العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان: مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آخر الزمان !

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذا بحث قمت بإعداته من بضعة شهور، وبالرغم من أنه قد يبدو غريباً للبعض.. إلا أنه محاولة لتوسيع الأفهام والأنظار لفهم أعمق في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأطرحه لأنني أوود معرفة آراءكم فيه.
البحث مبني على قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان" ، وهي تفيد أن المتغيرات من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتغير بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية، فإذا كان الناس لهم عرف وعادة يستدعيان حكماً ثم تغير إلى عرف وعادة أخرى فإن لذلك تأثيراً كبيراً في تغير الحكم إلى ما يوافق ما انتقل إليه عرف الناس وعادتهم.
وهذا ليس اختلاف حجة وبرهان، بقدر ما هو اختلاف عصر وأوان، وهذا مسلم به، وهو سنة من سنن الله في تشريعه لعباده، فإنه تعالى حين بدأ خلق الإنسان، وكان الحال ضيقاً لقلة عدد الذرية أباح سبحانه نكاح الأخت لأخيها، ووسع في أشياء كثيرة توسعة على العباد ودفعاً للحرج عنهم، وبقى الحال على ذلك إلى أن حصل الاتساع وكثرت الذرية، فحرم ذلك في زمن بني إسرائيل كما حرم يوم السبت والشحم، ولحوم الإبل وحرم أموراً كثيرة. فكانت توبة الإنسان بقتله نفسه، وإزالة النجاسة بقطعها، إلى غير من التشديدات التي سببوها لأنفسهم من التعنت وكثرة السؤال وغيرها من الأسباب.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الذي يتغير هو كيفية العمل بمقتضى الحكم عند اختلاف الأوضاع والأحوال الزمنية، أما النص نفسه فلا يتغير، فالنص ثابت لا يتغير.
-عوامل تغير الأحكام نوعان:
الأول: فساد الزمان وانحراف أهله عن الجادة.
الثاني: تغير العبادات، وتبدل الأعراف وتطور الزمن.
طبعاً لهذه القاعدة أمثلة وفروع، ضوابط وشروط، ثوابت ومتغيرات، تغييرات وتجديدات، مظاهر وآثار، وأدلة ... ولسنا بصدد التعرض لها في هذا المقام، لمراجعتها يمكنكم النظر إلى: شرح القواعد الفقهية للزرقا (ص 228)، القواعد الفقهية لعبدالعزيز عزام (ص 199-230).

المسألة التي نحن بصددها هي محل خلاف بين أهل العلم، وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند انعدام الجدوى.
إذا غلب على ظن المحتسب أن أمره ونهيه لا يفيد، فهل يسقط عنه وجوب هذه الفريضة أم لا؟ موضع نظر عند أهل العلم.

1- فمن أهل العلم من ذهب إلى أنه يكون في سعة من ترك الأمر والنهي، لعدم جدواه في هذه الحالة، وإن كان يستحب تذكيراً بالدين وإظهاراً لشرائع الإسلام. وهو قول ابن عمر وابن مسعود وكثير من الصحابة، وقول جماعة من العلماء؛ منهم الأوزاعي، والغزالي، وابن العربي، والعز بن عبدالسلام. وهو أحد الروايتين عن أحمد رحمه الله. راجع: تفسير الطبري (7/ 61-63).
ومن أدلتهم على ذلك:
-ما جاء في سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي، عن أبي ثعلبة الخشني، أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)؟ قال: قد سألت عنها خبيراً، أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العامة).
-وما جاء في سنن أبي داود عن ابن عمر قال: بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر الفتنة فقال: (إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم، وخفت أمانتهم، وكانوا كذلك) وشبك أصابعه، فقلت له: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ فقال: (الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة).
-وقد روي عنه أيضاً أنه قال في الآية السابقة: هذه الآية لأقوام يجيئون بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم.
قال ابن تيمية في مجموع فتاواه (14/ 479-480): "فإذا قوى أهل الفجور، حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب، سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي القلب".
-وذكر القرطبي في تفسيره (4/ 48) عن ابن العربي: "إن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل، جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله، فأي فائدة عنده؟".
قال العز بن عبدالسلام في قواعد الأحكام (1/ 128): "فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديان ولا يفيدان شيئاً، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب لأنه وسيلة، ويبقى الاستحباب، والسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان، ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه، وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم".
وقال الغزالي في الإحياء (2/ 315): "واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي، بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروهاً يناله، فذلك في معنى العجز. وكذلك إذا لم يخف مكروهاً، ولكن علم أن إنكاره لا ينفع، فيلتفت إلى معنيين: أحدهما، عدم إفادة الإنكار امتناعاً. والآخر، خوف مكروه. ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال:
- أحدها، أن يجتمع المعنيان. بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم، فلا تجب عليه الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع!
- الحالة الثانية ، أن ينتفي المعنيان جميعاً. بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله، ولا يقدر له على مكروه، فيجب عليه الإنكار، وهذه هي القدرة المطلقة.
- الحالة الثالثة، أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، لكنه يخاف مكروهًا. فلا تجب عليه الحسبة، لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شرائع الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين.
- الحالة الرابعة، عكس هذه، وأن أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله.. فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب، ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر، ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف".
وقد اشترط رحمه الله لمشروعية هذه الصورة ألا تفضي إلى منكر أكبر، وألا يمتد الأذى منها إلى غير المحتسب.

2- ومنهم من ذهب إلى وجوب ذلك عليه وإن لم يقبل منه، لأن الذي عليه هو الأمر والنهي وليس القبول.
ومما استدل به هؤلاء، ما حكاه الله عز وجل عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت، رغم يأسهم من استجابة قومهم لهم، وكيف أنهم استفادوا النجاة بذلك، قال تعالى: (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذي ينهون عن السوء وأخذنا الذي ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) [الأعراف: 164-165].
وقد ناقش الفريق الأول هذا الدليل بأن هؤلاء الساكتين كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين عليهم بقلوبهم.
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (2/ 319): "وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم، وقد نسب الله تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القائلين لأنبيائهم، بقوله: (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم). وبقوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) فأضاف القتل إليهم وإن لم يباشروه ولم يقتلوه، إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين، فكذلك ألحق الله تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه، إذ كانوا به راضين ولهم عليه متوالين، فإذا كان منكراً للمنكر بقلبه ولا يستطيع تغييره على غيره، فهو غير داخل في وعيد فاعليه، بل هو ممن قال الله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)".
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (2/ 23): "قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله عز وجل: (ما على الرسول إلا البلاغ) ومثل العلماء هذا بمن يرى إنساناً في الحمام أو غيره، مكشوف بعض العورة، ونحو ذلك. والله أعلم".

من المسائل المتنازع عليها أيضاً: عدالة المحتسب وكونه مؤتمراً بما يأمر به، ومنتهياً عما ينهي عنه. هذه أيضاً من مواضع النظر عندهم. كذلك أصل تقدير واعتبار المصالح والمفاسد في هذا الباب؛ إلا أنها ليست محل الكلام هُنا. [ يمكن مراجعة ذلك من كتاب: "الثوابت والمتغيرات" للدكتور صلاح الصاوي (301-307)].

في الأخير.. الذي يترجح لي: أن القول الأول أقوى وأوجه، من عدة عوامل ونواحي، فهو أقوى من حيث الأدلة، ومن ناحية موافقة الزمان، وغيرها من العوامل.
فما رأيكم؟
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
أعلى