رد: (( تكوين الملكة الفقهية )) للدكتور محمد عثمان شبير ،(الفصل الأول)
رد: (( تكوين الملكة الفقهية )) للدكتور محمد عثمان شبير ،(الفصل الأول)
ثانيًا: معرفة السنة النبوية وعلومها:
إذا كان القرآن الكريم هو الأصل الأول في بناء الملكة الفقهية، فإن السنة هي الأصل الثاني، وهي لا يستغني عنها الفقيه في فهم القرآن الكريم وشــرح أحكــامه وبسط أصــوله وتكملة تشريعاته، كما قال النووي: (إن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق الفقهاء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات)(12).
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحـــــل:44)، وقال تعالى: (... وإنك لتهدي إلى صراط مستــقيم، صــراط الله الذي له ما في السمـــوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )(الشورى:52-53)، وقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (الحشر:7)، وقوله صلى الله عليه و سلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )(13).. وقد اتفق العلماء على ذلك واعتبروه من المعلوم من الدين بالضرورة حيث قال الشوكاني: (إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام)(14).
هذا بالإضافة إلى أن السنة النبوية صادرة عن أفصح الخلق، ومن أوتي جوامع الكلم، فمن نظر فيها استنار قلبه ودبت فيه الحياة وقويت ملكته.
وقد حدد الأصوليون للمجتهد أن يعرف أحاديث الأحكام، المحصورة في كتب أحاديث الأحكام، ولم يشترطوا حفظها، وإنما يكتفي بمعرفة كتبها ومواضعها، بل يكفيه معرفة مواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى(15). وقد اعتبروا ذلك كحد أدنى، لتيسير الاجتهاد وتحصيل رتبته.
والحقيقة أنه ينبغي للمتفقه الذي يبغي تحصيل الملكة الفقهية عدم الاقتصار على أحاديث الأحكام، بل يتعدى ذلك إلى معرفة أكبر قدر ممكن من الأحاديث بما فيها العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والسير وغير ذلك، فإنها لا تخلو من فوائد فقهية. فيشتغل المتفقه بحفظ الأحاديث، ويتعمق في فهمها بالاطلاع على شروح الأحاديث: كفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، وصحيح مسلم بشرح النووي، وغيرها.
فالاستمرار في مذاكرة الأحاديث والنظر فيها يؤدي إلى استنباط أحكام فقهية جديدة لم تكن تحصل للطالب الذي يكتفي بمذاكرة واحدة للأحاديث. قال صلى الله عليه و سلم: (فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )(16).
وينبغي للمتفقه أن يقدم على قراءة شروح الأحاديث وعلوم الحديث بما فيها من الناسخ والمنسوخ وأسباب ورود الحديث والجرح والتعديل وغير ذلك; لأن الفقيه كلما كان عالمًا بالسنن وعلومها كان أحرى بفهم القرآن واستنباط الأحكام ممن هو جاهل بها.
ومن البدهي أن أقول: إن السنة التي لها هذه الأهمية في بناء الملكة الفقهية إنما هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم بالطرق العلمية والأسانيد الصحيحة المعروفة عن أهل العلم.
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: حفـــظ الأحاديــث، وعلوم الحــديـــث، وتخريجـــه، وشــرح أحـــاديث الأحكام.