العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حفظ حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي من خلال الصحيفة النبوية

سومة البجيتي

:: متابع ::
إنضم
14 مارس 2014
المشاركات
54
الإقامة
ليبيا
الجنس
أنثى
التخصص
الفقه وأصوله
الدولة
ليبيا
المدينة
البيضاء
المذهب الفقهي
المالكي
التمهيد:المطلب الأول:التعريف بالصحيفة النبوية:مثلت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة نقطة تحول هامة في التاريخ الإسلامي ،ذلك أنها مثلت ولادة كيان لم يكن معروفا لدى العرب وهو الدولة؛ بكل ماتضمنته من تنظيمات وتشريعات وعلاقات مع الكيانات المجاورة لها والمخالطة لها.وكان عقد المعاهدات والمواثيق أحد صور تأمين الدولة وتحديد علاقاتها إن داخليا أو خارجيا.ومن الوثائق التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم لضمان السلم والاستقرار الداخلي للدولة الناشئة ماعرف تاريخيا باسم الوثيقة النبوية. وهـــذه الصحيفة تمثـــلت في كتاب عقده النبي صلى الله عليه وسـلم بين المهاجـــرين والأنصار ووادع فيه اليهود ،لضمان تعايش مكونات مجتمع المدينة فيما بينهم ،وضمان العدالة في الحقوق والواجبات لكل مواطني الدولة مسلمين كانوا أم غير مسلمين .والصحيفة النبوية ذكرت في كتب السيرة مجموعة في صورة نص واحـد متكامل وذلك كما دونها ابن إسحاق والذي رواها عنه بدوره ابن هشام في السيرة( )، ورواة السيرة من بعده ،وكذلك وردت بذلك النص بألفاظ قريبة عند أبي عبيد في الأموال ( ).على أن الأمر لم يكن كذلك في كتب الحديث والتي وردت فيها -مانستطيع تسميته -"مواد" هذه الصحيفة مقسمة أو مفرقة على عدة أحاديث وصفت أسانيدها بالصحة في بعض رواياتها وبالحسن في روايات أخرى ،فقد وردت أجزاء هذه الصحيفة عند كل من البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي .وهذا الاختلاف حدا ببعض العلماء إلى القول بأن هذه الصحيفة إنما هي في الحقيقة كتابان لاكتاب واحد؛ أحدهما كتاب بين المهاجرين والأنصار ،والآخر كتاب وادع فيه اليهود ،وأن الأول كتب قبل بدر والثاني كتب بعدها( )، وهذا التقسيم يجرنا إلى الحديث عن تاريخ هذه الصحيفة ؛ فقد ذكر ابن إسحاق أن تاريخ كتابة هذه الصحيفة كان في السنة الثانية للهجرة ( ).وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه أنه (لما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر أظهرت يهود له الحسد بما فتح الله عليه، وبغوا ونقضوا العهد، وكان قد وادعهم حين قدم المدينة مهاجرا)( )والصحيفة النبوية سميت بأسماء عديدة منها الصحيفة وهي التسمية القديمة والمذكورة في كتب الحديث،وتسمى كذلك بالكتاب( ).وتسمى كذلك بالوثيقة ؛ويرى الأستاذ العيساوي أن هذه التسمية هي أكثر التسميات دقة لأنها وثيقة تضمنت حفظ الحقوق والحريات وهذه شأن المواثيق العالمية الحديثة والتي يطلق عليها اسم الوثيقة كوثيقة حقوق الإنسان ووثيقة الأمم المتحدة( ). ويرى بعض الكتاب المعاصرين أن من الأنسب أن تسمى بالدستور( ).المطلب الثاني: أهمية الصحيفة النبوية :تتجلى أهمية هذه الوثيقة في أنها قانونا منظما للعلاقات بين المكونات العرقية والانتماءات الدينية لسكان المدينة ؛والتي ذكر الإمام ابن القيم أنه( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.وقسم: حاربوه ونصبوا له العداوة.وقسم: تاركوه، فلم يصالحوه، ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره، وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره، وانتصاره في الباطن، ومنهم: من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم: من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر)( )وهذا المكونات تنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثاقب نظره لوجوب الربط بينها ، فكان هذا الكتاب طريقه عليه الصلاة والسلام إلى تحقيق هذين الغرضين.المطلب الثالث: نص الوثيقة:ذكرت هذه الوثيقة أو الصحيفة –كما اشتهرت –في كتب الحديث النبوي الشريف مفرقة ،وفي كتب السيرة وكتب التاريخ في صورة نص واحد،وسأذكر هنا نص الوثيقة نقلا عن الإمام ابن كثير في كتابه السيرة:(قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد النبي الامي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط ، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار: بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت.إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.وإن المؤمنين يبئ بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منهصرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.وإن ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لايخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه [فتك وأهل بيته] إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلىالله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى)( ).وكما هو واضح من هذا النص أن الصحيفة تضمنت درجة عالية من التنظيم والتقنين لم تكن معروفة لدى العرب في ذلك الوقت. وفي المبحثين التاليين سأتناول بالبحث الجزء من الصحيفة المتعلق بعلاقة المسلمين بغيرهم ممن يتواجدون تحت مظلة الدولة الإسلامية من زاويتين هما : منهج التكافؤ والعدالة في علاقة بين المسلمين وغيرالمسلمين في الدولة الإسلامية ،و حفظ الحقوق والحريات لكافة الطوائف في ظل دولة الإسلام.المبحث الأول: منهج التكافؤ والعدالة في علاقة بين المسلمين غيرالمسلمين في الدولة الإسلامية:يظهر نص الصحيفة النبوية السالف الذكر لهجة سياسي محنك ،يدرك الوقت المناسب لإنشاء مثل هذه المعاهدات وما يجب أن تتضمنه مما يضمن الأمن والسلام والعدل بين الرعايا في الدولة الناشئة . *المطلب الأول:المساواة في خضوع المواطنين لسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة: وهذه السلطة متمثلة في شخصه صلى الله عليه وسلم ،وهذا يوطأ لوحدة خضوعهم لقوانين الدولة ،وعبارته عليه الصلاة والسلام في ذلك:1- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.2- وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لايخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.3-- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلىالله وإلى محمد رسول الله. وهذه الوحدة في مصدر السلطة والتشريع قطعت على اليهود ماكانوا يقتاتون به في بلاد العرب من استغلال الشحناء بينهم وتفرقهم وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي:(وقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادية والسياسية على تفرّق العرب، قبائل متناحرة، فلمّا دخل العرب في الإسلام، وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى، وتتابعت الأيام تؤكّد أنّ الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة..)( )*المطلب الثاني: المساواة و العدل بين المسلمين وغير المسلمين في خضوعهم لقوانين الدولة :وذلك يتضح من خلال إخضاع الجميع بغض النظر عن دينهم للقوانين نفسها والتعليمات نفسها ، وإنما النظر في معيار وجوب التنفيذ والخضوع إنما هو المواطنة لاغير، ويظهر هذا جليا من خلال العبارات الآتية :1- (هذا كتاب من محمد النبي الامي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس)2-( وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها)3- (وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلىالله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم)4- (وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم)هذه النصوص الشريفة صريحة اللفظ في تقرير المساواة بين المواطنين جميعا من كافة الأطياف ،بتوجيه خطاب موحد إلى المواطنين المسلمين من قريش ويثرب ومن لحق بهم ؛ فهم يلحقون بهم في المواطنة والحقوق المترتبة عليها وكذا الواجبات، بوصفهم بالأمة الواحدة من دون الناس ،وهذه الوحدة تقتضي وجوب تحمل الجميع مسؤلياتهم تجاه الدولة والتي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في النص السابق وهي:*مسؤولية الدفاع عن الدولة سواء أكان ذلك في صورة نصرة على من غزا المدينة ،أم كان في صورة دفاع ضد قوات غازية فيدفعها كل من جانبه دفعا عن الدولة .*أن جميع المواطنين محاسبون على مايقترفونه من جنايات ،فيخضعون للعقوبة مسلمين كانوا أم غير مسلمين،فتقام الحدود على المسلمين فيما بينهم ،وعلى اليهود فيما بينهم ،ويحكم بينهم إمام المسلمين إذا رضوا بالترافع إليه (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة42) مع اختلاف الفقهاء في تطبيق الحدود في ارتكاب المسلم لها تجاه غير المسلم :فقد ورد في الصحيفة:( ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن) والسؤال هنا :هل هذا القانون سار في كافة الأحوال أم أن له ظروفا خاصة يطبق فيها؟ جاء في بداية المجتهد (وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:فقال قوم: لا يقتل مؤمن بكافر، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة.وقال قوم: يقتل به، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى.وقال مالك والليث: لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة (وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله)( ).واستدل الفريق الأول بما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة، والأشتر: هل عهد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدا لم يعهده إلى الناس قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»( ).واحتجوا كذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن.(وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثارا منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني، قال: «قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة، وقال: أنا أحق من وفى بعهده» ورووا ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام -: «لا يقتل مؤمن بكافر» أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد، وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني، وما رووا من ذلك عن عمر.وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه)( )وكل ذلك فيما يتعلق بالقتل العمد، وإجابة عن التساؤل السابق عن عموم لفظ النهي عن قتل المؤمن بالكافر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أيضا عن قتل ذو العهد في عهده ،وهذا مايرجح رأي الإمام أبي حنيفة ،أو على الأقل رأي مالك والليث رضي الله عنهما،ذلك أن من شروط تطبيق القصاص الآدمية والعصمة ،فالمعاهد وإن كانت عصمته مؤقتة بعهده إلا أنه طيلة فترة عهده يكون معصوم الدم وهذا أيضا مما يرجح رأي أبي حنيفة .أما القتل الخطأ فتجب فيه الدية والذي (عن مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز، قضى أن (دية اليهودي أو النصراني إذا قتل أحدهما مثل نصف دية الحر المسلم...وقال مالك: «وجراح اليهودي والنصراني والمجوسي في دياتهم على حساب جراح المسلمين في دياتهم الموضحة نصف عشر ديته، والمأمومة ثلث ديته، والجائفة ثلث ديته فعلى حساب ذلك جراحاتهم كلها» ( ).المبحث الثاني : حفظ الحقوق والحريات لكافة الطوائف في ظل دولة الإسلام:المطلب الأول:الحريات التي كفلتها الصحيفة لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي:1-حرية العقيدة : ويتجلى ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ( لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.)لعل من نافلة القول أن ما يقال على كافة المنابر في الدولة لايعادل في قيمته وأهميته ما يصدر عن مصدر السلطة فيها ؛فإنه عندما يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لكل طائفة تنضوي تحت جناح الدولة المسلمة كامل الحرية في ممارسة طقوسها الدينية وإقامة معتقداتها ،فإن هذا يعد بالإضافة إلى كونه تشريعا دينيا بالدرجة الأولى باعتباره سنة عنه عليه الصلاة والسلام؛ فهو بالإضافة إلى ذلك قانونا صادرا عن السلطة التشريعية في الدولة ،مايقطع الحجة على من يحاولون ترسيخ أن فكرة عداء الإسلام لغيره من الأديان إنما هو من صميم تعاليم هذا الدين وإحدى ركائزه. ففي هذه المادة من الصحيفة ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم للطوائف الدينية في الدولة الإسلامية حرية المعتقد وهو أمر يؤكده قوله تعالى في كتابه العزيز:((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ))( )،وهذا يدل على أن المواطنة في الدولة المسلمة ليست مرتبطة بالدين، وأن الأفراد يتوقف انتماؤهم للدولة على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه ،وفي حدود هذه الضوابط يعيش المواطنون بحرية تامة ويحصلون على حقهم في حماية الدولة ،وفي حرية التنقل والعمل والتجارة ،وهو أمر ظل معمولا به طيلة القرون التالية .غير أن اليهود لم يتقيدوا بهذا الاتفاق وأصبحوا بنكثهم يمثلون خطرا على أمن الدولة، مادفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التعامل معهم بما نصت عليه هذه الصحيفة المتفق عليها ،بإخراجهم من الدولة وحرمانهم من الحقوق التي ترتبت على تقيدهم بقوانينها.إن ضمان الحرية الدينية في الوثيقة جاء مطلقا عن أي قيد لهذه الحرية ؛بشكل المعابد أو إظهار الطقوس أو غير ذلك، ولعل ماظهر بعد ذلك من القيود على غير المسلمين في الدولة المسلمة إنما كان ناتجا عن بعض المصادمات بين الفئتين، أو بعض الالتباسات فيما يجدر بالمسلمين معرفة مصدره كالاموات مجهولي الهوية ، أو المتقدمين للخدمة في الجيش أو وظائف الدولة الحساسة التي تقتضي أن يكون المتلبس بها من نفس دين الدولة كي لايكون تعيين غير المسلمين فيها مدخلا لتسريب بعض المعلومات الأمنية وأسرار الدولة لأعدائهم ممن قد يتضامن معهم الموظف غير المسلم بحكم الانتماء الديني، ولعل التصور الأقرب للوقوع هو الحذر من الجواسيس الذين قد يتواجدون دون القدرة على كشفهم لعدم وجود مايميزهم. 2-حرية التنقل والعمل : وهي حرية دل عليها قوله صلى الله وسلم :(وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى)، فهذه العبارة وإن صرحت بحرية التنقل خارج المدينة والعودة إليها ؛ومن باب أولى التنقل داخل المدينة ، فإن من يدخل تحت هذه العبارة ضمنا أن يكون له حرية العمل والتكسب وبخاصة أن غالبية اليهود كانوا يعملون في التجارة والتي تستدعي التنقل والترحال.وهي حرية تشهد لها الحقائق التاريخية التي تواترت في نقل القصص والأخبار عن وجود تجار وصناع وأصحاب أملاك من غير المسلمين في الدولة الإسلامية ،يتنقلون ويتمتعون بكامل الحرية في دولتهم.المطلب الثاني:الحقوق التي كفلتها الصحيفة لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي:*حق المواطنة :سأكتفي في هذا المطلب بذكر هذا الحق والتعريف به ،ذلك أن حق المواطنة ينضوي تحته الكثير من الحقوق الأخرى التي تدخل في مفهومه وتعامل أحيانا على أنها صور ووجوه من الحقوق موازية لهذا الحق وماهي إلا تفريعات ناشئة عنه، كمثل حق المساواة أمام القضاء ،وحق الحصول على خدمات الدولة وما إلى ذلك.ويقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري، ويرتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على أربع قيم محورية هي:أولا- قيمة المساواة: التي تنعكس في العديد من الحقوق مثل حق التعليم، والعمل، والجنسية، والمعاملة المتساوية أمام القانون والقضاء، واللجوء إلى الأساليب والأدوات القانونية لمواجهة موظفي الحكومة بما في هذا اللجوء إلى القضاء، والمعرفة والإلمام بتاريخ الوطن ومشاكله، والحصول على المعلومات التي تساعد على هذا. ثانيا- قيمة الحرية: التي تنعكس في العديد من الحقوق مثل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وحرية التنقل داخل الوطن، وحق الحديث والمناقشة بحرية مع الآخرين حول مشكلات المجتمع ومستقبله، وحرية تأييد أو الاحتجاج على قضية أو موقف أو سياسة ما، حتى لو كان هذا الاحتجاج موجها ضد الحكومة، وحرية المشاركة في المؤتمرات أو اللقاءات ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي.ثالثا- قيمة المشاركة: التي تتضمن العديد من الحقوق مثل الحق في تنظيم حملات الضغط السلمي على الحكومة أو بعض المسئولين لتغير سياستها أو برامجها أو بعض قراراتها، وممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي المنظم مثل التظاهر والإضراب كما ينظمها القانون، والتصويت في الانتخابات العامة بكافة أشكالها، وتأسيس أو الاشتراك في الأحزاب السياسية أو الجمعيات أو أي تنظيمات أخرى تعمل لخدمة المجتمع أو لخدمة بعض أفراده، والترشيح في الانتخابات العامة بكافة أشكالها. رابعا – المسئولية الاجتماعية: التي تتضمن العديد من الواجبات مثل واجب دفع الضرائب، وتأدية الخدمة العسكرية للوطن، واحترام القانون، واحترم حرية وخصوصية الآخرين.( )وبإسقاط هذه المفاهيم المعاصرة للمواطنة تظهر بجلاء في هذه الصحيفة ،فقد ضمنت لغير المسلمين كل تلك القيم من مساواة أمام القانون وفي الحقوق والمسؤوليات وضرورة المشاركة مما تفتقر إليه الكثير من قوانين ودساتير اليوم.والعديد من هذه الحقوق مذكور صراحة في الصحيفة كمثل المسؤلية الاجتماعية ،والتي نص عليها قوله عليه الصلاة والسلام (وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين)ووجوب الدفاع عن الدولة في عبارة(وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم).إن أصدق مايمكن قوله عن هذه الوثيقة هو أنها وبجدارة كانت باكورة القوانين المنظمة للمجتمعات المدنية ،التي يفتخر الغرب اليوم بأنها كانت وليدة فقهاء قوانينهم وفلاسفتهم.
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: حفظ حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي من خلال الصحيفة النبوية

جزاك الله خيرا اختي سومة
البحث نزل متصلا دون فراغات
لو تجربي تنزليه مرة أخرى بتغيير المتصفح الى فايرفوكس
وسأقول بحذف هذا لاحقاً
 

سومة البجيتي

:: متابع ::
إنضم
14 مارس 2014
المشاركات
54
الإقامة
ليبيا
الجنس
أنثى
التخصص
الفقه وأصوله
الدولة
ليبيا
المدينة
البيضاء
المذهب الفقهي
المالكي
رد: حفظ حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي من خلال الصحيفة النبوية

وجزاك اختي أم طارق لكن لايوجد لدي متصفح فايرفوكس حاولت بالأمس معالجة هذه المسألة لكني عييت فقمت بتنزيل بحثي كما هو...
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: حفظ حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي من خلال الصحيفة النبوية

إن كان البحث محفوظاًعندك في ملف وورد
أرفقيه
فسيكون أوضح
وجزاك الله خيراً
 
أعلى