن بيع الدين بالدين، فنسخ ذلك ما كان تقدم منه، مما روي عنه في المصراة، مما حكمه حكم الدين. اهـ.
وقد رد بعض الحنفية هذا الحديث بدعوى مخالفته لقياس الأصول المعلومة، وما كان كذلك لم يلزم العمل به، إذا كان من رواية غير الفقه وانسد باب الرأي فيه، فالحديث عند هؤلاء مخالف للقياس من كل وجه، وأبو هريرة في نظرهم ليس من فقهاء الصحابة، وقد أنكر بعض الحنفية ذلك، ونازعوا في صحة هذه القاعدة، وذهبوا إلى عدم اشتراط فقه الراوي لتقديم الخبر على القياسم، وبينوا أن الحديث ليس مُخالفًا للقياس وشهدوا لأبي هريرة بالفقه والفضل.
والظاهر عند بسط التفصيل في هذه المسألة: أن فقه الراوي لم يكن مشترطًا عند الإمام أبي حنيفة لقبول الحديث، وإنما كان يستعمله كمُرجّح بين الأدلة، فيُقدم حديث الفقيه على حديث غيره عند التعارض، ولم يذكر الحنفية أمثلة لهذه القاعدة عدا مسألة المصراة وقد تباين أقوال الحنفية في تحديد السبب في رد أبي حنيفة لحديث المصراة، بناءً على موقفهم من هذه القاعدة، فمن أقرها ذهب إلى أن ترك الحديث كان لأجلها، ومن رفضها التمس سببًا آخر لرد الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 364): واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى: منهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مُخالفًا للقياس الجلي. وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته عنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر، والقهقهة في الصلاة، وغير ذلك، وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة إشارة إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة، فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك، قال ابن السمعاني في الأحكام: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله؛ بل هو بدعة ضلالة. اهـ.
ورده بعضهم؛ لأنه مخالف لظاهر الكتاب في قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ) [البقرة: 194] وخبر الواحد لا يُخصص ظاهر الكتاب؛ لأن ذلك نسخ عندهم، والنسخ لا يكون إلا بالمتواتر أو السنة المشهورة.
ولم أر مسألة اضطربت فيها أقوال الحنفية كهذه المسألة؛ فبعضهم ادعى النسخ، والبعض رده؛ لأنه مخالف للقياس وراويه غير فقيه، والبعض الآخر لمخالفته ظاهر الكتاب، وهذا يدل على ضعف موقفهم تجاه العمل بهذا الحديث؛ ولذلك نجد أن بعض الحنفية خالف المذهب وأخذ بمذهب الجمهور كأبي يوسف وزفر وإليه مال السرخسي فقال كما في المبسوط (13/ 38): وبعد ما صحَّ الحديث فكل قياس متروك بمقابلته، مع أن الحديث موافق للأصول.
وذكروا وجوهًا كثيرة لمخالفة الحديث للأصول، لخصها الكوثري في النكت الطريفة ص(91) فقال: إنه اوجب الرد من غير عيب ولا شرط، وقدر الخيار بثلاثة أيام وإنما يتقيد بالثلاثة خيار الشرط، وأوجب الرد بعد ذهاب جزء من المبيع، وأوجب البدل مع قيام المبدل، وقدر بالتمر والطعام والمتلفات إنما تضمن بالمثل أو القيمة، وجعل الضمان بالقيمة مع أن اللبن مثلي، ويؤذي إلى الربا إذا كان ثمن المصراة بالتمر حيث يزيد صاعًا منه، كما يؤدي إلى الجمع بين العوض والمعوض. وهذه ثماني مخالفات تقضي بترك العمل بالحديث. اهـ.
وقد أجاب النووي عن دعوى النسخ بأنها دعوى بالاحتمال من غير دليل، وعن دعوى مخالفة الحديث لقياس الأصول بأن ما ورد النص به فهو أصل بذاته، ولا يعتبر فيه موافقه الأصول كالدية على العاقلة، والغرة في الجنين وغير ذلك، وليس إبطال أصل لمخالفته أصولًا أخرى بأَوْلَى من إبطال تلك الأصول لمخالفتها ذلك الأصل، والصواب العمل بها جميعًا، وترك القياسم من أجل خبر الواحد؛ لأنه أقوى منه.
ولهذا قال أبو حنيفة: إن القياس أن الأكل ناسيًا يفطِر، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة: (إنما اطعمه الله وسقاه). وقَبِلَ أبو حنيفة خبر أبي فزارة في جواز التوضؤ بالنبيذ وخبر زاذان في إبطال المصلي بالقهقهة، مع أنهما خالفا القياس. راجع: المجموع شرح المهذب (11/ 198).
ثم أجاب جوابًا تفصيليًّا استوعب فيه جميع الوجوه التي ذكرها الحنفية لمخالفة الحديث للأصول والرد عليها، وبيَّن أن الحديث ليس فيه مخالفة للأصول، وممن اعتنى بذلك أيضًا الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 366)، فمن أراد الوقوف على تلك الوجوه والرد عليها فليرجع إليهما.
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (18/ 209): وممن رد حديث المصراة أبو حنيفة وأصحابه، وهو حديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل، وهذا مما يعد وينقم على أبي حنيفة من السنن التي ردها برأيه وهذا ما عيب عليه، ولا معنى لإنكارهم ما أنكروه من ذلك؛ لأن هذا الحديث أصل في نفسه، والمعنى فيه والله أعلم على ما قال اهل العلم: أن لبن المصراة لما كان مغيبًا لا يوقف على صحة مقداره، وأمكن التداعي في قيمته وقلة ما طرأ منه في ملك المشتري وكثرته، قطع النبي صلى الله عليه وسلم الخصومة في ذلك بما حده فيه. اهـ.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 236): الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة؛ فالحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله، وكلام رسوله، وما عداهما فمردود إليهما؛ فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ قال الإمام أحمد: إنما القياس أن تقيس على أصل، فأما أن تجئ إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس، فعلى أي شئ تقيس؟ ويا لله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد للأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة للأصول حتى رد. اهـ.
وكما نرى فإن مسألة المصراة من المسائل التي توجه بسببها النقد لمذهب أبي حنيفة، وعدها العلماء من مخالفته للحديث، وقد التمس أصحابه سببًا لذلك فتباينت أقوالهم وتضاربت، والذي يعنينا في هذا المقام: أن دعوى مخالفة خبر المصراة للقياس، وأن راويه ليس فقيهًا فلا يقدم خبره على القياس، قول لبعض الحنفية وليس كلهم، وأن هذا القول قد انتُقد بشدة من الحنفية ومن غيرهم، مما يقوي أن اشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس ليس من قواعد أبي حنيفة.
[ويُراجع: كتاب منهج الحنفية في نقد الحديث الصفحات من(264) إلى(272)].

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

السلام عليكم

في حُكْم بَيع السِّمَاد النَّجِس

من فروع قاعدة: ’’جَوَاز بَيْع النَّجَاسَات يَتْبَع الضَّمَان‘‘..
مَطلبٌ: في التطبيق على قاعدة: "جواز بيع النجاسات يتبع الضمان" - والقاعدة صاغها بهذا اللفظ الدكتور عبدالمجيد عبدالله دية، مما طرحه الفقهاء من مفاهيم وأحكام حول شرط الطهارة في المبيع وباستقراء الفروع الفقهي عندهم. انظر: القواعد والضوابط الفقهية لأحكام المبيع، د. عبدالمجيد دية، ص(98).
وفيه ثلاثة فروع:
الفروع الأول: لفظ ورود القاعدة، وبيان معناها، ودليلها.
لفظ ورود القاعدة: ورد مضمون هذه القاعدة وما خالفها عند فقهاء المذاهب الأربعة بعدة صيغ منها:
1- عند الحنفية: ورد ما يوافقها، حيث قال الدبوسي في تأسيس النظر ص(90): الأصل عند الحنفية أن جواز البيع يتبع الضمان، فكل ما كان مضمونًا بالإتلاف جاز بيعه، وما لا يضمن بالإتلاف لا يجوز بيعه. اهـ.
2- عند المالكية: ورد ما يناقضها، فقد ورد عن الإمام مالك رضي الله عنه -كما في الكافي لابن عبدالبر (2/ 675)-: كل ما لا يحل أكله ولا شربه من الميتات والدماء والنجاسات فلا يحل بيعه. اهـ.
وقال الدردير في الشرح الصغير (3/ 22): شرط صحة المعقود عليه طهارة، فلا يصح بيع نجس ولا متنجس لا يمكن تطهيره. اهـ.
3- وعند الشافعية: ورد ما يناقضها بلفظ: "جواز بيعالأعيان يتبع الطهارة" - تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص(189).
وفي لفظ: "يعتبر في المبيع لصحة بيعه الطهارة" - روضة الطالبين (3/ 350).
4- وعند الحنابلة: ورد ما يناقضها بلفظ: "ولا يجوز بيع السرجين النجس ولا الأدهان النجسة" -المقنع لابن قدامة (2/ 6). وقال البهوتي في منتهى الإرادات (2/ 143) -لدى الكلام على شرط الطهارة في المبيع-:... ولا بيع سرجين للإجماع على نجاسته... ولا بيع دهن نجس كشحم ميتة؛ لأنه بعضها، أو دهن متنجس كزيت... اهـ.
معنى القاعدة:
تنص القاعدة الفقهية على أن جواز بيع النجاسات يتبع الضمان -الضمان: هو التزام عن تعويش مالي عن ضرر الغير. انظر: المدخل الفقهي العام، أ. مصطفى الزرقا (2/ 1032)-، فما كان مضمونًا بالإتلاف -أي: مالًا متقوّمًا- يجوز بيعه، وما لا يضمن بالإتلاف لا يجوز بيعه - موسوعة القواعد الفقهية، د. البورنو (1/ 478)، والقواعد والضوابط الفقهية لأحكام المبيع، د. عبدالمجيد دية، ص(103).
وفي موضوع القاعدة، فإن بعض النجاسات تنطوي على منافع كالكلب المعلَّم مثلًا، وبعضها يئول إلى المنافع بالاستحالة، وهي انقلاب الشيء عن حقيقته، كالدم الحيواني عندما يتحوَّل إلى أعلاف وغيرها.
والحنفية نصوا على أن جواز البيع يتبع الضمان، ولكن القاعدة تتعلق ببيع النجاسات.
وأما الصيغ الأخرى عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، فتتضمن شرطًا للمبيع، وهو أن يكون طاهرًا، فلا يجوز بيع النجس عندهم. وكل صيغة من هذه الصيغ تعتبر حكمًا فقهيًّا وليست قاعدة فقهية - القواعد والضوابط الفقهية لأحكام المبيع ص(103، 104)، وموسوعة القواعد، د. البورنو (1/ 478).
الاستدلال للقاعدة:
إن من شروط المبيع عند الجمهور الفقهاء أن يكون طاهرًا -المرجع السابق في الكلام على ألفاظ القاعدة-. وخالفهم في ذلك الحنفية، فلم يعتبروا نجاسة المبيع مانعة من صحة بيعه، وإنما قالوا: إنه يشترط أن يكون المبيع مالًا متقومًا، أي: منتفعًا به شرعًا.
فالبيع عندهم إذا صادف محلًّا منتفعًا به حقيقة، ويباح الانتفاع به شرعًا على الإطلاق، مست الحاجة إلى شرعه، كالكلب مثلًا حيث يباح الانتفاع به من جهة الحراسة والاصطياد ونحوها، فكان مالًا يجوز بيعه. وجاء في حاشية ابن عابدين أن بعض النجاسات يصدق عليها تعريف المال، ويحتاج إليها الناس، وتعتبر من أعز أموالهم، حيث اعتادوا تمولها، وإذا تحققت في النجاسات هذه الشروط فإنه يجوز بيعها - حاشية ابن عابدين (5/ 51).
ويستند هذا الرأي إلى حديث عَبْدِاللهِ بْنَ عَبَّانٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بإِهَابِهَا)، قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ. قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) -البخاري (2221)، مع فتح الباري (4/ 482)- وفي رواية يقُولُ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَنْزٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: (مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا) -صحيح البخاري (5532)، مع فتح الباري (9/ 575)-. والإهاب هو: الجلد قبل أن يدبغ.
وجه الاستدلال/
دل الحديث على جواز بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ، ويستفاد جواز البيع من جواز الاستمتاع في قوله صلى الله عليه وسلم: (هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا)؛ لأن كل ما يصح الانتفاع به يصح بيعه، وما لا يصح الانتفاع به لا يصح بيعه، ويفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) أن كل ما عدا أكلها مباح - فتح الباري (4/ 482، 483).
أما جمهور الفقهاء: فاشترطوا في المبيع أن يكون طاهرًا، واستشهدوا على ذلك بما رواه جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: (إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ)، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ. فَقَالَ: (لَا هُوَ حَرَامٌ). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: (قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللهَ حَرَّمَ شُحومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) -صحيح البخاري (2236)، مع فتح الباري (4/ 495)-.
وجه الاستدلال: أن هذه الأشياء نجسة فلا يجوز بيعها، وعلة التحريم النجاسة؛ لأن المعنى في المذكورات نجاسة عينها فألحق بها كل نجس - الفروق للقرافي (3/ 385).
فجمهور الفقهاء لم يصححوا بيع النجاسات؛ لأنهم اشترطوا إلى جانب كون المبيع مالًا ومنتفعًا به، أن يكون طاهرًا.
الفرع الثاني: في حكم بيع الكلاب:
الكلاب نجسة العين عند الشافعية والحنابلة، وخالفهم الحنفية والمالكية - بدائع الصنائع للكاساني (6/ 554)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 55)، ومغني المحتاج (1/ 78)، والمقنع لابن قدامة (1/ 24).
ولا يجوز بيع الكلاب عند من قال بأنها نجسة العين، وهم الشافعية والحنابلة واستدلوا على ذلك: بأن الشارع حرَّم ثمن الكلب كما جاء ذلك عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ -مهر البغي: هو ما تأخذه الزانية عن زناها، وسمَّاه مهرًا لكونه على صورته، وهو حرام بالإجماع-، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ) -رواه البخاري (2237)، مع فتح الباري (4/ 497)، ومسلم (3933)، مع شرح النووي (5/ 262)-.
فهذا يدل على تحريم بيع الكلب؛ لأن تحريم الثمن يلزم منه تحريم البيع؛ ولأنه نجس العين، فلا يجوز بيعه كالخنزير.
إلا أنه رخص في الانتفاع به للحراسة والاصطياد للحاجة والضرورة، وذلك لا يدل على جواز بيعه؛ لأنه -كما سبق- نجس العين، وحرَّم الشارع ثمنه.
أما عند الحنفية: فإنه يجوز بيع الكلاب.
وحجتهم في ذلك: بأن الكلب مال؛ لأنه منتفع به شرعًا؛ لأن الشارع أباح الانتفاع به في الاصطياد والحراسة فكان محلًّا للبيع، فقال تعالى: (مُكّلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) [المائدة: 4].
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَن اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلَا مَاشِيَةٍ وَلَا أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ) -رواه مسلم برقم (3954)، انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي (5/ 271)-. فأخذوا من هذا النص جواز بيعه؛ لأن الشارع أباح الانتفاع به.
وأجاز المالكية بيعه مع الكراهة؛ لأنه طاهر العين عندهم -انظر: الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبدالوهاب البغدادي (2/ 562): مسألة: اختلف أصحابنا في بيع الكلب المأذون في اتخاذه والانتفاع به، منهم من قال: مركوه، ويصح. ومنهم من قال: لا يجوز. فوجه الجواز: أن ما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية؛ ولأنه جارح يصاد به كالبازي؛ ولأنه حيوان يُملَّك بالأخذ، فجاز أن يُملَّك بالبيع كالصيد، ولأنه حيوان يملك بالوصية كسائر الحيوان-.
وبالرُّغم من نجاسة الكلاب عند بعض الفقهاء فإن فيها منافع كثيرة، كالحراسة والصيد، وتستخدم اليوم في الأمن، كالكلاب البوليسية التي تستخدم في معرفة المجرمين والمخدرات ونحوها، وبالتالي فإنه تنطبق على الكلام شروط المال المتقوم، فيجوز بيعها بالرغم من نجاستها، طبقًا للقاعدة عند الحنفية: "أن جواز البيع يتبع الضمان" وهذه القاعدة ثبت بها جواز بيع بعض النجاسات التي فيها منفعة للإنسان دون أن يكون فيها ضرر به، وقد رخَّص الشارع في بيع الكلاب النافعة - القواعد والضوابط الفقهية لأحكام المبيع ص(118).
أما النهي عن ثمن الكلب فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وخص منه ما أذن في اتخاذه - فتح الباري (4/ 536، 537).
الفرع الثالث: حكم بيع السماد النجس:
[السمادك تسميد الأرض أن يجعل فيها السماد، وهو سرجين ورماد، وسمَّد الأرض: زبَّلَها. والسماد: تراب قوي يسمد به النبات وهو ما يطرح في أصول الزرع والخُضَر من العَذِرة، والزَّبْل، ليجود نباته المسمد، لسان العرب (3/ 220)].
إن الاستعانة بالسماد الحيواني النجس أمر ضروري، لا غنى عنه في مجال الزراعة، وإن الاستفادة من روث الحيوانات وفضلاتها أمر ثابت -جاء في إعانة الطالبين للدمياطي (2/ 81)، السماد: ما يصلح به الزرع من تراب وسرجين، وانظر: مطالب أولي النهى للرحيباني (6/ 316)-، يقول الأستاذ محمد فريد وجدي في موسوعة القرن العشرين في مادة (سمد):
"السماد لغة هو السِّرقين -السرقين: أو السرجين: هو الزَّبل. القاموس المحيط ص(1086)-، أي: روث البهائم، مخلوطًا برمال أو تراب. وتسميد الأرض أمر مهم جدًّا في حفظ حصوبتها وزيادة مادتها، فإن النباتات التي تنبت منها إنما تأخذ مادتها من جواهرها العضوية والمعدنية، فإذا توالت الزراعة ولم تسمد الأرض، أي: لم تعط من الخارج جواهر تعوض ما فقد منها بالزرع المتكرر، نضبت مادتها، وأصبحت لا تُنبت شيئًا.
وأما لو سمدت، واعتنى بوضع السماد لها في وقته المناسب، وبالقدر الذي يجب، حفظت الأرض مادتها، وازدادت صلاحيتها للإنبات، وترقت في الجودة" - دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي (5/ 297، 298).
ولما كان من شرط صحة البيع عند الشافعية، طهارة المبيع؛ فقد فرَّع النووي على ذلك بيع سرجين البهائم المأكولة وغيرها وذرق -ذَرْقٌ الطائر: خُرْؤُه، لسان العرب (10/ 108)- الحمام باطل وثمنه حرام. وقال: هذا مذهبنا.
ورَدَّ رحمه الله على القول بأنه منتفع به فأشبه غيره، قال -كما في المجموع (9/ 218)-: فالفرق أن هذا نجس بخلاف غيره. اهـ. وانظر: الوسيط للغزالي (3/ 17).
واحتج لذلك بحديث ابْنِ عَبَّاٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ) -أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن عبار، رقم (2964)، (3/ 301)-.
وكذلك ذهب الحنابلة إلى منع بيعه، قال ابن قدامة في المغني (4/ 327): ولا يجوز بيع السرجين النجس، وبهذا قال مالك والشافعي... اهـ.
وعند المالكية في المدونة الكبرى: "قلت: أرأيت الزبل هل يجيز مالك بيعه؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئًا، ولا أرى ببيعه بأسًا.
قال: وسألت مالكًا عن بيع العذرة التي يزبلون بها الزروع، فقال: لا يعجبني ذلك. وكرهه.
قال: وإنما العذرة التي كَرِه: رجيع الناس.
قلت: فما قول مالك في زبل الدواب؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا إلا أنه عند مالك نجس، وإنما كره العذرة؛ لأنها نجس فكذلك الزبل أيضًا ولا أرى أنا به بأسًا.
قلت: فبعر الغنم والإبل، وخثاء -في المصباح المنير ص(164): خثاء البقر: هو كالتغوط للإنسان- البقر، قال: لا بأس بهذا عند مالك وقد رأيت مالكًا يُشترى له بعر الإبل" - المدونة الكبرى (3/ 198، 199). وانظر: جامع الأمهات (1/ 337)، والتاج والإكليل (4/ 258)، ومواهب الجليل (4/ 259- 261).
أما الحنفية، فقد قالوا: يجوز بيع السرقين والبعر؛ لأنه مباح الانتفاع به شرعًا على الإطلاق، فكان مالًا - انظر المبسوط (24/ 10)، والبحر الرائق (6/ 77)، والبدائع (5/ 114)، وحاشية ابن عابدين (1/ 330).
وجه ارتباط الفرع بالقاعدة:
يتلخَّص مما سبق أن الحنفية أطلقوا جواز بيع السرجين والبعر؛ لحل الانتفاع به شرعًا، فجواز البيع يدور مع حل الانتفاع، وهذا يتمشَّى مع قاعدة: "جواز البيع يتبع الضمان".
وأما الشافعية، فقد أطلقوا منع بيع السرجين لنجاسته، وكذلك الحنابلة، وهم يخالفون بذلك قاعدة جواز البيع يتبع الضمان، فجواز البيع عندهم يتبع الطهارة.
أما الإمام مالك، فقد أطلق في المدونة القول بجواز بيع خثاء البقر وبعر الغنم والإبل، لطهارتها، وهو المعتمد عند المالكية، وقد صرح ابن القاسم بأنه لا يرى بأسًا في بيع الزبل، وهذا يوافق القول عند الحنفية.
وعلى هذا فينبغي القول: بجواز بيع السماد، ما دام يحقق منفعة مشروعة معتبرة، ولا يترتب عليه ضرر يمنع منه الشرع، وأما النجاسة التي قد تصيب الزرع فإنه يمكن أن تزال بغسل ما تلوث بها بالماء، كما تزال أي نجاة، والله أعلم.

ويُراجع: كتاب أثر الخلاف الفقهي في القواعد المختلف فيها ومدى تطبيقها في الفروع المعاصرة، للدكتور محمود إسماعيل محمد مشعل، ص(391-397).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

السلام عليكم

مَطْلَبٌ/ فِي التَّطْبِيقِ عَلَى قَاعِدَةِ: ’’الأَجْر وَالضَّمَان لاَ يَجْتَمِعَان‘‘

هذه القاعدة خاصة بمذهب الحنفية دون غيرهم، وتعتبر هي -أيضًا- أساسًا لقولهم بعدم ضمان منافع المغصوب، خلافًا للجمهور.
[_ ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الغاصب يضمن المغصوب، وعليه أجر المثل، سواء استوفى المنافع أم تركها تذهب، وسواء أكان المغصوب عقارًا كالدار، أم منقولًا كالكتاب والحلي ونحوهما؛ لأن المنفعة مال متقوم فوجب ضمانه كالعين المغصوبة ذاتها.
وقال المالكية: تُضْمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط، ولا تضمن حالة الترك، أي: تضمن بالتفويت دون الفوات، هذا إذا غصب ذات الشيء فيضمن المنفعة بالاستعمال، أما إذا غصب المنفعة فقط، فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها كأن يغلق الدار ويحبس الدابة ونحوهما.
وذهب متقدموا الحنفية: إلى أنا لغاصب لا يضمن منافع ما غصبه من ركوب الدابة، وسكنى الدار، سواء استوفاها أو عطلها؛ لأن المنفعة ليست بمال عندهم، ولأن المنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك فلم يتحقق فيها معنى الغصب؛ لعدم إزالة يد المالك عنها.
وأوجب متأخروا الحنفية: ضمان أجر المثل في ثلاثة مواضع -والفتوى على رأيهم- وهي: أن يكون المغصوب وقفًا، أو ليتيم، أو معدًّا للاستغلال، بأن بناه صاحبه أو اشتراه لذلك الغرض. راجع للحنفية: بدائع الصنائع (7/ 145)، وحاشية ابن عابدين (5/ 144)، وللمالكية: المدونة (4/ 181) وما بعدها، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي (3/ 448، 452، 454) وما بعدها، وبداية المجتهد (2/ 315)، وللشافعية: (مغني المحتاج (2/ 286)، وفتح العزيز شرح الوجيز للرافعي (11/ 263)، وللحنابلة: المغني لابن قدامة (5/ 270)، والقواعد لابن رجب ص(212).]
والكلام في هذه القاعدة يأتي في ثلاثة فروع:
الفرع الأول: لفظ ورود القاعدة وبيان معناها على مذهب الحنفية.
من نصوص الفقه الحنفي في خصوص هذه القاعدة: "لو استأجر دابة، ثم جحد الإجارة في بعض الطريق، وجب عليه أجر ما ركب قبل الإنكار، ولا يجب الأجر لما بعده عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه بالجحود صار غاصبًا، والأجر والضمان لا يجتمعان. وقال محمد رحمه الله يجب الأجر كله؛ لأنه سلم من الاستعمال - تبيين الحقائق (5/ 133)، والبحر الرائق (2/ 29)، وحاشية ابن عابدين (6/ 61)، وقواعد الفقه للبركتي ص(54).
وقال القرطبي في تفسيره -الجامع لأحكام القرآن- (10/ 75): اختلف أهل العلم في الرجل يكتري -كِراء _بكسر الكاف_ مصدر أكرى وكاري للدار والدابة: أجَّرها. والكراء هو الإجارة. والكراء: أجرة الشيء المستأجر. معجم لغة الفقهاء ص(290)، وجاء في القوانين الفقهية ص(290): "وقد يختص اسم الإجارة باستئجار الآدمي ويختص اسم الكراء بالدواب والرباع والأرضين"- الدابة بأجر معلوم إلى موضع مسمى فيتعدى فيتجاوز ذلك المكان، ثم يرجع إلى المكان المأذون له في المصري إليه.
-فقالت طائفة: إذا جاوز ذلك المكان ضمن، وليس عليه في التعدي كراء، هكذا قال الثوري.
-وقال أبو حنيفة: الأجر فيما سمي، ولا أجر له فيما لم يسم؛ لأنه خالف، فهو ضامن، وبه قال يعقوب.
- وقال الشافعي: عليه الكراء الذي سمي، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمه قيمتها. ونحوه قال الفقهاء السبعة مشيخة أهل المدينة، قالوا: إذا بلغ المسافة ثم زاد فعليه كراء الزيادة إن سلمت وإن هلكت ضمن.
-وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: عليه الكراء والضمان، قال ابن المنذر: وبه نقول. اهـ.
فهذه هي صورة الخلاف كما عرضها القرطبي، ويظهر منها مخالفة الثوري وأبي حنيفة لجمهور الفقهاء حيث يذهبان إلى القول بأن الأجر والضمان لا يجتمعان.
معنى القاعدة:
هذه القاعدة يفهم منها أنه لا تجب الأجرة في الحال التي يجب فيها الضمان، يعني أن الإنسان إذا استأجر دابة وهلكت بلا تعدٍّ لا يضمن سوى الأجرة، وإذا غصب دابة فهلكت يضمن قيمتها ولا أجرة عليه - درر الحكام (1/ 89).
والضمان -هنا- هو: إعطاء مثل الشيء إذا كان من المثليات وقيمته إذا كان من القيميات.
[_ المال المثلي: هو ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به، أو هو ما تماثلت آحاده أو أجزاؤه، بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتد به؛ كالحبوب والنقود والأدهان.
والمال القيمي: هو ما ليس له له مثل في الأسواق، أو يوجد مع التفاوت المعتد به في القيمة، أو هو ما تفاوتت أفراده، فلا يقوم بعضها مقام بعض بلا فرق؛ كالدور، والأراضي، والأشجار، وأفراد الحيوان، والمفروشات، والمخطوطات والحلي ونحوها. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (31/ 239)، مصطلح "غصب".]
وقال الشيخ أحمد الزرقا في شرح القواعد الفقهية ص(431): "(الأجر) أي: بدل المنفعة، (والضمان) وهو الغرامة لقيمة الشيء أو نقصانه (لا يجتمعان) إذا اتحدت جهتهما؛ لأن الضمان إنما يكون بسبب التعدي على مال الغير، غَصْبٌ له أو الكغصب، ومنافع المغصوب غير مضمونة؛ لأن المنافع معدومة، وعند وجودها فهي أعراض غير باقية، وإنما تقوم بعقد الإجارة على خلاف القياس لمكان الحاجة الضرورية إليها، وعقد الإجارة لا يبقى مع صيرورة المستأجر ضامنًا، بل يرتفع؛ إذ لا يمكن اعتباره مستأجرًا أمينًا وغاصبًا ضمينًا في آنٍ واحد؛ لتنافي الحالتين".
ويشترط في اجتماع الأجرة والضمان اتحاد السبب والمحل فيهما وإلا فالاثنان قد يلزمان في وقت معًا.
ومثال ذلك: لو أجَّر شخص حيوانًا من آخر ليركبه وحده إلى محل معين فركب الرجل وأردف خلفه شخصًا آخر ولو صغيرًا (بحيث يستطيع الوقوف بنفسه) فتلق الحيوان بعد الوصول إلى المحل المقصود، ينظر فإذا كان الحيوان قادرًا على حمل الاثنين يلزم الأجر المسمَّى مع ضمان نصف قيمة ذلك الحيوان، فيلزم الأجر على المستأجر؛ لأنه قد استوفى المنفعة المرادة من ذلك الحيوان بوصوله للمكان المقصود، ويلزم ضمان نصف قيمة الحيوان؛ لأنه يكون قد تعدَّى بإردافه شخصًا خلفه.
والحاصل: أنه لما كان سبب لزوم الأجر وسبب الضمان مختلفين يلزمان في وقت معًا، ولا يقال: بأن الضمان قد اجتمع والأجر فلكلٍ سبب غير سبب الآخر - درر الحكام شرح مجلة الأحكام، علي حيدر (1/ 89، 90).
الفرع الثاني: تطبيقات القاعدة عند الحنفية.
إن الصور الممكنة التي تدور عليها هذه القاعدة عشر؛ وذلك لأن التعدي الذي هو سبب الضمان، إما أن يكون بعد استيفاء المنفعة المعقود عليها كلها، كما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكانٍ معين فركبها إليه، ثم جاوزه بمسافة لا يتسامح في مثلها، أو يكون التعدي بعد استيفاء بعضها، كما إذا استأجرها ليركبها إلى مكان معين فركبها قاصدًا له، ولكن في أثناء الطريق عرَّج إلى مكان آخر لا يتسامح في مثله عادة، أو استأجرها ليركبها إلى الكوفة -مثلًا- ذاهبًا وجائيًا، فجاوز بها الكوفة بمسافة لا يتسامح في مثلها، ثم عاد إلى الكوفة، أو يكون التعدي قبل استيفاء شيء من المنفعة، كما إذا استأجرها ليركبها إلى مكان معين فركبها إلى غيره، وفي كلا الوجهين الأخيرين من الثلاثة إما أن يستوفي بعد التعدي المنفعة المعقود عليها أوْ لا. فهذه مع الوجه الأول صارت خمس صور، وفي كل من الصور الخمس إما أن تَسْلم العين المأجورة أو تتلف، فتلك عشرة كاملة حاصلة من ضرب اثنين في خمسة، يجب الأجر في كل صورة استوفيت فيها المنفعة المعقود عليها كلها أو بعضها، قبل التعدي وسلمت العين المأجورة، ولكن عند استيفاء كلها يجب الأجر، وفي استيفاء بعضها بحسابه، ولا يجب الأجر لما بعد التعدي، وأما أجر ما استوفاه من المنفعة بعد التعدي وصيرورته ضامنًا فإنه ساقط - شرح القواعد الفقهية، الشيخ أحمد الزرقا ص(432).
وهذا جدول يشتمل على صورة توضيحية للمسائل العشر وأحكامها -المرجع السابق، ص(434)-:
تعدى ولم ينتفع مطلقًاتعدى ثم انتفعانتفع ثم تعدىاستوفى المنفعة لها ثم تعدى في أثنائهااستوفى بعض المنفعة ثم تعدى ولم ينتفع بعد ذلك
سلمتفي معرض الضمان فلا أجر عليهفي معرض الضمان ولا أجر عليهيجب الأجر كلهيجب الأجر لما قبل التعدي فقطيجب الأجر لما قبل التعدي بحسابه فقط
تلفتضامن بالفعل ولا أجر عليهضامن ولا أجر عليهيضمن قيمتها ولا أجريضمن قيمتها ولا أجر عليهيضمن قيمتها ولا أجر
ومن الصور التطبيقية للقاعدة مما أورده فقهاء الحنفية في كتبهم ما يلي:
أولًا/ كراء المسكن.
لو تكارى بيتصا ولم يسم ما يعمل فيه فهو جائز؛ لأن المعقود عليه معلوم بالعرف وهو السكنى في البيت؛ وذلك لا يتفاوت فلا حاجة إلى تسميته وليس له أن يعمل فيه القصارة -القصارة: قصر الثوب بدقة، والقصَّار: من يمارس مهنة قصر الثياب، وقصر الثوب: ردَّه أبيض. انظر: مختار الصحاح ص(342)، ومعجم لغة الفقهاء ص(333)- ونظائرها؛ لأن ذلك يضر بالبناء فهو ضامن لما انهدم من عمله؛ لأنه مُتلِفٌ متعدٍّ ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأن الأجر والضمان لا يجتمعان؛ فإنه يتملك المضمون بالضمان مستندًا إلى وقت وجوب الضمان، فلا يجب عليه الأجر فيما استوفى من منفعة ملك نفسه، وإن سلم فعليه الأجر استحسانًا.
وفي القياس: لا أجر عليه؛ لأنه غاصب فيما صنع، ولهذا كان ضامنًا ولا أجر على الغاصب في المنفعة.
وجه الاستحسان: أنه استوفى المعقود عليه وزيادة، وإنما كان ضامنًا باعتبار تلك الزيادة، فإذا سلم سقط اعتبار تلك الزيادة حكمًا، فيلزمه الأجر باستيفاء المعقود عليه، وإذا انهدم فقد وجب اعتبار تلك الزيادة لإيجاب الضمان عليه، فلهذا لا يلزمه الأجر - المبسوط للسرخسي (15/ 147)، والبحر الرائق (8/ 11).
ثانيًا/ استئجار الدابة.
إذا استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم -المختوم: هو الصاع، سمي بذلك؛ لأنه كان يختم عليه السلطان منعًا للتلاعب. معجم لغة الفقهاء ص(385)- شعير فحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فعطبت يضمن قيمتها؛ لأن الحنطة أثقل من الشعير وليس من جنسه، فلم يكن مأذونًا فيه أصلًا، فصار غاصبًا كل الدابة متعديًا عليها، فيضمن كل قيمتها ولا أجر عليه؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان؛ لأن وجوب الضمان لصيرورته غاصبًا، ولا أجرة على الغاصب على أصل الحنفية - بدائع الصنائع (4/ 213).
قال الكاساني في بدائع الصنائع (4/ 213): "ولأن المضمونات تملك على أصل أصحابنا، وذا يمنع وجوب الأجرة عليه".
ثالثًا/ استئجار المتاع (الملبس).
إذا استأجر قميصًا ليلبسه يومًا إلى الليل فإن اتزر به إلى الليل فهو ضامن إن تخرق؛ لأن الاتزار بالقميص غير معتاد، وبمطلق التسمية إنما يتمكن من اللبس المعتاد في بعض الأوقات.
توضيحه: أن الاتزار مفسد للقميص، فما أتى به أضر بالثوب مما يتناولة العقد، والاتزار [لعل الصواب: والارتداء] غير مفسد، بل ضرره كضرر اللبس أو دونه، وإن سلم فعليه الأجر استحسانًا.
وفي القياس: لا أجر عليه؛ لأنه مخالف ضامن، والأجر والضمان لا يجتمعان كما لو ألبسه غيره.
وجه الاستحسان: أنه متمكن من استيفاء المعقود عليه باعتبار يده وإنما كان ضامنًا بزيادة ضرر مفسد للثوب فيبقى الأجر عليه لتمكنه من استيفاء المعقود عليه، بخلاف ما إذا تخرق، فهناك لما تقرر عليه الضمان ملك الثوب من حيث ضمنه؛ ولأنه لا يجب عليه الأجر في ملك نفسه، وإذا سلم فهو لم يملك الثوب فيلزمه الأجر لتمكنه من الاستيفاء - المبسوط للسرخسي (15/ 166، 167)، والبحر الرائق (8/ 14).
الفرع الثالث: في بيان رأي جمهور الفقهاء القائل باجتماع الأجر والضمان.
أما المالكية والشافعية والحنابلة: فقد قالوا باجتماع الأجر والضمان مطلقًا: فلو استأجر إنسان دابة، فحملها قدرًا أزيد مما اتفق عليه أو تجاوز المسافة أو الزمان، فيجب عليه الأجر المتفق عليه، وأجر المثل عن الزيادة، وضمان قيمة الدابة إذا هلكت - القوانين الفقهية ص(182)، ومغني المحتاج (2/ 353)، والمغني لابن قدامة (5/ 291).
ومن أقوال الفقهاء في ذلك ما يلي:
1- أما المالكية: فقد جاء في القوانين الفقهية ص(182) في مسألة كراء الدواب: "يجب أن يصف ما يحمل عليه ويعين المسافة أو الزمان، فإن زاد في حملها وعطبت، فإن كان ما زاده مما يعطب بمثله فربها مخير بين أخذ قيمة كراء ما زاد عليها من الكراء أو قيمة الدابة، وإن كانت الزيادة مما لا يعطب بمثله فله كراء الزيادة مع الكراء الأول ولا خيار له"، ويتضح من كلامه القول باجتماع الأجر والضمان.
2- أما الشافعية: فقد ورد في مغني المحتاج (2/ 353، 354): "ولو اكترى دابة لحمل مائة رطل حنطة، فحمل عليها مائة وعشرة لزمه أجرة المثل للزيادة مع المسمَّى على المشهور؛ لتعديه بذلك... وإن تلفت تلك الدابة بذلك الزائد ضمنها ضمان يد إن لم يكن صاحبها معها؛ لأنه صار ضامنًا لها بحمل الزائد، فإن كان صاحبها معها ضمن المستأجر قسط الزيادة فقط ضمان جناية، مؤاخذة له بقدر جنايته. وفي قول: نصف القيمة؛ لأنها تلفت بمضمون وغيره، فقسطت القيمة عليهما".
وقال في موضع آخر -مغني المحتاج (2/ 354)-:
"ولو كان أجنبي وحمل بلا إذن في الزيادة فهو غاصب للزائد وعليه أجرته للمؤجر ورده إلى المكان المنقول منه إن طالبه المستأجر وعليه ضمان الدابة على التفصيل المذكور في المستأجر من غيبة صاحبها وحضرته على ما مر".
3- وأما عند الحنابلة: فقد قال في المغني (5/ 291): من اكترى دابة إلى بلدٍ، ثم جاوزه إلى بلدٍ سواه، فإن الدابة إذا سلمت في ذلك كله أدى كراءها وكراء ما بعدها، وإن تلفت في تعديها ضمنها وأدى كراءها الذي تكاراها به.
وهذا قول الحكم وابن شبرمة والشافعي، وفقهاء المدينة السبعة.
وقال الثوري وأبو حنيفة: لا أجر عليه لما زاد؛ لأن المنافع عندهما لا تضمن في الغصب.
وحُكي عن مالك أنه إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة يخير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي؛ لأنه متعد بإمساكها، حابس لها عن أسواقها، فكان لصاحبها تضمينها إياه.
واستدل ابن قدامة للحنابلة بقوله: "ولنا: أن العين باقية بحالها يمكن أخذها فلم تجب قيمتها كما لو كانت المسافة قريبة.
وناقش رأي أبي حنيفة بقوله: وما ذكره تحكم لا دليل عليه، ولا نظير له فلا يجوز المصير إليه".
ويتضح مما سبق: أن الجمهور يوجبون الأجر كلما كان للمغصوب أجر؛ لأن المنافع متقومة كالأعيان، فإذا تلفت أو أتلفها فقد أتلف متقومًا، فوجب ضمانه كالأعيان، وإذا ذهب بعض أجزاء المغصوم في مدة الغصب، وجب مع الأجرة أرض نقصه لانفراد كلٍّ بإيجاب.

ويُراجع: كتاب أثر الخلاف الفقهي في القواعد المختلف فيها ومدى تطبيقها في الفروع المعاصرة، للدكتور محمود إسماعيل محمد مشعل، ص(405-412).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

السلام عليكم

من كتاب "الاختيار لتعليل المختار" - للموصلي الحنفي؛ يُنظر للفائدة:
كِتَابُ الْبُيُوعِ - المكتبة الإسلامية
كِتَابُ الْإِجَارَةِ - المكتبة الإسلامية
كِتَابُ الرَّهْنِ - المكتبة الإسلامية

والله الموفق.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)

للفائدة..
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
أعلى