العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تحرير المسائل الأصولية (2): النسخ

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
النسخ
د. نَعْمَان جَغيم

مقدمة

النسخ في التشريعات العملية مظهر من مظاهر تفاعل التشريع مع تغيُّرات الواقع الاجتماعي، ووسيلة من وسائل مجاراة التشريع للحياة العملية لأفراد المجتمع بما يضمن حُسْن التوجيه والتنظيم. ومبدأ النسخ ثابت في الأحكام الشرعية، وإعمالُه مهم في تفسير بعض النصوص الشرعية، ولكن الناظر في كتب أصول الفقه يرى أنهم قد توسعوا في مباحثه. ومع ذلك التوسُّع كثُر التجميع وقلّ التحقيق، ومما أسهم في التخبّط في الموضوع الخلط بين النسخ وبين قواعد التعارض والترجيح.

المبحث الأول: مفهوم النسخ

المطلب الأول: تعريف النسخ

أولا: النسخ في اللغةيُطلق النسخ في اللغة بمعنيين: أحدهما: الإبطال والإزالة، ومنه: نَسَخَت الشمسُ الظلَّ، ونَسَخَت الريحُ آثار القدم. والثاني: النقل والتحويل بعد الثبوت، ومنه: نسختُ الكتاب، أي نقلتُه.[1] واختلف الأصوليون أيهما المعنى الحقيقي: فبعضهم -مثل الباقلاني والغزالي- يرى أنه مشترك بين الإزالة والنقل، وبعضهم يرى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، وبعضهم يرى أنه حقيقة في النقل والتحويل مجاز في الإزالة.[2] ولا أرى داعيا لبحث هذه المسألة لقلة فائدتها العملية.

ثانيا: المفهوم الاصطلاحي للنسخ:

1- النسخ في اصطلاح علماء الصدر الأول
يختلف إطلاق مصطلح "النسخ" عند علماء الصدر الأول مثل الصحابة والتابعين عنه عند الأصوليين في عصر تدوين أصول الفقه. النسخ في عُرف علماء الصدر الأول أوسع بكثير مما هو في اصطلاح الأصوليين؛ فقد كان علماء الصدر الأول يطلقون النسخ إطلاقا عاما يشمل الاستثناء، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وصرف النص عن ظاهره إلى معنى من المعاني يحتمله. يقول ابن قيم الجوزية: "ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة –وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلَق على مقيَّد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم ليسمُّون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمُّن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد. فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد من اللفظ بأمر خارج عنه."[3]ويقول الشاطبي: "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعمّ منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متّصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان الـمُبْهَم والـمُجْمَل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد."[4] وقد أورد الشاطبي أمثلة لذلك، منها: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (*) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (*) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) (الشعراء: ظ¢ظ¢ظ¤ – ظ¢ظ¢ظ¦) هو منسوخ بقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)(الشعراء: ظ¢ظ¢ظ§) الآية. وهذا الذي عبَّر عنه ابن عباس بالنسخ هو من تخصيص العموم في اصطلاح الأصوليين. وقال في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) (النور: ظ¢ظ§) إنه منسوخ بقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ)(النور: ظ¢ظ©) الآية، وهذه الآية في الحقيقة تبيِّن أن المراد بالبيوت في الآية الأولى هو البيوت المسكونة، وهذا البيان لا يُعتبر من النسخ في اصطلاح الأصوليين.[5]

2- النسخ في اصطلاح الأصوليين

أما مفهوم النسخ عند الأصوليين فهو يدور حول رفع الحكم الشرعي -كليا أو جزئيا- بدليل شرعي متأخر. وقد اختلفت تعريفات الأصوليين للنسخ وكثُر النقاش حولها، وترجع تلك الاختلافات والنقاشات إلى أمرين: أحدهما: البحث عن التعريف الجامع المانع، والثاني: مسائل في علم الكلام امتدت آثارها إلى علم أصول الفقه عندما اشتغل به علماء الكلام. ويمكن جمع تعريفات الأصوليين للنسخ في اتجاهين:

الاتجاه الأول
: تعريف النسخ بأنه: "رفعٌ للحكم الشرعي بخطاب"، وهو منسوب إلى الباقلاني واختاره الزركشي في البحر المحيط ونسب اختياره إلى الصيرفي والشيرازي والآمدي وابن الحاجب،[6] وهو اختيار الغزالي، حيث عرفه بأنه: "الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتا به، مع تراخيه عنه."[7] ويُفَسِّر أصحاب هذا التعريف "الرفع" بارتفاع دوام الحكم لا ارتفاع الحكم الذي هو خطاب الله تعالى القديم. يقول الغزالي: "ليس معنى النسخ رفع الكلام، بل قطع تعلُّقه بالمكلَّف."[8] ويرى الجويني أن الذي دفع الباقلاني إلى التعبير عن النسخ برفع الحكم هو التفريق بينه وبين التخصيص؛ لأن تعريفه بما يفيد بيان مدة الحكم يُدْخِلُه في باب التخصيص.[9]

الاتجاه الثاني
: يتجنّب أصحابه استعمال كلمة "رفع" لأنها توحي بالتناقض بين ثبوت الحكم المتعلق بخطاب الله تعالى الأزلي وبين ارتفاعه بعد ذلك،[10] كما أنها قد توهم بالبَدَاء وهو مستحيل على الله تعالى.[11] وهذا الاتجاه يمثله تعريف الفقهاء، وقريب منه تعريف المعتزلة، وهو الذي اختاره الجويني، حيث يعرفون النسخ بأنه: "اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده." وقد هذّب الجويني هذا التعريف وعرفه بأنه: "اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول."[12]

أصحاب هذا الاتجاه يجعلون النسخ تخصيصا وبيانا من حيث الزمن، أي أن الخطاب الثاني بَيَّن أن الأزمنة بَعْدَهُ لم يكن ثبوتُ الحكم فيها مُرادًا من الخطاب الأول، يقول ابن القطان: "وجملة الكلام في النسخ عندنا هو أن يأمُرَ بأمرٍ على الإطلاق في جميع الأزمنة، ويريدُ منه بعضَها ولا يكشف ذلك. ثم يأمرُ بأمرٍ ثانٍ، فيُعلَم أنه أراد به بعض الأزمنة."
[13]ولذلك عدّ علماء الحنفية النسخ من وجوه البيان، فعرفه الجصاص بأنه: "بيانُ مدة الحكم الذي كان في وَهْمِنَا وتقديرنا جوازُ بقائه".[14]

نجد في كتب الأصول نقاشا طويلا حول صلاحية استعمال كلمة "رفع الحكم"، وهو نقاش قائم على مسألة فلسفية من علم الكلام تتعلق بصفة الكلام لله عز وجل. كما تجد نقاشا حول مسألة هل النسخ هو "رفع الحكم أو بيان مدة الحكم" أم هو "اللفظ الدال على رفع الحكم أو انتهاء أمده"، حيث يحرص بعض الأصوليين -مثل الجويني والغزالي- على إبراز أن النسخ هو "اللفظ الدال على انتهاء الحكم"، وذلك من أجل الرد على المعتزلة بتقرير أن الخطاب هو النسخ وليس الناسخ، أما الناسخ فهو الشارع جل وعلا، وليس كما يرى المعتزلة أن الخطاب هو الناسخ.
[15] ولا داعي للخوض في هذه المسائل الكلامية؛ لأن معنى النسخ واضح، ولا حاجة للجدل وكثرة الكلام في العبارات المستعملة في تعريفه.

المطلب الثاني: أنواع النسخ


الناظر في استخدام العلماء لمصطلح النسخ يجد أنهم يستعملونه بمعنيين: أحدهما: النسخ الحقيقي، والثاني: النسخ الافتراضي.
أولا: النسخ الحقيقي (الصريح): هو الذي يرد فيه تصريح بالنسخ من الشارع نفسه: إما في القرآن الكريم، أو في السنة النبوية.
هذا النوع من النسخ لا يُحتاج فيه -أصلا- إلى النظر في وجود تعارض بين الناسخ والمنسوخ؛ لأنه لا حجر على الشارع الحكيم في ما يقوم بنسخه. ويكفي في ثبوته التصريح به في النص الناسخ، أو وجود رواية تنص على وقوعه.

ثانيا:
النسخ الافتراضي (الحُكْمي): هو الذي ليس فيه نص يصرح بوقوع النسخ، ولكنه يقوم على افتراض وقوع النسخ بسبب ما يعتقده الشخص من تعارض بين النصوص الشرعية لا يمكن رفعه بالجمع أو الترجيح، فيلجأ إلى الحكم بالنسخ لرفع ذلك التعارض. ولا يخفى أنه حكم قائم على مجرد الافتراض.
إن الناظر في كتب أصول الفقه وكتب الناسخ والمنسوخ يجد أن أصحابها يستعملون مصطلح "النسخ" بإطلاق عام يشمل النوعين، دون تفصيل عادة، وهو الأمر الذي جعل حديثهم عن النسخ يتصف أحيانا بالغموض والاضطراب. ومن أمثلة المواضع التي يظهر فيها ذلك الاضطراب ما يأتي:

الموضع الأول:
تطبيق قواعد التعارض والترجيح على النسخ دون تفريق بين النسخ الحقيقي والنسخ الافتراضي. ويتضح ذلك بجلاء في مسألتين:
إحداهما: مسألة نسخ المتواتر بالآحاد، وسيأتي الحديث عنها فيما بعد.
الثانية: اشتراط التعارض بين الناسخ والمنسوخ دون تفريق بين النسخ الحقيقي والنسخ الافتراضي. فمثلا نجد أبا الحسن الأشعري يذهب إلى أن آية الوصية (البقرة: 180)[16] منسوخة بحديث "لا وصية لوارث"، وليس بآيات المواريث، ويعلل ذلك بقوله: "لا يجوز أن يُقال إنها نُسِخت بآية المواريث لأنه يمكن أن يُجْمَع بينهما."[17] وهو ما ذهب إليه الجصاص الحنفي، حيث يقول: "قيل إنها منسوخة بالميراث، ومعلوم أن وجوب الميراث لم يكن ينافي بقاء الوصية فيستحقهما جميعا معا، إلا أنه لما نُسخت الوصية وأوجب عقيبها الميراث، قيل على وجه المجاز إنها منسوخة به. ولو خُلينا والآيتين لاستعملانهما جميعا."[18] ويعلل ذلك بقوله: "وقد يرد حكم يصح اجتماعه مع الأول، ويكون وروده عقيب نسخ الأول، فيطلق بعض الناس أن الأول منسوخ بالثاني، وإن كان النسخ في الحقيقة واقعا بغيره، وإطلاق هذا مجاز عندنا ليس بحقيقة، وإنما سمي هذا نسخا لأنه ورد عقيب النسخ متصلا به وسُمي باسمه، كما يُسمى الشيء باسم غيره إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب على جهة المجاز."[19]

وعلى هذا الأساس نفسه يذهب الجصاص إلى
أن قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (*) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 15-16) ليس منسوخا بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) "(النور: 2)، ويعلل ذلك بقوله: "لأنَّا لو خُلِّينا والآيتين لم يكن يمتنع الجمع بين حكمهما على شخص واحد في حال واحدة ... فعلمنا أن زوال حكم الحبس والأذى لم يتعلق بوجوب الجلد، وإنما تعلق بشيء غيره، فلما أوجب الجلد على الزاني غير المحصن عند نسخهما ]أي الحبس والأذى[ أُطلق عليه أنه نسخه."[20]
الحقيقة أنه ليس من شرط النسخ التعارض والتضاد بين الناسخ والمنسوخ، ولا أحد يحجر على الشارع في ما ينسخه، ولا حاجة إلى افتراض ناسخ غير معلوم! والذي جعل الأصوليين يقولون بهذا الشرط هو خلطهم بين النسخ الحقيقي (الذي لا يُشْتَرَط فيه التعارض وإنما يكفي في إثباته وجود الدليل الشرعي الذي يشير إلى وقوعه) وبين افتراض النسخ الذي هو من قواعد التعارض والترجيح، وهو الذي يشترطون فيه وجود التعارض الذي يتعذر معه الجمع.

الموضع الثاني
: التوسُّع الصارخ في دعاوى النسخ، حتى وصل الأمر إلى ادعاء نسخ أحكام بعض الآيات دون وجود ناسخ لها! وهو توسُّع ناتج عن إطلاق العنان للنسخ الافتراضي على الرغم من أنه في الواقع ليس من حقيقة النسخ.

الموضع الثالث
: الاضطراب والتناقض بين التقرير النظري لمفهوم النسخ والتطبيق العملي له. وهذا مثال لذلك: يقول الدكتور مصطفى زيد في تقرير مفهوم النسخ: "وقائع النسخ لا تُعرَف إلا بالتلقي عن صاحب الشرع نفسه... لا تُقبَل إلا إذا أُثِرَت عن عصر النسخ، ونعني به عصر الرسالة، وكانت صحيحة ثابتة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة بشرط تعيين الناسخ."[21] ولكنه عندما يأتي إلى الحديث المفصَّل عن شروط الحكم بالنسخ، يقرِّر أن الشرط الأساس في ذلك هو التضاد بين الناسخ والمنسوخ بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإعمالهما معا بوجه من الوجوه.[22] وفي هذا تناقض واضح، فهو من جهة يحصر النسخ في النسخ الحقيقي الذي ورد الدليل على وقوعه، ومن جهة أخرى يجعل شرط القول بالنسخ التضاد بين الناسخ والمنسوخ، وهذا الشرط ليس له علاقة بالنسخ الحقيقي، إنما هو شرط النسخ الافتراضي الذي هو فرع من التعارض والترجيح!

المطلب الثالث: وقوع النسخ والحكم بالنسخ

عند النظر في الكتب التي تتحدث عن النسخ نجد أن أصحابها لا يميزون بين وقوع النسخ وبين الحكم بالنسخ، مع أنهما أمران يجب التمييز بينهما، وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى خلط منهجي. إن وقوع النسخ يكون في زمن النبوة بأن يرد حكم شرعي -في ذلك الزمن- ينسخ حكما شرعيا سابقا، يستوي في ذلك كون الحكم الناسخ من القرآن الكريم أو من السنة النبوية. أما الحكم بالنسخ، فهو ما يفعله العلماء فيما بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم من القول إن حُكْمًا من الأحكام ناسخٌ لحكم آخر، ويكون ذلك إما بناء على ورود نص يُصرِّح بوقوع ذلك النسخ (وهو النسخ الحقيقي)، أو بناء على ما يعتقده الشخص من تعارض بين الحكمين لا يرى إمكان دفعه إلا بالقول بالنسخ، وهو النسخ الافتراضي.


من أهم ما يظهر فيه أثر عدم التفريق بين وقوع النسخ وبين الحكم بالنسخ مسألة النسخ بخبر الواحد، حيث يرى جمهور العلماء أن المتواتر من القرآن الكريم والسنة النبوية لا يُنْسَخُ بأخبار الآحاد. وذهب جماعة من أهل الظاهر -منهم ابن حزم- إلى وقوعه، وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها ابن عقيل. وفصّل القاضي الباقلاني، والغزالي وأبو الوليد الباجي والقرطبي بين زمان الرسول وما بعده، فقالوا بوقوعه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم وقوعه بعد زمانه.
[23] وقد علل الزركشي التفريق بين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن ما بعده بقوله: "وكأنّ الفارق أن الأحكام في زمان الرسول في معرض التغيُّر، وفيما بعده مستقرّة، فكان لا قطع في زمانه."[24] وهو تعليل غير صحيح؛ لأنه قائم على عدم التمييز بين وقوع النسخ وبين الحكم بالنسخ.

الحقيقة أن الكلام في النسخ بخبر الواحد يقتضي التفريق بين مسألة وقوع النسخ وبين مسألة الحكم بالنسخ؛ لأن عدم التفريق بينهما هو الذي أدى إلى الاضطراب في هذه المسألة.

إذا قلنا بأن السنة النبوية يمكن أن تنسخ القرآن الكريم، وهو رأي جمهور العلماء، فإن النسخ يحصل بمجرد صدور تلك السنة الناسخة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويثبت النسخ مباشرة في حقِّ الذين سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حقِّ الذين نُقل إليهم خبر ذلك النسخ. ولم يكن هناك معنى لمسألة الآحاد والتواتر بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم؛ إذْ إنه من المعلوم الثابت أنهم كانوا يأخذون بما يصلهم برواية الآحاد سواء كان ذلك مما نزل من القرآن الكريم أو مما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من سنّة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرسل آحاد الصحابة لتبليغ القرآن والسنّة، ولم يكن أحدٌ يشترط التواتر في نقل القرآن الكريم أو السنَّة النبوية. وقد تحوّل أهل قباء في صلاتهم من بيت المقدس إلى الكعبة بمجرد إخبارهم من أحد الصحابة. ونُكتة ذلك أن مأخذ الظن في خبر الآحاد هو الشكّ في صدق الراوي أو ضبطه، ولم تكن هناك مشكلة في الصدق والضبط بين الصحابة، ولذلك لم يكن هناك معنى لاشتراط التواتر. بهذا تبيّن أن وقوع النسخ لا علاقة له بمسألة الآحاد والتواتر.

أما الحكم بالنسخ بعد عصر النبوة فإن الكلام فيه يحتاج إلى التفصيل الآتي:

إذا كانت الرواية قد وردت بالإخبار بوقوع النسخ حقيقة، فإنه يُنظر في صحة تلك الرواية. فإذا ثبت صحتها، لزم التصديق بوقوع ذلك النسخ بغض النظر عن كونها مروية بالآحاد أو بالتواتر؛ لأن المسألة هنا ليست من باب تعارض القطعي والظني، وإنما هي من باب الإخبار بوقوع النسخ، فتكون المسألة قائمة على النظر في صحة الرواية من أجل الحكم بوقوع ذلك النسخ.
أما إذا لم تكن هناك رواية تُخْبر بوقوع النسخ، ولكن الشخص يفترض وقوعه بناء على ما يعتقده من تعارض بين النصوص لا يمكن رفعُه بالجمع والترجيح، فإن المسألة هنا -في الحقيقة- ليست من باب النسخ، وإنما هي من باب التعارض والترجيح. ومثال ذلك أن توجد سُنَّة من السُّنن يعتقد بعض العلماء أنها معارِضَة لآية من القرآن الكريم، وأنه لا يمكن الجمع بينهما، وأن الحل هو افتراض كون تلك السنَّة ناسخة للآية. إن هذه المسألة -في الواقع- ليست من باب النسخ؛ لأن النسخَ هو النسخُ الحقيقي الذي ثبت وقوعُه في زمن النبوة، أما هذا النسخ الافتراضي فهو مسلك اقترحه العلماء لدفع ما يعتقدونه من تعارض بين النصوص. وقد وضع جمهور الأصوليين قاعدة مفادها أن الدليل الظني لا يقوى على دفع الدليل القطعي. وبما أن خبر الآحاد عندهم يفيد الظن، فإنه لا يمكنه أن يرفع (بالنسخ الافتراضي) حكم المتواتر الذي يفيد القطع. أما القائلون بأن خبر الواحد إذا صحّ فإنه يفيد القطع -وهو قول ابن حزم وبعض أهل الحديث- فإنهم لا يرون مانعا من نسخ المتواتر -سواء أكان قرآنا أم سنة- بخبر الآحاد لأنهما متساويان في إفادة القطع. وقد بيّنا من قبل أن النسخ الافتراضي مجرد دعوى على الشارع الحكيم تحتاج إلى إثبات يرقى على الشك، ومن العسير حصول ذلك في نصوص القرآن الكريم.

المطلب الرابع: الفرق بين النسخ والتخصيص

التخصيص هو قصر اللفظ العام على بعض أفراده، فهو بيان المراد باللفظ. ويكون ذلك بإخراج بعض ما تناوله اللفظ العام؛ لأنه غير مندرج تحت إرادة اللافظ ابتداء. أما النسخ فهو تغيير حكم شرعي بعد أن يكون قد استقر ذلك الحكم فيأتي دليل متأخر بتغييره، فهو إظهار ما ينافي استمرار الحكم الأول. وخلاصة الأمر أن التخصيص يتعلق بالأفراد الذين يشملهم اللفظ العام أو الأشياء التي يشملها الحكم العام، أما النسخ فيتعلق بالزمن الذي يشمله الحكم.


وهناك فرق آخر عند جمهور الأصوليين هو أن النسخ يكون دائما كليا ويكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، أما التخصيص فيكون دائما جزئيا والمخصِّص قد يكون مقارنا في وروده للعام، وقد يكون متراخيا عنه مثل التخصيص بالنص المنفصل المتراخي. أما عامة الأصوليين من الحنفية -خاصة المتأخرون منهم-
[25] فالنسخ عندهم قد يكون كليا وقد يكون جزئيا. والنسخ الجزئي عندهم نوع من أنواع التخصيص عند جمهور الأصوليين، وهو التخصيص بنص مستقل ومتراخي عن العام. يقول السرخسي: "قال علماؤنا رحمهم الله: دليل الخصوص إذا اقترن بالعموم يكون بيانا، وإذا تأخر لم يكن بيانا بل يكون نسخا."[26] والذي دفعهم إلى اعتبار البيان المتراخي نسخا لا تخصيصا هو المحافظة على قاعدتهم في القول بأن دلالة العام على أفراده قبل التخصيص قطعية، فإذا اعتبروا المخصِّص المتراخي نسخا لم يرفع صفة القطع عن العام الذي دخله نسخ جزئي. يقول البزدوي في التعقيب على اعتبار المخصِّص المتراخي ناسخا: "وهذا فرعٌ لما مرّ أن العموم عندنا مثل الخصوص في إيجاب الحكم قطعا، ولو احتمل الخصوص متراخيا لما أوجب الحكم قطعا مثل العام الذي لحقه الخصوص."[27]

ويتضح الفرق بين رأي الجمهور ورأي الحنفية في المثالين الآتين:

المثال الأول: قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة: 185) فقوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تخصيص لعموم قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، وقد كان ورودهما مقترنين في وقت واحد فيكون هذا تخصيصا عند الجمهور والحنفية أيضا.
المثال الثاني: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (النور: 4) عام يدخل فيه الأزواج الذين يتهمون زوجاتهم بالزنا. والدليل على شموله الأزواج أنه بعد نزول هذه الآية بزمن جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتهم زوجته بالزنا فطلب منه إحضار أربعة شهود أو تُطَبَّق عليه عقوبة القذف، فأنزل الله عز وجل آيات الملاعنة: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 6). فهذه الآية خصصت الآية السابقة بأن أخرجت منها الأزواج وجعلت لهم حكما خاصا، ولكنها نزلت بعد استقرار حكم الآية السابقة. وقد اعتبر جمهور الأصوليين هذا من باب تخصيص العام، أما الأصوليون من الحنفية فلا يعتبرونه من باب التخصيص، بل يعتبرونه من باب النسخ، ولكنه نسخ جزئي؛ لأنه نسخ الحكم المتعلق بالأزواج فقط، وبقي حكم القذف ساريا على غير الأزواج.

المطلب الخامس: الفرق بين النسخ والبَدَاء

البَدَاء من قولك: بَدا لي في الأمر، تريد تغيَّر رأيي فيه عما كان.
[28] أما النسخ فهو في حقيقته أن يأمر الشارع بأمرٍ على الإطلاق، ويريدُ منه بعض الأزمنة دون أن يكشف عن ذلك في الأمر الأول. ثم يأمرُ بأمرٍ ثانٍ، فيُعلَم أنه أراد بالأمر الأول بعض الأزمنة.[29]
والفرق بينهما أن من بدا له شيء فقد ظهر له ما كان خافيا عليه، وأنه في البداء يغيِّر الشخص رأيه؛ لأنه تبين له -بعد أن لم يكن يعلم ذلك- أن رأيه الأول لم يكن مناسبا، وهذا من طبيعة الإنسان الذي يتصف علمه بالقصور. أما في حق الله تعالى فهو مستحيل؛ لأن علم الله تعالى محيط بكل شيء زمانا ومكانا. أما في النسخ فإن الشارع الحكيم يأمرُ بأمرٍ لمرحلة معيَّنة لكون الحكمة تقتضي ذلك الحكم في تلك المرحلة، دون أن ينص على توقيت ذلك الحكم، ولما تنتهي الحكمة من تشريع ذلك الحكم، ويتطلب الأمر تشريع حكمٍ بديل، يأتي النص الشرعي بذلك الحكم الجديد الذي يكون ناسخا للحكم الأول. والمقصد من النسخ هو تربية أفراد المجتمع والتدرج في تنظيم شؤونه بطريقة تحقق المقاصد الشرعية.
بناء على سبق ذكره من فرق بين النسخ والبداء، يتبين أن القول بالنسخ لا يستلزم القول بالبداء، وأنه لا يوجد محذور شرعي في القول بالنسخ وإثباته.

المطلب السادس: الحكمة من النسخ

النسخ تغييرٌ في الأحكام اقتضته الحكمة الإلهية في التشريع، إما تيسيرا على الناس كما هو الحال في نسخ صمود المجاهد الواحد في وجه عشر من الكفار، أو لأن الشارع ألزم المسلمين بشيء لغرض معيّن، فلما تحقق ذلك الغرض نُسِخ ذلك الحكم، كما هو الحال في فرض تقديم صدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم الوارد في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (*) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المجادلة: 12-13).

إن النسخ لا يدخل الكليات الشرعية التي انبنت عليها تفاصيل الشريعة؛ لأن تلك الكليات لا تخضع للتبديل وهي صالحة لكل زمان ومكان. قال الشاطبي: "
النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا. ويدل على ذلك الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنيّة على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وجميعُ ذلك لم يُنسخ منه شئ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ويُحكِمُها ويحصِّنها. وإذا كان كذلك لم يثبت نسخٌ لكليٍّ ألبتة، ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق من هذا المعنى، فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها."[30]

ولا يدخل النسخُ الأخبارَ مثل قضايا العقيدة وأخبار التاريخ التي أوردها القرآن الكريم، لأن الأخبار إعلام بحقائق ووقائع، فلو وقع فيها التغيير كان ذلك بمثابة تكذيب للخبر السابق.

ولما كانت الحكمة من النسخ هي الانتقال بالمؤمنين إلى ما صار أصلح لهم في دينهم ودنياهم، فإن النسخ قد يكون بإبدال فرض مكان فرض آخر، كما هو الحال في إبدال التوجُّه إلى بيت المقدس بالتوجُّه إلى الكعبة، وقد يكون بإسقاط واجب مثل نسخ تقديم صدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون بإبدال التحريم بالإباحة مثل نسخ النهي عن مباشرة الصائم لزوجته بالليل بعد النوم بإباحة ذلك إلى الفجر، ونسخ المنع من زيارة القبور بإباحة ذلك. فالنسخ يكون إلى بدل صار هو أصلح للمكلَّفين من المنسوخ، وقد يكون ذلك البدل -في أعين الناس بالحساب الدنيوي- أخف أو أثقل أو مساويا. وكون الشيء يراه الناس بحساب المصلحة الدنيوية أثقل لا يخالف صفة التيسير والرحمة للشريعة الإسلامية، فالشريعة رحمة ويُسْرٌ لأنها جاءت بما يُصلح الإنسان في دينه ودنياه، والمشقة والضنك في مخالفة أحكامها. ومثال ذلك وضع القتال في أول الإسلام ثم فرضه بعد ذلك، فلا شك أن عدم القتال أخف على النفس من القتال، ولكن القتال فُرِض لأنه صار لابد منه لصلاح دين ودنيا المجتمع المسلم.[31]

المبحث الثاني: أركان النسخ وشروطه

المطلب الأول: أركان النسخ

للنسخ ثلاثة أركان، هي: الركن الأول: الناسخ. والناسخ في الحقيقة هو الله تعالى، ولكن يطلق لفظ الناسخ على النص الشرعي الذي يدل على النسخ، وهو من باب التوسُّع في الاستعمال.
الركن الثاني: المنسوخ. وهو الحكم الذي تم تغييره.
الركن الثالث: المنسوخ عنه. وهو المكلَّف الذي كان مكلَّفا بالحكم المنسوخ، ثم انتقل تكليفه إلى الحكم الجديد الناسخ.

المطلب الثاني: شروط النسخ


يذكر الأصوليين شروطا كثيرة للنسخ، بعضها تحصيل حاصل، وبعضها ناتج عن خطأ في التصور أدى إلى إدراج بعض المسائل في النسخ وهي في الواقع ليست منه. وما يُعدُّ حقا من شروط النسخ هما الشرطان الآتي ذكرها:


1- أن يكون المنسوخ حكما شرعيا
: لا بد أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بالشرع ثم نُسخ بحكم شرعي آخر. أما إن كان شيئا يفعله الناس بعادة ولم يَنْهَهُم عنها الشارع فترة من الزمن في أول الإسلام، ثم جاء الشرع بعد ذلك بالنهي عنها، مثل شرب الخمر والتعامل بالربا، فإن ذلك لا يُعد نسخا، بل هو ابتداء شرع.[32]

2- أن يكون النسخ بنص شرعي
: الشارع هو الله عز وجل، ويكون تشريعه بطريق مباشر هو الوحي أو عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم. والذي له سلطة نسخ حكم شرعي هو الشارع وحده، فلا يكون النسخ سوى بنص شرعي من الله عز وجل بالوحي المباشر أو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن النسخ لا يقع إلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا ثبت هذا، فلا معنى للحديث عن النسخ بالإجماع أو بالقياس، لأنهما ليسا من النصوص الشرعية التي لها سلطة النسخ، والعمل بهما إنما يكون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي بعد انتهاء المدة التي يقع فيها النسخ.
ومن الطبيعي أن يكون الدليل الناسخ متأخرا عن المنسوخ، والكلام عن هذا تحصيل حاصل؛ لأن النسخ في أصله تغيير حكم سابق بحكم لاحق.

وإذا اقترن بالحكم ما يلغي جزءا منه كان ذلك تخصيصا لا نسخا.
[33] وقد اختلفوا في الحكم الـمُغَيَّا بغاية مُجْمَلَة مثل قوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا) هل النص الذي يأتي فيما بعد ببيان الغاية ونهاية الحكم الأول يُسَمَّى ناسخا أم لا؟[34]وهي قضية شكلية؛ لأن الاتفاق حاصل على أن الحكم قد تغيَّر، والاختلاف في تسميته: هل يُسمى نسخا، أم يُسمى انتهاء الحكم بحلول غايته.


المبحث الثالث: آراء العلماء في وقوع النسخ


ذهب جمهور العلماء إلى جواز وقوع النسخ في القرآن عقلا، ووقوعه شرعا، وأوردوا لذلك أمثلة سيأتي ذكرها. وذهب البعض -قديما وحديثا- إلى منع ذلك. يقول الجويني: "يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها، ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آي القرآن. وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين، وصار إلى منع أحدهما دون الآخر على البدل صائرون."
[35] وقال ابن دقيق العيد: "نُقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ، لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرتفع، بل بمعنى أنه ينتهي بنص دال على انتهائه، فلا يكون نسخا."[36]
من أشهر المتقدمين الذين نُقِل عنهم إنكار وقوع النسخ في القرآن الكريم أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني،[37] حيث حاول الجمع بين الآيات التي ذكر العلماء أنها نسخت بعضها بعضا. وقد نقل الرازي في تفسيره وفي كتاب المحصول من علم الأصول شيئا من ذلك.[38]

المبحث الرابع: طريق معرفة النسخ

يُعرف النسخ بأحد طريقين:
الطريق الأول: التصريح بالنسخ: وذلك بأن يصرح الشارع بأن الحكم السابق قد نُسِخ واستُبْدِل بحكم جديد. وهذا هو الأصل في القول بوقوع النسخ. ومثال ذلك ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا."[39]

وكما هو في قوله تعالى: (
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المجادلة: 13) بعد أن كان قد فرض عليهم تقديم صدقة بين يدي النجوى في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المجادلة: 12).

وكما في قوله تعالى: (
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (*) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 65-66).

أما قول الصحابي هذا ناسخ وذاك منسوخ فيرى الغزالي أنه لا ينهض دليلا قاطعا على وقوع النسخ لجواز أن يكون اجتهادا من الصحابي، واجتهاد الصحابي يحتمل الصواب والخطأ.
[40] والتفصيل أن ينظر في قول الصحابي: فإذا تبيّن أن مراده من ذلك الإخبار عن النسخ الذي وقع فعلا، تكون روايته -إذا صح سندها- دليلا على وقوع النسخ، أما إذا تبيّن أن المراد حكمٌ منه بالنسخ بناء على اجتهاد منه فهذا يكون محلّ نظر.

كما لا يُحكم بأن حديث الصحابي الصغير متأخّرٌ عن حديث الصحابي الكبير فيكون ناسخا له، لجواز أن يكون الصغير قد روى المنسوخ عمن تقدمت صحبتُه، ولجواز أن يسمع الكبير الناسخ من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع الصغير المنسوخ منه. ولا يحكم بأن ما رواه سابق الإسلام منسوخٌ بما رواه من تأخّر في الإسلام؛ لأن ذلك لا يعني ضرورة أن ما رواه المتأخر في الإسلام صدر متأخرا عما رواه المتقدم في الإسلام. كما أنه ليس دليلا على النسخ أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر، فلا يُتَوهَّم أن الموافق لها هو السابق والمخالف لها هو اللاحق؛ لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها.
[41]

الطريق الثاني: وجود تعارض بين حكمين
: يرى الأصوليون أنه إذا ظهر تعارض بين حكمين ولم يتضح للعالم طريق للجمع أو الترجيح بينهما، فإنه يفترض في هذه الحال وقوع النسخ؛ لأن أدلة الشرع لا تتعارض تعارضا حقيقيا لا يمكن فيه الجمع والترجيح. ويحتاج الأمر في القول بالنسخ في هذه الحال إلى معرفة المتقدم والمتأخر من الدليلين حتى يُقال بأن المتأخر منهما ناسخٌ للمتقدم. ومعرفة ذلك تكون بما يثبت أن إحدى الآيتين نزلت بعد الأخرى، أو أن أحد الحديثين قيل في وقت متأخر عن الآخر.
لا يخفى أن القول بعدم إمكان الجمع بين النصين مسألة تقديرية اجتهادية خاضعة لفهم الشخص، وهي قابلة للاختلاف، فقد يرى البعض إمكان الجمع فلا يلجأون إلى افتراض النسخ، ويرى آخرون عدم إمكان الجمع فيفترضون وقوع النسخ، ومن هنا نشأ الخلاف في عدد الأحكام الشرعية المنسوخة.

إن الأصل في الأدلة الشرعية أنها جاءت للعمل بها. فالعمل بها ثابت والنسخ مجرد احتمال، ولا يُرْفَعُ الثابت بمحتمل إلا إذا ارتقى ذلك الاحتمال إلى مرتبة الثبوت. ولذلك فإن القول بالنسخ ادعاء لا يُقبل إلا بدليل، هو إما التصريح بوقوعه، أو استحالة الجمع بين الدليلين في القرآن الكريم، أو الجمع والترجيح في الأحاديث النبوية، فيصار إلى افتراض النسخ لأن الشريعة لا تناقض فيها.


ومن أمثلة النسخ الافتراضي ما استدل به الإمام الشافعي على نسخ وجوب التهجد بالليل. قال الشافعي: "مما نقل بعض من سمعت منه من أهل العلم أن الله أنزل في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: (
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (*) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (*) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (*) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 1-4)، ثم نسخ هذا في السورة معه، فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) (المزمل: 20)". فكان قوله تعالى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" ناسخا للآيات السابقة التي أمرت بقيام نصف الليل أو قريب منه. ثم بعد ذلك احتمل قوله تعالى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" معنيين: أحدهما: أن يكون فرضا ثابتا لأنه أزيل به فرضٌ غيرُهُ. والآخر: أن يكون فرضا نُسِخَ فيما بعد بقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء: 79). ولكن هذه الآية تحتمل أن يكون معناها أن يكون التهجُّد بشيء زائد على الفرض الذي من قيام الليل في قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ). فكان الواجبُ طلبُ الاستدلال بالسنَّة على الراجح من المعنيين. فوجدنا سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الصلوات الخمس، فدل ذلك على أن ما غير الخمس من الصلوات الواجبة منسوخ، وأن آية (الإسراء: 79) ناسخة لآية (المزمل: 20)."[42]


المبحث الخامس: مسائل في النسخ

المسألة الأولى: حكم العمل بالناسخ في حق من لم يبلغه
لا شك أن من لم يبلغه خبر وقوع النسخ فهو غير مكلَّف بالعمل بالناسخ؛ لأنه لم يعلم به، وتكليفه بالعمل بما لا علم له به تكليف بما لا يُطاق.[43] ولا شك في أن المكلَّف إذا علم بوقوع النسخ وجب عليه العمل بالناسخ. وقد بلغ أهل قباء تحويل القبلة وهم في الصلاة، فاستداروا إلى الكعبة وأكملوا صلاتهم. أما محلُّ البحث في هذه المسألة فهو في أمرين:
أحدهما: في من هو متمكِّن من معرفة الناسخ ولكنه لم يطلبه، فهذا الصنف نص الزركشي على أنه يثبت في حقه وجوب العمل بالناسخ. وهذا مبنيٌّ على أنه مُقَصِّر، ولا يُعذَر بجهله لتمكُّنه من العلم.
الثاني: من هو غير متمكِّن من معرفة وقوع النسخ، ثم علم بعد ذلك بوقوعه: فهل يلزمه تدارك ما فات إن كان قد ترتب عليه قضاء أم لا؟ ذكر الزركشي أن جمهور العلماء على أنه لا يثبت في ذمته ولا يجب عليه قضاؤه بعد علمه به، وقال بعضهم: يثبت في ذمته فيكون عليه قضاؤه إن كان محلّ قضاء.[44]

المسألة الثانية: النسخ قبل الفعل
يتحدث الأصوليون في هذا المبحث عن جواز وقوع النسخ بعد الأمر بالشيء وقبل وقوع العمل به أو قبل مضي وقت يتسع لفعل المأمور به. وتقوم بينهم مناقشات نظرية قائمة على الافتراضات وعلى الجدل في مسائل من علم الكلام. والقاعدة التي ينبغي تقريرها أن الشارع الحكيم يشرع الحكم لمقصد، وإذا تحقَّق ذلك المقصد وأراد الشارع أن يُغيَّر الحكم السابق بحكم جديد تحقيقا لمقصد آخر، فَلَهُ ذلك، وهو الحكيم الخبير.

وقد ارتبطت هذه المسألة بقضايا ورد النص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية، فيما يأتي بيانها:


القضية الأولى: قصة إبراهيم عليه السلام حين رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، حيث ظن البعض أن رؤيا إبراهيم عليه السلام فيها تكليف بالذبح الحقيقي، وحصول الفداء لإسماعيل نسخ للتكليف بالذبح. ولما كان الفداء قد حصل قبل وقوع الذبح، قالوا إن النسخ قد وقع قبل حصول الفعل أو التمكُّن منه. وغاب عنهم أن المقصد من التكليف لم يكن هو وقوع الذبح أصلا، وإنما كان القصد منه الابتلاء، وقد تحقق ذلك المقصد بعزم إبراهيم على ذبح ابنه بناء على الوحي الذي جاءه في المنام، وامتثل إسماعيل لذلك الابتلاء ورضي به. فلما تحقق المقصد من التكليف، وهو الابتلاء، وظهر العزم الكامل على الامتثال، جاء البيان بتمام العملية ونجاح الاختبار.


القضية الثانية: ما روي بشأن تخفيف الصلوات من خمسين إلى خمس في حديث المعراج. ومن المعلوم أن الفرض الذي ثبت على المسلمين في الصلاة هو خمس صلوات، ولم يحصل تكليفهم بخمسين صلاة أصلا حتى يقال إنه قد وقع نسخ في هذا. أما ما حصل في وقت المعراج فهو قبل أن يثبت فرض الصلوات الخمس على المسلمين، والنسخ إنما يكون في الأحكام التي ثبت التكليف بها، أما الحديث عن النسخ في عالم الغيب فهذا من التخليط الذي لا داعي إليه.


القضية الثالثة: مسألة النجوى، حيث ظن البعض أن المقصد من تشريع تقديم الصدقة بين يدي النجوى هو أن يبادر المسلمون إلى تقديم تلك الصدقات، وراحوا يبحثون هل تصدق أحد من الصحابة قبل نسخ ذلك الحكم أم لا؟ وراح بعض أنصار التشيُّع يختلقون أخبارا في أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد تصدق وناجى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الوحيد الذي فعل ذلك، ظنا منهم أن ذلك مكرمة له! والواقع أن المقصد من إيجاب الصدقة بين يدي النجوى، ليس هو تقديم الصدقة، بل هو الحدُّ من ظاهرة النجوى السلبية التي انتشرت وسبَّبَت إزعاجا للرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة. ولما تحقق المقصد بإقلاع الناس عن ظاهرة النجوى السلبية، جاء نسخ الحكم. وبهذا يتبين أن إقحام هذه القضية في مسألة النسخ قبل الفعل خطأ ظاهر. وسيأتي تفصيل الكلام في قضية النسخ في النجوى فيما بعد.


المبحث السادس
نسخ القرآن بالسنَّة

جمهور العلماء على أنه يجوز أن يُنسخ القرآن الكريم بالسنّة النبوية، واشترط أغلب القائلين بنسخ القرآن بالسنة أن تكون السنّة الناسخة متواترة،
[45] ومنعوا نسخ القرآن الكريم بأحاديث الآحاد،[46] وأجازه ابن حزم الظاهري وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل. وذهب الإمام الشافعي إلى أن السنّة لا تنسخ القرآن الكريم بحال، وإنما يُنْسَخ القرآنُ بالقرآن. وتوجد رواية عن الإمام أحمد يوافق فيها الشافعي في القول بأن السنّة لا تنسخ القرآن، وهي الرواية التي نصرها أبو يعلى الفراء في كتاب العُدّة.[47]

يقوم استدلال الشافعي لمذهبه على أساسين: أحدهما: أصل العلاقة بين القرآن والسنَّة، والثاني: آيات من القرآن الكريم.


الأساس الأول
: كون السنَّة تابعة للقرآن الكريم ومبيِّنَة له. وما دامت السنَّة تَبَعٌ للكتاب فهي تأتي بمثل ما ورد في القرآن نصًّا عند تبليغ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جاء به القرآن، أو عند عمله به، وتأتي بما يُفسِّر ما ورد في القرآن مجمَلا عند بيان المجمَل. فالسنَّة في مضمونها تابعةٌ للقرآن الكريم، وما يكون تبعا للكتاب وبيانًا له لا يمكن أن يقوم بنسخه. والسنَّة بيانٌ للقرآن الكريم، والبيان لا يكون بالتبديل والرفع، فإذا صارت السنَّة ناسخة للقرآن تصير كأنها خرجت عن وظيفة البيان. هذا فضلا عن أن افتراض النسخ يكون في حال وجود التعارض الحقيقي وعدم إمكان الجمع، والقول بنسخ السنَّة للقرآن يعني ضمنا أن بينهما تعارضا، وهو ما ينفيه الشافعي في مواضع متعددة، منها قوله: "وأولى أن لا يشك عالم في لزومها ]السنَّة النبوية[، وأن يعلم أن أحكام الله ثم أحكام رسوله لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد."[48]

وقد ناقش المخالفون للشافعي مذهبه بأدلة تدور حول ثلاثة أمور: أحدها الإمكان العقلي، والثاني: التناسب في طريق الثبوت، والثالث: الوقوع.


1- الإمكان العقلي
: وخلاصته أن السنّة وحيٌ غير متلوّ، ولا يمتنع أن يكون الوحي غيرُ المتلوّ ناسخا للوحي المتلوّ؛ لأن الكلّ من عند الله تعالى. يقول الغزالي: "يجوز نسخ القرآن بالسنَّة والسنَّة بالقرآن؛ لأن الكل من عند الله عز وجل، فما المانع منه؟ ولِـمَ يُعْتَبَرُ التجانس مع أن العقل لا يحيله؟"[49]
والواقع أن هذا الاستدلال لا يتوجَّه على رأي الشافعي؛ لأنه من المعلوم أن الاحتمال العقلي لا يقتضي الوقوع الشرعي، فليس كل ما هو ممكن عقلا واقعٌ شرعا، والشافعي لم يتطرق لمسألة الجواز والمنع عقلا، وإنما يتحدث عن الوقوع الشرعي.

2- التناسب في طريق الثبوت:
وخلاصته أن السنَّة المتواترة في مرتبة القرآن من حيث الثبوت فلا يمتنع كونُها ناسخة له.

والواقع أن مسألة التكافؤ في الثبوت من حيث التواتر خارجة عن محلّ الاستدلال؛ لأن الشافعي يقول بأنه ليس للنبيّ صلى الله عليه وسلم أصلا سُلطة نسخ القرآن الكريم، ويكون من باب أولى عدم صحّة دعوى العلماء بعد زمن النبوّة نسخ آية من القرآن الكريم بسنّة من السُّنن، وبذلك يكون
التفريق بين التواتر والآحاد -وما يفيده الأول من قطع والثاني من ظنّ- لا فائدة له أصلا؛ لأننا إذا قلنا إنه لا سُلطة للنبي صلى الله عليه وسلم في نسخ أحكام القرآن ارتفعت مسألة التواتر والآحاد من أصلها. وحتى إذا قلنا بأن له سُلطة نسخ أحكام القرآن فلا عبرة في زمنه لمسألة التواتر والآحاد؛ لأن الصحابة كانوا إما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وهذا يفيد قطعية الثبوت لديهم، أو يتناقل الصحابة كلامَه صلى الله عليه وسلم بينهم، وهم كلهم عدول لم يكن أحدُهم يشكُّ فيما ينقله غيره، ولذلك تحوّل الصحابة في مسجد قباء من التوجُّه إلى بيت المقدس إلى التوجُّه إلى الكعبة بناء على خبر آحاد، وعدُّوا ذلك قاطعا، ولم يُثِرْ أحدٌ منهم مسألة الآحاد والتواتر. وحتى القرآن الكريم كان يُتَنَاقل بينهم بالآحاد، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُرسل رُسُله لتعليم الناس أمور دينهم، ومنها القرآن الكريم، وكانوا أفرادا، ولم يقل أحدٌ إن هذا القرآن نقلُ آحادٍ فلا يفيد عندي القطع. فوقوع النسخ في عصر النبوة لا دخل فيه لمسألة التواتر والآحاد، وإنما دخلت مسألة الآحاد والتواتر فيما بعد عندما أصبح العلماء يتحدثون عن النسخ الافتراضي الذي طبقوا عليه بعض قواعد التعارض والترجيح لأنه في أصله قائم على اعتقاد التعارض بين الناسخ والمنسوخ.

3- الوقوع
: أما مسألة الوقوع، فقد اعترضوا على رأي الشافعي بأنه قد وقع فعلا نسخ القرآن بالسنَّة، واستدلوا على ذلك بدليلين:
الدليل الأول: آية الوصية: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180)، التي يرون أنها نُسِخَتْ بالسنَّة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث".[50] وقد نقل ابن فورك عن أبي الحسن الأشعري قوله: "لا يجوز أن يُقال إنّها نُسِخَت بآية المواريث، لأنه يمكن أن يُجمَع بينهما."[51]

وهذا ليس حجة على الإمام الشافعي لأنه صرّح بأن الناسخ هو آيةُ المواريث وأنّ الحديث إنما جاء بيانًا من النبي صلى الله عليه وسلم لوقوع ذلك النسخ.
ومما يؤيد رأي الشافعي ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كَانَ المالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ».[52]

كما روي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ."
[53] هذه الروايات تشير إلى أن النسخ وقع بآيات المواريث وأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لذلك النسخ.

وقد ردّ الجصاص على ما ذهب إليه الشافعي من كون الحديث مجرد بيان لوقوع النسخ بآية المواريث بقوله: "ما ذكره من ذلك لا يوجب كون الميراث ناسخا للوصية، وذلك أنه لا يمتنع اجتماع الميراث والوصية في حال واحدة لشخص واحد... فلو خلينا والآيتين جمعنا لهما بين الميراث والوصية؛ لأن كل حكمين يجوز اجتماعهما في حال واحد لشخص واحد، فليس في ورود أحدهما بعد الآخر ما يوجبُ نسخَهُ على ما بيّنّاه فيما سلف. فوجب على هذا متى وجدنا حكمين قد نسخ أحدهما عند إيجاب الآخر -مما يصح اجتماعه- أن نقول: إن النسخ واقع بغيره، لأنا لو خلينا وإياهما لما أوجبنا نسخا."
[54]

نلاحظ أن الجصاص يعتمد هنا على اشتراط التعارض التام بين الناسخ والمنسوخ، وهو قائم على عدم التمييز بين وقوع النسخ وبين افتراض النسخ. وقد بيّنا أن اشتراط التعارض إنما يكون في النسخ الافتراضي، أما في وقوع النسخ حقيقة فلا حاجة للبحث عن التعارض أصلا؛ لأنه لا حَجْرَ على الشارع الحكيم فيما يُغيِّرُه من أحكام. والحديث يشير بصراحة إلى وقوع النسخ بالميراث؛ لأنه يقول: "
إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ."[55] وفي رواية أخرى: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ."[56]

الدليل الثاني
: استدل الجصاص على وقوع نسخ القرآن بالسنة النبوية بقوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (*) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 15-16)، حيث يرى أنه منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ."[57]

ويعترض الجصاص على القول بأن الآية منسوخة بآية الجلد -الواردة في سورة النور- بأمرين: أحدهما: أن قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني" يفيد وقوع النسخ بسنته لا بالقرآن. والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم "قد جعل الله لهن سبيلا" يدل على أن آية الجلد لم تكن نزلت بعد، وأن السبيل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كان متقدما على نزول الآية. ثم يدعم هذا الاستدلال بمسألة عدم التناقض بين الحكمين الواردين في الآية، حيث يقول: "على أنه ليس في آية الجلد ما يوجب نسخ الحبس والأذى؛ لأنه لم يكن يمتنع اجتماعهما، وما يصح اجتماعه مع الأول لا يجوز وقوع النسخ فيه. فعلمنا أن النسخ وقع بغيره، وليس في القرآن ما يوجب نسخه، فثبت أنه منسوخ بالسنة."
[58]

ثم يؤيد القول بجواز نسخ القرآن بالسنة في هذه المسألة بأنه حتى لو قلنا بأن الحبس والأذى بالنسبة للبكر منسوخان بآية الجلد، فإن الآية الأولى دالة على عقوبة الحبس والأذى للبكر والثيب، وآية الجلد نسخت الحكم عن البكر فقط، فصار نسخ الحبس والأذى بالرجم للمحصن ثابتا بالسنة.
[59]

هذا المثال هو أقوى ما يُعترض به على رأي الشافعي في عدم نسخ القرآن بالسنة. ولم أجد للشافعي كلاما مباشرا في الرد على هذا الاعتراض، ولكنه في باب حد الزنا من كتاب الأم أشار إلى أن عقوبة الحبس والأذى قد نُسخت بآية الجلد في سورة النور دون تفصيل في المسألة. وقد حاول علماء الشافعية دفع هذا الاعتراض بطرق مختلفة. منها: أنهم زعموا أن الآية الواردة في الحبس والأذى خاصة بالأبكار دون المحصنين، وأن تلك العقوبة نُسخت بآية الجلد في سورة النور. أما عقوبة المحصنين -وهي الرجم- فهي ثابتة بالسنَّة ابتداء، ولم يرد عليها نسخ أصلا.
[60] ولكن يعكِّر على هذا الجواب كون آيتي الحبس والأذى وردتا بصيغة العموم، وتخصيصهما بالأبكار تخصيص بغير مخصِّص، وهو تحكُّم. كما أن صيغة حديث أبي سعيد الخدري تؤيد عموم عقوبتي الحبس والأذى، وتدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع عقوبتي الرجم والجلد قبل نزول آية الجلد في سورة النور.

ومنها: أن الحبس والأذى نُسِخا بآية الجلد في سورة النور، ثم نُسِخ الجلد في حقّ المحصَن بما يُسمى آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة).
[61] وهذا كلام متهافت؛ لأن صيغة حديث أبي سعيد الخدري في إثبات عقوبتي الرجم والجلد تدل أنها قيلت في وقت لم تكن آية الجلد من سورة النور قد نزلت، ولأن ما يُسمى آية الرجم مشكوك في ثبوته أصلا، وحتى لو افترضنا صحة ما يُسمى آية الرجم، فإن ذلك يكون تخصيصا لآية الجلد -على رأي علماء الشافعية- لا نسخا.

ومنها: أن عقوبتي الحبس والأذى كانتا مؤقتتين بقوله تعالى: (أو يجعل الله لهن سبيلا)، وجاءت السنَّة ببيان ذلك السبيل مع انتهاء توقيت العقوبتين، فيكون ما ورد في السنَّة -في حديث عبادة بن الصامت- بيانا للغاية، وهذا لا يُعَدّ نسخا. هذا أفضل جواب، ولكن قد ينازع فيه المخالف بأن يُصرّ على تسميته نسخا.


الأساس الثاني
: أما الأساس الثاني الذي استند إليه الشافعي فهو آيات من القرآن الكريم يرى أنها تدل على نفي نسخ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، وهي:
1- قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) (يونس: 15)، قال الشافعي معلِّقا على الآية: "فأخبر الله أنه فَرَضَ على نبيِّه اتِّباعَ ما يُوحَى إليه، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه. وفي قوله: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) بيانُ ما وصفتُ، من أنه لا يَنْسَخُ كتابَ الله إلا كتابُه. كما كان المبتدئ لفرضه، فهو المزيل المثبت لما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه."[62]
وقد ناقش الغزالي هذا الدليل بأنه في غير محل الاستدلال، فقال: "... على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن، فقال: لا أقدر عليه من تلقاء نفسي، وما طالبوه بحكم غير ذلك، فأين هذا من نسخ القرآن بالسنَّة وامتناعه."[63]
وهو اعتراض وجيه؛ لأن الآية لا تتحدث صراحة عن النسخ، فالنسخ هو استبدال بعض الأحكام الشرعية بأحكام أخرى، وهم إنما طالبوه بالإتيان بقرآن آخر غير الذي أنزل عليه من الله تعالى، أو تبديله، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجرد متبع لما يوحى إليه. وعلى الرغم من أن التبديل يشترك في المعنى مع النسخ إلا أنه لا يستلزمه.

2- قوله تعالى: (
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106). قال الشافعي معلِّقا على الآية: "فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله".[64] وقال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101).
وقد ناقش الغزالي هذا الدليل بقوله: "قد حققنا أن الناسخ هو الله تعالى، وأنه الـمُظْهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، الـمُفْهم إيانا بواسطته نسخ كتابه، ولا يقدر عليه غيره."[65]

3- قوله تعالى: (
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد: 39). قال الشافعي معقِّبا على هذه الآية: "وقيل في قوله (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ): يمحو فرض ما يشاء، ويثبت فرض ما يشاء. وهذا يُشْبِهُ ما قيل. والله أعلم."[66]

الخلاصة أن ما استدلّ به الشافعي من الآيات على منع نسخ القرآن بالسنَّة لا تنهض أن تكون نصوصا صريحة في الاستدلال على ذلك المنع، فهي محلّ أخذ وردّ. وبناء عليه لا يُسلَّم له الاستدلال بتلك النصوص. ولكن الأساس الذي استند إليه الشافعي في العلاقة بين القرآن والسنّة وطبيعة البيان في غاية الوجاهة، فالسنَّة بيانٌ للقرآن الكريم من جهة تفصيل أحكامه وبيان كيفية تطبيقها، ويَبْعُد أن تأتي بنسخه. أما اعتبار الحنفية النسخ نوعا من البيان؛ لأنه بيان لمدة الحكم بعد أن كان في تقديرنا بقاؤه،
[67] فإنه لا يُخرج النسخ عن طبيعته، وهي إزالة الحكم ورفعه والإتيان بحكم جديد مكانه، وهذا لا يُعدُّ عادة من البيان، والفرق بين بيان الشيء وبين إلغائه تماما واضح.

ونكتة مسألة ادعاء وقوع نسخ القرآن بالسنَّة أو منعه، أن الإمام الشافعي أعطى للسنّة بدلاً من وظيفة النسخ وظيفةً أخرى، هي بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم، وهي جزء من وظيفة البيان التي جاءت السنَّة من أجلها. فالطريق إلى معرفة النسخ في القرآن -عند الشافعي- قد يُستفاد بشكل مباشر من القرآن، وقد يُستعَان على معرفته بالسنَّة النبوية. ومثال ذلك ما ورد في صلاة الليل،
[68] وقد سبق ذكره عند الحديث عن طريق معرفة النسخ.

ومثاله أيضا آية الوصية (سورة البقرة: 180)، حيث إنها نُسِخَت بآيات المواريث التي حددت لكل وارث نصيبه، وبذلك التحديد لم تعد هناك حاجة إلى أن يوصي الميت للورثة، لأن الوصية للورثة إنما كانت مشروعة قبل تحديد أنصبتهم من الإرث، فكان الأمر متروكا لصاحب الثروة يوزعها بين والديه والأقربين بالمعروف. أما الحديث فجاء بيانا لوقوع ذلك النسخ.

هذه زبدة ما في الخلاف بين الشافعي والجمهور حول نسخ القرآن الكريم بالسنَّة النبوية، وفي المسألة نقاش طويل بين القائلين بالنسخ وبين أتباع الشافعي المانعين له. ومن ذلك النقاش ما هو نظري، ومنه ما هو حول وقوع نسخ القرآن بالسنة؛ فترى ما ادعى فيه المجيزون أنه نسخٌ للقرآن بالسنّة يردّ عليه المانعون بأنه مجرد بيان أو تخصيص أو أن الناسخ آية أخرى. قال أبو بكر الصيرفي: "وجِمَاعُ ما أقوله أن القرآن لم يُنسَخ قطّ بسنّة، فمن شاء فليرنا ذلك، فإنه لا يقدر عليه."[69]


المبحث السابع: نسخ السنَّة بالقرآن


ذهب جمهور العلماء إلى أن القرآن الكريم ينسخ السنة النبوية، وشاع النقل عن الشافعي أنه يقول بعدم نسخ السنّة بالقرآن الكريم. والواقع أن الشافعي لا يُنكر أن يَرِدَ القرآنُ بتغيير (نسخ) حُكم من الأحكام التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه لا يُنكر حصول نسخ السُنَّة بالقرآن، ولكنه يرى أننا لا نعلم أنّ القرآن قد نسخ تلك السُنَّة إلا بورود سُنَّة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم يتبيَّن بها أن سنَّتَهُ الأولى قد نُسِخَتْ بالقرآن. ذلك أنه ما من سُنّة ينسخها القرآن إلا ويعمل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك الحكم الجديد (الناسخ)، أو يأمر بالعمل به، وبذلك تنشأ سُنّةٌ تبيِّن ذلك النسخ. فالإمام الشافعي يرى أن السُنَّة النبوية هي التي تبيّن لنا وقوع النسخ وترشدنا إلى مواضعه في الحالات التي لا يكون فيها تصريح بالنسخ في النص القرآني.

وبناء على ما سبق فإن التعبير الدقيق عن موقف الشافعي من نسخ السُنَّة بالقرآن ينبغي أن يكون: "لا ينبغي لشخص أن يحكم بكون سُنَّةٍ منسوخةً بالقرآن الكريم إلاّ إذا وردت سُنَّةٌ أخرى تفيد ذلك النسخ".

وما ورد من عبارات للإمام الشافعي بأن السنَّة لا تُنسخ إلا بسُنّة مثلها، معناه أننا لا نحكم بنسخ سُنّةٍ بما ظاهرُه المخالفة لها من القرآن الكريم إلا بوجود سُنَّة أخرى تفيد أن ذلك النسخ قد وقع فعلا، وليس المراد منه عدم حصول نسخ السنَّة بالقرآن أصلا.


والدليل على أن الشافعي يقول بأن القرآن ينسخ السنَّة في الواقع واضحٌ من تتبُّع عباراته في الرسالة، وأوضحها قوله: "فنسخَ اللهُ تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف إلى أن يصلوها -كما أنزل الله وسنّ رسولُه- في وقتها، ونسخَ رسولُ الله سُنَّتَهُ في تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم بسُنَّتِه، صلاها رسول الله في وقتها كما وصَفْتُ".
[70] وقد جاء هذا الكلام في معرض حديثه عن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق إلى أن صلاها بعد الغروب، حيث عَدَّ الشافعيُ تأخير الصلاة عن وقتها عند ضرورة القتال سُنَّةً من النبيّ، وزعم أنه نزل القرآن الكريم بعد ذلك ببيان كيفية صلاة الخوف، فكانت تلك الآيات -حسب رأيه- ناسخة لسُنَّةِ تأخير الصلاة، ثم جاءت بعد ذلك سُنَّةُ النبيّ في تطبيق صلاة الخوف كما وردت في القرآن لتكون بيانا أن سنَّتَهُ الأولى منسوخة.

ملحوظة
: هذا ما ذكره الشافعي -ويذكره غيره- بخصوص تأخير صلاة العصر يوم الخندق. ولا أعتقد أنه يوجد في المسألة نسخ أصلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعمَّد تأخير صلاة العصر يوم الخندق، بل لم يتمكن من تأديتها في وقتها بسبب الانشعال بالقتال، فأخرها مُجْبَرا على ذلك، وهذا من باب التأخير لعذر قاهر، ولم يكن تأخيرها تشريعا مقصودا حتى يُقال بنسخه، ولفظ الروايات يؤكد ذلك: أخرج مسلم عن علي قال: "لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس."[71] وقد جاء القرآن بعد ذلك لتعليم المسلمين كيفية صلاة الخوف، وليس لنسخ سُنَّة سنَّها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويقول الشافعي: "فلا يجوز أن يَسُنَّ رسولُ الله سُنَّة لازمة فتُنْسَخَ فلا يَسُنَّ ما نسخها، وإنما يُعرَفُ الناسخ بالآخر من الأمرين، وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عُرف بدلالة سُنَنِ رسول الله. فإذا كانت السنَّة تدلّ على ناسخ القرآن وتُفَرِّقُ بينه وبين منسوخه لم يكن أن تُنْسَخَ السنَّة بقرآن إلا أحدث رسول الله مع القرآن سُنَّة تنسخ سُنَّتَهُ الأولى، لتذهب الشُّبهة عن من أقام الله عليه الحجة من خلقه."
[72] وفي الكلام تصريح بأن القرآن ينسخ السنَّة في الواقع، وأننا نعرف وقوع ذلك النسخ بالسنَّة الجديدة التي توافق ذلك النسخ فتبيِّن وقوعَه.
وقال: "ولو أحدثَ اللهُ لرسوله في أمرٍ سَنَّ فيه غيرَ ما سَنَّ رسولُ الله، لسَنَّ فيما أحدث اللهُ إليه، حتى يُبيِّن للناس أنّ له سُنَّةً ناسخةً للتي قبلها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنَّته صلى الله عليه وسلم."[73] وواضح أن معنى "أحدث الله لرسوله..." يعني غيَّر اللهُ ما سنّه الرسول، أي نسخه.
وقال: "وهذا -مع إبانته لك الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنَّة- دليلٌ لك على أن النبي إذا سَنَّ سُنَّة حوَّلَه اللهُ عنها إلى غيرها: سَنَّ أخرى يصير إليها الناس بعد التي حُوِّلَ عنها، لئلا يذهب على عامتهم الناسخُ فَيَثْبُتُون على المنسوخ. ولئلا يُشبَّهَ على أحد بأن رسول الله يَسُنُّ فيكون في الكتاب شيءٌ يَرَى من جَهِلَ اللسانَ أو العِلْمَ بموقع السنَّة مع الكتاب أو إبانتها معانيه: أنّ الكتابَ ينسخُ السنَّة."[74] وواضح أن عبارة: "إذا سَنَّ سُنَّة حوَّلَه اللهُ عنها إلى غيرها" يعني نسخها الله تعالى بكتابه.
هذه عبارات واضحة في تفريق الشافعي بين حصول النسخ في الواقع، وبين حكم العلماء بعد زمن التشريع بكون نصِّ مَا منسوخًا. وبهذه النصوص يتَّضح رأي الشافعي في نسخ السنَّة النبويّة بالقرآن الكريم.

وليزداد الأمر وضوحا نعرض لبيان الدافع الذي دفع الإمام الشافعي إلى القول بمنع ادعاء نسخ السنَّة بالقرآن دون وجود سُنّة تدل على ذلك النسخ. ويظهر من تتبُّع عباراته أن سبب ذلك أمران:

أحدهما: لأن الأصل في السنَّة تبيان ما في القرآن، فإذا جاء في القرآن ما يخالف ما ثبت في السنَّة، فما يتبادر إلى الذهن هو أن السنَّة مخصِّصَةٌ أو مقيِّدة لما في القرآن، لا كون القرآن ناسخا للسنّة؛ لأن ذلك هو الأصل في العلاقة بين القرآن والسنَّة. ولكي يتبيَّن أن تلك السنَّة منسوخةٌ لابد أن يُثْبِتَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً جديدةً تُبيِّن نسخَ السنَّة السابقة. هذا هو المقصود بقول الشافعي: "فما وصفتُ من موضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه خاصًّا وعامًّا، مما وصفتُ في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبدا لشيء إلا بحكم الله. ولو نسخَ اللهُ مما قال]أي الرسول صلى الله عليه وسلم[ حُكْمًا لسنَّ رسول الله فيما نَسَخَهُ ]أي الله تعالى[ سُنَّةً."[75]

السبب الثاني
: دعاوى النسخ منها النسخ الحقيقي ومنها النسخ الافتراضي، والنسخ الافتراضي إنما يُذْهَبُ إليه بناء على ما يراه الشخص من تعارض بين نصين يعتقد أنه لا يمكن الجمع أو الترجيح بينهما. ولو قيل إن القرآن ينسخ السنَّة بإطلاق، لكان ذلك ذريعة إلى رفض كثير من السُّنَنِ بحُجّة أنها مُعَارِضة للقرآن الكريم وأنها منسوخة به. وفي ذلك هدم للشريعة وعبث بها.
وفي بيان هذا المحذور يقول الشافعي: "ولو جاز أن يقال: قد سَنّ رسولُ الله ثم نَسَخَ سُنَّتَهُ بالقرآن ولا يُؤثَرُ عن رسول الله السنَّة الناسخة-: جاز أن يُقَال فيما حرَّم رسولُ الله من البيوع كلِّها: قد يَحتملُ أن يكون حرَّمَها قبل أن يُنْزَلَ عليه (وأَحَلَّ اللهُ البيعَ وحرَّمَ الربا)، وفيمن رَجَمَ من الزُّناة: قد يَحْتملُ أن يكون الرَّجْم منسوخا لقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)، وفي المسح على الخفين: نَسَخَت آيةُ الوضوء المسحَ ... ولجاز رَدُّ كلّ حديثٍ عن رسول الله بأن يُقال لم يَقُلْهُ، إذا لم يَجِدْهُ مثلَ التنزيل، وجاز رَدُّ السُّنَن بهذين الوجهين، فتُرِكَت كلُّ سُنَّة معها كتابٌ جُملةً تحتَمِلُ سنَّتُهُ أن توافقهُ،[76] وهي لا تكون أبدا إلا موافقةً له، إذا احتملَ اللفظُ فيما رُويَ عنه خلافَ اللفظِ في التنزيل بوجهٍ، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثرُ ممّا في اللفظ في التنزيل، وإن كان مُحتمِلاً أن يُخالفَهُ من وجهٍ. وكتابُ الله وسُنَّة رسوله تدلّ على خلاف هذا القول، وموافقَةِ ما قُلنا."[77]

والشافعي يشير هنا إلى من قد يردُّ السنَّة التي يحتمل لفظُها خلاف ما في القرآن من وجهٍ، أو السنَّة التي يحتمل أن يكون في لفظها زيادة على ما في لفظ القرآن -وإن كانت تلك الزيادة تحتمل من وجهٍ أن تكون مُخالِفَةً لما في نصّ القرآن- أي يحتمل أن تكون تلك السنَّة في حُكمٍ غير الحكم المنصوص عليه في القرآن، فلا تكون تلك الزيادة في الحقيقة زيادة في الحكم الذي في نصّ التنزيل. ويأتي من يردُّ تلك السُّنن إما بحجة أنها منسوخة بالقرآن الكريم (أي بالآيات التي يرى أنها مخالفة لتلك السُّنَن)، أو يُنْكر صدورَها من النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تبدو له مُخالفةً لما في القرآن.


ويعبّر الشافعي عن ذلك المحذور في موضع آخر بقوله: "أفرأيت لو قال قائلٌ: حيثُ وجدتُ القرآنَ ظاهرا عامًّا، ووجدتُ سُنَّةً تحتملُ أن تُبيِّن عن القرآن وتحتملُ أن تكون بخلاف ظاهره: علمتُ أن السنَّة منسوخةٌ بالقرآن؟ فقلتُ له: لا يقول هذا عالم. قال: ولِمَ؟ قلت: إذا كان الله فرضَ على نبيِّه اتباعَ ما أنزل إليه، وشهِدَ له بالهدى، وفرضَ على الناس طاعتَهُ، وكان اللسانُ -كما وصفتُ قبل هذا- مُحتملاً للمعاني، وأن يكون كتابُ الله ينْزِلُ عامًّا يُرادُ به الخاصّ، وخاصًّا يُرادُ به العامّ، وفرضًا جُملةً بَيَّنَهُ رسول الله، فقامت السنَّةُ مع كتاب الله هذا المقام لم تكن السنَّةُ لِتُخَالِفَ كتابَ الله، ولا تكون السنَّةُ إلا تَبَعًا لكتاب الله، بمثلِ تنزيلِه، أو مُبيِّنَةً معنى ما أراد الله، فهي بكلّ حال متَّبعةٌ كتابَ الله."
[78] ومثَّل لذلك بآية السرقة، وأن الرسول بيّن أن المقصود بها سرقةٌ معيَّنة بشروط معيّنة، ولولا السنَّة لوجب قطعُ كلّ من وقع عليه اسمُ السرقة.

أما عبارة الشافعي بأن "الشيء يُنسَخ بمثله" التي قد توهم أنه يقول بعدم نسخ السنَّة بالقرآن بإطلاق، حيث يقول: "فإن قال قائل: هل تُنسخُ السنَّةُ بالقرآن؟ قيل: لو نُسخَتْ السنَّةُ بالقرآن كانت للنبيّ فيه سُنَّةٌ تُبيِّنُ أن سنَّتَهُ الأولى منسوخةٌ بسنَّتِهِ الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء يُنسَخُ بمثله."
[79] فالمراد بها أن السنَّة يُعرَفُ أنها منسوخةٌ بسُنَّة تبيِّن نسخَها، لأنه يقول: "لو نُسخَتْ السنَّة بالقرآن كانت للنبيّ ..." وهو كلامٌ صريحٌ في إمكان نسخِ السنَّة بالقرآن، ولكن الناس لا يمكنهم الحكم بذلك إلا بوجود سُنَّةٍ أخرى تُبيِّنُه.


المبحث الثامن


النسخ في القرآن الكريم

المطلب الأول: أنواع النسخ في القرآن الكريم

قسم أبو عبيد القاسم بن سلام النسخ الواقع في القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع: الأول: نسخ الحكم، بأن يثبت رسم الآية ويُبَدَّل حكمها، فالآية المنسوخة والناسخة جميعا ثابتتان في التلاوة وفي خط المصحف، إلا أن المنسوخة منهما غير معمول بها.
[80] الثاني: أن تُرفع الآية المنسوخة بعد نزولها، فتكون خارجة من قلوب الرجال ومن ثبوت الخط.[81] وهذا ما يسمى منسوخ التلاوة. الثالث: هو النقل من اللوح المحفوظ، وهو المعنى الذي فسر به عطاء وغيره النسخ.[82]

أما أبو جعفر النحاس فقد أورد الأقسام الثلاثة التي ذكرها ابن سلام، وزاد عليها قسما رابعا، هو: أن تنزل الآية وتتلى في القرآن ثم تُنسخ فلا تُتلى في القرآن ولا تثبت في الخط ويكون حكمها ثابتا، ومثال هذا ما يُسمى آية الرجم.
[83]

أما مكي بن أبي طالب فقد قسم النسخ في القرآن الكريم إلى ستة أقسام، هي:

الأول: ما رفع الله جل ذكره رسْمَهُ من كتابه بغير بدل منه، وبقي حفظُه في الصدور، ومنع الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن، وبقي حكمه مجمعا عليه. ومثَّل له بما يُسمى آية الرجم.
الثاني: ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى، وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو. وهذا هو الأكثر في المنسوخ.
الثالث: ما فُرِضَ العملُ به لعلة، ثم زال العمل به لزوال تلك العلة، وبقي متلوا ثابتا في المصحف. ومثل له بقوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (*) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الممتحنة: 10-11).
الرابع: ما رفع اللهُ رَسْمَهُ وحُكْمَهُ وزال حفظُه من القلوب. وهذا إنما يُعرف من أخبار الآحاد. ومثَّل له بالرواية التي تزعم نقصان سورة الأحزاب، وما يشبهها من الروايات.
الخامس: ما رفع الله جل ذكره رسمه من كتابه فلا يتلى، وأزال حكمه، ولم يرفع حفظه من القلوب، ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن. ومثَّل له بالخبر المنسوب إلى عائشة أنه كان في ما يتلى عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس رضعات.
السادس: ما حصل من مفهوم الخطاب فنُسِخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا. نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء: 43)، فُهِم من هذا الخطاب أن السُّكر في غير قرب الصلاة جائز،[84] فنَسَخَ ذلك المفهوم قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90).[85]

وقريب من تقسيم مكي بن أبي طالب التقسيم الذي ذكره أبو المظفر السمعاني، واعتمده الزركشي في البحر المحيط.
[86]

والحقيقة أن الثابت من النسخ في القرآن الكريم نوع واحد هو نسخ الحكم مع بقاء تلاوة الناسخ والمنسوخ، أما الأنواع الأخرى فالظاهر عدم ثبوتها. وقد فصَّلت الكلام فيها في كتاب: المحرر في النسخ في القرآن الكريم.


المطلب الثاني: وقوع النسخ في القرآن الكريم

قضية وقوع النسخ في القرآن الكريم مسألة قديمة متجددة، ويبدو أنها لم تكن محل خلاف كبير في القديم، ولكنها في العصر الحاضر أصبحت محلّ نقاش طويل، سواء من حيث أصل وقوع النسخ في القرآن الكريم أم من حيث عدد الآيات المنسوخة. وقبل تفصيل النقاش في المسألة ينبغي تحرير محل النزاع في النقاط الآتية:


أولا
: لا خلاف بين المسلمين في أن شريعة الإسلام ناسخة للشرائع السابقة. فالرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب: 40)، وهو صلى الله عليه وسلم مُرْسَل إلى جميع البشر، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28)، والكتاب الذي جاء به مهيمن على الكتب السابقة، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة: 48). ولا معنى في هذا السياق لإنكار اليهود والنصارى لكون شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع، لأن ذلك فرع إنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو آمنوا بها لآمنوا بكونها ناسخة لما قبلها.

ثانيا
: لا خلاف في وقوع تغيير في بعض الأحكام الشرعية،[87] مثل تغيير التوجُّه إلى بيت المقدس في الصلاة بالتوجُّه إلى الكعبة، ونص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان قد نهى أصحابه عن زيارة القبور، وأنه يأذن لهم في زيارتها، ولا خلاف في أن عقوبة الحبس والأذى لمرتكبي الزنا (سورة النساء: 15-16) قد غُيِّرَت واستُبْدِلت بالجلد والرجم، وغير هذا من الوقائع التي ثبت فيها تغيير بعض الأحكام الشرعية، ولكن الخلاف في تسميتها نسخا.

ثالثا
: وقع الخلاف في النسخ في القرآن الكريم: هل توجد في القرآن الكريم آيات منسوخة بمعنى النسخ عند الأصوليين أم لا؟ ذهب جمهور العلماء إلى وقوعه، وذهب إلى عدم وقوعه بعض المتقدمين -أشهرهم أبو مسلم الأصفهاني- وتبعهم بعض المعاصرين على ذلك.
من أشهر المعاصرين الذين كتبوا في نفي النسخ في القرآن الكريم عبد المتعال الصعيدي. يستند الصعيدي في رفضه القول بوقوع النسخ في القرآن الكريم إلى أن ذلك طريق تنزيه الله عز وجل عن البداء، وأن القول بالنسخ طريق إلى القول بالبداء، حيث يقول: "لأن النسخ هو طريق القول بالبداء -أي ظهور وجه الصواب له -سبحانه- بعد الخطأ والجهل. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ومن ثمت كان القول بأنه لا نسخ في القرآن عصمة للنفوس من الانزلاق إلى الهاوية."[88] ويقول في معرض رده على كلام مصطفى زيد في تبرير النسخ والتفريق بينه وبين البداء: "والحكم الشرعي إن كان قد نزل من الله لعصر بعينه حدده الله سبحانه ووقَّتَه ثم أنزل لعصر آخر حكما شرعيا مغايرا، كان الحكم الأول غير منسوخ، لأنه حكم مرهون بوقته مقيد بزمانه. فما جاء بعد ذلك حكم خاص بأهل زمانه وظروفهم الطارئة."[89] نلاحظ أن هذه العبارة الأخيرة تشير إلى أن الصعيدي لا ينكر وجود جوهر النسخ -الذي هو تغيير حكم بحكم آخر- ولكن يُنكر تسميته نسخا.
يزعم عبد المتعال الصعيدي أن فكرة النسخ ابتكرها اليهودي "أبو عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني" في عصر نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، وتبعته جماعة من اليهود يسمون العيسوية، وأن علماء المسلمين تأثروا بالعيسوية عندما قالوا بالنسخ في القرآن الكريم. ويرى أن ذلك التأثر كان إما من خلال إعلان بعض اليهود الإسلام ثم القيام بنشر فكرة النسخ بين المسلمين، أو بتأثر بعض علماء المسلمين بتلك الفكرة من خلال التأثر بالموروث الحضاري للأمم الأخرى مثل اقتباس فكرة القياس.[90]
الواقع أن هذا الزعم لا دليل عليه، بل وقائع النسخ مروية عن بعض الصحابة، مثل ابن عباس، وعن التابعين، وقد كان هذا قبل العصر الذي يتحدث عنه الصعيدي. أما عن خوض علماء اليهود في النسخ فهو إنما كان للدفاع عن شريعتهم في وجه القول بأنها منسوخة بالقرآن الكريم. إن حديث علماء المسلمين عن النسخ -ومنه كون شريعة الإسلام ناسخة للشرائع السابقة- هو الذي أدى إلى حديث اليهود عن النسخ، وليس اليهود هم الذين ابتكروا الحديث عن النسخ، ثم انتقل ذلك منهم إلى علماء المسلمين.
نعم، لا نستبعد أن يكون بعض المندسين من اليهود قد وضع بعض الأخبار في النسخ بغرض تشويه صورة الإسلام والتشويش عليه، ولكن الزعم بأن الحديث عن النسخ في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية إنما نشأ بفعل اليهود أو تأثرا بحديثهم عن النسخ إنما هو مجرد دعوى لا يوجد ما يثبتها، بل الثابت عكسها، وهو أن حديث الفِرَق اليهودية عن النسخ إنما نشأ في محاولة للدفاع عن ديانتهم، والرد على كون شريعة الإسلام ناسخة للشريعة اليهودية.
وفيما يأتي عرض ومناقشة لمسألة وقوع النسخ في القرآن الكريم، وأدلة ذلك.

مناقشة أدلة وقوع النسخ في القرآن الكريم

عمدة القائلين بوقوع النسخ في القرآن الكريم ثلاث آيات من القرآن الكريم، ولكن النافين لوقوع النسخ في القرآن الكريم يخالفونهم في بيان المراد منها. وفيما يأتي عرض للنقاش الذي دار حولها:


الآية الأولى
: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106)
كلمة "آية" تحتمل ثلاثة معاني: الأول: نصوص القرآن الكريم، والثاني: المعجزة وهو استعمال شائع جدا في القرآن الكريم، والثالث: آيات الكتب السماوية السابقة، ويكون المعنى نسخ شريعة النبي اللاحق لشريعة النبي السابق، فيكون المراد بها نسخ القرآن الكريم لشريعة موسى وعيسى عليهما السلام.

1-
جرى عامة المفسرين والأصوليين على تفسير "الآية" هنا بمعنى نصوص القرآن الكريم، والنسخ بمعنى إزالة الحكم، واستدلوا بهذه الآية على وقوع النسخ في نصوص القرآن الكريم وفي أحكامه. ولكنهم اختلفوا واضطربوا في تفسيرها، وقد لخص الرازي مذاهبهم كما يأتي:[91]

الرأي الأول:
"مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ" يعني يُنسخ حكمُها وتبقى تلاوتها، وقوله تعالى: "أَوْ نُنْسِهَا" أي يُنسخ حكمُها وتلاوتها، ويكون نسخ تلاوتها بأن ينساها المسلمون.
الرأي الثاني: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ" يعني النسخ بجميع أنواعه: نسخ الحكم فقط، ونسخ التلاوة فقط، ونسخ الحكم والتلاوة، وقوله تعالى: "أَوْ نُنْسِهَا" أي نتركها كما كانت فلا ننسخها.
الرأي الثالث: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ" هي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معا. وقوله تعالى: "أَوْ نُنْسِهَا" أي نتركها في التلاوة وننسخ حكمها.
الرأي الرابع: وهو القول المبني على قراءة ابن كثير (أو نَنْسَأْهَا) من "أَنْسَأَ ونَسَّأَ" بمعنى أخّر. ويكون معنى قوله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ" أي نرفعها بعد إنزالها، (أو نَنْسَأْهَا) أي نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال، أو يكون معناها نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، فإنّا نُنَزِّل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة.

ذهب الدكتور مصطفى زيد إلى ترجيح الرأي الأول، وهو أن المراد بقوله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ" نسخ الحكم مع بقاء التلاوة بناء على ختم الآية بقوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) وهذا يكون في الأحكام فهي التي يكون بعضها أفضل من بعض بمعنى أصلح من بعض، أما نصوص القرآن الكريم فلا تفاضل بينها لأنها كلها كلام الله تعالى. والمراد بقوله تعالى: "أَوْ نُنْسِهَا" نسخ التلاوة والحكم جميعا بإنساء المسلمين إياها، بناء على رأيه أن أفضل ما فُسِّرَ به الإنساء هو المحو من الذاكرة، أما
قراءة ابن كثير "نَنْسَأَهَا" ففسرها بقوله: "بمعنى يبعده عن كتابه، فيرفع نظمه وحكمه."[92] وقد حاول تأييد رأيه بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "أقرَأُنا أُبيٌّ، وأقضانا عليٌّ، وإنّا لَنَدَعُ من قول أُبيٍّ، وذلك أن أُبيًّا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا)".[93] وعلّق على هذه الرواية بكلام مفاده أن من القرآن ما أُنْسِيَهُ المسلمون فلم يعد قرآنا يُتلى، ولكن أُبيّ بن كعب بقي يتلوه ويُثبتُه في مصحفه.[94]

لم يُبيِّن لنا الدكتور مصطفى زيد كيف نسي المسلمون القرآن المنسوخ بالإنساء مع بقاء أُبيّ بن كعب وحده يذكره ويتلوه؟ هل أُبيُّ بن كعب له خصوصية واستثناء فلم يشمله النسخ بالمحو من الذاكرة؟ أم كيف؟ وحتى إذا تجاوزنا هذا التناقض وافترضنا أن أُبيّ بن كعب قد بقي يذكر ما رُفِع من القرآن ومُحِيَ من ذاكرة المسلمين، فإنه تواجهنا إشكالية أخرى، هي: إن استمرار أُبيّ بن كعب في تلاوة ما نُسِخ نصُّه وتلاوتُه إما أن يكون عن جهل منه أنه منسوخ، أو يكون يعلم ذلك، لكنه يتعمد الاستمرار في تلاوته؟ إذا كان الجواب الأول، فنقول: كيف يكون أُبيّ أقرأ الصحابة للقرآن ويكون جاهلا بما هو منسوخ تلاوة؟ وإذا كان الجواب الثاني، فنقول: كيف يستحلّ أُبيّ بن كعب الاستمرار في إثبات ما نُسِخ نصُّه وتلاوته ولم يُعد قرآنا مع علمه بذلك؟ وإذا كان نسخ التلاوة -كما يزعمون- بالإنساء والمحو من الذاكرة فكيف نتصور بقاء المنسي في ذاكرة أُبيّ بن كعب وحده واستمراره في تلاوتها؟ هذه الاحتمالات الثلاثة كلها غير مقبولة، وبذلك يُصبح مضمون هذا الأثرُ محلّ نظر.


ومن الاعتراضات التي ترد على هذا التفسير أن "أو" في قوله تعالى:
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) تقتضي المغايرة، فيكون النسخ غير الإنساء، ولكنهم يفسرون الإنساء بما هو جزء من النسخ، أي نوع من أنواعه. ولا يسلم من هذا الاعتراض إلا أصحاب الرأي الثاني الذين يفسرون (نُنْسِهَا) بمعنى نتركها دون نسخ، ولكن يعكر على هذا الرأي قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فكيف يكون الإتيان بما هو خير مما لم يُنسخ أو بمثله؟ والتبديل إنما يكون لما نُسخ لا لما هو باق دون نسخ!

وتجدر الإشارة إلى أن السيوطي فسَّر الإنساء بأن المراد به أن يرد حكم لسبب مُعيّن، فيكون الالتزام بذلك الحكم مع وجود ذلك السبب، فإذا زال السبب توقف العمل بذلك الحكم، وإذا عاد السبب مرة أخرى عاد العمل بذلك الحكم. يقول السيوطي في بيان ذلك: "الـمُنْسَأ بمعنى أن كل أَمْر ورد يجب امْتِثَالُهُ في وقْتٍ ما لعِلَّة تقتضي ذلك الـحُكْم، ثم يَنْتَقِلُ بانْتِقَالِ تلْكَ العلة إلى حكم آخر."
[95] ومثّل لذلك بما ورد في القرآن الكريم من الأمر بالصبر على أذى الكفار والصفح عنهم في حال الضعف، ثم أُنسئ ذلك بالأمر بالقتال عندما قوي المسلمون. فهو يرى أن هذا ليس من باب النسخ؛ لأن النسخ يعني زوال الحكم حتى لا يجوز امتثاله مرة أخرى، وإنما هو من باب الإنساء، حيث يعود العمل بالصبر على الكفار والصفح عنهم في حال عودة حال المسلمين إلى الضعف.[96]

والملفت للنظر أن الرازي استدل بهذه الآية في كتابه "المحصول في أصول الفقه" على وقوع النسخ، ثم تراجع بعد ذلك عن الاستدلال بها، حيث يقول في تفسيره: "واعلم أنّا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى: (
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) والاستدلال به أيضا ضعيف؛ لأن "ما" ههنا تفيد الشرط والجزاء. وكما أن قولك: "من جاءك فأكرمه" لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه. فالأقوى أن نعوِّل في الإثبات على قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) وقوله: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)."[97]

ومقتضى كلام الرازي أنه حتى إذا فسرنا النسخ في الآية بمعنى نسخ نصوص القرآن الكريم، فإن الآية لا تدل على وقوع النسخ، بل تدل على أنه إن وقع فسيأتي الشارع بالبدل عنه.


2-
ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام أن من قرأ قراءة (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا)، وهي قراءة عبيد بن عمير ومجاهد وعطاء، وكثير من القراء منهم أبو عمرو بن العلاء وغيره من أهل البصرة، فإنهم يفسرون النسخ بالنقل، أي ما نسخه الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم من أُمِّ الكتاب فأنزله عليه، فيكون المنسوخ على هذا التأويل جميع القرآن. والنَّسْأ ما أخَّره الله عز وجل وتركه في أم الكتاب فلم ينزله،[98] فيكون معنى (أو نَنْسَأْهَا) أي نؤخر نقلها من اللوح المحفوظ. وهذا التفسير منسوب أيضا إلى سعيد بن المسيب.[99]
وربما عكّر على هذا التفسير قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا): فكيف يكون الإتيان بما هو مثل أو خيرٌ مما نُسِخ من اللوح المحفوظ، أي نُقل منه، وهو كله كلام الله؟

3-
ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن المراد بـ"الآية" هنا ليس نصوص القرآن الكريم، بل نصوص التوراة والإنجيل،[100] فيكون المراد بالنسخ هنا أن شريعة الإسلام نسخت بعض شرائع الأنبياء السابقين وتركت بعضها، وجاءت هذه الشريعة بمثل تلك الشرائع أو أفضل منها في تحقيق الصلاح للبشرية.
وقد ذهب محمد جمال الدين القاسمي -من المعاصرين- في تفسير الآية مذهب أبي مسلم الأصفهاني، حيث يقول في تفسيرها: "ما نبدل من آية بغيرها- كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن. (أَوْ نُنْسِهَا) أي نذهبها من القلوب... وقُرِئ (أَوْ نَنْسَأْهَا) أي نؤخرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيرا من أحكام التوراة في القرآن."[101]

4-
ذهب الشيخ محمد عبده إلى أن المراد بـ"الآية" هنا المعجزة؛ لأن معنى "الآية" في أصل اللغة هو الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء، وسُمِّيت جُمَل القرآن آيات لأنها بإعجازها حُجَجٌ على صدق النبي ودلائل على أنه مُؤيَّد فيها بالوحي.[102] ويكون المعنى: "أن الآية هنا ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم"،[103] فإذا أزال الله عز وجل وترك تأييد نبيٍّ بمعجزة أيَّد بها نبيًّا سابقا، أو أنسى الناس تلك المعجزة لطول العهد بمن جاء بها، فإنه عز وجل يأتي بمعجزة أخرى هي أفضل من تلك المعجزة أو مثلها في قوة الإقناع وإثبات النبوة، والله عز وجل على كل شيء قدير.[104] ويؤيد رأيه بكون الآية خُتمت بقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وذكر القدرة لا يناسب موضوع الأحكام ونسخها، وإنما يناسب نسخَ الأحكام ذكرُ العلم والحكمة؛ لأن الحكمة والعلم يقتضيان انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة. أما ذكر القدرة فيناسب تأييد الأنبياء بالمعجزات المختلفة. كما يؤيد رأيه بأنه جاء بعد تلك الآية قوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) (البقرة: 108) وقد سئل موسى المعجزات لا نصوص الكتاب المقدس. كما استشهد بقراءة ابن كثير (نَنْسَأْهَا) بمعنى نُأخِّرها، والإنساء يناسب المعجزات لا نسخ الأحكام ونصوص القرآن الكريم.[105]

وقد رد الدكتور مصطفى زيد على محمد عبده رأيه بأن الآية نزلت في المدينة تخاطب المؤمنين، وهم لم يكونوا ليطلبوا معجزة غير القرآن الكريم، وأن الآيات التي قبلها تتحدث عن عداوة اليهود لجبريل الذي نزل بالقرآن الكريم على قلب محمد. كما حاول الدكتور مصطفى زيد إثبات أن سياق الآيات يؤيد أن المراد بالنسخ نسخ آيات القرآن الكريم.
[106]ولكنه لم يتمكن من تقديم ردّ واضح وقوي على الربط بين تفسير "الآية" بالمعجزة وختم الآية القرآنية بقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو حديث عن قدرة الله تعالى لا عن علمه وحكمته، ثم تعقيبها بآية تتحدث عن أن الله تعالى له ملك السموات والأرض. واكتفى بالقول: "هذا وذاك لا دليل فيهما على صرف الآية عن المعنى المتبادر منها إلى معنى آخر هو المعجزة؛ ذلك أن تبديل المعجزة بغيرها ليس بأقل من تبديل الحكم بغيره حاجة إلى العلم والحكمة. ونسخ حكم بحكم -مع أن كلا من الحكمين تقرره آية في كتاب الله- ليس بأقل حاجة إلى القدرة من نسخ معجزة نبي بمعجزة أخرى لنبي آخر."[107] ولكن القضية هنا ليست حاجة كل من الوحي والمعجزة الحسية إلى العلم والحكمة والقدرة؛ فالله عز وجل عليم حكيم قادر على كل شيء، ولكن الحديث عن المناسبة، فلا شكّ أن المعجزة الحسية يناسبها أكثرُ ذكرُ القدرة، وتبديل الأحكام يناسبه أكثر ذكرُ الحكمة والعلم بما هو أصلح للناس.

كما يعترض الدكتور مصطفى زيد على رأي محمد عبده بأن النسخ إنما يرد على أمر موجود فعلا وكذلك الإنساء يرد على مذكور، ولم تكن معجزة من معجزات الأنبياء السابقين موجودة حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم حتى يرد عليها النسخ، ولا كانت مذكورة للناس حتى يرد عليها الإنساء.
[108]

الملاحظ أن كلا من الشيخ محمد عبده والدكتور مصطفى زيد حاول الاعتماد على السياق لتدعيم تفسيره للآية. والذي يبدو لي
أن السياق يميل إلى تفسير "الآية" بالمعجزة أو بعض شرائع التوراة، لأن الآية السابقة لها مباشرة نصها كالآتي: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وأعظم خير أنزل على المؤمنين هو القرآن الكريم الذي هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم والمهيمن على الكتب السابقة، وقد اختص الله عز وجل رسوله بهذا الخير العظيم كما تشرف قومه من العرب بهذا الخير العظيم، ولا اختصاص لشريعة الإسلام بالنسخ الجزئي في أحكامها، والنسخ الجزئي موجود في شريعة موسى عليه السلام، بل يوجد حتى في التشريعات الوضعية.

إن القائلين بالنسخ يذكرون أن حكمته هي أن بعض الأحكام لم تعد توفي بمصلحة المجتمع الإسلامي، فتُنْسَخ ويحل محلها أحكام أفضل منها في الوفاء بمصلحته، وهذا يناسبه تماما قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا)، ولكن لا يناسبه قوله: (أَوْ مِثْلِهَا)؛ لأنها ما دامت مثلها فما الحكمة من نسخها؟ وقد حاول الدكتور مصطفى زيد أن يتخلص من هذا الإشكال بتعليل النسخ بالمثل بأنه يُراد به امتحانُ المؤمنين بنسخه، فيُرفع ليُؤتى بدلا منه بحكم مثله.
[109] ولكن ما الداعي إلى امتحان المؤمنين بالنسخ وهم يؤمنون بالوحي كله ويصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما يأتي به، فما وجه الامتحان في ذلك؟

أما تفسير "الآية" بالمعجزة أو ببعض شرائع الكتب السابقة فإنه لا ترد عليه هذه الإشكالات. فالمعجزات كلها تحقق الإقناع، ولكن معجزة النبي اللاحق قد تكون أقوى من معجزات الأنبياء السابقين أو مثلها. كما أن الشرائع اللاحقة قد تكون مثل الشرائع السابقة التي ما زالت تحقق صلاح المؤمنين، وقد تكون أفضل منها في تحقيق المصلحة.


الخلاصة أن تفسير الآية محل أخذ ورد، ولا يكاد يسلم رأي من الآراء من الإشكالات التي ترد عليه، ولا يمكن لأحد الجزم برأيه، والآية ليست صريحة في النسخ بمعناه الأصولي (نسخ النصوص الشرعية)، ولا تعتبر دليلا قويا لأصحاب هذا الرأي. والظاهر أنها أقرب في سياقها إلى أن تكون في نسخ شريعة الإسلام لبعض الشرائع السابقة والإتيان ببعض الشرائع التي تشبه الشرائع السابقة أو أفضل منها؛
لأن اليهود كانوا ينكرون على الرسول صلى الله عليه وسلم الإقرار بنبوة موسى وبالتوراة ثم مخالفة شرائع موسى الواردة في التوراة، فجاءت هذه الآيات ترد عليهم وتبين لهم الحكمة من ذلك، وهذا مقتضى قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة: 48). والسياق الذي وردت فيه الآيات أغلبه عن الجدل مع اليهود.

الآية الثانية
: قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101).

اختلف أهل العلم في دلالة هذه الآية على النسخ على مذاهب:

1-
ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن المراد بها: وإذا بدَّلنا آية من القرآن الكريم مكان آية في الكتب المتقدمة، مثل تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.[110] فالآية تتحدث عن نسخ بعض الشرائع السابقة بشريعة الإسلام.

يعترض الدكتور مصطفى زيد على هذا الرأي بأن هذه الآية مكية وهي تخاطب مشركي مكة، بينما نسخ التوجه إلى القبلة إنما وقع بعد الهجرة بما يقارب السنة والنصف. هذا فضلا عن أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن ليثير المشركين، لأنهم لا علاقة لهم به، بل كان مثيرا لليهود.
[111] وهذا اعتراض وجيه على مثال تحويل القبلة.

كما يعترض الدكتور مصطفى زيد على رأي أبي مسلم الأصفهاني بكون كلمة "آية" لا ترد في لغة العرب بمعنى الشريعة.
[112] ولكن يُجاب على هذا الاعتراض بأن القرآن لم يرد ناسخا لكل ما ورد في كتاب موسى والكتب السابقة، بل جاء مُقِرًّا لبعض ما فيها وناسخا للبعض الآخر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة: 48)، ويكون التعبير هنا بـ"الآية" عن بعض آيات تلك الكتب، ويكون المعنى: بدلنا آية من القرآن الكريم مكان آية من كتاب موسى عليه السلام، وهو تعبير سائغ لغة.

2-
ذهب محمد جمال الدين القاسمي إلى أن المراد بـ"الآية" هنا المعجزة، ويكون المعنى: إبدال المعجزات الكونية التي كانت تُعْطَى للأنبياء السابقين مثل موسى وعيسى عليهما السلام بمعجزة القرآن التي هي معجزة نفسية عقلية. ويدعم هذا التفسير بكون السورة مكية، وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه.[113]

3-
ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بـ"الآية" هنا آيات القرآن الكريم، وأن المراد بالتبديل النسخ، حيث تُنسخ آيةٌ بآية أخرى.[114]

4-
ذهب عبد المتعال الصعيدي مذهبا غريبا في تفسير الآية، حيث يرى أن معنى قوله تعالى: (وإذا بدلنا) يعنى إننا لو بدلنا آية مكان آية لأعطينا الكفار الدليل على أن القرآن مفترى على الله وليس من عنده، ولذلك فإنه سدا للذريعة فإن الله تعالى لا ينسخ آية بآية ولا يبدل آية مكان آية. فيكون معنى الآية: إننا لا نبدل آية مكان آية، أي لا ننسخ آية بآية، حتى لا نعطي للكفار ذريعة للطعن في مصداقية القرآن الكريم وفي كونه من عند الله تعالى.[115] ويذكر في موضع آخر أن معنى الآية: "واعلم يا محمد أننا لو أنزلنا قرآنا خاليا من تجريح سيئاتهم وتهجينها، وجعلناه قرآنا ليِّن الأسلوب في قراعهم لما رجعوا عن مفترياتهم عليك... وإذا قرأ الباحث الآيات بعدها رأى نسق القرآن يعطي هذا المعنى ويؤكده، وهذا يخرج الآية من باب الناسخ والمنسوخ."[116] ولا تخفى على الناظر غرابة هذه الأقوال والتكلُّف في دفع القول بالنسخ.

الظاهر أن رأي الجمهور في أن التبديل هنا المراد به نسخ آيات القرآن الكريم بعضها ببعض ضعيف؛ لأن الآية أُتبعت بقوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 102) وهذا حديث عن القرآن ككل وليس عن الآيات الناسخة أو المنسوخة فقط، ولا أظن المسلمين كانوا يتحرجون من النسخ -إن وقع- بما يجعلهم يتشككون في الوحي والرسالة حتى يحتاجوا إلى تثبيت! فالذي يؤمن بأن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى وأن محمدا رسول الله لا يدخله بعد ذلك شكّ في الوحي والرسالة إن وقع تبديل آيات مكان آيات أخرى؛ لأنه يعلم أنها كلها من مصدر واحد. ولكن المسلمين كانوا في حاجة إلى التثبيت بالوحي الذي ينزل من الله تعالى لإرشادهم إلى سبيل الحق في التعامل مع التحديات التي يواجهونها، وليطمئنهم أنهم على الحق مهما كانوا قِلَّةً ضعفاءَ وكان أعداؤهم كَثْرَةً أقوياء. وبهذا يكون المراد بقوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 102) أن القرآن الكريم ينزل تثبيتا للمؤمنين فيما يواجهونه من تحديات، وليس في مسألة النسخ؛ لأنها لا تمثل مشكلة ولا تحديا للمجتمع المسلم. وبهذا يظهر ضعف قول الرازي في تفسير هذه الآية: "نزل القرآن من ربك ليثبت الذين آمنوا، أي ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب."
[117] كيف يكون التثبيت بما هو سبب الابتلاء! والواقع أنه لا يظهر وجهٌ لابتلاء المؤمنين بتبديل بعض آيات القرآن الكريم ببعض آخر!

ومما يُضعف أيضا رأي الجمهور في تفسير التبديل بنسخ آيات القرآن الكريم بعضها ببعض، أن هذه الآيات نزلت في مكة،
[118] والكلام فيها عن الكفار. والنسخ إنما كان في المدينة وليس في مكة! فما يذكرونه عن نسخ التلاوة -بغض النظر عن صحة رواياته- كله في المدينة: فسورة الأحزاب التي يقولون بنسخ جزء منها مدنية، وما يُسمى "آية الرجم" وعقوبة الزنا إنما شُرعت في المدينة، والقرآن المزعوم في الرضاعة كان في المدينة، وسورة التوبة التي يقولون بنسخ جزء منها مدنية، والآيات التي يقولون إنها نزلت في شهداء بئر معونة ثم رفعت إنما كانت في المرحلة المدنية. كما أن الوقائع الثابتة في نسخ الأحكام إنما كانت في المدينة، وهي: تحويل القبلة، ونسخ عقوبة الحبس والأذى للزاني بالجلد والرجم، ونسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسخ صمود واحد من المسلمين لعشرة من الكفار بصمود واحد لاثنين، والمسائل المتعلقة بالنسخ في الصيام، ونسخ وجوب الوصية بالميراث. وآيات السيف التي يزعم البعض أنها نسخت الآيات المتعلقة بالمهادنة والمسالمة مع الكفار هي من آخر ما نزل في المدينة. وبهذا يتبيَّن أن كل مسائل النسخ -ما ثبت منها وما هو مجرد دعاوى لا دليل عليها- كانت في المدينة، فأين محلّ الرد على المشركين في تبديل آية مكان آية، والنسخ لم يكن موجودا في مكة أصلا؟

ما سبق ذكره يستبعد كون قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ...) يتحدث عن النسخ بين نصوص القرآن الكريم، ويرجح كونه يتحدث عن إنزال الله تعالى شريعة -هي شريعة الإسلام- تحلُّ محلَّ الشرائع السابقة. والسياق الذي وردت فيه الآية يشير إلى أن الحديث عن نزول القرآن الكريم، فالآية السابقة لهذه الآية تتحدث عن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل: 99) والآية التالية لها تتحدث عن كون القرآن الكريم تثبيتا للمؤمنين وهدى وبشرى للمسلمين. والآية التالية لها ترد على دعوى المشركين أن القرآن ليس من عند الله، بل هو افتراء من الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاه من رجل: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 103).


لو كان المشركون يؤمنون ببعض القرآن ثم اتهموا الرسول بالافتراء لَمَّا وقع النسخ والتبديل، لكان تفسير هذه الآية على أن المراد بها النسخ صحيحا، ولكن المعلوم أن المشركين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب والافتراء منذ تلا عليهم الآيات الأولى من الوحي، فمحل الافتراء عندهم هو ادعاؤه أنه يتلقى الوحي من الله عز وجل أصلا، ومن يتهم شخصا بالافتراء في أصل ما يقوله لا يهمه بعد ذلك تبديلُ كلامٍ مكان كلامٍ؛ لأن الكل عنده افتراء من أصله.


وما أورده الرازي من نسبة القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية أَلْيَن منها تقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمرُ بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية،
[119] هي مقولة لا تصح، حيث ذكر مصطفى زيد أنه لا سند لها.[120]
أما ما ذهب إليه الدكتور مصطفى زيد من ترجيح تفسير الآية بالنسخ في القرآن الكريم لكون الآية مكية تخاطب المشركين، والمشركون كانوا عَبَدَة أوثان لا أهل كتاب، فلا يُتَصوَّر صدور الاعتراض منهم على نسخ شريعة موسى، وإنما يُتَصوَّر صدور هذا من اليهود،[121] فيُجاب عنه بأن المشركين كانوا يعرفون رسالة موسى عليه السلام وأن النبوة كانت في بني إسرائيل، ولا يبعد منهم استنكار خروج النبوة من بني إسرائيل، كما أنه لا يبعد أن يكون قد صدر الاعتراض من بني إسرائيل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، فجاء الرد عليهم وعلى المشركين، وكلاهما كان يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن وادعاء النبوة.

الآية الثالثة
: قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد: 39).
استدل كثير من المفسرين والأصوليين على وقوع النسخ في القرآن الكريم بهذه الآية. وقد تنوعت أقوال أهل التفسير في المراد بالمحو والإثبات: فقيل هو الإعدام والإيجاد في المخلوقات، وقيل هو التنويع في معجزات الأنبياء والرسل فتمحى معجزة رسول لتحل محلها معجزة رسول آخر، وقيل هو نسخ شريعة بشريعة أخرى، وقيل تغيير بعض ما يتعلق بالقضاء والقدر من بلاء الدنيا، وقيل محو الذنوب وإثباتها، وقيل نسخ آيات القرآن الكريم بعضها ببعض. وقد يكون هذا كلُّه مُحتَمَلا؛ فالله تعالى له القدرة على كل ذلك، وله السلطان المطلق في كل ما يشاء فعله.[122]

وعلى كل حال، هذه الآية واضح من سياقها أنها لا تتحدث بشكل مباشر عن النسخ في القرآن الكريم، وبذلك فسَّرها الرازي، حيث يقول وهو يُعدِّد شبهات المشركين التي تردُّ عليها الآيات: "قالوا: لو كان في دعوى الرسالة مُحِقًّا لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثبوتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل... فوجب أن لا يكون نبيا حقا. فأجاب الله تعالى عنه بقوله: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)."
[123] كما فسر الرازي لفظ "الآية" في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (الرعد: 38) بأنها المعجزة، حيث يقول: "قالوا: لو كان رسولا من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) وتقريره أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة، وفي إظهار الحجة والبَيِّنَة، فأما الزائد عليها فهو مفوَّض إلى مشيئة الله تعالى، إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها."[124]

صحيح أن الآية بعمومها تشمل إمكان وقوع النسخ؛ لأن الله تعالى له السلطان المطلق والقدرة الكاملة على فعل ما يشاء، ومن ذلك تبديل آيات من القرآن الكريم مكان آيات أخرى، ولكن الإمكان شيء والوقوع شيء آخر، فالإمكان لا يعني بالضرورة الوقوع. والآية واضح من سياقها أنها لا تتعلق بنسخ نصوص القرآن الكريم.


نخلص مما سبق بيانه إلى أن أقل ما يقال في هذه الآيات -التي يستدلون بها على وقوع النسخ في القرآن الكريم- إنها ليست صريحة في قوع النسخ في القرآن الكريم، بل يظهر أن الراجح خلاف ذلك.


المطلب الثالث: وقائع النسخ في القرآن الكريم

غالب ما ذكره العلماء في الناسخ والمنسوخ لم يرد فيه نص صريح بوقوع النسخ، وإنما هو مجرد اجتهاد منهم بناء على ما ظنوه من تعارض بين ما فهموه من آيات القرآن الكريم.
قال الشاطبي: "غالب ما ادُّعيَ فيه النسخ إذا تُأمِّل وجدته متنازَعا فيه، ومحتملا، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه، من كون الثاني بيانا لمجمل، أو تخصيصا لعموم، أو تقييدا لمطلق، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع، مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني."[125]

القائلون بالنسخ بين متثبِّت نافذِ الفهم فهو مُقلٌّ من دعاوى النسخ، وبين متوسِّط، وبين ضعيف الفهم مُكْثر في دعاوى النسخ إلى حدّ الإغراب. وقد وصل المكثرون المغربون إلى حدّ ادعاء نسخ أحكام آيات من القرآن الكريم دون معرفة ناسخها! ذلك أنهم
نظروا في بعض الأحكام فلم يُدركوا طريقا للعمل بها في زمنهم فزعموا أنها منسوخة، ومثال ذلك ما جاء في قول الجصاص: "إلا أن الإجماع إذا حصل على زوال حكم قد ثبت بالنص، دلنا الإجماع على أنه منسوخ بتوقيف وإن لم يُنقل إلينا اللفظ الناسخ له. فمما دلنا الإجماع على نسخه قوله تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الممتحنة: 11) ولم يُعْلَم زوال هذا الحكم إلا من طريق الإجماع."[126]ولا أدري من أين جاء بهذا الإجماع؟ وأيُّ توقيف هذا الذي انبنى عليه الإجماع المزعوم؟ وكيف يقوم إجماع كامل على مسألة دون أن يُعرف مُسْتَنَدُ ذلك الإجماع؟ هذا محض افتراض! وما المانع من العمل بهذا الحكم إذا وجدت شروطه في ظروف مشابهة للظرف الذي ورد فيه، فالقرآن الكريم تشريع لجميع المسلمين في جميع الأوقات وفي مختلف الظروف والأحوال؟

ومن أمثلة ذلك أيضا ما نقله الزركشي عن إلكيا الطبري -في معرض مناقشته لعلماء المذهب الحنفي- حول نسخ آية الوصية، حيث يقول: "يمكن أن يُقال: نُسخ بآية أخرى لم يُنقل رسمها ونظمها إلينا، كما قيل في قوله تعالى: (
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الممتحنة: 11)، فإن هذا الحكم منسوخ اليوم إلا أنه لم يظهر له سُنَّة ناسخة. إن جاز لكم الحمل على سُنَّة لم تظهر، جاز لنا الحمل على كتاب لم يظهر."[127] انظر كيف وصلت المبالغة في القول بالنسخ إلى التنافس في ادعاء النسخ بنص غير معروف. فهو يقول للمخالفين له: كما أنكم قلتم إن الآية الحادية عشر من سورة الممتحنة منسوخة بسُنَّة غير معروفة، فنحن نقول إن آية الوصية منسُوخة بآية أخرى ولكنها غير معروفة! والواقع أن الذي دفعه إلى افتراض وجود قرآن نسخ آية الوصية هو شيوع القول بأنها منسوخة بحديث "لا وصية لوارث"، ولما كان الحديث حديث آحاد، وهم يقولون إن القرآن لا يُنسخ بسُنّة الآحاد، لجأوا إلى افتراض وجود قرآن نسخ آية الوصية ولكنه رُفِع واختفى!

إن الأصل في نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية عدم النسخ إلا إذا وُجِد دليل بيِّنٌ على النسخ. يقول الشاطبي: "
الأحكام إذا ثبتت على المكلَّف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقَّق؛ لأن ثبوتها على المكلَّف أولا محقَّق فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقَّق."[128] ولا يقال بأن سُنَّة مأثورة قد نُسِخت إلا إذا وُجِدت السنَّة الناسخة لها، ولا يمكن القول بنسخ سُنَّة لا يوجد نصٌّ ناسخٌ لها. قال الشافعي: "فإن قال: أفيحتمل أن تكون له سنة مأثورة قد نسخت، ولا تؤثر السنّة التي نسختها؟ فلا يحتمل هذا، وكيف يحتمل أن يؤثر ما وُضِعَ فرضُهُ، ويُترك ما يلزم فرضه؟ ولو جاز هذا خرجت عامة السُّنن من أيدي الناس، بأن يقولوا: لعلها منسوخة."[129]

إن دعاوى النسخ الافتراضي التي ملأت كتب الناسخ والمنسوخ وكتب التفسير هي كما وصفها الدكتور مصطفى زيد في قوله: "لم يَهُلْنَا الأمر عندما وجدنا أن قضايا النسخ -كما تجمعت لدينا- قد أربى عددها على مائتين وتسعين قضية، فنحن نعلم أن من بين هذه القضايا دعاوى نسخ في آيات إخبارية لا تشريع فيها على الإطلاق، ودعاوى أخرى في أحكام لم يشرع الإسلام غيرها في موضوعها، ودعاوى في آيات ليس فيها إلا تخصيص العام أو تقييد المطلق أو بيان المبهَم أو تفصيل المجمَل، ودعاوى لم تقم أصلا إلا على سوء فهم النص القرآني المنسوخ أو الناسخ أو كليهما."
[130]

ويحسن أن نورد هنا ما ذكره الدكتور شعبان أحمد إسماعيل من أسباب غلط المتوسعين في دعاوى النسخ، حيث لخَّصها في خمسة أسباب، هي:
[131]
أولا: ظنهم أن ما شُرِع لسبب ثم زال سَبَبُهُ من المنسوخ. ومن ذلك ظنهم أن الآيات التي وردت في الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال. وهذا في الحقيقة ليس من النسخ في شيء، بل تلك الأحكام قائمة بقيام أسبابها، وتطبق كلما وجدت أسبابها وظروفها.
ثانيا: توهُّمُهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من قبلُ مما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم. ومن ذلك إبطال نكاح زوجات الآباء، وحصر عدد الطلاق في ثلاث، وعدد الزوجات في أربع. والحقيقة أن إبطال الأحكام والعادات التي كانت سائدة قبل الإسلام ليس من النسخ في شيء.
ثالثا: اشتباه التخصيص عليهم بالنسخ. ومن ذلك الآيات التي خصصت باستثناء أو غاية.
رابعا: اشتباه البيان عليهم بالنسخ.
خامسا: توهُّمُهم وجود تعارض بين نصين، في حين أنه لا تعارض في الواقع.

وأضيف إلى ذلك التنبيه على أن ما ذكره المؤلفون في الناسخ والمنسوخ من دعاوى النسخ في الآيات المتعلقة بالأخبار والوعد والوعيد وعمومات القرآن الكريم هو من باب عدم الدقة في تحديد مُراد علماء الصحابة والتابعين بمصطلح النسخ. فما صحّ عن علماء الصحابة والتابعين من عبارات النسخ في تلك الأنواع من الآيات هو من باب البيان والتخصيص؛ لأنهم -كما ذكرنا في مفهوم النسخ- كانوا يطلقون لفظ النسخ على التخصيص وبيان المراد من النص، وليس مرادهم بالنسخ في تلك الآيات النسخ بمعناه الأصولي. ومن الخطأ حمل جميع عبارات علماء الصدر الأول على اصطلاح المتأخرين.


وقد قمت بدراسة مفصلة لموضوع النسخ في القرآن الكريم، وخلصت الدراسة إلى أن النسخ ثابت في ثلاث مواضع من القرآن الكريم، هي: نسخ عقوبتي الحبس والأذى في الزنا، والصمود في وجه الكفار، والنجوى. أما الوصية فالأمر فيها يعتبر من باب التخصيص على مذهب الجمهور في مفهوم التخصيص، وهو نسخ جزئي على مذهب الحنفية في التفريق بين النسخ والتخصيص.


أما منسوخ التلاوة، فإنه بعد دراسة مستفيضة لأبرز الروايات الورادة فيه توصلت الدراسة إلى أن تلك الروايات تُصنَّف إلى أصناف: الصنف الأول: روايات ليس لها في الحقيقة علاقة بنسخ التلاوة أصلا. الصنف الثاني: روايات لا تصحُّ سندا ومُنْكَرَة مَتْنًا، وهذا الصنف يمثل أغلب الروايات الواردة في نسخ التلاوة. الصنف الثالث: نصوص هي في الحقيقة من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن توهَّم بعض الرواة كونها قرآنا منسوخا، وقد وردت منها روايات صحيحة تثبت كونها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. الصنف الرابع: الرواية المتعلقة بنسخ عشر رضعات بخمس رضعات: ظاهر سندها الصحة، ولكن متنها فيه نكارة وشذوذ عن السياق التشريعي لأحكام الرضاعة المحرّمة، وهو الأمر الذي يُرجِّح وقوع الوهم فيها. الصنف الخامس: وقائع أصلها صحيح، ولكن وقع في بعض رواياتها وَهْمٌ في التفسير أو زيادة في المتن. ويتعلق هذا بما ورد في شهداء بئر معونة وقضية الرجم.

أما قصة شهداء بئر معونة، فإن نزول وحي بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع لهم ثابت، ولكن في الحقيقة لم يكن ذلك الوحي جزءا من القرآن الكريم، وإنما كان القصد منه مجرد إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد توهَّم بعض الرواة أنَّ كونه وحيا يعني أنه كان جزءا من القرآن الكريم، وأن عدم إثباته ضمن نص القرآن الكريم يعني أنه قد نُسخ تلاوة.

وأما ما يتعلق بما يُسمى "آية الرجم" فإن غالب الروايات الواردة فيها ضعيفة سندا ومُنكَرة متنا. أما الروايات المتعلقة بخطبة عمر بن الخطاب، فإن أصلها صحيح، وقصة خطبة عمر ثابتة، ولكن الظاهر أن عمر بن الخطاب أكد في خطبته تلك أن عقوبة الرجم فريضة من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه حذّر من أن يأتي زمان على الناس يُنْكِرُ فيه بَعْضُهُم تلك العقوبة لعدم وجودها في القرآن الكريم. أما المقطع المتعلق بوجود ما يُسمى آية الرجم فالظاهر أنه تسرب إلى تلك القصة من الروايات الضعيفة التي نسجها القُصّاص.



المبحث التاسع: النسخ بالإجماع والقياس

المطلب الأول: النسخ بالإجماع

الإجماع هو: "اتفاق أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم خاصَّة على أَمْرٍ من الأمور الدينية."[132] وهذا يعني أن الإجماع لا يقع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أما النسخ فإنه لا يقع إلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن الناسخ يجب أن يوجد في حياته صلى الله عليه وسلم. هذا الفارق الزمني في الوجود يجعل وقوع النسخ بالإجماع مستحيلا؛ لأن الإجماع لم يكن موجودا أصلا في زمن وقوع النسخ.
ينبغي التفريق بين النسخ بالإجماع والإجماع على النسخ. فالنسخ بالإجماع معناه أن تُجمع الأمة على القيام بنسخ حكم شرعي ثابت مع عدم ورود نص شرعي آخر ينسخه -سواء أكان ذلك الإجماع بدعوى افتراض وجود نص ناسخ لكنه غير معروف أم دون افتراض- وهذا لا يمكن وقوعه؛ لأنه ليس لأحد سلطة نسخ نص شرعي سوى الشارع الحكيم بنص شرعي معلوم، ولأن وقوع النسخ محصور في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع غير موجود في ذلك الوقت. ويستحيل وقوع إجماع على إلغاء حكم شرعي دون وجود نص شرعي آخر يلغيه؛ لأن ذلك من الباطل الذي لا يمكن أن تجتمع عليه الأمة.
أما الإجماع على وقوع النسخ فهو أن تجمع الأمة على أن النسخ قد وقع. ويكون ذلك الإجماع بناء على رواية تدلُّ على وقوعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. مثال ذلك الإجماع على نسخ التوجُّه في الصلاة إلى بيت المقدس بالتوجُّه إلى الكعبة، فهذا ليس نسخا بالإجماع، وإنما هو إجماع على وقوع النسخ.

المطلب الثاني: النسخ بالقياس

القياس بمعناه الأصولي الخاص -الذي هو: حمل فرع على أصل لوجود علة جامعة بينهما- لا يلجأ إليه المجتهد إلا في حال عدم وجود نص شرعي يمكن أن يُستفاد منه حكم الفرع. ومن المعلوم أن الأصوليين متفقون على أن القياس المخالف للنص الشرعي قياس باطل من أصله ولا اعتبار له.[133]

إن الحكم الثابت بالقياس هو اجتهاد المجتهد الذي يظن أنه موافق لحكم الشارع الحكيم. أما سلطة النسخ فهي -كما ذكرنا سابقا- لا يملكها إلا الشارع الحكيم، ولا يقع النسخ إلا في زمن النبوة. وإذا كان القياس هو حاصل اجتهاد المجتهد بعد زمن النبوة، فكيف يمكن أن نتصور أن يحصل نسخ حكم شرعي ثابت باجتهاد مجتهد يقع بعد زمن النبوة؟ هذا هو سبب استحالة القول بنسخ الحكم الثابت بنص الشرعي بالقياس، وليس سبب ذلك -كما يصوره الأصوليون عادة- هو عدم التكافؤ في الرتبة، حيث إن القرآن قطعي الثبوت والقياس ظني، ولا يُنسخ القطعي بالظني.[134] وقد ذكرت من قبل سبب تركيز الأصوليين على قضية القطعي والظني في النسخ هو خلطهم بين النسخ الحقيقي وبين قواعد التعارض والترجيح التي منها افتراض وقوع النسخ، ومسألة التكافؤ في الرتبة لها علاقة بالتعارض والترجيح الذي يُعد النسخ الافتراضي فرعا منه.
وصورة النسخ بالقياس أن يستنبط شخص حكما بالقياس، ويكون ذلك الحكم معارضا لحكم منصوص عليه في الشرع، فيحكم بنسخ ذلك الحكم الشرعي المنصوص عليه بما توصل إليه هو بالقياس، ولا أظن مسلمًا له معرفةٌ بأحكام الشرع يتجرأ على القول بمثل هذا!



[1]الأصفهاني، الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي (دمشق: دار القلم، 1430هـ/ 2009م، ط4) ص801.
[2]الآمدي، علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، تعليق عبد الرزاق عفيفي (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، 1424هـ/ 2003م) ج3، ص127-128.
[3]ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد،إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم (بيروت: دار الكتب العلمية، 1991م) ج1، ص29.
[4]الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت) ج3، ص108.
[5]انظر تلك الأمثلة في: الشاطبي، الموافقات، ج3، ص109-116.
[6]الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر، البحر المحيط في أصول الفقه، تحرير عبد القادر عبد الله العاني (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1413هـ/ 1992م، ط2) ج4، ص64-65.
[7]الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد،المستصفى من علم الأصول، تحقيق مكتب التحقيقات بدار إحياء التراث العربي.( بيروت: دار إحياء التراث العربي/ مؤسسة التاريخ العربي، د. ت) ج1، ص107.
[8]الغزالي، المستصفى، ج1، ص108.
[9]الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله،البرهان في أصول الفقه، علق عليه صلاح بن محمد بن عويضة (بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ/ 1997م)ج2، ص247-248، الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص66.
[10]الجويني، البرهان، ج2، ص248.
[11]الجصاص، أحمد بن علي الرازي، الفصول في الأصول، تحقيق محمد محمد تامر (بيروت: دار الكتب العلمية، 2010م) ج1، ص355.
[12]الجويني، البرهان، ج2، ص246، 249.
[13] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص66.
[14]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص355.
[15]مصطفى زيد، النسخ في القرآن: دراسة تشريعية تاريخية نقدية (مصر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1408هـ/ 1987م،ط3) ج1، ص102-103.
[16]قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180).
[17]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص109-110.
[18]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص405.
[19]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص404.
[20]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص404.
[21]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص175.
[22]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص180-204.
[23]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص108-109.
[24]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص109.
[25]يقول عبد العزيز البخاري: "لا خلاف أن العام إذا خُصَّ منه شيء بدليل مقارن يجوز تخصيصه بعد ذلك بدليل متراخ، فأما العام الذي لم يخص منه شيء فلا يجوز تخصيصه بدليل متأخر عنه عند الشيخ أبي الحسن الكرخي وعامة المتأخرين من أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي، وعند بعض أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي والأشعرية وعامة المعتزلة يجوز تخصيصه متراخيا كما يجوز متصلا." البخاري، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، وضع حواشيه عبد الله محمود محمد عمر (بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ/ 1997م) ج3، ص166-167.
[26]السرخسي، أحمد بن أبي سهل، أصول السرخسي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني (بيروت: دار الكتب العلمية، 1414هـ/ 1993م) ج2، ص29.
[27]عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار على البزدوي، ج3، ص165-166.
[28]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص70.
[29] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص66.
[30]الشاطبي، الموافقات، ج3، ص104-105 (بتصرف).
[31]خلاصة كلام الأصوليين في مسألة النسخ إلى بدل كالآتي: قال الإمام الشافعي: "وليس يُنسخ فرضٌ أبدا إلا أُثبت مكانه فرض. كما نُسِخت قبلة بيت المقدس فأُثبت مكانها الكعبة. وكل منسوخ في كتاب وسنّة هكذا." (الشافعي، الرسالة، ص109-110). وذهب الصيرفي وأبو إسحاق المروزي إلى أن مراد الشافعي بهذه العبارة: أن ينقل من حظر إلى إباحة، أو إباحة إلى حظر، أو يجري على حسب أحوال المفروض. وقال الزركشي: "والمعنى أنهم ينقلون من حكم شرعي إلى مثله، ولا يتركون غير محكوم عليهم بشيء." (الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص94). وذهب الجويني والغزالي إلى أنه يجوز نسخ الحكم من غير بدل عنه، واستدل الغزالي بنسخ تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم الوارد في القرآن الكريم، ونسخ نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي، وكلاهما نسخ إلى غير بدل. (الجويني، البرهان، ج2، ص257، الغزالي، المستصفى، ج1، ص118).
[32]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص78.
[33]يقول أبو المظفر السمعاني: "أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ؛ لأنه إذا كان متصلا به فإما أن يُسمى استثناء، أو يُسمى غاية، ولا يُسمى نسخا بحال." السمعاني، قواطع الأدلة في أصول الفقه، ج3، ص71.
[34]انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص78، حيث نقل عن إلْكيا الهراسي الشافعي أن لعلماء الشافعية في ذلك قولين، ورجح أنه يُسمى نسخا. ورجّح شاه ولي الله الدهلوي عدم اعتباره نسخا. انظر: الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم، الفوز الكبير في أصول التفسير (دمشق: دار الغوثاني للدراسات القرآنية، 1429هـ/ 2008م) ص62-63.
[35]الجويني، البرهان، ج2، ص256.
[36]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص72.
[37]هو محمد بن بحر الأصفهاني (الأصبهاني)، ولد سنة 254هـ، وتوفي سنة 322هـ. كان عالما بالتفسير واللغة ومتكلما من المعتزلة. قال عنه ابن السمعاني: "وهذا رجل معروف بالعلم، وإن كان قد انتسب إلى المعتزلة ويُعد منهم، وله كتاب كبير في التفسير وكتب كثيرة، فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه." السمعاني، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار، قواطع الأدلة في أصول الفقه، تحقيق عبد الله بن حافظ بن أحمد الحكمي (المملكة العربية السعودية: د. ن، 1419هـ/ 1998م) ج3، ص71.
[38]الرازي، فخر الدين بن محمد بن عمر بن الحسين، المحصول في علم أصول الفقه، دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني (بيروت: مؤسسة الرسالة، د. ت) ج3، ص307-311.
[39]صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (36).
[40]الغزالي، المستصفى، ج1، ص126.
[41]الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق فواز أحمد زمرلي (القاهرة: دار الكتاب العربي، د. ت) ج2، ص163-164.
[42]الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر (بيروت: المكتبة العلمية، د. ت) ص113-116.
[43]الجويني، البرهان، ج2، ص256.
[44]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص83.
[45]نسب الآمدي القول بعدم جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة إلى أكثر أصحاب الشافعي، وأكثر أهل الظاهر. انظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص189.
[46]الغزالي، المستصفى، ج1، ص124؛ الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، 487.
[47]جاء في كتاب العدة: "لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعا، ولم يوجد ذلك. نص عليه رحمه الله في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث. وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا، يَنسخ القرآنَ قرآنٌ يجيء بعده، والسنة تُفسِّر القرآن." الفراء، أبو يعلى محمد بن الحسين، العدة في أصول الفقه، تحقيق أحمد بن علي سير المباركي (د. م: د. ن، 1414هـ/ 1993م، ط3) ج2، ص788-789.
[48] الشافعي، الرسالة، ص173.
[49] أبو حامد الغزالي، المستصفى، ج1، ص123؛ وانظر تقرير الآمدي لهذا الاستدلال في: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص185.
[50]أخرج الترمذي عن أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ." سنن الترمذي، أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ج4، ص434، حديث رقم (2121). وفي سنن ابن ماجه: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ." سنن ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج2، ص905، حديث رقم (2712).
[51]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص109-110.
[52] صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج4، ص4، حديث رقم (2747).
[53]سنن ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج2، ص905، حديث رقم (2713).
[54]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص481.
[55]سنن الترمذي، أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ج4، ص433، حديث رقم (2120).
[56]سنن ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج2، ص905، حديث رقم (2712).
[57]صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنى، ج3، ص1316، حديث رقم (1690).
[58]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص477.
[59]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص477.
[60]السمعاني، قواطع الأدلة، ج3، ص173.
[61]السمعاني، قواطع الأدلة، ج3، ص174.
[62] الشافعي، الرسالة، ص107.
[63] الغزالي، المستصفى، ج1، ص124.
[64] الشافعي، الرسالة، ص108.
[65] الغزالي، المستصفى، ج1، ص124.
[66] الشافعي، الرسالة، ص107.
[67]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص247.
[68]الشافعي، الرسالة، ص113-116.
[69]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص114.
[70]الشافعي، الرسالة، ص184.
[71]صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر.
[72] الشافعي، الرسالة، ص221-222.
[73] الشافعي، الرسالة، ص108.
[74] الشافعي، الرسالة، ص220-221.
[75] الشافعي، الرسالة، ص111.
[76] أي " كان سببا لترك كل ما ورد من السنَّة التي تُبيِّن المجملَ مما جاء في الكتاب، وتحتمل أن توافقه، فيأتي هذا المشكِّك ويعقد خلافا بين السنَّة وبين الكتاب، ويضرب بعض ذلك ببعض، ويردُّ بيان السنَّة بعامِّ الكتاب ومجمله، ويزعم أنها مخالفة له." تعليق أحمد شاكر على الرسالة، هامش رقم: 8، ص112.
[77]الشافعي، الرسالة، ص112-113.
[78] الشافعي، الرسالة، ص222-223.
[79] الشافعي، الرسالة، ص110.
[80]ابن سلام، الناسخ والمنسوخ، ص14.
[81]ابن سلام، الناسخ والمنسوخ، ص14.
[82]ابن سلام، الناسخ والمنسوخ، ص17.
[83]النحاس، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ص7-8.
[84]هذا فَهْمٌ غير مُسَلَّمٍ له، ولا دليل يدل على أن الشارع قد حكم بالجواز. وحتى إذا سلمنا أن الخمر لم تكن قد حُرمت في ذلك الوقت، فإن إمساك الشارع عن تحريمها وقتا من الزمن لا يعني الإباحة الشرعية لها، وإنما يعني مجرد تأخير إعلان التحريم في انتظار تهيئة المجتمع المسلم لذلك.
[85]مكي بن أبي طالب، الإيضاح، ص67-71.
[86] السمعاني، قواطع الأدلة، ج3، ص97-102؛ الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص103-107.
[87]قال ابن دقيق العيد: "نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرتفع، بل بمعنى أنه ينتهي بنص دلّ على انتهائه، فلا يكون نسخا" وبه يكون الأمر خلافا لفظيا. الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص72.
[88]الجبري، عبد المتعال محمد الصعيدي، لا نسخ في القرآن لماذا؟ (القاهرة: دار التضامن للطباعة، 1400هـ/ 1980م) ص20.
[89]عبد المتعال الصعيدي، لا نسخ في القرآن، ص20.
[90]عبد المتعال الصعيدي، لا نسخ في القرآن، ص20.
[91]الرازي، فخر الدين محمد الرازي، التفسير الكبير (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401هــ/ 1981م) ج1، ص250.
[92]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص263.
[93]صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، ج6، ص19، حديث رقم (4481).
[94]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص253-254.
[95]السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ/ 1974م) ج3، ص69.
[96]السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج3، ص68-69.
[97]الرازي، التفسير الكبير، ج3، ص247.
[98]ابن سلام، الناسخ والمنسوخ، ص10.
[99]الرازي، التفسير الكبير، ج1، ص249-250.
[100]الرازي، التفسير الكبير، ج1، ص248.
[101]القاسمي، محمد جمال الدين، تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاءه، 1367هـ/ 1957م) ج2، ص217-218.
[102]محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار (القاهرة: دار المنار، 1366هـ/ 1947م) ج1، ص417.
[103]رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص417.
[104]رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص417.
[105]رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص418-419.
[106]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص257-261.
[107]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص261.
[108]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص261-262.
[109]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص260.
[110]الرازي، التفسير الكبير، ج20، ص118.
[111]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص240-241.
[112]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص237.
[113]محمد جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، ص3858-3859. وقد اعترض مصطفى زيد على هذا الرأي بكونه شاذا ومخالفا لما سماه إجماع المفسرين، ولكنه لم يناقش أدلته ولم يفندها. مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص241-242.
[114]الرازي، التفسير الكبير، ج20، ص118.
[115]عبد المتعال الصعيدي، لا نسخ في القرآن، ص25.
[116]عبد المتعال الصعيدي، لا نسخ في القرآن، ص17.
[117]الرازي، التفسير الكبير، ج20، ص118.
[118]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص223.
[119]الرازي، التفسير الكبير، ج20، ص118.
[120]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص229.
[121]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص237.
[122]الرازي، التفسير الكبير، ج19، ص66-67.
[123]الرازي، التفسير الكبير، ج19، ص65.
[124]الرازي، التفسير الكبير، ج19، ص64.
[125]الشاطبي، الموافقات، ج3، ص106.
[126]الجصاص، الفصول في الأصول، ج1، ص417.
[127]الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص115.
[128]الشاطبي، الموافقات، ج3، ص105-106.
[129]الشافعي، الرسالة، ص109.
[130]مصطفى زيد، النسخ في القرآن، ج1، ص400.
[131]مقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس، ص38-40.
[132]الغزالي، المستصفى، ج1، ص171.
[133]الغزالي، المستصفى، ج1، ص126.
[134]الغزالي، المستصفى، ج1، ص125.
 
التعديل الأخير:

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
رد: تحرير المسائل الأصولية (2): النسخ

حمل نسخة pdf للموضوع
 

المرفقات

  • تحرير موضوع النسخ.pdf
    651.6 KB · المشاهدات: 9
أعلى