العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تحرير رأي الإمام الشافعي في النسخ بين القرآن والسنة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
تحرير رأي الإمام الشافعي في النسخ بين القرآن والسنَّة
د. نَعْمان جَغيم

بحث محكم، منشور في "مجلة البحوث والدراسات القرآنية"، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، العدد 15، السنة 10

ملخص
ذهب الإمام الشافعي إلى القول بأن السنَّة لا تنسخ القرآن بحال، لا فرق في ذلك بين السنَّة المتواترة وأخبار الآحاد. كما أنه لا يُحْكَمُ بكون القرآن ناسخا للسنّة التي تبدو مخالفة له إلاّ إذا وردت سُنَّةٌ أخرى تفيد ذلك النسخ وتبيِّنُه. وخالفه في ذلك جمهور من جاء بعده من الأصوليين حتى من أتباع مذهبه. وقد كان موقف الشافعي من نسخ السنَّة للقرآن واضحا لدى من جاء بعده من الأصوليين، أما موقفه من نسخ السنَّة بالقرآن فقد خفيت حقيقته على بعض العلماء، وهو الأمر الذي أدى إلى اختلاف الأصوليين من بعده وتضارب أقوالهم في مراده بذلك. ويهدف هذا البحث إلى بيان الأسس التي بنى عليها الشافعي نظرته إلى النسخ بين القرآن والسنَّة، وتحرير موقفه من نسخ السنَّة بالقرآن. ويقوم منهج البحث على استقراء أقوال الشافعي نفسه في كتاب الرسالة مع التحليل والمناقشة والمقارنة بما نُسب إليه. وخلص البحث إلى أن للإمام الشافعي رأيٌ واحدٌ في نسخ السنَّة بالقرآن الكريم، وأن ما ظنه البعض دلالة على وجود قولين هو مجرد تفصيل لقوله الواحد في المسألة، وهو أنه يُقرُّ بوقوع نسخ السنَّة بالقرآن في زمن النبوّة، ولكن لا يُقبل من أحد ادعاء نسخِ سنّة من السُّنن بآية من القرآن الكريم إلا إذا وُجِدت سنَّة تدلّ على ذلك النسخ وترشد إليه، فإن لم يوجد من السنَّة ما يدلّ على ذلك الادعاء بالنسخ، لا يُقبل ذلك الادعاء، ويجب البحث عن طريق للجمع بين الآية والحديث.

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

ذهب الإمام الشافعي إلى القول بأن السنَّة لا تنسخ القرآن بحال، لا فرق في ذلك بين السنَّة المتواترة وأخبار الآحاد. كما أنه لا يُحْكَمُ بكون القرآن ناسخا للسنّة التي تبدو مخالفة له إلاّ إذا وردت سُنَّةٌ أخرى تفيد ذلك النسخ وتبيِّنُه. وخالفه في ذلك جمهور من جاء بعده من الأصوليين حتى من أتباع مذهبه. وقد كان موقف الشافعي من نسخ السنَّة للقرآن واضحا لدى من جاء بعده من الأصوليين، أما موقفه من نسخ السنَّة بالقرآن فقد خفيت حقيقته على بعض العلماء، وهو الأمر الذي أدى إلى اختلاف الأصوليين من بعده وتضارب أقوالهم في مراده بذلك. وعلى الرغم من أنه قد يُقال إن الموضوع صار جزءا من التاريخ، إلا أنه مازال يستحق البحث لما في ذلك من التنبيه على قضايا منهجية، مثل نسبة الأقوال إلى علماء القرون الأولى دون الرجوع إلى مصادرهم والتدقيق فيها، والاكتفاء بنقل ما شاع دون تحرير، وكذلك قضية إسقاط اصطلاحات المتأخرين وتفريعاتهم النظرية على أقوال المتقدمين، مما قد يوقع في التعميم والنسبة الخاطئة. هذا فضلا عن أن موقف الشافعي من نسخ السنَّة بالقرآن ما زال يُنقَل بصورة غير دقيقة في بعض ما كتبه المعاصرون في أصول الفقه، حيث يكتفي بعضهم بنقل ما شاع من تصوير غير دقيق لموقف الشافعي من هذه المسألة.[1] وهذه هي الأسباب التي دفعتني للكتابة في هذا الموضوع.

ويهدف هذا البحث إلى بيان الأسس التي بنى عليها الشافعي نظرته إلى النسخ بين القرآن والسنَّة، وتحرير موقفه من نسخ السنَّة بالقرآن. ويقوم منهج البحث على استقراء أقوال الشافعي نفسه في كتاب الرسالة مع التحليل والمناقشة والمقارنة بما نُسب إليه. ولما كان هدف البحث هو الاقتصار على تحرير موقف الشافعي من النسخ بين القرآن والسنَّة، فلن يتطرق الباحث إلى تفاصيل موضوع النسخ التي ليس لها صلة مباشرة بهدف البحث، كما أنه لن يخوض في تفاصيل الاستدلالات والمناقشات حول النسخ بين القرآن والسنَّة، لأنها موجودة باستفاضة في كتب الأصول. وسيكون التركيز على النقاط التي يراها الباحث محلّ خفاء والتباس وهي في حاجة إلى تحرير، وتلك التي لم تَنَلْ حظَّها من التدقيق.

أما عن الدراسات السابقة، فإن رأي الإمام الشافعي في النسخ مبثوث في كتب الأصول، قديمها وحديثها، وكذلك في الكتب المعاصرة التي أفردت بالبحث موضوع النسخ.[2] ولكني لم أطلّع على بحث أكاديمي يحرّر رأي الإمام الشافعي في مسألة نسخ السنّة بالقرآن الكريم، ويبيّن ما وقع في نقل رأيه من خطأ أو عدم دقة قديما وحديثا.

وقد قسمت البحث إلى مقدمة، تحدثت فيها عن موضوع البحث، وأهدافه، ومنهجه. وتمهيد، تحدثت فيه عن أساس النسخ بين الإمام الشافعي ومن خالفه من الأصوليين. ومبحثين؛ المبحث الأول عن رأي الإمام الشافعي في نسخ القرآن الكريم بالسنة النبوية، والمبحث الثاني عن موقف الإمام الشافعي من نسخ السنة بالقرآن الكريم. وخاتمة بيّنت فيها نتائج البحث.

تمهيد: أساس النسخ بين الإمام الشافعي ومن خالفه من الأصوليين

لقد كانت نظرة الإمام الشافعي إلى مسألة النسخ بين القرآن والسنَّة قائمة في جوهرها على الأساس الذي يحكم علاقة البيان؛ نظرا لكون السنَّة بيانًا للقرآن الكريم، فلا يكون في البيان ما يلغي الأصل المبيَّن، ولا يأتي المبيِّن (الرسول صلى الله عليه وسلم) بما يكون فيه خلافٌ للأصل الذي أُرسِل لبيانه. ومن البيان الذي أُنيط بالسنَّة النبوية بيانُ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وليس قيام السنَّة نفسها بنسخ ما في القرآن الكريم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإمام الشافعي "درس النسخ من ناحية وقوعه في الشرع الإسلامي، فهو قد استقرأ المسائل التي رأى أن فيها نسخا، واستنبط منها أحكام النسخ وضوابطه، فأصّل أصوله في هذا الباب على ضوء ذلك الاستقراء. وإنك لتستبين ذلك في أكثر ما كتب، ولذلك لم يخض في مسائل نظرية كالتي خاض فيها الأشاعرة والمعتزلة من علماء الأصول الذين جاءوا من بعده."[3] وهذه نقطة منهجية مهمة تبيّن الفرق بين منهج الإمام الشافعي في دراسة موضوعات علم أصول الفقه عموما، والنسخ خصوصا، وبين منهج الأصوليين المتكلمين الذين وسَّعوا مباحث هذا العلم، وأدخلوا فيه الكثير من المباحث النظرية القائمة على الافتراض والإمكان العقلي. في حين نجد الإمام الشافعي لا يخوض في الافتراضات النظرية والإمكان العقلي، بل يركز بحثه على ما وقع فعلا في نصوص الشرع.

وإذا كان الإمام الشافعي قد بنى بحثه للناسخ والمنسوخ على استقراء ما وقع فعلا، فإن الغالب على الأصوليين أنهم بنوا التنظير للنسخ بين القرآن الكريم والسنَّة النبوية على أساسين: أحدهما: الإمكان العقلي، حيث إن القرآن والسنَّة كليهما من عند الله تبارك وتعالى، ولا يمتنع عقلا نسخ أحد الوحيين بالآخر؛ والأساس الثاني: التكافؤ في قوة الثبوت؛ فالمتواترُ يَنْسخُ المتواترَ والآحاد، أما الآحاد فلا يَنْسخُ المتواترَ. وتأسيسا على ذلك قالوا بجواز نسخ القرآن بالسنَّة المتواترة لأنها مكافئة في الثبوت للقرآن، وأجازوا نسخ السنَّة بالقرآن لأنه أقوى منها من حيث الثبوت والحجية، ومنع جمهورهم نسخ المتواتر بالآحاد.

لقد كان الأساس الذي بنى عليه الأصوليون نظرتهم إلى النسخ يخالف الأساس الذي بنى عليه الشافعي؛ فهو لا ينظر في النسخ إلى قوة الثبوت، وإنما يبني موضوع النسخ على علاقة البيان، فالسنَّة مبيِّنة للقرآن، والبيانُ لا يكون بالنسخ؛ لأن النسخ إنهاءٌ للأصل لا بيانٌ له، وذاك خروج بالمبيِّنِ عن وظيفة البيان. كما أنه لما كانت وظيفة السنَّة البيان، فهي لا تأتي بما يخالف الأصل (القرآن الكريم) حتى تُصبحَ محلَّ نسخٍ من قِبَلِهِ. وفي ذلك يقول الشافعي: "فإن قال: ما الدليل على ما تقول؟ فَمَا وصفتُ من مَوْضِعِهِ من الإبانة عن الله معنَى ما أراد بفرائضه خاصًّا وعامًّا، مما وصفتُ في كتابي هذا، وأنه لا يقولُ ]أي الرسول صلى الله عليه وسلم[ أبدا لشيء إلاّ بحُكْم الله."[4] ويقول: "وكتابُ الله البيانُ الذي يُشْفَى به مِنْ العَمَى، وفيه الدلالةُ على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتبّاعه له وقيامُه بتبيينِه عن الله."[5] ولكن قد يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم فعل ابتداء، ويأتي القرآن الكريم بعد ذلك بنسخه، فيصير النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما جاء به القرآن، ويكون فعلُه الثاني دليلا على نسخ فعله الأول بالقرآن الكريم.

هذه نظرة إجمالية تبيِّن الاختلاف المنهجي في الأساس الذي قام عليه النّظر في موضوع النسخ بين الإمام الشافعي وجمهور مَن جاء بعده من الأصوليين، وهو الذي انبنى عليه الخلاف في النّظر إلى النسخ بين القرآن الكريم والسنَّة النبوية. وبعد هذا البيان الإجمالي لذلك الأساس المنهجي، يأتي الحديث عن تفاصيل موقف الإمام الشافعي من نسخ السنَّة النبوية بالقرآن الكريم؛ لأنه العنصر الذي وقع فيه الالتباس في الفهم والنقل عن الشافعي، ثم يُتبع ذلك ببيان موقفه من نسخ القرآن الكريم بالسنَّة النبوية إتماما لعناصر الموضوع.

المبحث الأول: رأي الإمام الشافعي في نسخ السنَّة بالقرآن

المطلب الأول: تحرير رأي الشافعي في نسخ السنَّة بالقرآن
شاع النقل عن الشافعي أنه يقول بعدم نسخ السنّة بالقرآن الكريم. والواقع أنه لا يُنكر أن يَرِدَ القرآنُ بتغيير (نسخ) حُكم من الأحكام التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه لا يُنكر حصول نسخ السنَّة بالقرآن، ولكنه يرى أننا لا نعلم أنّ القرآن قد نسخ تلك السنَّة إلا بورود سنَّة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم يتبيَّن بها أن سنَّتَهُ الأولى قد نُسِخَتْ؛ وذلك أنه ما من سنّة ينسخها القرآن إلا ويعمل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك الحكم الجديد (الناسخ)، أو يأمر بالعمل به، وبذلك تنشأ سنّةٌ تبيِّن ذلك النسخ. فالإمام الشافعي يرى أن السنَّة النبوية هي التي تبيّن لنا وقوع النسخ وترشدنا إلى مواضعه في الحالات التي لا يكون فيها تصريح بالنسخ في القرآن الكريم.

وبناء على ما سبق فإن التعبير الدقيق عن موقف الشافعي من نسخ السنَّة بالقرآن ينبغي أن يكون: "لا ينبغي لشخص أن يحكم بكون سُنَّةٍ منسوخةً بالقرآن الكريم إلاّ إذا وردت سُنَّةٌ أخرى تفيد ذلك النسخ".

وما ورد من عبارات للإمام الشافعي بأن السنَّة لا تُنسخ إلا بسنّة مثلها، معناه أننا لا نحكم بنسخ سنّةٍ بما ظاهرُه المخالفة لها من القرآن الكريم إلا بوجود سنَّة أخرى تفيد ذلك النسخ، وليس المراد منه عدم حصول نسخ السنَّة بالقرآن.

والدليل على أن الشافعي لا يقول بأن القرآن لا ينسخ السنَّة في الواقع واضحٌ من تتبُّع عباراته في الرسالة، وأوضحها قوله: : "فنسخَ اللهُ تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف إلى أن يصلوها ـ كما أنزل الله وسنّ رسولُه ـ في وقتها، ونسخَ رسولُ الله سنَّتَهُ في تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم بسنَّتِه، صلاها رسول الله في وقتها كما وصَفْتُ".[6] وقد جاء هذا الكلام في معرض حديثه عن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم الخندق إلى أن صلاهما مع المغرب والعشاء في مقام واحد، حيث عَدَّ الشافعيُ تأخير الصلاة عن وقتها عند ضرورة القتال سُنَّةً من النبيّ، وقد نزل القرآن الكريم بعد ذلك ببيان كيفية صلاة الخوف، فكانت تلك الآيات ناسخة لسُنَّةِ تأخير الصلاة، ثم جاءت بعد ذلك سُنَّةُ النبيّ في تطبيق صلاة الخوف كما وردت في القرآن لتكون بيانا أن سنَّتَهُ الأولى منسوخة.

ويقول: "فلا يجوز أن يَسُنَّ رسولُ الله سنَّة لازمة فتُنْسَخَ فلا يَسُنَّ ما نسخها، وإنما يُعرَفُ الناسخ بالآخر من الأمرين، وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عُرف بدلالة سُنَنِ رسول الله. فإذا كانت السنَّة تدلّ على ناسخ القرآن وتُفَرِّقُ بينه وبين منسوخه لم يكن أن تُنْسَخَ السنَّة بقرآن إلا أحدث رسول الله مع القرآن سنَّة تنسخ سُنَّتَهُ الأولى، لتذهب الشُّبهة عن من أقام الله عليه الحجة من خلقه."[7] وفي الكلام تصريح بأن القرآن ينسخ السنَّة في الواقع، وأننا نعرف وقوع ذلك النسخ بالسنَّة الجديدة التي توافق ذلك النسخ فتبيِّن وقوعَه.

وقال: "ولو أحدثَ اللهُ لرسوله في أمرٍ سَنَّ فيه غيرَ ما سَنَّ رسولُ الله، لسَنَّ فيما أحدث اللهُ إليه، حتى يُبيِّن للناس أنّ له سُنَّةً ناسخةً للتي قبلها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنَّته صلى الله عليه وسلم."[8] وواضح أن معنى "أحدث الله لرسوله..." يعني غيَّر اللهُ ما سنّه الرسول، أي نسخه.

وقال: "وهذا - مع إبانته لك الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنَّة - دليلٌ لك على أن النبي إذا سَنَّ سُنَّة حوَّلَه اللهُ عنها إلى غيرها: سَنَّ أخرى يصير إليها الناس بعد التي حُوِّلَ عنها، لئلا يذهب على عامتهم الناسخ فَيَثْبُتُون على المنسوخ. ولئلا يُشبَّهَ على أحد بأن رسول الله يَسُنُّ فيكون في الكتاب شيءٌ يَرَى من جَهِلَ اللسانَ أو العِلْمَ بموقع السنَّة مع الكتاب أو إبانتها معانيه: أنّ الكتابَ ينسخُ السنَّة.)[9] وواضح أن عبارة: "إذا سَنَّ سُنَّة حوَّلَه اللهُ عنها إلى غيرها" يعني نسخها الله تعالى بكتابه.

وهذه عبارات واضحة في تفريق الشافعي بين حصول النسخ في الواقع، وبين حكم العلماء بعد زمن التشريع بكون نصِّ مَا منسوخًا.

وبهذه النصوص يتَّضح رأي الشافعي في نسخ السنَّة النبويّة بالقرآن الكريم. وليزداد الأمر وضوحا نعرض لبيان الدافع الذي دفع الإمام الشافعي إلى القول بمنع ادعاء نسخ السنَّة بالقرآن دون وجود سنّة تدل على ذلك النسخ. ويظهر من تتبُّع عباراته أن سبب ذلك أمران:

أحدهما
: لأن الأصل في السنَّة تبيان ما في القرآن، فإذا جاء في القرآن ما يخالف ما ثبت في السنَّة، فما يتبادر إلى الذهن هو أن السنَّة مخصِّصَةٌ أو مقيِّدة لما في القرآن، لا كون القرآن ناسخا للسنّة؛ لأن ذلك هو الأصل في العلاقة بين القرآن والسنَّة. ولكي يتبيَّن أن تلك السنَّة منسوخةٌ لابد أن يُثْبِتَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً جديدةً تُبيِّن نسخَ السنَّة السابقة. وهذا المقصود بقول الشافعي: "فما وصفتُ من موضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه خاصًّا وعامًّا، مما وصفتُ في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبدا لشيء إلا بحكم الله. ولو نسخَ اللهُ مما قال ]أي الرسول صلى الله عليه وسلم[ حُكْمًا لسنَّ رسول الله فيما نَسَخَهُ ]أي الله تعالى[ سُنَّةً."[10]

والسبب الثاني
: أنه لـمّا كان النسخ لا يكون في غالب الأحوال منصوصا عليه، وإنما يُذْهَبُ إليه بناء على ما يراه العالم من تعارض بين نصين لا يمكن الجمع أو الترجيح بينهما، فإنه لو قيل إن القرآن ينسخ السنَّة بإطلاق، لكان ذلك ذريعة لـ "مَنْ جَهِلَ اللسانّ أو العِلْمَ بموقع السنَّة مع الكتاب أو إبانتها معانيه" إلى رفض كثير من السُّنَنِ بحُجّة أنها منسوخة بالقرآن، وفي ذلك هدم للشريعة وعبث بها.

وفي بيان هذا المحذور يقول: "ولو جاز أن يقال: قد سَنّ رسولُ الله ثم نَسَخَ سُنَّتَهُ بالقرآن ولا يُؤثَرُ عن رسول الله السنَّة الناسخة-: جاز أن يُقَال فيما حرَّم رسولُ الله من البيوع كلِّها: قد يَحتملُ أن يكون حرَّمَها قبل أن يُنزلَ عليه (وأَحَلَّ اللهُ البيعَ وحرَّمَ الربا)، وفيمن رَجَمَ من الزُّناة: قد يَحْتملُ أن يكون الرَّجْم منسوخا لقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)، وفي المسح على الخفين: نَسَخَت آيةُ الوضوء المسح ... ولجاز رَدُّ كلّ حديثٍ عن رسول الله، بأن يُقال لم يَقُلْهُ، إذا لم يَجِدْهُ مثلَ التنزيل، وجاز رَدُّ السُّنَن بهذين الوجهين، فتُرِكَت كلُّ سنَّة معها كتابٌ جُملةً تحتَمِلُ سنَّتُهُ أن توافقُهُ،[11] وهي لا تكون أبدا إلا موافقةً له، إذا احتملَ اللفظُ فيما رُويَ عنه خلافَ اللفظِ في التنزيل بوجهٍ، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثرُ ممّا في اللفظ في التنزيل، وإن كان مُحتمِلاً أن يُخالفَهُ من وجهٍ. وكتابُ الله وسنَّةُ رسوله تدلّ على خلاف هذا القول، وموافقَةِ ما قُلنا."[12]

والشافعي يشير هنا إلى من قد يردُّ السنَّة التي يحتمل لفظُها خلاف ما في القرآن بوجهٍ، أو السنَّة التي يحتمل أن يكون في لفظها زيادة على ما في لفظ التنزيل، وإن كانت تلك الزيادة تحتمل من وجهٍ أن تكون مُخالِفَةً لما في نصّ التنزيل، أي تحتمل أن تكون تلك السنَّة في حكمٍ غير الحكم المنصوص عليه في القرآن، فلا تكون تلك الزيادة في الحقيقة زيادة في الحكم الذي في نصّ التنزيل. فيردّ هذا الشخص تلك السُّنن إما بحجة أنها منسوخة بالقرآن الكريم (أي بالآيات التي يرى أنها مخالفة لتلك السُّنَن)، أو يُنْكر صدورَها من النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تبدو له مُخالفةً لما في القرآن.

ويعبّر الشافعي عن ذلك المحذور في موضع آخر بقوله: "أفرأيت لو قال قائلٌ: حيثُ وجدتُ القرآنَ ظاهرا عامًّا، ووجدتُ سنَّةً تحتملُ أن تُبيِّن عن القرآن وتحتملُ أن تكون بخلاف ظاهره: علمتُ أن السنَّة منسوخةٌ بالقرآن؟ فقلتُ له: لا يقول هذا عالم. قال: ولِمَ؟ قلت: إذا كان الله فرضَ على نبيِّه اتباعَ ما أنزل إليه، وشهِدَ له بالهدى، وفرضَ على الناس طاعتَهُ، وكان اللسانُ - كما وصفتُ قبل هذا - مُحتملاً للمعاني، وأن يكون كتابُ الله ينْزِلُ عامًّا يُرادُ به الخاصّ، وخاصًّا يُرادُ به العامّ، وفرضًا جُملةً بيَّنَهُ رسول الله، فقامت السنَّةُ مع كتاب الله هذا المقام لم تكن السنَّةُ لِتُخَالِفَ كتابَ الله، ولا تكون السنَّةُ إلا تَبَعًا لكتاب الله، بمثلِ تنزيلِه، أو مُبيِّنَةً معنى ما أراد الله، فهي بكلّ حال متَّبعةٌ كتابَ الله."[13] ومثَّل لذلك بآية السرقة، وأن الرسول بيّن أن المقصود بها سرقةٌ معيَّنة بشروط معيّنة، ولولا السنَّة لوجب قطعُ كلّ من وقع عليه اسمُ السرقة.

أما عبارة الشافعي بأن "الشيء يُنسَخ بمثله" التي قد توهم أنه يقول بعدم نسخ السنَّة بالقرآن بإطلاق، حيث يقول: "فإن قال قائل: هل تُنسخُ السنَّةُ بالقرآن؟ قيل: لو نُسخَتْ السنَّةُ بالقرآن كانت للنبيّ فيه سُنَّةٌ تُبيِّنُ أن سنَّتَهُ الأولى منسوخةٌ بسنَّتِهِ الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء يُنسَخُ بمثله."[14] فالمراد بها أن السنَّة يُعرَفُ أنها منسوخةٌ بسنَّةٍ تبيِّن نسخَها، لأنه يقول: "لو نُسخَتْ السنَّة بالقرآن كانت للنبيّ ..." وهو كلامٌ صريحٌ في إمكان نسخِ السنَّة بالقرآن، ولكن الناس لا يمكنهم الحكم بذلك إلا بوجود سُنَّةٍ أخرى تُبيِّنُه.

هذا هو موقف الشافعي من نسخ السنة بالقرآن الكريم. وإذا نظرنا في أقوال الأصوليين الذين ذكروا أن مذهب الشافعي عدم نسخ السنة بالقرآن الكريم، نجدهم قد احتجوا عليه بأدلة تقوم على أساسين: أحدهما: الإمكان العقلي لنسخ السنّةُ بالقرآن؛ لأن الكلّ من عند الله تعالى، ولأن القرآن أقوى من السنّة، والأقوى ينسخ الأضعف. وهذا لا حُجّة فيه على الشافعي؛ لأنه هو نفسه يقول بوقوع نسخ السنَّة بالقرآن؛ فهو لا يمنع من الوقوع لا عقلا ولا شرعا، كما سبق بيانه.

الأساس الثاني: الوقوع الشرعي. ومما ذكروه في ذلك: نسخ التوجّه في الصلاة إلى بيت المقدس بالتوجّه إلى الكعبة؛[15] ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان؛[16] ونسخ منع مباشرة الزوجات في ليل شهر رمضان بجواز ذلك؛[17] ونسخ تأخير الصلاة في القتال[18] بصلاة الخوف؛ وغيرها مما ذكروه.[19]

والجواب: أنه حتى مع التسليم بكون جميع ذلك نسخا، فإنه لا تعارض فيه مع ما ذهب إليه الشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل أو أَمَرَ بالعمل بتلك النواسخ، فنشأت بذلك سُنَنٌ تبيِّن وقوع ذلك النسخ. فرأيه -كما سبق تفصيله- هو وقوع نسخ بعض السُّنن بالقرآن الكريم، وجاءت السُّنن التي أحدثها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك النسخ عملاً به لتُبيِّن وقوع ذلك النسخ.

ولا داعي للتفصيل في مناقشة ما استدل به المنكرون على الشافعي؛ لأنها استدلالات قائمة على افتراض قول الشافعي بعدم جواز نسخ السنّة بالقرآن الكريم من حيث الوقوع، وهو خطأ في الفهم عن الشافعي، كما سبق بيانه.

المطلب الثاني: فهم علماء المذهب لرأي الإمام الشافعي في نسخ السنة بالقرآن

اختلف قول علماء الشافعية في موقف إمام مذهبهم من نسخ السنّة بالقرآن؛ فذهب بعضهم إلى أن للشافعي في ذلك قولان: أحدهما: الجواز، والآخر: المنع، قال الزركشي: "وللشافعي فيها قولين: حكاهما القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق وسليم وإمام الحرمين، وصححوا الجواز".[20] وقال ابن السمعاني: "وذكر الشافعي - رضوان الله عليه - في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنَّة بالقرآن لا يجوز. ولعله صرّح بذلك، ولوَّح في موضع آخر بما يدلّ على جوازه. فخرّجه أكثرُ أصحابنا على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز، وهو الأظهر من مذهبه. والآخر: يجوز. وهو الأولى بالحق."[21] وقال الآمدي: "المنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه أنه لا يجوز نسخ السنَّة بالقرآن، ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلا، ووقوعه شرعا".[22]

ومنهم من أطلق المنع، فقد نقل الزركشي عن إبي إسحاق المروزي قوله: "نص الشافعي في الرسالة القديمة والجديدة على أن السنَّة لا تنسخ إلا السنَّة، وأن الكتاب لا ينسخ السنَّة، ولا العكس."[23] و كذلك الغزالي، حيث يقول: "قال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ السنَّة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنَّة."[24]

وذهب ابن السبكي في جمع الجوامع إلى عكس ما سبق، حيث نسب إلى الشافعي القولَ بنسخ السنَّة بالقرآن والقرآن بالسنَّة، ولكن بشرط أنه إذا وُجد نسخٌ للقرآن بالسنَّة وُجِدَ مع ذلك قرآن يعضّد ذلك النسخ، وحيث وُجِد نسخٌ للسنّة بالقرآن وُجِدَ مع ذلك سنّة أخرى تعضّد ذلك النسخ. جاء في متن جمع الجوامع وشرحه للمحلي: "(قال الشافعي) رضي الله عنه (وحيث وقع) نسخ القرآن (بالسنَّة فمعها قرآن) عاضدٌ لها يبيّن توافق الكتاب والسنَّة (أو) نسخ السنَّة بالقرآن (فمعه سنّة عاضدة له تبيّن توافق الكتاب والسنَّة). هذا فهمه المصنِّف من قول الشافعي رضي الله عنه في الرسالة لا ينسخ كتاب الله إلا كتابُه ثم قال وهكذا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنّته ...إلخ."[25]

والواقع أن كل هذه الاتجاهات الثلاثة ينقصها التحقيق والدقة؛ فالشافعي له في المسألة قول واحد لا قولان، وما ظنوه إشارة إلى القولين هو في الواقع تفصيل في المسألة كما سيأتي بيانه، كما أن الشافعي لم يمنع وقوع نسخ السنَّة بالقرآن كما ظنَّه من جزم بذلك. أما ما ذهب إليه ابن السبكي فهو ظاهر المخالفة لمذهب الشافعي، خاصة فيما يتعلق بنسخ القرآن بالسنَّة.

المطلب الثالث: موقف علماء المذهب من رأي الشافعي

كما اختلف علماء المذهب في تحديد حقيقة رأي الشافعي في نسخ السنَّة بالقرآن، اختلف موقفهم من رأيه في ذلك. فقد ذهب الكثير من علماء المذهب إلى مخالفته، ونصروا القول بجواز نسخ السنَّة بالقرآن. قال ابن السمعاني بعد مناقشةٍ لأدلة المعترضين على مذهب الشافعي: "واعلم أن المسألة مشكلة جدا، وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى اختيار مذهبهم ]أي مذهب المخالفين للشافعي[ في المسألة."[26]

وقد جزم بعضهم بتخطئة الشافعي في هذا القول مثل إلكيا الهراسي، حيث نقل عنه الزركشي قوله: "وعُدَّ ذلك من هفواته، وهفوات الكبار على أقدارهم ... والمتغالون في محبّة الشافعي لما رأوا أن هذا القول لا يليق به طلبوا له محامل..."،[27] وممن جزم أيضا بتخطئة الشافعي الجويني، حيث يقول: "لا مَحْمَل لقول القائل: لا تُنْسَخُ السنّةُ بالقرآن."[28] ومن خلال ما سبق بيانه عن حقيقة موقف الشافعي من نسخ السنّة بالقرآن، يتّضح أن هذه التخطئة في غير محلِّها؛ لأنها قامت على الخطأ في إدراك حقيقة موقف الشافعي.

وفي مقابل المخطِّئين للشافعي، نجد آخرين دافعوا عن مذهبه، وأشاروا إلى الخطأ في فهم كلامه، ومن ذلك قول الزركشي بعد أن نقل فقرتين من كلام الشافعي عن نسخ السنَّة بالقرآن: "ومِنْ صَدْرِ هذا الكلام أخذ من قال عن الشافعي أن السنَّة لا تُنسخ بالكتاب، ولو تأملّ عقب كلامه بانَ له غلط هذا الفهم. وإنما مراد الشافعي أن الرسول إذا سنَّ سنّة ثم أنزل الله في كتابه ما ينسخ ذلك الحكم، فلا بد أن يسنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُنَّة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سُنَّتَه الأولى، لتقوم الحجة على الناس في كل حكم بالكتاب والسنَّة جميعا، ولا تكون سُنَّة منفردة تخالف الكتاب، وقوله: ولو أحدث إلى آخره صريح في ذلك، وكذلك ما بعده. والحاصل أن الشافعي يشترط لوقوع نسخ السنَّة بالقرآن سُنَّة معاضدة للكتاب ناسخة، فكأنه يقول: لا تنسخ السنَّة إلا بالكتاب والسنَّة معا، لتقوم الحجة على الناس بالأمرين معا، ولئلا يتوهم متوهم انفراد أحدهما عن الآخر، فإن الكل من الله. والأصوليون لم يقفوا على مراد الشافعي في ذلك."[29]

وقد عرض الزركشي أقوال الأصوليين من الشافعية الذين نبّهوا على حقيقة موقف الشافعي من نسخ السنَّة بالقرآن، والأساس الذي بنى عليه ذلك، ولم يقعوا في التعميم الذي وقع فيه غيرهم. ومنهم أبو إسحاق المروزي الذي يقول: "نصّ الشافعي في موضع آخر على أن الله ينسخ سُنَّة رسوله، غير أن قوله لم يختلف في أن الله إذا نسخ ذلك لم يكن بدّ من أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّة تبيِّن أن سُنَّتَه الأولى منسوخة، إما بالسنَّة أو بكتاب الله، لأن المنع من إجازة نسخ الله سُنَّة نبيِّه لئلا يختلط البيان بالنسخ، فتخرج السنن من أيدينا، فإذا انضم إلى السنَّة الأولى وإلى القرآن الذي أتى برفعه سُنَّة أخرى تبيِّن أن السنَّة الأولى منسوخة، فقد زال ما يُخوِّف من اختلاط البيان بالنسخ، ولا يبالى بعد ذلك أيهما الناسخ للحكم الأول: الكتاب للسنّة، أو السنَّة للسنّة، وليس في أيدينا دليل واضح على أنه لا ينسخ الكتاب السنَّة، كما أن السنَّة لا تنسخ القرآن ... وهذا الذي احتج به الشافعي بيِّنٌ لمن تدبره، وذلك أن الله قال لنبيه: (لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: 44) فإذا كانت هذه الآية محتملة للخصوص، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، فهو بيان منه لها، فإذا جعلت ناسخة له فقد أدى ذلك إلى إبطال الوضع الذي وضع الله له نبيَّه من الإبانة عن معنى الكتاب."[30]

وقد كان أبو بكر الصيرفي أفضل من بيَّن موقف الإمام الشافعي من نسخ السنَّة بالقرآن، حيث قال: "...أحال أن تكون السنَّة تأتي برفع القرآن الثابت على ما بيَّنا من قيام الأدلة، وأجاز أن يأتي القرآن برفع السنَّة، بل قد وجده، ثم قرنه بأنه لابد من سُنّة معه تبيِّن أنه أزال الحكم، لئلا يجوز أن يجعل عموم القرآن مزيلا لما بيّنه من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، لوهم أن يتوهم أن قوله فاغلسوا أرجكم مزيل لحكم مسح الخفين ..." وقال تعليقا على كلام الشافعي في صلاة الخوف: "... يعني أن الله عز وجل رفع الحكم بالآية، ففعَلَ ]أي الرسول صلى الله عليه وسلم[ هذه السنَّة، لأن الرافع هو القرآن والسنَّة هي المثبتة أن القرآن قد رفع حُكْمَ مَا سَنَّه، وبيانا للأمة. ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الحكم قد زال بما أمر، وصار هو الفرض يفعله امتثالا للمفروض عليه وعلى أمته، وبيانا للأمة أنه قد أزيل ما سنَّه، فيعلم بسُنّته الثانية أن الله قد أزال سُنَّته الأولى لما وصفت من احتمال ترتيب الآية على السنَّة، لئلا يشكل ذلك في الترتيب والفرض."[31]

المطلب الرابع: سبب الاضطراب في فهم رأي الشافعي

يعود سبب الاضطراب في فهم رأي الإمام الشافعي، خاصة لدى المتأخرين، إلى أن الأصوليين لا يفرِّقون عادة عند الحديث عن النسخ بين مسألتين: إحداهما: حُصُولُ النسخ في الواقع، أي تغيير حُكمٍ من الأحكام في زمن التشريع، وهو زمن النبوّة. والثانية: حُكمُ العلماء فيما بعدُ على سنَّة من السُّنَن أنها منسوخة بنصّ من القرآن الكريم، أو حكمُهم بأن آية من القرآن الكريم منسوخة بآية أخرى أو بسنّة من السُّنن، وهذه الأحكام في كثير من الأحيان تكون اجتهادية، وهي تقوم على افتراض التعارض وعدم إمكان الجمع أو الترجيح. وعدم التفريق بين المسألتين هو الذي أوقع في الالتباس في فهم موقف الإمام الشافعي من نسخ السنَّة بالقرآن، كما أنه أوقع خلطا في مسألة النسخ بأخبار الآحاد. فالشافعي لا يُنكر وقوع نسخ السنّة بالقرآن الكريم، لكنه يُنكر ادعاء وقوع ذلك النسخ دون وجود دليل من السنّة النبوية يثبته.

المبحث الثاني: نسخ القرآن بالسنَّة

صرح الشافعي بما لا يدع مجالا للشك بأن السنَّة لا تنسخ القرآن، وإنما يُنسخ القرآن بالقرآن، واتفق الناقلون عنه على ذلك، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك هل ذلك المنع بالعقل أم بالشرع، فنسب بعضهم إلى الشافعي أنه منع منه العقل والشرع، ونسب إليه بعضهم أنه إنما منع منه الشرع.[32] وقد وافق الإمام أحمد في رواية عنه الشافعي في القول بأن السنّة لا تنسخ القرآن، وهي الرواية التي نصرها أبو يعلى الفراء في كتاب العُدّة.[33]

ويقوم استدلال الشافعي لمذهبه على أساسين: أحدهما: أصل العلاقة بين القرآن والسنَّة، والثاني: آيات من القرآن الكريم.

الأساس الأول
: كون السنَّة تابعة للقرآن الكريم ومبيِّنَة له. وما دامت السنَّة تَبَعٌ للكتاب فهي تأتي بمثل ما ورد في القرآن نصًّا عند تبليغ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جاء به القرآن، أو عند عمله به، وتأتي بما يُفسِّر ما ورد في القرآن مجمَلا عند بيان المجمَل. فالسنَّة في مضمونها تابعةٌ للقرآن الكريم، وما يكون تبعا للكتاب وبيانًا له لا يمكن أن يقوم بنسخه. كما أن السنَّة بيان للقرآن الكريم، والبيان لا يكون بالتبديل والرفع، فإذا صارت السنَّة ناسخة للقرآن تصير كأنها خرجت عن وظيفة البيان. هذا فضلا عن أن القول بالنسخ – كما هو معلوم - لا يكون إلا في حال وجود التعارض الحقيقي وعدم إمكان الجمع، والقول بنسخ السنَّة للقرآن يعني ضمنا أن بينهما تعارضا، وهو ما ينفيه الشافعي في مواضع متعددة، منها قوله: "وأولى أن لا يشك عالم في لزومها ]السنَّة النبوية[، وأن يعلم أن أحكام الله ثم أحكام رسوله لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد."[34]

وقد ناقش المخالفون للشافعي مذهبه بأدلة تدور حول ثلاثة أمور: أحدها الإمكان العقلي، والثاني: التناسب في طريق الثبوت، والثالث: الوقوع.

أما الإمكان العقلي فخلاصته أن السنّة وحيٌ غير متلوّ، ولا يمتنع أن يكون الوحي غيرُ المتلوّ ناسخا للوحي المتلوّ؛ لأن الكلّ من عند الله تعالى. يقول الغزالي: "يجوز نسخ القرآن بالسنَّة والسنَّة بالقرآن؛ لأن الكل من عند الله عز وجل، فما المانع منه؟ ولم يعتبر التجانس، مع أن العقل لا يحيله."[35]

والواقع أن هذا الاستدلال لا يتوجَّه على رأي الشافعي؛ لأنه من المعلوم أن الاحتمال العقلي لا يقتضي الوقوع الشرعي، فليس كل ما هو ممكن عقلا واقعٌ شرعا. هذا فضلا عن أن الشافعي لم يتطرق لمسألة الجواز والمنع عقلا.

وأما التناسب في طريق الثبوت فخلاصته أن السنَّة المتواترة في مرتبة القرآن من حيث الثبوت فلا يمتنع كونها ناسخة له.

والواقع أن مسألة التكافؤ في الثبوت، من حيث التواتر، خارجة عن محلّ الاستدلال؛ لأن الشافعي يقول بأنه ليس للنبيّ صلى الله عليه وسلم أصلا سُلطة نسخ القرآن الكريم، ويكون من باب أولى عدم صحّة دعوى العلماء بعد زمن النبوّة نسخ آية من القرآن الكريم بسنّة من السُّنن. وبناء على ذلك يكون التفريق بين التواتر والآحاد، وما يفيده الأول من قطع والثاني من ظنّ، لا فائدة له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأننا إذا قلنا إنه لا سُلطة للنبي صلى الله عليه وسلم في نسخ أحكام القرآن ارتفعت مسألة التواتر والآحاد من أصلها. وحتى إذا قلنا بأن له سُلطة نسخ أحكام القرآن فلا عبرة في زمنه لمسألة التواتر والآحاد؛ لأن الصحابة كانوا إما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وهذا يفيد قطعية الثبوت لديهم، أو يتناقل الصحابة كلامَه صلى الله عليه وسلم بينهم، وهم كلهم عدول لم يكن أحدُهم يشكُّ فيما ينقله غيره، ولذلك تحوّل الصحابة في مسجد قباء من التوجُّه إلى بيت المقدس إلى التوجُّه إلى الكعبة بناء على خبر آحاد، وعدُّوا ذلك قاطعا، ولم يُثِرْ أحدٌ منهم مسألة الآحاد والتواتر. وحتى القرآن الكريم كان يُتَنَاقل بينهم بالآحاد، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُرسل رُسُله لتعليم الناس أمور دينهم، ومنها القرآن الكريم، وكانوا أفرادا، ولم يقل أحدٌ إن هذا القرآن نقلُ آحادٍ فلا يفيد عندي القطع. فوقوع النسخ في عصر النبوة لا دخل فيه لمسألة التواتر والآحاد، وإنما تدخل مسألة الآحاد والتواتر في الحكم بالنسخ فيما بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يكونُ محل ٌّلمسألة الثبوت في صحة ما يُدَّعى أنه ناسخٌ، وهل يكافئُ في قوة الثبوت ما يُدَّعى أنه منسوخ أم لا؟

أما مسألة الوقوع، فقد اعترضوا على رأي الشافعي بأنه قد وقع فعلا نسخ القرآن بالسنَّة. وأهم ما استدلوا به على وقوع نسخ القرآن بالسنَّة آية الوصية: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180)، التي يرون أنها نُسِخَتْ بالسنَّة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث".[36] وقد نقل ابن فورك عن أبي الحسن الأشعري قوله: "لا يجوز أن يُقال إنّها نُسِخَت بآية المواريث، لأنه يمكن أن يُجمَع بينهما."[37] وهذا ليس حجة على الإمام الشافعي لأنه لا يرى في ذلك نسخا، بل قد صرّح بأن الناسخ هو آيةُ المواريث وأنّ الحديث إنما جاء بيانًا من النبي صلى الله عليه وسلم لذلك النسخ.[38]

الأساس الثاني
: أما الأساس الثاني الذي استند إليه الشافعي فهو آيات من القرآن الكريم يرى أنها تدل على نفي نسخ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، وهي:
1ـ قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) (يونس: 15)، فقال معلِّقا على الآية: "فأخبر الله أنه فَرَضَ على نبيِّه اتِّباعَ ما يُوحَى إليه، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه. وفي قوله: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) بيانُ ما وصفتُ، من أنه لا يَنْسَخُ كتابَ الله إلا كتابُه. كما كان المبتدئ لفرضه، فهو المزيل المثبت لما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه."[39]

وقد ناقش الغزالي هذا الدليل بأنه في غير محل الاستدلال، فقال: "... على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن، فقال: لا أقدر عليه من تلقاء نفسي، وما طالبوه بحكم غير ذلك، فأين هذا من نسخ القرآن بالسنَّة وامتناعه."[40]

وهو اعتراض وجيه؛ لأن الآية لا تتحدث صراحة عن النسخ، فالنسخ هو استبدال بعض الأحكام الشرعية بأحكام أخرى، وهم إنما طالبوه بالإتيان بقرآن آخر غير الذي أنزل عليه من الله تعالى، أو تبديله، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجرد متبع لما يوحى إليه. وعلى الرغم من أن التبديل يشترك في المعنى مع النسخ إلا أنه لا يستلزمه.

2ـ قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106)، فقال معلِّقا على الآية: "فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلى بقرآن مثله".[41] وقال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101).

وقد ناقش الغزالي هذا الدليل بقوله: "قد حققنا أن الناسخ هو الله تعالى، وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه، ولا يقدر عليه غيره."[42]

3ـ قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد: 39). فقال: "وقيل في قوله (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ): يمحو فرض ما يشاء، ويثبت فرض ما يشاء. وهذا يُشْبِهُ ما قيل. والله أعلم."[43]

والخلاصة أن ما استدلّ به الإمام الشافعي من الآيات على منع نسخ القرآن بالسنَّة لا تنهض أن تكون نصوصا صريحة في الاستدلال على ذلك المنع، فهي محلّ أخذ وردّ، وبناء عليه لا يُسلَّم له الاستدلال بتلك النصوص. ولكن الأساس الذي استند إليه الشافعي في العلاقة بين القرآن والسنّة وطبيعة البيان في غاية الوجاهة، فالسنَّة بيانٌ للقرآن الكريم من جهة تفصيل أحكامه وبيان كيفية تطبيقها، ويَبْعُد أن تأتي بنسخه.

ونكتة مسألة ادعاء وقوع نسخ القرآن بالسنَّة أو منعه، أن الإمام الشافعي أعطى للسنّة بدلاً من وظيفة النسخ وظيفةً أخرى، هي بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم، وهي جزء من وظيفة البيان التي جاءت السنَّة من أجلها. فالطريق إلى معرفة النسخ في القرآن - عند الشافعي - قد يُستفاد بشكل مباشر من القرآن، وقد يُستعَان على معرفته بالسنَّة النبوية. ومثال ذلك ما ورد في صلاة الليل. قال الشافعي: "مما نقل بعض من سمعت منه من أهل العلم أن الله أنزل في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 1-4)، ثم نسخ هذا في السورة معه، فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) (المزمل: 20)". فكان قوله تعالى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" ناسخا للآيات السابقة التي أمرت بقيام نصف الليل أو قريب منه. ثم بعد ذلك احتمل قوله تعالى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" معنيين: أحدهما: أن يكون فرضا ثابتا لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر: أن يكون فرضا نُسِخَ فيما بعد بقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء: 79). ولكن هذه الآية تحتمل أن يكون معناها أن يكون التهجُّد بشيء زائد على الفرض الذي من قيام الليل في قوله تعالى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ". فكان الواجبُ طلبُ الاستدلال بالسنَّة على الراجح من المعنيين. فوجدنا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على ألاّ واجب من الصلاة إلا الصلوات الخمس، فدلّ ذلك على أن ما غير الخمس من الصلوات الواجبة منسوخ، وأن آية (الإسراء: 79) ناسخة لآية (المزمل: 20).[44]

ومثاله أيضا آية الوصية (سورة البقرة: 180)، حيث إنها نسخت بآيات المواريث التي حددت لكل وارث نصيبه، وبذلك التحديد لم تعد هناك حاجة إلى أن يوصي الميت للورثة، لأن الوصية للورثة إنما كانت مشروعية قبل تحديد أنصبتهم من الإرث، فكان الأمر متروكا لصاحب الثروة يوزعها بين والديه والأقربين بالمعروف. أما الحديث فجاء بيانا لوقوع ذلك النسخ، وهو خلاف ما ذهب إليه بعض العلماء من المسارعة إلى ادعاء نسخ الحديث لتلك الآية.

الخاتمة

خلاصة البحث أن الإمام الشافعي له رأيٌ واحدٌ في نسخ السنّة بالقرآن الكريم، وهو أن القرآن قد يرد بنسخ سنّة من سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند ورود القرآن بنسخ تلك السنَّة يعملُ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك الناسخ أو يأمر بالعمل به، فتنشأ بذلك سنَّة تبيِّن ذلك النسخ وترشد إليه. فالشافعي يقرُّ بوقوع نسخ السنَّة بالقرآن في زمن النبوة، ولكن بعد زمن النبوة لا يقبل من أحد ادعاء نسخ سنّة من السُّنن بآية من القرآن الكريم إلا إذا وُجِدت سنَّة تدلّ على ذلك النسخ وترشد إليه، فإن لم يوجد من السنَّة ما يدلّ على ذلك الادعاء بالنسخ، لا يقبل ذلك الادعاء، ويُبحث عن طريق للجمع بين الآية والحديث. ومذهب الشافعي هو الذي يؤيِّدُه الواقع، وهو المسلك السليم في وجه التوسُّع غير المحمود في دعاوى النسخ. أما فيما يتعلق بموقفه من نسخ القرآن بالسنَّة فرأيُه مخالفٌ لجمهور من جاء بعده من الأصوليين لأنه بنى موضوع النسخ على أساس مخالف للأساس الذي بنوا عليه، حيث اتخذ المنطق الذي يحكم البيان أساسا لموضوع النسخ، في حين كان اعتمادهم على الإمكان العقلي والتكافؤ في قوة الثبوت. والفرق بين موقف الشافعي وموقف من خالفه من الأصوليين هو الواقع فرق بين المنهجين المتّبعين في دراسة أصول الفقه، فالشافعي يتحدث عن النسخ كما وقع في عصر التشريع، ولا يتعرض للاحتمالات النظرية في النسخ، أما المخالفون له من الأصوليين فإنهم بحكم التوسُّع الكبير الذي أحدثوه في الدراسات الأصولية، تجد جزءا كبيرا من حديثهم في النسخ قائم على الاحتمالات النظرية التي قد لا يكون لها وجود في الواقع.

قائمة المراجع
أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء، العدة في أصول الفقه، تحقيق أحمد بن علي سير المباركي (د. م: د. ن، ط3، 1414هـ/ 1993م).
أحمد بن محمد بن حنبل، مسند أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، بيروت: مؤسسة الرسالة (1421هـ/ 2001م).
البخاري محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مع شرحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار المعرفة (1379هـ).
بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ط2، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (1413ه/ 1992م).
جلال الدين المحلي، شرح المحلي على جمع الجوامع، مطبوع مع حاشية العطار وتقرير الشربيني، بيروت: دار الكتب العلمية (د. ت).
عبد الملك بن عبد الله الجويني، البرهان في أصول الفقه، تعليق صلاح بن محمد بن عويضة، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية (1418هـ/ 1997م).
علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع (1424ه/ 2003م).
محمد أبو زهرة، الشافعي: حياته وعصره – آراؤه وفقهه، القاهرة: دار الفكر العربي (1978م).
محمد الخضري، أصول الفقه، ط6، مصر: المكتبة التجارية (1389هـ/ 1969م)
محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر بيروت: المكتبة العلمية (د. ت).
محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تصحيح نجوى ضو، ط1، بيروت: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع (د. ت).
محمد زكريا البرديسي، أصول الفقه، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع (د. ت.)
مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، مصر/ المنصورة: دار ابن رجب (1430هـ).
منصور بن محمد السمعاني، قواطع الأدلة في أصول الفقه، تحقيق عبد الله حافظ أحمد الحكمي، وعلي بن عباس بن عثمان الحكمي، ط1، المملكة العربية السعودية: مكتبة التوبة (1419هـ/ 1998م).
نادية شريف العمري، النسخ في دراسات الأصوليين، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة (1405هـ/ 1985م)
وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، ط1، دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1406ه/ 1986م).



[1] من ذلك مثلا ما جاء في كتاب أصول الفقه لوهبة الزحيلي حيث أطلق القول: "اختلف الأصوليون في نسخ السنة بالقرآن، فأجازه جمهور العلماء منهم الظاهرية، ومنعه الشافعي ... وقال الشافعي لا يجوز نسخ السنة بالقرآن." وهبة الزحيلي، أصول الفقه، 2/ 969-970 (1986). وجاء في كتاب أصول الفقه لمحمد زكريا البرديسي: "أما نسخ السنة بالقرآن فالمنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قولين أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، وذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء إلى الجواز عقلا والوقوع شرعا." محمد زكريا البرديسي، أصول الفقه، ص432. وجاء في كتاب النسخ في دراسات الأصوليين: "إن هذا النوع من النسخ (أي نسخ السنة بالقرآن) أجازه كل من أجاز نسخ الكتاب بالسنة، وقد أشار إليه الإمام الشافعي، ويؤخذ من صريح كلامه المنع." نادية شريف العمري، النسخ في دراسات الأصوليين، ص441 (1405هـ/ 1985م). وجاء في كتاب أصول الفقه للخضري: "جواز نسخ السنة بالقرآن قال به الجمهور، ومنعه الشافعي." محمد الخضري، أصول الفقه، ص261 (1389هـ/ 1969م).

[2] مثل كتاب: النسخ في القرآن الكريم للدكتور مصطفى زيد؛ وكتاب: النسخ في دراسات الأصوليين للدكتورة نادية شريف العمري؛ وكتاب: النسخ عند الأصوليين للدكتور علي جمعة.

[3] محمد أبو زهرة، الشافعي: حياته وعصره – آراؤه وفقهه، 266 (1978م) .

[4] محمد بن أدريس الشافعي، الرسالة، 111 (د. ت).

[5] المرجع نفسه، ص 113.

[6] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 184 (د. ت).

[7] المرجع نفسه، ص221-222.

[8] المرجع نفسه، ص108.

[9] المرجع نفسه، ص220-221.

[10] المرجع نفسه، ص111.

[11] أي " كان سببا لترك كل ما ورد من السنَّة التي تبين المجمل مما جاء في الكتاب، وتحتمل أن توافقه، فيأتي هذا المشكك ويعقد خلافا بين السنَّة وبين الكتاب، ويضرب بعض ذلك ببعض، ويرد بيان السنَّة بعام الكتاب ومجمله، ويزعم أنها مخالفة له." تعليق أحمد شاكر على الرسالة، هامش رقم: 8، ص112.

[12] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 112-113 (د. ت).

[13] المرجع نفسه، ص222-223.

[14] المرجع نفسه، ص110.

[15] أخرج البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب ولكل وجهة هو موليها، حديث رقم: 4492. ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، حديث رقم: 525. من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفه نحو القبلة".

[16] أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، حديث رقم: 2001. من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر". وبنحوه أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: 1125.

[17] أخرج البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، حديث رقم: 4508. من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم. فأنزل الله {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} [البقرة: 187].

[18] أخرج أحمد في المسند ج18، ص45، حديث 11465، طبعة الرسالة، من حديث أبي سعيد الخدري قال: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] قَالَ: «فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا، فَأَقَامَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا، وَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ، فَصَلَّاهَا وَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ» ، قَالَ: وَذَلِكُمْ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ {فَرِجَالًا، أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. وإسناده صحيح. وأصل قصة تأخير الصلاة يوم الخندق أخرجها البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب وفيها تأخير صلاة العصر فقط.

[19] انظر تفصيل ذلك في: أبو حامد الغزالي، المستصفى، ج1، ص123؛ علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/185-187 (2003م).

[20] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، 4/118 (1992م).

[21] منصور بن محمد السمعاني، قواطع الأدلة، 3/176-177 (1998م).

[22] علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/185 (2003م).

[23] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، 4/118 (1992م).

[24] أبو حامد الغزالي، المستصفى، 1/123 (د. ت).

[25] جلال الدين المحلي، شرح المحلي على جمع الجوامع، 2/112-113 (د. ت).

[26] منصور بن محمد السمعاني، قواطع الأدلة، 3/172-173 (1998م).

[27] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، 4/118-119 (1992م).

[28] عبد الملك بن عبد الله الجويني، البرهان في أصول الفقه، 2/254 (1997م).

[29] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، 4/120 (1992م).

[30] المرجع نفسه، 4/123-124.

[31] المرجع نفسه، 4/122.

[32] انظر: بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، 4/110-114 (1992م)؛ منصور بن محمد السمعاني، قواطع الأدلة، 3/161-162 (1998م).

[33] جاء في كتاب العدة: "لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعا، ولم يوجد ذلك. نص عليه رحمه الله في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث. وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن قرآن يجيء بعده، والسنة تفسِّر القرآن." أبو يعلى الفراء، العدة في أصول الفقه، ج2، ص788-789.
وقد نسب الآمدي القول بعدم جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة إلى أكثر أصحاب الشافعي، وأكثر أهل الظاهر. انظر: الآمدي، الإحكام، ج3، ص189.

[34] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 173 (د. ت).

[35] أبو حامد الغزالي، المستصفى، 1/123 (د. ت)؛ وانظر تقرير الآمدي لهذا الاستدلال في: علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/185 (2003م).

[36] أخرج الترمذي عن أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ." سنن الترمذي، أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث. وفي سنن ابن ماجه: " " إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ." سنن ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث.

[37] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، 4/109-110(1992م).

[38] ومما يؤيد مذهب الشافعي أن هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ المالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ». صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث.

[39] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 107 (د. ت).

[40] أبو حامد الغزالي، المستصفى، 1/124 (د. ت).

[41] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 108 (د. ت).

[42] أبو حامد الغزالي، المستصفى، 1/124 (د. ت).

[43] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 107 (د. ت).

[44] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، 113-116 (د. ت).
 

المرفقات

  • موقف الإمام الش&#1.pdf
    1.4 MB · المشاهدات: 7
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: تحرير رأي الإمام الشافعي في النسخ بين القرآن والسنة

جزاكم الله خيراً
نحتاج مزيداً من ابحاث في النسخ تضبط الخلاف بين العلماء وتخرج بنتائج يمكننا اعتمادها
فما زال هذا الموضوع مثيراً للجدل
 
التعديل الأخير:

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
رد: تحرير رأي الإمام الشافعي في النسخ بين القرآن والسنة

نحتاج مزيداً من ابحاث في النسخ تضبط الخلاف بين العلماء وتخرج بنتائج يمكننا اعتمادها
فما زال هذا الموضوع مثيراً للجدل
نعم، موضوع النسخ يحتاج إلى تحرير من حيث الاصطلاح ومن حيث المضمون. وفي البال نية للإسهام في ذلك، أسأل الله تعالى التيسير
 
أعلى