العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

بحث // موت أو فلس المحال عليه بعد رضا المحال بالحوالة ، هل يرجع على المحيل أم لا ؟

صلاح بن خميس الغامدي

قاضي بوزارة العدل السعودية
إنضم
27 أبريل 2008
المشاركات
103
الإقامة
الدمام - المنطقة الشرقية
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أحمد
التخصص
الفقه
الدولة
السعودية
المدينة
الدمام حرسها الله
المذهب الفقهي
الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة : من أحيل على شخص ثم مات المحال عليه أو أفلس فهل يبرأ المحيل أم لا ؟
هذا بحث مختصر في مسألة مهمة تقع كثيرا في واقعنا، ويحصل الحرج الكبير لكثير من الذين يتعاملون بها، ونتناول هذه المسألة في ثلاث نقاط .

النقطة الأولى : تعريف الحوالة ومشروعيتها .

للحوالة تعريفات كثيرة في كتب الفقه ، ومن هذه التعريفات .
نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه(1)، فالمحيل هو المدين، والمحال هو الدائن، والمحال عليه هو الذي يقوم بقضاء الدين .
والحوالة مشروعة فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع "(2) ففي هذا الحديث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الدائن إذا أحاله المدين على غني ملئ قادر أن يقبل الإحالة، وأن يتبع الذي أحيل عليه بالمطالبة حتى يستوفي حقه.

النقطة الثانية : شروطها .

يشترط للحوالة عدة شروط وهي كما يلي :

الشرط الأول :
يشترط للحوالة رضا المحيل والمحال(3) ، وقيل: لا يشترط رضا المحال لان المحال يجب عليه قبولها(4) ، كما ذهب بعضهم إلى أنه يشترط رضا المحال عليه لأنه مطالب بالمال ويختلف عليه الطلب والناس متفاوتون فيه فمنهم من يعنّف فيه ويستعجل ، ومنهم من يمهل ويسامح(5) .

الشرط الثاني:
تماثل الحقين في الجنس والقدر والحلول والتأجيل والجودة والرداءة، فلا تصح الحوالة إذا كان الدين ذهبا وأحاله ليأخذ بدله فضة. وكذلك إذا كان الدين حالا وأحاله ليقبضه مؤجلا أو العكس(6).

الشرط الثالث :
استقرار الدين، فلو أحاله على شخص لم يستوف أجره بعد فإن الحوالة لا تصح(7).

الشرط الرابع :
معلومية الحقين(8).

النقطة الثالثة : من أحيل على شخص ثم مات المحال عليه أو أفلس فهل يبرأ المحيل أم لا؟

قبل الدخول في هذه المسألة وذكر كلام الفقهاء فيها، ننبه إلى أن هذه المسألة إنما ترد بعد صحة الحوالة واكتمال شروطها ورضا المحال بالحوالة على المحال عليه قبل الفلس والموت ، وإلا فإن رضي مع علمه بفلسه فليس له الرجوع باتفاق ، فهنا الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة وذكروا تفاصيل في كل جزئية ولكننا يمكن أن نحصر ذلك في قولين مشهورين .
القول الأول :أن المحيل في هذه المسألة تبرأ ذمته ، ولا يرجع المحال ـ إذا رضي ـ على المحيل في الدين إذا أفلس المحال عليه أو مات ، وهذا القول هو رأي جمهور الفقهاء من المالكية(9) والشافعية(10) والحنابلة(11) .


نصوص الفقهاء
قال مالك في الموطأ: " الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه، إن أفلس الذي أحيل عليه أو مات ولم يدع وفاء فليس للمحال على الذي أحاله شئ، وأنه لا يرجع على صاحبه الأول"(12).

كما جاء في روضة الطالبين(13) : " .. الحوالة إذا جرت بشروطها، برئ المحيل من دين المحتال، وتحول الحق إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحال عليه من دين المحيل. حتى لو أفلس المحال عليه ومات.." .

وجاء في الكافي(14): (إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين . لأنه قد تحول من ذمته ، فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه ، لموت أو فلس حادث ، أو مطل ، لم يرجع على المحيل ، كما لو أبرأه ).

وجاء عن الشافعي قوله(15): وإذا أحال الرجل على الرجل بالحق فأفلس المحال عليه أو مات ، ولا شيء له ، لم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل من قبل أن الحوالة تحول حق من موضعه إلى غيره ، وما تحول لم يعد ، والحوالة مخالفة للحمالة ».

القول الثاني : أن المحال في هذه المسألة يرجع على المحيل إذا أفلس المحال عليه أو مات ، وهو رأي الحنفية(16) ، ورواية عن الحنابلة(17)، وهو قول شريح ، والشعبي ، والنخعي (18).

نصوص الفقهاء

جاء في رد المحتار(19): " ( وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا بِالتَّوَى ) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ : هَلَاكُ الْمَالِ لِأَنَّ بَرَاءَتَهُ مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ ..... ( وَهُوَ ) بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ( أَنْ يَجْحَدَ ) الْمُحَالُ عَلَيْهِ ( الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ ) أَيْ لِمُحْتَالٍ وَمُحِيلٍ ( أَوْ يَمُوتَ ) الْمُحَالُ عَلَيْهِ ( مُفْلِسًا ) " .

كما جاء في الإنصاف(20): " .. وعنه لا يبرأ إلا برضى المحتال فإن أبى أجبره الحاكم لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة.وقال في الفائق وعنه لا يبرأ مطلقا " .

أدلة القول الأول :

استدل أصحاب القول الأول بالأدلة التالية :
1- أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنٌ ، فَأَحَالَهُ بِهِ ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : اخْتَرْت عَلَيْنَا ، أَبْعَدَك اللَّهُ ، فَأَبْعَدَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِيَالِهِ ، وَلَمْ يُخْبِرُهُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ (21).
2- ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه ، ولا ممن يدفع عنه ، فلم يكن فيها رجوع ، كما لو أبرأه من الدين.
3- ولأنه عيب طرا على ما قد صار إليه حال سلامته ورضي به فلا انتقال له عنه بما يحدث فيه بعد العقد(22).
4- ولأن الحوالة مبرئة بلا خلاف ، وقد عقدت مطلقة عن شرط السلامة فتفيد البراءة مطلقا(23).
5- ولأن الذمة برئت من الحق ، فلم يعد إلى إشغالها ، كما لو كان مليئاً (24).
والمليء فسره العلماء بأنه ما اجتمع فيه ثلاث صفات:
أن يكون قادراً على الوفاء، فليس بفقير، و صادق بوعده فليس بمماطل، و يمكن جلبه إلى مجلس الحكم، فلا يكون صاحب جاه، أو يكون أباً للمحال، فلا يمكنّه الحاكم من مرافعته.
وقد فسر الإمام أحمد رضي الله عنه المليء فقال هو أن يكون مليئا بماله وقوله وبدنه(25).
6- قالوا : ولأنه أي المحال مقصر بترك البحث ، فأشبه من اشترى شيئاً هو مغبون فيه.

أدلة القول الثاني :

استدل أصحاب القول الثاني بما يلي :
1- قالوا : لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أُحِيلَ بِحَقِّهِ ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَقَالَ : يَرْجِعُ بِحَقِّهِ .
ويجاب عن هذا الاستدلال بأن حَدِيثُ عُثْمَانَ لَمْ يَصِحَّ ، يَرْوِيه خَالِدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْهُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : فِي حَوَالَةٍ أَوْ كَفَالَةٍ ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ ، وَلَا يَصِحُّ ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ قَوْلُ عَلِيٍّ مُخَالِفًا لَهُ(26).
2- قالوا : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَمْ يَسْلَمْ الْعِوَضُ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ ، فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ ، كَمَا لَوْ اعْتَاضَ بِثَوْبٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ (27).
وقد أجاب أصحاب القول الأول بقولهم : وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ لا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ ، بِالدَّيْنِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَيُفَارِقُ الْمُعَاوَضَةَ بِالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَبْضًا يَقِفُ اسْتِقْرَارُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَهَا هُنَا الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ ، وَإِلَّا كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ(28) .
- قالوا : وَلِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَضَاءِ(29) .

وقد ذكر فقهاء الحنفية أن هناك شرائط للرجوع فلتراجع(30).

جاء في تبيين الحقائق(31) ما نصه : " والتوى عند أبي حنيفة بأحد أمرين: إما أن يموت المحال عليه مفلساً أو أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة للمحال؛ لأن العجز عن الوصول إلى الحق يتحقق بكل واحد منهما، وهو التوى في الحقيقة.وقال الصاحبان: يتحقق التوى بوجه ثالث: وهو أن يفلس المحال عليه حال حياته، ويقضي القاضي بإفلاسه حال حياته ، وهذا مبني على قاعدة أخرى مختلف فيها بين الإمام وصاحبيه: وهي أن القاضي يقضي بالإفلاس حال الحياة عندهما، وعنده: لا يقضي به ،وإذا تحقق التوى يرجع صاحب الدين على المحيل ".

وبعد عرض هذه المسألة وما جاء فيها من أدلة ومناقشة فنقول
إن الذي تطمئن إليه النفس: أن المحال إن احتال برضاه، عالماً بإفلاس المحال عليه، أو موته، أو مماطلته ونحو ذلك من العيوب التي في المحال عليه، ولم يشترط على المحيل الرجوع عند تعذر أو تعسُّر الاستيفاء، أنه لا يرجع، لأنه رضي بإحالة حقه من ذمة إلى ذمة يعلم مصيره فيها، فهو شبيه بما لو اشترى مبيعاً معيباً يعلم عيبه ، وهذا سبق أن ذكرناه في مقدمة المسألة مما اتفق عليه .
أما إن لم يكن المحال راضياً بالحوالة على المعسر ونحوه، أو كان راضيا بالحوالة عليه، لكن يجهل عسره ونحوه أو غرر فيه وشرط الرجوع عند تعذر الاستيفاء، أو تعسره، فالحق أن له الرجوع وهو رأي الحنابلة والمالكية لحديث " المسلمون عند شروطهم " ، لأن عسر المحال عليه عيب لم يعلم به ولم يرض به، فله الرجوع ، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وكتبه الفقير إلى عفو ربه ومولاه

صلاح بن خميس الغامدي
---------------------------------
(1) انظر شرح المنتهى 5/303
(2) أخرجه البخاري برقم 2400باب مطل الغني ظلم ، ومسلم برقم 2924 في المساقاة
(3) انظر حاشية الدسوقي 13/372 التاج والإكليل 8/148 روضة الطالبين 3/462 مغني المحتاج 8/160
(4) انظر كشاف القناع 10/388 ، وشرح منتهى الإرادات 5/305
(5) انظر البحر الرائق 17/276 وتبيين الحقائق 12/35
(6) انظر بدائع الصنائع 12/420 ، و حاشية الدسوقي 13/381 ، و التاج والإكليل 8/158 ، و روضة الطالبين 3/466 ، و كشاف القناع 10/ 385،286 ، وشرح المنتهى 5/305
(7) انظر حاشية الدسوقي 13/375 ، وبدائع الصنائع 12/420
(8) انظر مغني المحتاج 8/165، و كشاف القناع 10/387 ، وشرح المنتهى 5/305
(9) انظر حاشية الدسوقي 13/372، و مواهب الجليل 7/27، و المنتقى شرح الموطأ للباجي451/3
(10) انظر روضة الطالبين 3/466 ، و المجموع شرح المهذب 13/435 ، و حاشيتا قليوبي وعميرة 8/203
(11) انظر منتهى الإرادات 5/307 ، وكشاف القناع10/382، و الإنصاف 5/170، و الكافي 3/13، و المغني 10/21
(12) انظر المنتقى شرح الموطأ للباجي 3/451
(13) انظر روضة الطالبين 3/466
(14) انظر الكافي 3/12
(15) معرفة السنن والآثار 10/91 برقم 3759
(16) انظر المبسوط 12/427 ، و فتح القدير 16/288 ، و رد المحتار 21/230، و تبيين الحقائق 12/39
(17) انظر الإنصاف 5/170، و الكافي 13/3
(18) نقلا عن المغني 10/21
(19) انظر رد المحتار 21/230
(20) انظر الإنصاف 5/170
(21) المغني 10/21 ، ولم يتم العثور عليه
(22) انظر المنتقى 4/53
(23) بدائع الصنائع 12/427
(24) الكافي 3/13
(25) الإنصاف 5/170
(26) انظر المغني 10/21
(27) المبسوط 12/426
(28) المغني 10/22
(29) انظر المبسوط 12/429
(30) راجع في ذلك المبسوط 12/430 ، و فتح القدير 16/288
(31) تبيين الحقائق 12/39
 
أعلى