العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ (ج1)-مقالي الجديد على موقع نماء للدراسات والبحوث

إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ (الجزء الأول)

4/29/2012
drasah01.JPG
تقديم:
انقدح هذا الموضوع في ذهني أثناء حضوري بمدينة الرباط أشغال الورشة التي نظمها المركز العالمي للتجديد والترشيد الذي يرأسه فضيلة العلامة الشيخ الدكتور عبد الله بن بيه حفظه الله، بتعاون مع المركز العالمي للوسطية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية الشريفة، والتي كانت تحت عنوان " الاجتهاد بتحقيق المناط: الواقع والتوقع".
فأثناء مناقشة الورقات والعروض المقدمة، تدخل الوزير الموريتاني السابق الشيخ إسلمو ولد سيد المصطف، وكان من بين ما قاله:" إن بعض المداخلات قد تغضب الأصوليين لأنها جعلت تحقيق المناط يزحف على كثير من آليات استنطاق الأحكام الشرعية، بحيث أصبحت هذه الآليات مندرجة تحته وذلك كالاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وغيرها...".
وقد أثارت عندي هذه الالتفاتة إشكالا تضمنه عنوان هذا المقال الذي لن أخوض فيه غمار البحث الأصولي الصرف، وإنما سيكون تناولي له متسما بالطرح المقصدي، ولست أدعي أني سأبدع ما لم أسبق إليه، لكني ألقي هذا الإشكال في ساحة البحث العلمي لعل يدا كريمة تتلقفه وتجعل منه مادة لبحث علمي رصين.
إن موضوع تحقيق المناط ليس موضوعا جديدا على مجال البحث العلمي، بل إن كثيرا من الباحثين تناولوه بالبحث والتفصيل في مؤلفات أو دراسات جامعية أو مقالات في دوريات ومجلات علمية محكمة أذكر منها تمثيلا لا حصرا مؤلف الأستاذ عبد الرحمن زايدي الموسوم ب: " الاجتهاد بتحقيق المناط وسلطانه في الفقه الإسلامي"(#)، وبحث الدكتور عبد الرحمن الكيلاني المعنون ب:" تحقيق المناط عند الأصوليين وأثره في اختلاف الفقهاء"(1)، وبحث الأستاذ عصام صبحي صالح شرير الذي عنونه ب:" تحقيق المناط وأثره في اختلاف الفقهاء"(#)، وبحث الدكتور صالح بن عبد العزيز العقيل المسمى: تحقيق المناط"#، وأخيرا العلامة الشيخ الدكتور عبد الله بن بيه في ورقته التأطيرية لورشة الاجتهاد بتحقيق المناط: فقه الواقع والتوقع"(#).
1ـ إشكالية الموضوع:
كما سبق ذكره، تقوم إشكالية البحث على استبيان حجم تحقيق المناط كقاعدة ضمن دوائر الاجتهاد سواء منها الفقهي أو الأصولي أو المقصدي، إذ إنه لما كان تحقيق المناط من صميم عمل المجتهدين فإن حجم إعماله يبقى محل إشكال، خاصة ضمن دعوات التجديد في مناهج الاجتهاد، وضمن إطار الأزمة الفقهية التي تشهدها الأمة، وبالنظر إلى فتور العلاقة بين مكونات المجتمع الإسلامي أفرادا وجماعات ومؤسسات، وبين الجهات القائمة على الفتوى والاجتهاد أفرادا ومؤسسات كذلك، أخذا في الحسبان التوسع الكبير لمجالات المعرفة والعلوم الإنسانية والتي لا بد أن تخضع لمعيار الأسلمة تفعيلا لمبدأ حيوة الشريعة.
من هذا المنطلق تكون للالتفاتة النبيهة للشيخ إسلمو وجاهتها، حيث يجب تحديد المساحة التي يحتلها تحقيق المناط في العملية الاجتهادية ضمن دائرتين متقاطعتين: دائرة الواقع، ودائرة المتوقع، فهل تحقيق المناط تابع أم متبوع؟
2ـ تحقيق المناط:
من المعلوم أن تحقيق المناط ارتبط في الدرس الأصولي بمبحثين رئيسيين: أولهما: مبحث القياس، وذلك عند تناول العلة ومسالكها كما هو عند عامة الأصوليين، وثانيهما: بمبحث الاجتهاد ومجالاته كما هو عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والإمام الشاطبي رحمه الله على وجه أخص، غير أنه ليس من اهتمامات هذا المقال الحديث عن تحقيق المناط بمعناه الأصولي الضيق، وإنما القصد هو ما يمكن تسميته بفقه تطبيق النص الذي يعتمد استظهار الأوصاف المؤثرة والأحوال المعاشة المقتضية لتطبيق الحكم الشرعي(#)، هذا الاستظهار القائم على المعرفة الجيدة بالواقع ومكوناته، وبالأشياء وأوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها(#).
ولقد خص الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات تحقيق المناط بمساحة كبيرة، مقررا أن معناه هو :" أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في محله"(#)، وهذا التعريف هو بخلاف تعريفات الأصوليين من حيث المشمولات وما يصدق عليه، إذ يخصه الشاطبي رحمه الله بديمومة الشريعة واستمراريتها، بحيث إنه لا ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف(#).
إن هذا النوع من الفقه يقوم على أساس الموافقة بين الحكم الشرعي العام وبين الأبعاد الاقتضائية المشخصة في الواقع(#) عن طريق سبر الوقائع واستظهارها لتنزيل الحكم الشرعي عليها من خلال الاقتضاء الأصلي والاقتضاء التبعي كما يقول الشاطبي(#)، وهو عمل يقوم به المجتهد أو المفتي نابع من كون تحقيق المناط ضابطا لتطبيق الأحكام وتكييف النوازل وتصورها تصورا كاملا، وتحرير الأصل الذي تنبني عليه.
لقد كان الإمام الغزالي رحمه الله من أكثر العلماء الذين عنوا بمبدأ تحقيق المناط في كتابيه: " المستصفى في علم الأصول" و"أساس القياس"، وبعيدا عن التفصيلات الأصولية خلص أبو حامد رحمه الله إلى أن تحقيق المناط هو ضرورة لكل شريعة(#)، وهذا التعبير يدل على تصور حقيقي لمعنى تحقيق المناط، وهو تصور ناتج عن التكامل المنهجي عند السابقين من الأصوليين، وهو نظر امتازت فيه الجزئيات إلى بعضها بحسب طبيعتها، ثم تكاملت لتحقيق كليات هدفها استدامة صلاح الكون باستدامة صلاح المهيمن عليه وهو الإنسان(#)، واستدامة هذا الصلاح لا يكون إلا باعتبار المقاصد الكلية أو العامة والحكم والمعاني والغايات التي أرادها الشارع من وراء تشريعه الأحكام، وكذلك باعتبار المقاصد الجزئية التي هي الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكام الشريعة(#).
لقد تمكن الفكر الاجتهادي الإسلامي من تحديد أدلة استنباط الأحكام، فأنتج العقل المسلم المصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والاستصحاب والعرف، وهي أصول في بابها ومناهج في استدلالاتها(#) وهي آليات عملية كانت مستند العلماء في استثمار كليات الفقه وانطباقها على جزئيات الوقائع بين الناس(#)، وهو عمل لا يزال صعب المورد وإن كان محمود الغب كما يقول الشاطبي رحمه الله(#).
إن الشاطبي رحمه الله حين أدرك صعوبة فقه التنزيل، نذر نفسه للتأصيل له تأصيلا دقيقا والتقعيد لقواعده التي تسري في كل حياة الناس بجميع معطياتها الزمانية والمكانية، وبحيثياتها التشخيصية التي تجعلها منفعلة بالمبدأ الشرعي المجرد(#) الذي لا يمكن أن يطبق كما هو تطبيقا آليا لكون الشريعة "لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره، ولو في نفس التعيين"(#).
هذه الخصوصية هي الداعية إلى تحقيق المناط، خاصة فيما يتعلق بالشق الثاني من أنواع تحقيق المناط(#)، وهو تحقيق المناط الخاص الذي يعنى بتوصيف الجزئيات وتدقيقها وإلحاقها بالكليات التي تندرج تحتها، وبتعبير أدق: تحقيق المناط هو شبكة الأمان التي تضمن تحقيق المصلحة المنشودة عند تطبيق الأحكام الشرعية التي لا يمكن للناظر في أمر الخلق أن يستغني عنها في نظره(#)، لأنه على أساس الغائية المتمثلة في رعاية التشريع الأطر الموضوعية التي وجدت لأجلها الأحكام(#) تتم عملية فهم النصوص وفهم الواقع، وبتأطير هذا الفهم يكون إعداد الأحكام الشرعية حتى تكون قابلة للتنزل على الواقع والفعل الإيجابي فيه، وعلى ضوئه تتحدد كيفية تنزيل الأحكام والوسائل التي ينبغي التذرع بها في عملية التنزيل(#).
هذه هي أهمية تحقيق المناط في الكشف عن النوازل، وذلك باعتباره المقدمة النظرية التي تقابل المقدمة النقلية ( النص)(#)، والتي هي داخلة فيما يسمى اليوم بفقه الواقع، وعليها يقع أغلب النظر وتحتكم في الغالب إلى الواقع وأهل الخبرات الدنيوية والعرفية لا إلى النصوص ومقتضياتها(#).
فإذا كان لتحقيق المناط هذه الأهمية في الملاءمة بين كلي الزمان وكلي الشريعة(#)، فإن الحديث عنه يستلزم حذرا كبيرا كالحذر اللازم أثناء العمل به، وذلك حتى لا ينخرم مقصد العدل الذي يحفظ الاتساق الموضوعي بين كليات الشريعة وجزئياتها، لأن الخطأ في فهم هذا الأصل يعود عليه بالإبطال، وخاصة حين يتعلق الأمر بدعاوى التجديد في ظل الأزمة الحضارية والفكرية التي هي الخصومة مع التاريخ ومع العصر.
3ـ تحقيق المناط ودعاوى التجديد:
ظهرت في الواقع المعاصر دعاوى تدعو إلى التجديد في الاجتهاد، ومن بين ما تتضمنه هذه الدعاوى الدعوة إلى التحرر من ربقة التمذهب والمنهج الأصولي القديم(#)، وهي دعوة مضمونها أن الالتزام بالمنهج الأصولي والاجتهادي التقليدي يعيق حركة المجتهد والفقيه، بل حركة الأمة والمجتمع ككل خاصة بعدما أصبح الواقع يزخر بمجالات معرفية جديدة لا علم للفقيه أو الأصولي بها، ومن ثم فإن الواجب هو تغيير نمط الاجتهاد والحد من غلو الشروط الموضوعة في حق من يتصدر له.
فإن كانت هذه الدعاوى غريبة، فإن الأغرب منها أن تقوم في جانب منها على تطبيق المنهج الفقهي والأصولي نفسه، بحيث من الممكن أن يقع الاجتهاد من الخبراء والمختصين في كل المجالات دونما حاجة إلى تأطير من أصولي أو فقيه، دونما اعتبار للقواعد والآليات الاجتهادية وخصوصياتها النظرية والتطبيقية التي تجب مراعاتها أثناء العملية الاجتهادية، ومن بينها تحقيق المناط.
لقد تعددت صور فهم المعتنين بالسيرورة والصيرورة الفقهية والاجتهادية لمفهوم التجديد في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وتوسعوا في هذا الفهم بين مغال في الدعوة إليه، وبين داع إليه وفق الضوابط التي تحددها المقاصد الشرعية والمتمثلة بالأساس في وجوب عدم مناقضة النتائج لمقاصد الشارع الحكيم، وتبعا لهذا الفهم والتصور اختلفت نتائج تطبيقهم لتحقيق المناط وإن بدا في بعض الأحيان أنهم يسلكون المسلك نفسه.
وعلى هذا نجد ـ حسب تصوري ـ أن التعامل مع تحقيق المناط كآلية من آليات تجديد أنماط الاجتهاد هو على عدة مذاهب:
1ـ مذهب جمد على المناطات التي أقرها السابقون ولم يتعدها إلى غيرها، رافضا مفهوم توسيع تطبيق النص الشرعي على مشمولاته، رافضا أي تجديد بدعوى أن هذا يفضي إلى التراجع عن الأحكام والتساهل فيها والتنازل عنها.
2ـ مذهب ذهب إلى تطبيق مناطات أحكام خاصة في الفقه الإسلامي تعلقت بأحداث معينة في السيرة النبوية وتاريخ الإسلامي كمسألة التترس ومسألة الإغارة والتبييت والانغماس في العدو، وتعدوا بها إلى غير محالها، فكانت طريقة تعاملهم مع أحكام الشريعة انتقائية يختارون منها ما يلائم فكرهم وتوجههم.
3ـ مذهب يريد أن يتجرد من كل قديم، وأن يتحرر من كل ضابط مستمسكا في دعواه بتغير الواقع وظروف الحياة وأنماطها ووجوب اللحوق بركب الغرب، ومن ثم فإن المتعين هو تطوير أحكام الشريعة وتطويعها حتى تصبح موافقة لروح العصر.
4ـ مذهب دعا إلى التجديد وحدد منهجه في ذلك، ولم يخرج عن إطار المنهج الأصولي والمقاصدي، حيث دعا إلى التجديد بهما وفيهما، لكنه بالغ في هذه الدعوى حتى خرج عن حد مقصد العدل والتيسير، وكان من بين أدواته تحقيق المناط بنفس معناه الذي حدده شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشاطبي رحمهما الله، وله جهود في التأصيل لهذا المنحى والبرهنة على حجيته وقيمته في العملية الاجتهادية، لكنهم انبتوا وسط الطريق ونفقت ركائبهم حين غلب عليهم الحرص على تطويع الواقع لأحكام الشريعة، فإذا بهم يجدون أنفسهم ـ شاعرين بذلك أو غير شاعرين ـ أسرى للواقع يلوون أعناق النصوص ويكيفونها بحيث تابعة للواقع لا متبوعة، محكومة لا حاكمة، ويتكلفون تقصيد اجتهاداتهم بدعوى المصلحة التي تمسك بها كل من رفع عقيرته داعيا إلى التجديد، غافلين عن أن التجديد إن كان ضرورة ـ وهو ضرورة فعلاـ فهو واقع في المناهج لا في المصالح، وهجيراهم في دعواهم تلك أنهم امتثلوا ما أمروا به، وطبقوا ما عرفوا من أحكام وفهموا من تكاليف(#).
5ـ مذهب أدرك حقيقة النسق الكلي للتشريع المتمثل في التلازم بين مرحلة الفهم وبين مرحلة التطبيق، حيث لا يقدمون على الحكم على الوقائع إلا بعد أن يتأكدوا حسب الميسور لهم من سلامة المسلك من مرحلة التلقي غلى مرحلة التطبيق، إذ هم على وعي تام بأن الخطأ في مرحلة الفهم هو خطأ في التلقي، أما الخطأ في التطبيق فهو خطا في المنهج(#)، وطبعا هذا الخطأ يتفصى عنه مناقضة قصد الشارع، وكما قال العز بن عبد السلام:" كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل"(#)، ومن ثم فإن الأمر إن استدعى إعادة نظر في المناطات ومراجعتها، فإن هذه المراجعة كما يقول شيخنا العلامة عبد الله بن بيه حفظه الله لن تكون أبدا مرادفة للتراجع، ولا يمكن أن يحل التساهل مكان التسهيل، ولا أن يقوم التنازل مقام التنزيل(#).
4ـ تحقيق المناط وآليات الاجتهاد في الواقع والنظر إلى المتوقع:
يقول الدكتور اسماعيل الحسني:" المقصد المطلوب دائما هو أن نقبل على الاندماج في واقعنا، والتفاعل مع معطياته على رغم ما فيه من انحرافات وتناقضات"(#).
إذن، الواجب على الناظر في أحوال الخلق أن يتعامل مع الواقع بكل مكوناته وتمثلاته بعيدا عن أحكام القيمة التي قد تسبق إلى النفس، وسواء في ذلك أن تكون احكام القيمة هاته إيجابية أم سلبية، لأن هذا ليس هو المهم في عملية النظر في الواقع، بل المهم هو الواقع نفسه دون تمييز، وهذا ما يسميه الدكتور الحسني بالتمايز الذي" من شأنه أن يمكن الفقيه من أن يضع أي تطبيق للأحكام الشرعية الضابطة للسلوك المجتمعي في حجمه الحقيقي وفي إطاره الموضوعي، بحيث يجعل الشغل الشاغل الرئيسي للاجتهاد شاغلا تطبيقيا تتمايز تطبيقاته في الحياة الاجتماعية باختلاف الأحوال والأشخاص والظروف"(#).
فمن هذا المنطلق يأتي تحقيق المناط بمفهومه الواسع لخدمة هذا التمايز، إذ هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يحدد مستوى وعي الفقيه أو المفتي أو المجتهد بالتمايز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون عليه الواقع من تناسق واتساق مع الشريعة أحكاما ومقاصد.
لكن الإشكال الذي يطرأ هنا هو صورة وقوع هذا التناسق الذي لا يمكن أن يقع أبدا إلا من خلال إعمال متوازن بين ما سماه الدكتور خالد المزيني بالتأليل الفقهي أو صناعة الفتوى والتي تعني تزود الباحث بالآليات الفقهية التي هي أدلة الفقه وقواعد الاستنباط، وبين عملية التأليل السياسي أو سياسة الفتوى والتي تعني إعمال آلة السياسة الشرعية من مصلحة مرسلة واستحسان وسد للذرائع(#).
هذا التمايز وهذا التوازن يجب أن يتما عبر مسلك دقيق لا يعطي الأولوية لا للنص ولا للواقع، إنما الأولوية لمعيار المفسدة الحقيقية أو المصلحة الحقيقية، مما يعني اطرادا ضرورة تلازم الموضوعية المقصدية والموضوعية في الوسائل المؤدية إلى تحقيقها، وهذا يستلزم انبناء النظر على الالتفات إلى النتائج المادية والملموسة لأفعال المكلفين حيث يجب أن تكون سليمة، وذلك بأن يتوافق قصد المكلف مع قصد الشارع، وألا يكون في تحقيق المصلحة له حَيْفٌ على غيره من المكلفين، ومن ثم كان حكم المفتي أو المجتهد أو الحاكم بإضفاء المشروعية على الفعل أو سلبها عنه استنادا إلى مبدأ العدل الذي هو جوهر الشريعة .
فإذا كانت الغاية من التشريع هي جَلْبُ المصالح للمكلفين ودَفْعُ المفاسد عنهم، فإنه يراعي ما تفرضه الأحوال الزمانية والمكانية المحيطة بالمصلحة والمفسدة، والتي تقتضي حكماً استثنائياً من الأصل العام الذي توجبُه الأحوال العادية، وذلك إما بالمنع من المصلحة بالنظر إلى ما ستؤول إليه من مفسدة أكبر منها، أو بالترخيص في ممنوع المنع منه سيفضي إلى مفسدة أعظم منه.
ومن هنا يكون لكلام الشاطبي قيمته الثمينة حين يقول : " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة تُسْتَجْلَبُ أو لمفسدة تُدْرَأُ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصِدَ منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد إلا أنه عذب المذاق محمودُ الغِبِّ جَارٍ على مقاصدالشريعة"(#)
إن تحقيق المناط إن سلم إعماله آلية من آليات النظر الفقهي، فإن نتائجه لن تكون إلا على وَفق ما أراده الشارع من موافقة بين مقاصده ومقاصد المكلفين من جهة، وبين مقاصده وآثار التطبيق والتنزيل من جهة أخرى، وهو ما يمكن أن نقرر بعض مظاهره فيما يلي:
1ـ ضبط مساحة التيسير المطلوب:
فأخطر ما يمكن أن ينتج عن سوء استثمار تحقيق المناط في العملية الاجتهادية هو أن تتوسع دائرة التيسير الذي جاء به الشرع في قوله تعالى: ) يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( (#)، وفي قوله النبي صلى الله عليه وسلم:( يسروا ولا تعسروا)(#)، بحيث إنه من شأن المناطات المتوهمة التي قد تحمل الناظر على محمل التيسير أن تكون أيلولتها إلى مناقضة قصد الشارع، وقد تكون من مظاهر هذه المناقضة رد بعض النصوص رغم قطعيتها.
إن دائرة التيسير التي تنبني على تحقيق سليم للمناط هي التي يكون الأمر فيها وسطا بين التشدد والتحلل بحيث لا يكون فيها لهوى المكلف أو المفتي دخل، وكما يقول الشاطبي:" قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل ما هويت نفسه أمرا"(#).
كما أن سلامة تحقيق المناط يضمن تحديد طبيعة المشقة التي يجب من أجلها التخفيف والتيسير، إذ من المقرر شرعا أن " المشقة تجلب التيسير"، وهي قاعدة قائمة على أساس مناط واضح ظاهر منضبط تعلق فيه وقوع المشقة على المكلف بأحكام الشريعة في حد ذاتها، فمتى وقع المكلف في مشقة خارجة عن المعتاد ناتجة عن ممارسته للتكاليف إتيانا أو تركا، كان لقاعدة التيسير والترخص مدخلها هنا، وذلك لأمرين اثنين: الخوف من الانقطاع عن الفعل، والخوف من التقصير فيه(#)، ومن هنا فإن الأمر إذا استلزم إيقاع الحكم على غير الصورة التي ينبغي عليها، فإن تحقيق المناط ينبغي أن يضمن تعطيل الحكم لا تبديله، وتنزيله على واقعة لا التنازل عن قيمة، وأن يكون بتأويل وليس بتحويل ولا تحايل، وبتعليل وليس بتعلل ولا تعالل(#).
---------------
# ـ من إصدارات مركز التراث الثقافي المغربي ـ الدار البيضاء، ودار الحديث ، طبعة سنة 1426 هــ ـ 2005.
# ـ العدد 58 من مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتية.
# ـ رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية بغزة، تحت إشراف: الدكتور سلمان نصر الداية، سنة 2009.
# ـ مجلة العدل السعودية، العدد العشرون من سنة 1424، والعدد:26 من سنة 1426.
# ـ نظمت هذه الورشة بتاريخ: 04 ـ 05 / 07 / 2011 بفندق حسان بالعاصمة المغربية الرباط.
# ـ فقه الواقع وأثره في الاجتهاد، تأليف: الدكتور ماهر حسين حصوة،ص:19.
# ـ الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة، تأليف: الدكتور أحمد الريسوني، والأستاذ جمال باروت، ص:66.
# ـ الموافقات، 4/65.
# ـ الموافقات، 4/64.
# ـ اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، تأليف: الدكتور عبد الرحمن معمر السنوسي، ص: 24.
# ـ الموافقات، 3/58.
# ـ المستصفى في علم الأصول، ص:231.
ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، تأليف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ص:273.
# ـ مقاصد الشريعة ومكارمها، تأليف العلامة علال الفاسي، ص:7.
# ـ التجديد في المقاصد، للدكتور محمد الشحات الجندي ص: 3.
# ـ المعيار المعرب في فتاوى أهل الأندلس وأفريقية والمغرب، تأليف: أبي العباس أحمد بن يحي الونشريسي، 10/80.
# ـ الموافقات، 4/141.
# ـ فقه التدين: فهما وتنزيلا، تأليف: الدكتور عبد المجيد النجار، ص: 13.
# ـ الموافقات،4/66.
# ـ قسم الشاطبي رحمه الله تحقيق المناط إلى نوعين: تحقيق المناط العام، الذي هو تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، وتحقيق المناط الخاص، الذي هو نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية. الموافقات، 4/69 ـ 70.
# ـ المناط، لرائد عبد الله نمر بدير، ص: 142.
# ـ اعتبار المآلات، ص: 44.
# ـ فقه التدين، ص: 20 ـ 21.
# ـ الموافقات، 3/31.
# ـ المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي، تأليف: الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، ص:373.
# ـ الورقة التأطيرية لورشة:"الاجتهاد بتحقيق المناط، فقه الواقع والتوقع"، للشيخ الدكتور عبد الله بن بيه، ص:2.
# ـ كما هو عند حسن الترابي في كتابيه: تجديد أصول الفقه، وتجديد الفكر الإسلامي.
# ـ اعتبار المآلات، ص:8.
# ـ المرجع السابق.
# ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام،2/143.
# ـ الورقة التأطيرية لورشة:" الاجتهاد بتحقيق المناط، فقه الواقع والتوقع"، ص: 2.
# ـ التمايز وإشكال التفاعل مع الواقع في الفكر المقاصدي، ص: 49.
# ـ التمايز وإشكال التفاعل مع الواقع، ص:59.
# ـ دراسة تطبيقية شرعية للتعامل مع مسائل النوازل والمستجدات، ص: 4.
# - الموافقات، 4/140ـ141.
# ـ سورة البقرة، الآية: 185.
# ـ رواه البخاري في كتاب العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، الحديث رقم: 69. ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، الحديث رقم: 6125.
# ـ الموافقات،1/251.
# ـ الموافقات،2/93.
# ـ الورقة التأطيرية لورشة الاجتهاد بتحقيق المناط، ص:2.
 
إنضم
5 نوفمبر 2009
المشاركات
17
التخصص
أصول الفقه
المدينة
بغداد
المذهب الفقهي
الكتاب والسنة
رد: تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ (ج1)-مقالي الجديد على موقع نماء للدراسات والبحوث

بارك الله فيك
 

أحمد محمد عروبي

:: متخصص ::
إنضم
29 ديسمبر 2009
المشاركات
133
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
وزان
المذهب الفقهي
المالكي
رد: تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ (ج1)-مقالي الجديد على موقع نماء للدراسات والبحوث

بارك الله فيك أخي يوسف
كلام رصين ينم عن فهم مؤسس...
لكن اسمح لي ببعض الإشارات :
- حبذا لو استغنيت عن بعض النقول التي لا تفيد الموضوع في شيء غير الوصف والإنشاء
_ ما أدري... فهمي قصر عن إدراك وجه الإشكال بالضبط ؟؟
فهل المشكل في فهم هذا الأصل أم هو في التوسع فيه أم هو في إنكاره أصلا أم ماذا ؟
 
إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
رد: تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ (ج1)-مقالي الجديد على موقع نماء للدراسات والبحوث

بارك الله فيك أخي يوسف
كلام رصين ينم عن فهم مؤسس...
لكن اسمح لي ببعض الإشارات :
- حبذا لو استغنيت عن بعض النقول التي لا تفيد الموضوع في شيء غير الوصف والإنشاء
_ ما أدري... فهمي قصر عن إدراك وجه الإشكال بالضبط ؟؟
فهل المشكل في فهم هذا الأصل أم هو في التوسع فيه أم هو في إنكاره أصلا أم ماذا ؟
أخي عمار وفيك بارك الله.
أخي الحبيب ورفيق الأيام الجميلة، شكرا ل على ثنائك الجميل، ونصيحتك على العين والراس، الإشكال يظهر في بقية المقال فهو طويل جدا، مع العلم أن افشكال هو في فهم هذا الأصل لا إنكاره، وفي كيفية تصور إعماله، وأستتأذنك في تأجيل النقاش إلى حين تمام الموضوع.
 

أحمد محمد عروبي

:: متخصص ::
إنضم
29 ديسمبر 2009
المشاركات
133
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
وزان
المذهب الفقهي
المالكي
رد: تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ (ج1)-مقالي الجديد على موقع نماء للدراسات والبحوث

أنا في شوق إلى البقية يا أخي العزيز
فتح الله عليك ونفع بك !!!
 
أعلى