العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

جواب ابن تيمية المفصَّل على من احتج بوقوع الخلاف على عدم الإنكار في مسألة الحيل

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
جواب ابن تيمية المفصَّل
على من احتج بوقوع الخلاف على عدم الإنكار
في مسألة الحيل!
أبدأ بمشيئة الله وحوله وقوته بقراءة كلامه ثم أتبع ذلك بسرد النتائج، والله المعين هو حسبنا ونعم الوكيل:
يقول ابن تيمية رحمه الله في كتابه "بيان الدليل على إبطال التحليل":
فإن قيل :
هذه الحيل مما اختلف فيها العلماء, فإذا قلَّد الإنسان من يفتي بها فله ذلك, والإنكار في مسائل الخلاف غير سائغ:
1- لاسيما على من كان متقيدا بمذهب من يرخص فيها.
2- أو قد تفقه فيها ورأى الدليل يقتضي جوازها.
وقد شاع العمل بها عن جماعات من الفقهاء, والقول بها معزوا إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما.
وما قاله مثل هؤلاء الأئمة:
لا ينبغي الإنكار البليغ فيه , لاسيما على من يعتقد أن الأئمة المجوزين لها أفضل من غيرهم، وقد ترجح عنده متابعة مذهبهم إما على سبيل الإلف والاعتياد , أو على طريق النظر والاجتهاد, وهب هذا الاعتقاد باطلا ألستم تعرفون فضل هؤلاء الأئمة ومكانهم من العلم والفقه والتقوى وكون بعضهم أرجح من غيره , أو مساويا له أو قريبا منه ؟
فإذا قلد العامي, أو المتفقه واحدا منهم:
1- إما على القول بأن العامي لا يجب عليه الاجتهاد في أعيان المفتين.
2- أو على القول بوجوبه إذا ترجح عنده أن من يقلّده فيها هو الأفضل , لاسيما إن كان هو المذهب الذي التزمه.
لا وجه للإنكار عليه إلا أن يقال: إن المسألة قطعية لا يسوغ فيها الاجتهاد .
وهذا إن قيل كان فيه طعن على الأئمة لمخالفة القواطع وهذا قدح في إمامتهم , وحاشا الله أن يقولوا ما يتضمن مثل هذا .
ثم قد يفضي ذلك إلى المقابلة بمثله , أو بأكثر منه , لاسيما ممن يحمله هوى دينه , أو دنياه على ما هو أبلغ من ذلك , وفي ذلك خروج عن الاعتصام بحبل الله سبحانه , وركوب للتفرق المنهي عنه , وإفساد ذات البين , وحينئذ فتصير مسائل الفقه من باب الأهواء وهذا غير سائغ .
وقد علمتم أن السلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعية, مع بقاء الألفة والعصمة وصلاح ذات البين.
قلنا :
نعوذ بالله سبحانه:
مما يقضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة, أو انتقاص بأحد منهم , أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم , أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم
نرجو من الله سبحانه:
أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع , وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين :
أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم , وترك كل ما يجر إلى ثلبهم .
والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم , وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى.
ولا منافاة إن شاء الله سبحانه بين القسمين لمن شرح الله صدره , وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين :
1- رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم.
2- أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام .
وهذا المقصود يتلخص بوجوه :
أحدها: أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة , وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور , بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين.
واعتبر ذلك:
بمناظرة الإمام عبد الله بن المبارك قال :
كنا بالكوفة فناظروني في ذلك - يعني النبيذ المختلَف فيه - فقلت لهم : تعالوا فليحتج المحتج منكم عن من شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة , فإن لم يتبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه , فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة , فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجر الأخضر.
قال ابن المبارك :
فقلت للمحتج عنه في الرخصة : يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان هاهنا جالسا فقال: هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر , أو تجر , أو تخشى.
فقال قائلهم :
يا أبا عبد الرحمن، فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم : دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفَلِأحد أن يحتج بها؟
فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس , وجابر بن زيد وسعيد بن جبير , وعكرمة؟
قالوا : كانوا خيارا , قلت : فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا : حرام , فقال ابن المبارك : إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام . ؟
فبهتوا وانقطعت حجتهم.
قال ابن المبارك :
ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال : رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال: لا يا بني لا تنشد الشعر فقلت: له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي : أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله.
وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء , فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها , كما قال سبحانه : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} .
قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم:
ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سليمان التيمي:
إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
قال ابن عبد البر:
هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله:
فروى كثير بن عبد الله بن عمر , وابن عوف المزني , عن أبيه , عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم , ومن حكم جائر ومن هوى متبع } .
وقال زياد بن حدير : قال عمر : (ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وأئمة مضلون )
وقال الحسن : قال أبو الدرداء: (إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن , والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم - قل ما يخطيه أن يقول ذلك -:
الله حكم قسط هلك المرتابون , إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي الأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره , قال : فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة , وإياكم وزيغة الحكيم , فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة , وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن قد جاء به فإن على الحق نورا , قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق , وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما)
وقال سلمان الفارسي : (كيف أنتم عند ثلاثة: زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم , فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقول : نصنع مثل ما يصنع فلان وننهى عما ينهى عنه فلان إن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان، وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوه وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله سبحانه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم )
وعن ابن عباس قال : (ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذاك ؟ قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك , ثم يمضي الأتباع . )
وهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره.
فإذا كنا:
1- قد حذرنا من زلة العالم وقيل لنا: إنها أخوف ما يخاف علينا.
2- وأمرنا مع ذلك أن لا يرجع عنه [قال المحقق: أي نبقي على تقدير العالم وحفظ منزلته]
فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام:
إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة:
أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تقضي إلى ذلك لما التزمها , والشاهد يرى ما لا يرى الغائب , ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريم ما لم يقطعوا به أولا .
الوجه الثاني:
أن الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل, أو أخذ ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينا, فإنهم كانوا في غاية الإنصاف , فكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ما في هذه القاعدة, وقد صرح به غير واحد منهم , وإن كانوا كلهم مجتمعين على ذلك .
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاضربوا بقولي الحائط "
وهذا قول لسان حال الجماعة, ومن أصولهم: أن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتشرة لا تترك إلا بمثلها , وقد ذكرنا في التحليل والعينة وغيرهما من الأحاديث والآثار ما يقطع معه اللبيب أن لا حجة لأحد في مخالفتها ولم تشتمل كتب من خالفها من الأئمة عليها حتى يقال : إنهم تأولوها فعلم أنها لم تبلغهم .
الوجه الثالث:
أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد, واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة, وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة, وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره .
وحينئذ:
1- فلا يجوز تقليد من يفتي بها.
2- ويجب نقض حكمه.
3- ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها.
مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد , وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا، وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها , وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلف فيه حد , وإن كان متأولا واختلفوا في رد شهادته فردها مالك دون الشافعي وعن الإمام أحمد روايتان , مع أن الذين قالوا بالمتعة والصرف معهم فيهما سنة صحيحة , لكن سنة المتعة منسوخة , وحديث الصرف يفسره سائر الأحاديث , فكيف بالحيل التي ليس لها أصل من سنة ولا أثر أصلا بل السنن والآثار تخالفها .
وقولهم:
( مسائل الخلاف لا إنكار فيها )
ليس بصحيح فإن الإنكار:
1-إما أن يتوجه إلى القول بالحكم.
2-أو العمل.
أما الأول:
فإذا كان القول:
1- يخالف سنة, أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا.
2- وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل:
1- فإذا كان على خلاف سنة, أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه , وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة , وإن كان قد اتبع بعض العلماء .
2- وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدا, أو مقلدا.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة:
أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.
والصواب الذي عليه الأئمة:
أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا, مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها.
مثل:
1- كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل.
2- وأن الجماع المجرَّد عن إنزال يوجب الغسل.
3- وأن ربا الفضل والمتعة حرام.
4- وأن النبيذ حرام.
5- وأن السنة في الركوع الأخذ بالركب.
6- وأن دية الأصابع سواء.
7- وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار.
8- وأن البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري.
9- وأن المسلم لا يقتل بالكافر.
10- وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
11- وأن التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين.
12- وأن المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا.
إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى .
وبالجملة:
من بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد من ينهاه عن تقليده ويقول له: لا يحل لك أن تقول ما قلت حتى تعلم من أين قلت, أو يقول: إذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي.
ولو لم يكن في الباب أحاديث, فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن يعلم هذه الحيل ويفتي بها هو ولا أصحابه, وأنها لا تليق بدين الله أصلا, وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين.
الوجه الرابع :
أنا لو فرضنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد - كما يختاره في بعضها طائفة من أصحابنا وغيرهم - فإنا إنما بينا الأدلة الدالة على تحريمها كما في سائر مسائل الاجتهاد , فأما جواز تقليد من يخالف فيها ويسوغ الخلاف فيها وغير ذلك فليس هذا من مواضع الكلام فيه, وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل , فلا يحتاج إلى هذا التقرير أن يجيب عن السؤال بالكلية, وحينئذ فمن وضح له الحق وجب عليه اتباعه , ومن لم يتضح له الحق فحكمه حكم أمثاله في مثل هذه المسائل .
الوجه الخامس:
أن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن واحد من الأئمة ونسبوها إلى مذهب الشافعي , أو غيره , وهم مخطئون في نسبتها إليه على الوجه الذي يدعونه خطأ بينا يعرفه من عرف نصوص كلام الشافعي وغيره , فإن الشافعي رضي الله عنه ليس معروفا بأن يفعل الحيل ولا يدل عليها ولا يشير على مسلم أن يسلكها ولا يأمر بها من استنصحه، بل هو يكرهها وينهى عنها بعضها كراهة تحريم وبعضها كراهة تنزيه , وكثير من الحيل أو أكثر الحيل المضافة إلى مذهبه من تصرفات بعض المتأخرين من أصحابه تلقوها عن المشرقيين.
نعم، الشافعي رضي الله عنه يجري العقود على ظاهر الأمر بها من غير سؤال المعاقد عن مقصوده، كما يجري أمر من ظهرت زندقته , ثم أظهر التوبة على ظاهر قبول التوبة منه من غير استدلال على باطنه، وكما يجري كنايات القذف وكنايات الطلاق على ما يقول المتكلم إنه مقصوده من غير اعتبار بدلالة الحال, وربما أخذ من كلامه عدم تأثر العقد في الظاهر بما يسبقه من المواطأة وعدم فساده بما يقارنه من النيات على خلاف عنه في هذين الأصلين.
أما أن الشافعي رضي الله عنه , أو من هو دونه يأمر الناس بالكذب والخداع بما لا حقيقة له، وبشيء يتيقن بأن باطنه خلاف ظاهره فما ينبغي أن يحكى هذا عن مثل هؤلاء؛ فإن هذا ليس في كتبهم , وإنما غايته أن يؤخذ من قاعدتهم، فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها.
فمن رعاية حق الأئمة أن لا يحكى هذا عنهم - ولو روي عنهم - لفرط قبحه.
ولهذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يكره أن يحكي عن الكوفيين والمدنيين والمكيين المسائل المستقبحة .
مثل:
1- مسألة النبيذ.
2- والصرف.
3- والمتعة.
4- ومحاش النساء .
إذا حكيت لمن يخاف أن يقلدهم فيها، أو ينتقصهم بسببها , وفرق بين أن آمر بشيء . أو أفعله , وبين أن أقبل من غيري ظاهره .
وقد كان بين الأئمة من أصحاب الشافعي من ينكرون على من يحكي عنه الإفتاء بالحيل:
مثل ما قاله الإمام ابن عبد الله ابن بطة:
سألت أبا بكر الآجرِّي - وأنا وهو في منزله في مكة - عن هذا الخلع الذي يفتى به الناس - وهو أن يحلف رجل أن لا يفعل شيئا لا بد له من فعله , فيقال له : اخلع زوجتك , وافعل ما حلفت عليه , ثم راجعها - , واليمين بالطلاق ثلاثا .
وقلت :
إن قوما يفتون الرجل الذي يحلف بأيمان البيع ويحنث أن لا شيء عليه , ويذكرون أن الشافعي لم ير على من حلف بيمين البيعة شيئا.
فجعل أبو بكر يعجب سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد .
ثم قال لي:
اعلم منذ كتبت العلم وجلست للكلام فيه , والفتوى ما أفتيت في هاتين المسألتين بحرف.
ولقد سألت أبا عبد الله الزبيري الضرير عن هاتين المسألتين , كما سألتني عن التعجب ممن يقدم على الفتوى فيهما فأجابني بجواب كتبته عنه.
ثم قام فأخرج لي كتاب أحكام الرجعة والنشوز من كتاب الشافعي , وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر:
سألت أبا عبد الله الزبيري فقلت له: الرجل يحلف بالطلاق ثلاثا أن لا يفعل شيئا , ثم يريد أن يفعله . وقلت له : إن أصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع ; يخالع ثم يفعل فقال الزبيري ما أعرف هذا من قول الشافعي , ولما بلغني أن له في هذا قولا معروفا, ولا أرى من يذكر هذا عنه إلا محيلا .
وقلت له:
الرجل يحلف بأيمان البيعة , فيحنث ويبلغني أن قوما يفتونهم أن لا شيء عليه , أو كفارة يمين , فجعل الزبيري يتعجب من هذا .
وقال :
أما هذا فما بلغني عن عالم ولا بلغني فيه قول ولا فتوى، ولا سمعت أن أحدا أفتى في هذه المسألة بشيء قط .
قلت للزبيري:
ولا عندك فيها جواب .
فقال :
إن ألزم الحالف نفسه جميع ما في يمين البيعة, وإلا فلا أقول غير هذا.
قال الإمام أبو عبد الله ابن بطة:
فكتبت هذا الكلام من ظهر كتاب أبي بكر وقرأته عليه.
ثم قلت له :
فأنت إيش تقول يا أبا بكر ؟
فقال :
هكذا أقول , وإلا فالسكوت عن الجواب أسلم لمن أراد السلامة إن شاء الله تعالى .
ذكر هذا الإمام ابن عبد الله ابن بطة في جزء صنفه في الرد على من يفتي بخلع اليمين وذكر الآثار فيه عن السلف بالرد له وأنه محدث في الإسلام.
وأبو عبد الله الزبيري أحد الأئمة الأعلام من قدماء أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإذا كان هذا في خلع اليمين فكيف أن يهبه شيئا ليقفه عليه وأمثالها!
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
ملخص كلام ابن تيمية السابق

الإيراد ولك أن تقول: (الشبهة) :
لا يسوغ الإنكار في مسائل الحيل لأنها مما اختلف فيها العلماء لاسيما على من رأى الدليل في جوازها أو كان متقيدا بمذهب من أجازها، وهم جماعة من الأئمة ومنزلتهم في العلم والفضل والدين لا تخفى
وعليه فلا إنكار فيها إلا أن يقال بقطعية المسألة، وهذا إن قيل فهو قدح في إمامتهم لمخالفتهم القواطع.
ثم إن هذا يفضي ذلك إلى المقابلة بمثله, أو بأكثر منه مما يوقع التفرق المنهي عنه, وإفساد ذات البين, فتصير مسائل الفقه من باب الأهواء، وأن السلف إنما كانوا يختلفون في المسائل الفرعية , مع بقاء الألفة والعصمة وصلاح ذات البين .

جواب ابن تيمية رحمه الله نلخصه في هذه النتائج:
1- تعوذ ابن تيمية مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض العلماء، ورجا أن يكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع.
2- دين الإسلام إنما يتم بأمرين :
أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم.
والثاني : النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم , وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى .
3-لا منافاة بين القسمين, وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين :
1- رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم.
2- أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام .
4-ذكر ابن تيمية رحمه الله أن المقصود يتلخص بوجوه خمسة:
الوجه الأول:
أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة , وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور , بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين.
والواجب على من بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة: أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تقضي إلى ذلك لما التزمها , والشاهد يرى ما لا يرى الغائب , ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريم ما لم يقطعوا به أولا .

الوجه الثاني:
أن الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل, أو أخذ ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينا, فإنهم كانوا في غاية الإنصاف , فكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ما في هذه القاعدة, وقد صرح به غير واحد منهم , وإن كانوا كلهم مجتمعين على ذلك .
ومن أصولهم: أن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتشرة لا تترك إلا بمثلها.
الوجه الثالث:
أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد، وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد, واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة, وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة.
وحينئذ:
1- فلا يجوز تقليد من يفتي بها.
2- ويجب نقض حكمه.
3- ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها.
مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد
وقولهم:
( مسائل الخلاف لا إنكار فيها )
ليس بصحيح فإن الإنكار:
1-إما أن يتوجه إلى القول بالحكم.
2-أو العمل.
أما الأول:
فإذا كان القول:
1- يخالف سنة, أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا.
2- وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل:
1- فإذا كان على خلاف سنة, أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار.
2- وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدا, أو مقلدا.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة:
أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.
والصواب الذي عليه الأئمة:
أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا, مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها.
وبالجملة: من بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد من ينهاه عن تقليده.
ولو لم يكن في الباب أحاديث, فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن يعلم هذه الحيل ويفتي بها هو ولا أصحابه, وأنها لا تليق بدين الله أصلا, وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين.
الوجه الرابع:
أنا لو فرضنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد فإنا إنما بينا الأدلة الدالة على تحريمها كما في سائر مسائل الاجتهاد , فأما جواز تقليد من يخالف فيها ويسوغ الخلاف فيها وغير ذلك فليس هذا من مواضع الكلام فيه, وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل , فلا يحتاج إلى هذا التقرير أن يجيب عن السؤال بالكلية, وحينئذ فمن وضح له الحق وجب عليه اتباعه , ومن لم يتضح له الحق فحكمه حكم أمثاله في مثل هذه المسائل.
الوجه الخامس:
أن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن واحد من الأئمة ونسبوها إلى مذهب الشافعي , أو غيره , وهم مخطئون في نسبتها إليه على الوجه الذي يدعونه خطأ بينا.
نعم، الشافعي رضي الله عنه يجري العقود على ظاهر الأمر بها من غير سؤال المعاقد عن مقصوده.
أما أن الشافعي رضي الله عنه , أو من هو دونه يأمر الناس بالكذب والخداع بما لا حقيقة له، وبشيء يتيقن بأن باطنه خلاف ظاهره فما ينبغي أن يحكى هذا عن مثل هؤلاء؛ فإن هذا ليس في كتبهم , وإنما غايته أن يؤخذ من قاعدتهم، فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها.
وقد كان بين الأئمة من أصحاب الشافعي من ينكرون على من يحكي عنه الإفتاء بالحيل.
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
بارك الله فيك أخي الفاضل- أبا فراس- زدنا من هذه العلائق المباركة، زادك الله من فضله...
 
أعلى