العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حكم توريث المسلم من الكافر والعكس

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
بسم الله الرحمن الرحيم

حكم توريث المسلم من الكافر والعكس


الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعَّال لما يريد، خلق فسوَّى، وقدّر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد - صلى الله عليه، وعلى آله وسلم - وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:-
فلقد طُلب مني أن أبحث مسألة توريث المسلم من غير المسلمين والعكس، وهذه المسألة وإن كانت غير جديدة، إلا أن الجديد فيها هو: أنه وفي خضم اشتداد قوة الكفار، وكثرة الأموال بأيديهم، وشدة عدائهم للإسلام والمسلمين، وقد صاحَب ذلك ضعف المسلمين وتدنيهم، واستذلال الكفار لهم، وازداد الأمر سوءاً باشتداد فقر المسلمين، وازدياد القتل فيهم، وعلى ذلك، فإنّا نجد أن المسلم لو ترك هذا المال عند قريبه الكافر، فإنه ربما استعان به هذا الكافر في قتل المسلمين، وربما سخَّره في الحرب على الإسلام، مما جعلني ألتفت إلى هذه الجزئية للنظر فيها؛ لأن ترك هذه الأموال عند الكافر سيضر بالمسلمين؛ ولذلك عزمت مستعيناً بالله تعالى على بحث المسألة.
ولأن هذه المسألة من علم الفرائض؛ فقد كان لا بد من تعريف علم الفرائض، ومن مقدمة للدخول في الموضوع.
فأقول مستعيناً بالله تعالى، وهو حسبي ونِعم الوكيل:

تعريف الفرائض:
الفرائض: جمع فريضة، فَعِيلة، من الفرض، وهو في اللغة: التقدير والقطع(1).
فرَضْت الشيء أَفْرِضه فَرْضاً، وفَرَّضْتُه للتكثير أَوْجَبْتُه. والاسم الفَرِيضةُ، وفَرائضُ اللّهِ حُدودُه التي أَمرَ بها ونهَى عنها. وكذلك الفَرائضُ بالمِيراثِ. والفارِضُ والفَرَضِيُّ: الذي يَعْرِف الفرائضَ، ويُسمى العِلْمُ بقِسْمةِ المَوارِيث: فَرائضَ. والفَرْضُ ما أَوْجَبه اللّه عزّ وجلّ، سُمِّي بذلك؛ لأَنَّ له مَعالِمَ وَحُدُوداً. وفرَض اللّه علينا كذا وكذا وافْتَرَضَ أَي: أَوْجَب. وأَصلُ الفرض: القطْعُ(2). والفَرْضُ، كالضَّرْبِ: التَّوْقِيتُ(3).
والفرض في الشرع كما عرَّفه الحنفية: ما ثبت بدليل قطعي، لا شبهة فيه(4)، وعرَّفه الشافعية في كفاية الأخيار بقولهم: (الفرض: نصيب مقدَّر شرعاً لمستحقه)(5).
وسُمِّي هذا النوع من الفقه، فرائض؛ لأنه سهام مقدرة، ثبتت بدليل قطعي، لا شبهة فيه. وإنما خُص بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى سماه به، فقال بعد القسمة: ﴿ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ ﴾ [النساء: 11] وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " تعلَّموا الفرائض"(6).
والفرائض من العلوم الشريفة، التي تجب العناية بها؛ لافتقار الناس إليها، ففي الحديث: "تعلموا الفرائض، وعلِّموها الناس؛ فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيُقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة، فلا يجدان من يقضي بينهما"(7)، وفي رواية " من يقضي بها "(8).
وكانوا في الجاهلية يورِّثون الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار، وكانوا يورِّثون بالحِلْف، فنسخ الله تعالى ذلك، وكذا كانت المواريث في ابتداء الإسلام، فنسخت(9).
واشتهر من الصحابة في علم الفرائض أربعة: علي، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد، رضي الله عنهم أجمعين(10).

أولاً: توريث الكافر من المسلم:
إذا مات المسلم فإن قريبه الكافر الحي لا يرث منه، وقد ذكر السَرَخْسي من الحنفية اتفاقاً بين العلماء على: أن الكافرَ لا يرث المسلمَ بحال، فقال: (ثم لا خلاف أن الكافرَ لا يرث المسلمَ بحال)(11).
ونقل هذا الاتفاق أيضاً ابن رشد الحفيد من المالكية فقال: (أجمع المسلمون على أن الكافرَ لا يرث المسلمَ؛ لقوله تعالى ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 141]، ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ ")(12).
كما نقل هذا الاتفاق أيضاً ابن قدامة المقدسي من الحنابلة، فقال: (أجمع أهل العلم على أن الكافرَ لا يرث المسلمَ)(13).

ثانياً: توريث المسلم من الكافر:

وأما إذا مات الكافر، فهل يرث منه قريبه المسلم الحي؟
هذا مما فيه خلاف بين أهل العلم. قال السَرَخْسي الحنفي: (ثم لا خلاف أن الكافر لا يرث المسلم بحال، وكذلك لا يرث المسلمُ الكافرَ، في قول أكثر الصحابة، وهو مذهب الفقهاء)(14)، وقال ابن رشد المالكي: (واختلفوا في ميراث المسلم الكافر، وفي ميراث المسلم المرتد)(15)، وقد ذكر هذا الخلاف أيضاً ابن قدامة الحنبلي في المغني(16).
وخلاصة هذا الخلاف، كالآتي:
· فأما الحنفية، فلا يرث عندهم المسلمُ من الكافر. قال في الكتاب: (ولا يرث أربعة: المملوك، والقاتل من المقتول، والمرتد، وأهل الملتين)(17). قال في اللباب في شرح الكتاب في خلال ذكره لموانع الميراث: (وأهل الملتين، فلا توارث بين مسلم وكافر، وكذا أهل الدارين: حقيقةً، كالذمي والحربي. أو حكماً، كالذمي والمستأمن، وحربيين من دارين مختلفين، كتركي وهندي؛ لانقطاع العصبة فيما بينهم، بخلاف المسلمين)(18)، وقد تقدم أن السَرَخْسي نسب هذا القول إلى أكثر الصحابة، وقال إنه مذهب الفقهاء.
وقد أثبت الكاساني الولاء بين المعتِق والمعتَق، حتى ولو كان أحدهما مسلماً، والآخر كافراً، إلا أنهم لا يتوارثون، فقال: (وسواء كان المعتِق والمعتَق مسلمين أو كافرين، أو كان أحدهما مسلماً، و الآخر كافراً؛ لوجود السبب، ولعموم الحديث، حتى لو أعتق ذمياً أو ذمي مسلماً، فولاء المعتَق منهما للمعتِق؛ لما قلنا، إلا أنه لا يرثه؛ لانعدام شرط الإرث، وهو اتحاد الملة... ثم قال: ويجوز أن يكون الولاء ثابتاً لإنسان، ولا يرث به؛ لانعدام شرط الإرث به)(19).
· وأما المالكية، فقالوا كما قال الحنفية، بعدم جواز أن يرث المسلمُ من الكافر. قال في التلقين: (والعِلل المانعة من الميراث، ثلاثة: كفر، ورق، وقتل. ولا توارث بين مسلم وكافر)(20). ونسب ابن رشد الحفيد هذا القول إلى جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار، كما تقدم(21).
· وأما الشافعية، فقد نصوا أيضاً على أن المسلمَ لا يرث من الكافر، واعتبروا اختلاف الملة مانعاً من موانع الإرث. قال أبو شجاع: (ومن لا يرث بحالٍ سبعة: العبد، والمدبر، وأم الولد، والمكاتب، والقاتل، والمرتد، وأهل ملتين)(22)، وقال في كفاية الأخيار في سياق ذكره لموانع الإرث: (وقوله: وأهل الملتين. يشتمل على صور: منها أنه لا يرث المسلمُ الكافرَ، وعكسه؛ لاختلاف الملتين... ثم قال: ولا فرق بين النسب، والمعتق، والزوج، ولا بين أن يسلم قبل القسمة، أو بعدها)(23)، أي في عدم الإرث، فالكل من هؤلاء لا يرث.
· وأما الحنابلة، فنصوا أيضاً على أن المسلمَ لا يرث من الكافر. قال الخرقي في مختصره: (مسألة: لا يرث مسلمٌ كافراً، ولا كافرٌ مسلماً، إلا أن يكون معتقاً، فيأخذ ماله بالولاء)(24)، وقال ابن قدامة في الكافي: (ويمنع الميراث ثلاثة أشياء:اختلاف الدين: فلا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً بحال)(25)، وقال في الروض المربع: (من موانع الإرث: اختلاف الدين. فلا يرث المسلمُ الكافرَ إلا بالولاء)(26)، وقال في موضع آخر: (ويرث ذو الولاء مولاه، وإن اختلف دينهما)(27)، وقال ابن قدامة: (وقال جمهور الصحابة والفقهاء: لا يرث المسلمُ الكافرَ، يُروى هذا عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - وبه قال عمرو بن عثمان، وعروة، والزهري، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والشافعي، وعامة الفقهاء، وعليه العمل)(28).
· وأما الزيدية، فهم في هذه المسألة كالجمهور، قالوا بعد التوارث بين المسلم والكافر مطلقاً، حيث اعتبروا الكفر من موانع الإرث، على أي وجه كان. قال ابن أبي السعد العصيفري في سياق ذكره للعلل المانعة من الإرث: (وهي ثلاث: كفر، ورق، وقتل. فالكفر يمنع من الإرث، على أي وجه كان)(29).
وقد تبين مما سبق أن المذاهب الخمسة متَّفقة على: عدم جواز أن يرث المسلمُ من الكافر بالنسب. إلا أنهم يختلفون في ميراثه بالولاء، فقد أجاز ذلك الحنابلة فقط. أما الحنفية فقالوا بوجود الولاء بينهما، لكن من دون توارث.
والقول بعدم جواز أن يرث المسلمُ من الكافر هو القول الأول في المسألة.
· وقال فريق من الصحابة والتابعين(30)، ووافقهم بعض العلماء: بجواز أن يرث المسلم من الكافر. ونسب ابن قدامة المقدسي في المغني هذا القول إلى عمر بن الخطاب، ومعاذ، ومعاوية - رضي الله عنهم - وحكاه أيضاً عن محمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق، وعبد الله بن معقل، والشعبي، والنخعي، ويحيى بن يعمر، وإسحاق. ثم قال: (وليس بموثوق به عنهم؛ فإن أحمد قال: ليس بين الناس اختلاف في أن المسلم لا يرث الكافر)(31).

أدلة الجمهور على عدم الجواز:
استدل الجمهور على عدم جواز أن يرث المسلم من الكافر بأدلة(32)، منها:
1. ما تقدم عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر " متفق عليه. والحديث نص في المسألة، يدل على عدم توارث المسلم والكافر من بعضهم بعضاً.
2. وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتوارث أهل ملتين شتى "(33). وهذا الحديث أيضاً نص في المسألة.
3. كما قالوا: إن الولاية منقطعة بين المسلم والكافر، فلم يرثه، وأيَّدوا ذلك بعدم جواز أن يرث الكافرُ المسلمَ، وهذا مثله في انقطاع الولاية(34).
وأما من جوَّز - من الجمهور - أن يرث المسلمُ من الكافر بالولاء، فقد استدل بحديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم النصرانـي، إلا أن يكون عبده أو أمته"(35). ولكن الحديث ضعيف.
كما استدل له في الروض المربع بقوله: (وخص بالولاء، فيرث به؛ لأنه شعبة من الرق)(36)، وقال ابن ضويَّان: (ولأن ولاءه له، وهو شعبة من الرق، واختلاف الدين لا يمنع الرجل أخذ مال رقيقه إذا مات)(37).
قلت: رحم الله ابن ضويَّان، فقد أراد أن يستدل للمسألة، ولكنه استدل لها بعين المسألة التي يراد منه أن يثبتها؛ لأن قوله: (واختلاف الدين لا يمنع الرجل أخذ مال رقيقه إذا مات) هي المسألة ذاتها التي يراد منه أن يثبتها. والله أعلى وأعلم.
على أن الإمام أحمد قد وردت عنه رواية أخرى، في ميراث المسلم من الكافر، ذكرها ابن ضويَّان، وهي: أنه لا يرثه مع اختلاف الدين؛ لعموم الخبر(38).

أدلة القائلين بالجواز:

استدل القائلون بجواز أن يرث المسلم من الكافر بأدلة، منها:
1. حديث معاذ – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإسلام يزيد، ولا ينقص "(39). يعني يزيد في حق من أسلم، ولا يُنقِص شيئاً من حقه، وقد كان مستحقاً للإرث من قريبه الكافر قبل أن يسلم، فلو صار بعد إسلامه محروماً من ذلك، لنقص إسلامه من حقه، وذلك لا يجوز(40).
وقد ردَّ الجمهور على حديث معاذ هذا: بأنه حديث محتمل، كما أنه مجمل، كما أنه أضعف مما استدلوا من الأحاديث. قال ابن قدامة المقدسي: (فأما حديثهم، فيحتمل أنه أراد أن الإسلام يزيد بمن يسلم، وبما يُفتح من البلاد لأهل الإسلام، ولا ينقص بمن يرتد؛ لقلة من يرتد، وكثرة من يسلم. على أن حديثهم مجمل، وحديثنا مفسر، وحديثهم لم يتفق على صحته، وحديثنا متفق عليه؛ فتعين تقديمه، والصحيح عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لا نرث أهل الملل، ولا يرثوننا. وقال في عمة الأشعث: يرثها أهل دينها)(41).
قلت: بل الحديث الذي استدل به المجيزين ضعيف، كما تقدم.

2. واستدلوا أيضاً بحديث عائذ بن عمرو المزني – رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" الإسلام يَعلُو، ولا يُعلَى "(42).
قلت: الحديث لا دلالة فيه على ما قالوا؛ لأن القول بعدم التوارث بين المسلم والكافر، لا يعني أن الإسلام قد أُنزِل مقامه أو نقص! ولم يقل أحد بهذا، وحتى على فرض أن في حديث عائذ هذا دلالة على ما قالوا، فهو حديث عام، والأحاديث التي استدل بها الجمهور أحاديث خاصة، ولا تعارض بين عام وخاص. فيعمل بالخاص - وهو عدم التوارث بين المسلم والكافر - فيما تناوله، وبالعام – وهو أن الإسلام يعلو - في الباقي.

3. واستدلوا أيضاً على الجواز، بالقياس على نكاح نسائهم، في حين أنه لا يجوز لنا إنكاح نسائنا منهم، فكذلك يقال نرثهم، ولا يرثوننا(43). قال ابن رشد الحفيد: (وشبهوا ذلك بنسائهم فقالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم، ولا يجوز لنا أن نُنكِحهم نساءنا، كذلك الإرث)(44).
قلت: وهذا القياس باطل؛ لأنه في مصادمة النصوص الشرعية الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

4. كما أنهم شبهوا الميراث بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ، فكما يجوز القصاص في الدماء التي لا تتكافأ، فكذلك يجوز التوارث بين المسلم والكافر. قال ابن رشد: (وشبهوه أيضاً بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ)(45).
قلت: يقال في هذا ما قيل في القياس على نكاح نسائهم، على أن القصاص في الدماء التي لا تتكافأ، مسألةٌ خلافية لا يصح التشبيه بها، وكما يُقال: ثبِت عرشك ثم انقُش.

5. وقالوا أيضاً بأن الإرث يُستحق بالسبب العام تارة، وبالسبب الخاص أخرى، ثم بالسبب العام يرث المسلمُ من الكافر، فإن الذمي الذي لا وارث له في دار الإسلام، يرثه المسلمون، ولا يرث المسلمُ من الكافر بالسبب العام بحال، فكذلك بالسبب الخاص. وقد أيدوا هذا النظر، بأن المرتد يرثه المسلم، ولا يرث هو من المسلم بحال، كما أن المرتد كافر؛ فيعتبر به غيره من الكفار(46).

6. وقالوا أيضاً بأن في الإرث نوعَ ولايةٍ للوارث على المورث؛ فلعلو حال الإسلام لا تثبت هذه الولاية للكافر على المسلم، وتثبت للمسلم على الكافر.
فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا

والجواب عن هذا، وعن الذي قبله أن يقال: إنه لا ينبغي مصادمة النصوص الشرعية بهذه الحجج العقلية، إذ ليس من حق العقل أن يُشرِّع، بل حقه أن يفهم النصوص الشرعية فقط، لا أن يعارضها، وما دام وقد ورد في المسألة نص، فينبغي الاحتكام إليه؛ لأن الشرع منـزَّه عن الخطأ،

بخلاف العقل، فهو واقع في الخطأ.
فبان للعقل أن العلم سيده

هذا وللمجيزين أدلة ومناقشات عقلية كثيرة، لا حاجة إلى تسويد الصفحات بها.

والراجح من خلال ما سبق هو:

أنه لا توارث بين مسلم وكافر مطلقاً، وهذا هو الأصل في هذه المسألة.
إلا أن لي نظراً آخر في المسألة من جهة ما إذا تُرك هذا المال بيد الكافر، وكان تركه ذلك سيضر بالمسلمين، إذا استعان الكفار بهذا المال على قتل المسلمين، وسفك دمائهم، وهتك أعراضهم، وقد عُلِم أن الحفاظ على دين المسلم ونفسه، من أصول الشريعة العظيمة، التي لا بد من قيامها والمحافظة عليها،
وقد دلَّ على ذلك نصوص كثيرة منها:

الأدلة الدالة على وجوب المحافظة على الدين والنفس:

فأما الأدلة الدالة على وجوب المحافظة على الدين وقيامه، فهي كالآتي:
1. قوله تعالى:﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191].
2. وقوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]. والمقصود بالفتنة في الآيتين هي: الفتنة في الدين. قال الطبري: (يعني الشرك أعظم وأكبر من القتل)(47)، وقال ابن كثير: (والفتنة أكبر من القتل: أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله، مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، أكبر عند الله من قتْل من قتلتم منهم ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل)(48)، وقال القرطبي: (قوله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا: الكفر. أي: كفركم أكبر من قتلنا أولئك. وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا: فتنتَهم المسلمين عن دينهم، حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام)(49).
3. وقوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]. قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم، حتى لا تكون فتنة يعني: حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يُعبَد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان)(50)، وقال ابن كثير: (ويكون الدين لله: أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان)(51).
4. ومما يدل على وجوب المحافظة على الدين الآيات الدالة على مشروعية الجهاد والقتال للكافرين، كقوله تعالى:﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ [النساء: 91]. وكقوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]. وكقوله تعالى:﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73].
5. امتدح الله قوم موسى – عليه السلام - بأنهم توكلوا على ربهم، وبأنهم دعوه أن يُجنِّبهم فتنة القوم الظالمين، وذلك في قوله تعالى:﴿ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 85]، ومثله امتدح الله سبحانه قوم إبراهيم – عليه السلام -، وأمرنا أن نتأسى بهم حين دعوه سبحانه أن يُجنِّبهم فتنة القوم الكافرين، وذلك في قوله تعالى:﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5]، وما ذلك إلا لعِِظم الفتنة في الدين.
6. ولِعِظَم أمر الفتنة في الدين حذر الله المؤمنين من الفتنة فقال سبحانه:﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].
7. ولِعِظَم أمر قيام الدين لم يأمر الله سبحانه بقتال الكفار من أول وهلة؛ لأن قتالهم إنما هو وسيلة لإسلامهم، فإن اسلموا من غير قتال، فقد حصل المقصود. ومن هنا فالهدف الأول هو إسلامهم؛ ولذلك كان إسلام أحدهم خيرٌ من حمر النعم، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: " لأعطين الراية غداً رجلاً، يفتح على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ". فبات الناس ليلتهم، أيهم يُعطى، فغدوا كلهم يرجونه، فقال:" أين علي ". فقيل: يشتكي عينيه. فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه، فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: " انفُذ على رِسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم. فوالله لأن يهدي الله رجلاً بك خير لك من أن يكون لك حُمْر النَعَم "(52).
8. ولأجل قيام الدين والمحافظة عليه جاء حد المرتد الوارد في حديث عكرمة قال: أُتِي علي - رضي الله عنه – بزنادقة، فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما – فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تعذبوا بعذاب الله ". ولقتلتهم؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من بدَّل دينه فاقتلوه "(53).
9. وما كان سكوت النبي – صلى الله عليه وسلم – في بداية الأمر على وجود الأصنام حول البيت الحرام وعدم تكسيرها إلا من أجل الدين حتى يأتي الوقت المناسب الذي يكون فيه للإسلام قوة فتكسر هذه الأصنام بدون عناء أو مشقة.
10. وما كانت الهجرة إلا من أجل قيام الدين، والمحافظة عليه.
11. وما سُفِكت دماء الصحابة وسُلِبت أموالهم، إلا من أجل قيام الدين، والمحافظة عليه.
12. وما شُجَّت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وكسرت ثنيته، إلا من أجل قيام الدين، والمحافظة عليه.
13. ولِعِظَم أمر المحافظة على الدين، أباح الله سبحانه لمن أُكره على قول كلمة الكفر، أن يقولها ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان، وذلك في قوله تعالى: ﴿ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، وما ذلك إلا لأجل المحافظة على هذه النفس المؤمنة، وفي الحفاظ على هذه النفس المؤمنة، حفاظٌ على الدين؛ لأن في بقاءها بقاء للدين.
14. ولِعِظَم أمر المحافظة على الدين أيضاً، كانت أعظم فتنة على وجه الأرض، هي فتنة الدجال؛ لأنها في الدين ولذلك ما من نبي، إلا وحذر قومه من فتنته، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يبعث نبي قبلي، إلا حذر قومه من الدجال الكذاب، فاحذروه، فإنه أعور. ألا وإن ربكم ليس بأعور "(54)، وعن جابر بن عبد الله– رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" ما كانت من فتنة تكون حتى تقوم الساعة، أعظم من فتنة الدجال، وما من نبي إلا وقد حذر قومه، ولا خبرتكم منه بشيء ما أخبر به نبي قبلي ". فوضع يده على عينه، ثم قال : أشهد أن الله تعالى ليس بأعور "(55).

فأما الأدلة الدالة على وجوب المحافظة على النفس وقيامها، فهي كالآتي:
1. ولِعِظَم أمر المحافظة على هذه النفس المؤمنة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمرو:" لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلمٍ "(56)، وفي رواية عن البراء بن عازب قال:" لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق "(57).
2. ولأجل قيام النفس والمحافظة عليها، حرَّم الله قتلها بغير حق، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]، وقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾ [الإسراء: 33]، وتوعد بالعذاب الأليم على من قتل نفساً بغير حق، فقال سبحانه: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾ [النساء: 93].
3. ولأجل قيام النفس والمحافظة عليها أيضاً، حرَّم الإسلام الزنا، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32]، ونهى عن الاقتراب من الخمر، ومن كل مسكر، فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، وعن عائشة – رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" كل شراب أسكر، فهو حرام "(58).
4. كما جاءت مشروعية القصاص والديات والأروش الوارد في قوله سبحانه: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]، لأجل قيام النفس والحفاظ عليها، ومنه أيضا جاء حد الحِرابة الوارد في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].
5. ولأجل الحفاظ على النفس وقيامها كانت الوصية باحترام عرض المسلم ودمه من آخر وصايا رسول الله وأعظمها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه "(59).
6. ولأجل قيام النفس المؤمنة والحفاظ عليها أيضاً، أمر الإسلام بالتداوي من الأمراض، كما في حديث أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله! ألا نتداوى؟ قال: " نعم يا عباد الله! تداووا؛ فإن الله لم يضع داء، إلا وضع له شفاء "، أو قال: " دواء إلا داء واحد " قالوا: يا رسول الله! وما هو؟ قال: " الهرم "(60).
7. ولأجل قيام النفس المؤمنة والحفاظ عليها أيضاً، جاء التشريع العظيم بتنظيم المواريث بين الأقارب، حتى لا يدع باباً للشقاق والقطيعة والتشاحن والتقاتل فيما بينهم، وحتى لا يُفتَح باب للظلم بين الأقارب من أجل ما خلَّفه هذا الميت من تركة؛ ولذلك تولَّى الشارع الحكيم تقسيم هذه التركة بحسب قُرب كل واحد من الميت، وبحسب حال كل منهم من الذكورة والأنوثة، وبما يستحقه كل منهم، فقال سبحانه: ﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً ... ﴾ [النساء: 11، 12]، وهذا من الحكم التي شرع من أجلها التوارث بين الأقارب.
8. ولأجل قيام النفس المؤمنة والحفاظ عليها أيضاً، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم – عن تعذيبها وتكليفها ما لا تطيق، وأمر بإعطائها حقها، فعن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء- رضي الله عنهما - فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة. فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء، ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل. قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" صدق سلمان "(61)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أصوم أسرد، وأصلي الليل، فإما أرسل إليِّ، وإما لقيته. فقال: ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل؟ فلا تفعل؛ فإن لعينك حظاً، ولنفسك حظاً، ولأهلك حظاً. فصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تسعة. قال: إني أجدني أقوى من ذلك، يا نبي الله! قال: فصم صيام داود - عليه السلام – قال: وكيف كان داود يصوم، يا نبي الله! قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى. قال من لي بهذه؟ يا نبي الله! قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد "(62)، وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا وُضِع العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء "(63).
ومن خلال هذا العرض للأدلة الدالة على وجوب المحافظة على الدين والنفس، نجد أن الحفاظ عليهما أصل عظيم من أصول الشريعة العامة.

والخلاصة
:
أن المسلم لا يرث من الكافر، في قول الجماهير من أهل العلم، وهو مذهب فقهاء المسلمين، وأن هناك قولاً مرجوحاً يقول: بجواز أن يرث المسلم من الكافر، إلا أن هذا القول المرجوح قد يترجح في مثل مسألتنا هذه، فيما إذا كان هذا المال سيستخدم في قتل المسلمين وحربهم، وسفك دمائهم، وهتك أعراضهم، وذلك إذا تُرِك بأيدي الكافرين، ولم يؤخذ منهم؛ لاسيما وقد عُلِم مما تقدم أن قيام الدين والنفس والمحافظة عليهما من أصول الشريعة العظيمة، وقد تقوَّى هنا هذا القول المرجوح من خلال النظر إلى المصالح والمفاسد؛ لأنه يدفع الضرر عن المسلمين، ويصون أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، كما ترجح هذا القول أيضاً من خلال النظر في كونه يحقق المحافظة على دين المسلم ونفسه.
وعلى ذلك يمكن الاستفادة من هذا القول القائل، بجواز أن يأخذ المسلم ميراثه من قريبه الكافر، في مثل هذه الحالة، فيُقال: بجواز أن يأخذ المسلم ميراثه من قريبه الكافر، إن كان تركُه سيضر بالمسلمين. والله تعالى أعلى وأعلم.
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي: علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الخميس – 23 ذو القعدة 1427هـ، 14/12/2006م
مراجعة: علي عمر بلعجم. 21/12/2006م.
وعبد الوهاب مهيوب مرشد الشرعبي


(1) اللباب في شرح الكتاب 4/27، كفاية الأخيار 1/439.

(2) لسان العرب لابن منظور 7/202 بتصرف، مختار الصحاح 1/517.

(3) القاموس المحيط 1/838.

(4) اللباب في شرح الكتاب 4/27.

(5) كفاية الأخيار 1/439.

(6) اللباب في شرح الكتاب 4/27، والحديث في سنن ابن ماجه 2/908 ، برقم 2719، بلفظ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا هريرة! تعلموا الفرائض وعلموها؛ فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء يُنـزع من أمتي "، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة 1/218 ، برقم 594.

(7) انظر: اللباب في شرح الكتاب 4/27، والحديث في سنن الدارمي 1/83 ، برقم 221، المستدرك 4/369 ، برقم 7951. قال الألباني: ضعيف. انظر: مشكاة المصابيح 1/59 ، برقم 279.

(8) المستدرك 4/369 ، برقم 7950.

(9) انظر: كفاية الأخيار 1/439.

(10) كفاية الأخيار 1/439.

(11) المبسوط 7/586.

(12) بداية المجتهد 1/1160، والحديث في صحيح البخاري 6/2484 ، برقم 6383 عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وفي صحيح مسلم 3/1233 ، برقم 1614.

(13) المغني 7/166.

(14) المبسوط 7/586.

(15) بداية المجتهد 1/1160.

(16) انظر: المغني 7/166.

(17) الكتاب 1/349.

(18) اللباب في شرح الكتاب 4/27.

(19) بدائع الصنائع 3/636.

(20) التلقين 1/557.

(21) بداية المجتهد 1/1160.

(22) متن أبي شجاع 1/195.

(23) كفاية الأخيار 1/439.

(24) مختصر الخرقي 1/88.

(25) الكافي في فقه ابن حنبل 2/311.

(26) الروض المربع 1/499.

(27) الروض المربع 1/501.

(28) المغني 7/166.

(29) مفتاح الفايض في علم الفرايض ص 7.

(30) انظر: بداية المجتهد لابن رشد 1/1160، المبسوط للسرخسي 7/586.

(31) المغني 7/166.

(32) المبسوط 7/586، المغني 7/166، بداية المجتهد 1/1160.

(33) سنن الترمذي 4/424 ، برقم 2108، سنن أبي داود 2/140 ، برقم 2911. قال الألباني: حسن. انظر: إرواء الغليل 6/158 ، برقم 1719.

(34) انظر: المغني 7/166.

(35) انظر: الروض المربع 1/499. والحديث في المستدرك 4/383 ، برقم 8007، سنن الدارقطني 4/74 ، برقم 22، قال الألباني: ضعيف. انظر: إرواء الغليل 6/155 ، برقم 1715.

(36) الروض المربع 1/499.

(37) منار السبيل 2/63.

(38) منار السبيل 2/63.

(39) سنن أبي داود 2/140 ، برقم 2912. مسند أحمد بن حنبل 5/230 ، برقم 22058. قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف أبي داود 1/287 ، برقم 624.

(40) المبسوط 7/586، بدائع الصنائع 3/636.

(41) المغني 7/166.

(42) سنن الدارقطني 3/252 ، برقم 30، سنن البيهقي الكبرى 6/205 ، برقم 11935. قال الألباني: حسن. انظر: إرواء الغليل 5/106 ، برقم 1268.

(43) انظر: المغني 7/166.

(44) بداية المجتهد 1/1160.

(45) بداية المجتهد 1/1160.

(46) انظر: المبسوط 7/586، بدائع الصنائع 3/636.

(47) تفسير الطبري 2/359.

(48) تفسير ابن كثير 1/340.

(49) تفسير القرطبي 3/40.

(50) تفسير الطبري 2/200.

(51) تفسير ابن كثير 1/307.

(52) صحيح البخاري 3/1096 ، برقم 2847، صحيح مسلم 4/1872 ، برقم 2406.

(53) صحيح البخاري 6/2537 ، برقم 6524، سنن النسائي 7/104 ، برقم 4059.

(54) مسند أحمد بن حنبل 3/233 ، برقم 13463، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير عبد الوهاب، وهو ابن عطاء الخفاف، فمن رجال مسلم، وهو صدوق، لا بأس به.

(55) المستدرك 1/76 ، برقم 64. قال الألباني في قصة المسيح الدجال1/73: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن أبا الزبير مدلس، وقد عنعنه.

(56) سنن الترمذي 4/16 ، برقم 1395. والحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/315 ، برقم 2439.

(57) سنن ابن ماجه 2/874 ، برقم 2619. والحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجة 2/92 ، برقم 2121.

(58) صحيح البخاري 1/95 ، برقم 239، صحيح مسلم 3/1584 ، برقم 1999.

(59) صحيح مسلم 4/1986 ، برقم 2564، سنن الترمذي 4/325 ، برقم 1927.

(60) سنن الترمذي 4/383 ، برقم 2038، سنن أبي داود 2/396 ، برقم 3855. والحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجة 2/252 ، برقم 2772.

(61) صحيح البخاري 2/694 ، برقم 1867.

(62) صحيح مسلم 2/812 ، برقم 1159، سنن النسائي 4/215 ، برقم 2401.

(63) صحيح البخاري 1/238 ، برقم 640، صحيح مسلم 1/392 ، برقم 557.


 
إنضم
12 أبريل 2011
المشاركات
121
الكنية
أبو عبد البر
التخصص
الفقه و أصوله
المدينة
الجزائر
المذهب الفقهي
مالكي
رد: حكم توريث المسلم من الكافر والعكس

من كتاب المستدرك على مجموع الفتاوى - (4/128 ـ 130):
قال ابن القيم رحمه الله: (فصل) وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث، كما لا يرث الكافر المسلم، وهذا هو المعروف عن الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقالت طائفة منهم: بل يرث المسلم الكافر دون العكس. وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نسائنا.
قال شيخنا: وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويورثون (1) .
وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر» المراد به الحربي؛ لا المنافق ولا المرتد ولا الذمي، إلى أن قال:
قال شيخنا: ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ولا يرثه الذمي أن الاعتبار في الإرث بالمناصرة، والمانع هو المحاربة.
إلى أن قال: فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له: ألا تنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك عقيل لنا من دار» .
قال الشيخ: وهذا الحديث قد استدل به طوائف على مسائل فالشافعي احتج به على جواز بيع رباع مكة، وليس في الحديث أنه باعها.
إلى أن قال ابن القيم: وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة: وهي توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته، وتوريث المعتق عبده بالولاء، وتوريث المسلم قريبه الذمي، وهي مسألة نزاع بين الصحابة
والتابعين. وأما المسألتان الأخيرتان فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع؛ بل المنقول عنهم التوريث.
قال شيخنا: والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع؛ فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة: بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم، وأموالهم، وفداء أسراهم .
وقال الشيخ تقي الدين: يرث المسلم من قريبه الكافر الذمي؛ لئلا يمتنع قريبه من الإسلام، ولوجوب نصرتهم ولا ينصروننا (2) .
وعند شيخنا يرث (المنافق) ويورث؛ لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ولا جعله فيئًا، فعلم أن الميراث مداره على النظرة الظاهرة. قال: واسم الإسلام يجري عليهم في الظاهر (ع) وعند شيخنا وغيره قد يسمى من فعل بعض المعاصي منافقًا (3) .
والمرتد إذ قتل في ردته أو مات عليها فماله لوارثه المسلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو المعروف عن الصحابة، ولأن ردته كمرض موته.
والزنديق منافق يرث ويورث، لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ... (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام أهل الذمة ص462، 463، 465، 467، 474 ف 2/ 275.
(2) الإنصاف 7/345، والاختيارات 196 ف 2/ 275.
(3) فروع 5/ 53 ف 2/ 275.
(4) الاختيارات 196 ف 2/ 275 والإنصاف 7 / 527.
 
أعلى