العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النسخ في القرآن الكريم: مراجعة وتحرير (15) تغيير القبلة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
تغيير القبلة

جاء في صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [البقرة: 144]، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ". وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ اليَهُودُ: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، قُلْ لِلَّهِ المشْرِقُ وَالمغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142]."[1] وفي رواية أخرى زيادة: "وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المقْدِسِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ."[2]

وفي مسند أحمد عن ابن عباس، قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ."[3]

وقد زعم البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيَّرا بين التوجُّه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة. يقول الجصاص: "اُخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ فَرْضًا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي تَوَجُّهِهِ إلَيْهَا وَإِلَى غَيْرِهَا؟ فقال الربيع ابن أَنَسٍ: كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ الْفَرْضُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ بِلَا تَخْيِيرٍ. وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ، فَقَدْ كَانَ التَّوَجُّهُ فَرْضًا لِمَنْ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا كَفَّرَ بِهِ فَهُوَ الْفَرْضُ، وَكَفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ ... ولأنه جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ الْفَرْضُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَوَرَدَ النَّسْخُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَقُصِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بِلَا تَخْيِيرٍ".[4] وقد حاول الجصاص الاستدلال على التخيير برواية منسوبة إلى ابن عباس أن أول ما نزل بشأن القبلة قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ)، وعقَّب على ذلك بقوله: "وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى حَيْثُ شَاءُوا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الْقُرْآنِ هَذَا التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ."[5]
والظاهر أن الرواية المنسوبة إلى ابن عباس غير صحيحة؛ لأنه لا شك في أن القول بالتخيير لا يستقيم: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيَّرا بين القبلتين لاتَّجَهَ إلى القبلة التي يُفَضِّلُها، وهي الكعبة، ولَـمَا احتاج إلى التطلُّع إلى السماء لتغيير القبلة. فقوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144) دليل على أن الفرض كان التوجُّه إلى بيت المقدس، ولم يكن في ذلك تخيير.

لقد كان التوجُّه إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى؛ لأن القرآن الكريم يقول: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة: 143). فالآية صريحة في أن التوجُّه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى، سواء كان ذلك عن طريق الإلهام أم عن طريق إخبار جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بوحي غير متلو. ويؤيد ذلك قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (البقرة: 144)، فهذا يدل على أن النبي صلى الله كان يتطلُّع إلى الله عزَّ وجل من أجل تغيير القبلة من بيت المقدس، وأنه لم يكن مرتاحا لاستغلال اليهود لتوجه المسلمين إلى قبلتهم، واستخدامهم ذلك في السعي إلى تشويه رسالة الإسلام. ولو كان هو الذي اختار التوجُّه إلى بيت المقدس لغيَّر القبلة متى شاء. وهذا يبطل ما ذهب إليه عبد المتعال الصعيدي في قوله عن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة: "وكان شأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، يَسُنُّ بالمسلمين سُنَّة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه بيان شرعي حتى ينزل الوحي."[6]

خلاصة هذه المسألة أن نسخ حكم القبلة -بمعنى تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة- أمرٌ ثابت لا خلاف فيه، وهو نسخٌ في الأحكام الشرعية، ولكنه ليس نسخا في نصوص القرآن الكريم؛ لأنه لا يوجد نص قرآني منسوخ الحكم، والحكم المنسوخ (وهو التوجُّه إلى بيت المقدس) وإن كان ثابتا بأمر الله تعالى، إلا أن ذلك الأمر لم يكن بنص قرآني، وإنما كان بإلهام أو بإخبار من جبريل.


[1] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه إلى القبلة حيث كان، ج1، ص88، حديث رقم (399).
[2] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، ج1، ص17، حديث رقم (40).
[3] مسند أحمد مخرجا، ج5، ص136، حديث رقم (2991).
[4] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص105.
[5] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص106.
[6] عبد المتعال الصعيدي، لا نسخ في القرآن، ص14.
 
أعلى