العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

خسائر الأوهام

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
خسائر الأوهام
أبو عمر السكران

الحمد لله وبعد،،
من المشاهد المتكررة في نهار رمضان أن ترى الرجل يسير في الشارع، أو واقفاً بسيارته عند إشارة مرور، وتراه قد لف لثامه على وجهه، وانقبضت حواجبه، مع قابلية سريعة للانفعال، واضمحلال طاقة تحمل الحوار والأخذ والرد .. فإذا رأيت هذا المشهد المتكرر في نهار رمضان يستحوذ عليك التساؤل والاستغراب ما مبرر كل هذا اللوحة الحزينة يا ترى؟ لماذا يختار بعض الناس أن يبدو مظهره بهذا الشكل المفجع في نهار رمضان؟
هل هذا الشخص واقع فعلاً تحت حالة إعياء وإرهاق حاد أفقدته حيوية الشخص الطبيعي؟

الحقيقة أن كل القصة أن بعض الصائمين يعيش تحت سيطرة وهمٍ نفسي أنه غير قادر على التعامل الطبيعي بسبب إجهاد وعنت يستولي عليه، بل ربما تنفس بزفير الكلال واللغب، ومشى متهالكاً متطرّحاً كأنما يجر قيوداً خلفه، وإذا أراد أن يجلس ألقى نفسه كالذي خذلته مفاصله محلول العرى!

نعم، قد يعتري الصائم شيءٌ من الإرهاق، ولكنك قد تجد هذا الشخص نفسه يصيبه في غير رمضان إرهاق أكثر ومع ذلك لا يمشي بهذا المظهر الجنائزي الذي تراه به في نهار رمضان، وهذا يؤكد أن جزءاً كبيراً من هذا المشهد ليس ناتجاً عن إعياء حقيقي، بقدر ما هو ناتج عن حالة نفسية يوهم المرء فيها ذاته أنه في حالة تستدعي أن يكون بهذا الشكل.

حسناً .. ربما تساءل متساءل فقال وما الإشكال في هذا المشهد الملثم المكفهر؟ الحقيقة أن هذا الشخص أضاع على نفسه أبواباً من الأرباح والثواب عند الله، ففات عليه الفرح بالصوم، والابتهاج بالتعبد لله بالإمساك عن المفطرات تسليماً لله سبحانه، وامتلاء القلب حمداً لله أن بلّغه الصيام والإمساك عن المفطرات.

والفرح بالعبادة والابتهاج بها من كمالاتها ومقاماتها العظيمة، ألا ترى الله تعالى قال عن القرآن (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ** قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[يونس: 57-58].

فتدبر الأمر والتوجيه في قول الله (فبذلك فليفرحوا) .. فالله يريد منا أن نفرح بالقرآن، ومضامين القرآن..

ولما تداول بعض أهل العلم الحديث عن أقرب طرق الإيمان وأجل أعمال القلوب التي تقود إلى الله ذكر ابن القيم أن طريقة شيخه في حياته هي هذا الطريق ذاته! كما يقول ابن القيم:
(ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في المنام، وكأني ذكرت له شيئا من أعمال القلب، وأخذت في تعظيمه ومنفعته، لا أذكره الآن، فقال: "أما أنا فطريقتي الفرح بالله، والسرور به" أو نحو هذا من العبارة، وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله)[مدارج السالكين: 2/174].

وبكل صراحة .. فإنني حين قرأت هذا الكلام لابن القيم تحلقت حولي الدهشة حتى ألجمتني فما أطقت الحديث، فلست أدري أأتعجب من الأحوال الإيمانية لابن تيمية تغمده الله برضوانه؟! أم أتعجب من رؤيا ابن القيم التي تغوص في أدق مسائل أعمال القلوب؟!
إنه ليس الفرق في الفراش والوسادة .. ولكنه الفرق في القلوب التي تنام على هذه الهموم المرفرفة في ملكوت الإيمان.

والفرح بالله، وبأعمال الإيمان التي تقرب إلى الله؛ جاءت الإشارة إليه في آيات متعددة بلفظ الفرح، وبلفظ الاستبشار، وغيره، ولذلك قال ابن القيم (فالفرح بالله، وبرسوله، وبالإيمان، وبالسنة، وبالعلم، وبالقرآن؛ من أعلى مقامات العارفين)[مدارج السالكين:3/150]

والمراد هاهنا أن هذا الصائم المكفهر الذي غطى نصف وجهه الأدنى بعمامته، ونصف وجهه الأعلى بحواجبه؛ أنه أضاع على نفسه عبودية الفرح بالله.

وفوّت على نفسه أيضاً عبادة جليلة وهي عبادة (التبسم وطلاقة المحيا)، فهي صدقة من الصدقات، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)[مسلم:2626].
وفي السنن عن أبي ذر (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) [الترمذي: 1956] وصححه غير واحد من أهل العلم.
وفي البخاري عن جرير قال (ما رآني النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا تبسم في وجهي)[البخاري:3035].

فإذا وضع الصائم في ذهنه هذا المعطى الشرعي، وهو أن الصيام عبادة تدخل السرور والبهجة على الصائم، وليست مبرراً أصلاً لإغلاق منافذ التواصل مع العالم الخارجي بهذا اللثام والاكفهرار، اختلف تعامله كلياً مع هذه الشعيرة، وهذا الركن العظيم من أركان الإسلام.

ما سبق هو محاولة لمناقشة وتحليل مظهر من مظاهر بعض الأوهام النفسية، وكيف تفوت بسببها الأجور العظيمة من الله سبحانه.

لا بأس، دعنا نواصل بعض مظاهر الأوهام النفسية الأخرى في الداخل الرمضاني:

فمن ذلك -أيضاً- أنك تجد كثيراً من الناس يسمع ويستحضر فضل تلاوة القرآن في رمضان، فتجده منهمكاً في العزم والتخطيط على الاستكثار من الختمات، بل ربما صعد أيضاً درجة إلى عقد الهمة على التدبر، بل ربما صعد أيضاً أكثر وأكثر ووضع لنفسه برنامجاً في دراسة تفسير لكتاب الله، ولكن تلاحظ أنه في كل هذه الهموم إنما يفكر بنفسه! أما أهله من حوله فهو يترقب منهم ويتطلب ألوان الطبخات والفطائر والمقليات على مائدة الإفطار، بل إذا تقلصت بعض الأصناف التي يحبها على الإفطار ندّت من لسانه عبارات العتب واللوم والتأفف.

يا لله العجب .. هذا الشخص المهموم بتلاوة القرآن يغفل عن حث أهله على تلاوة القرآن، بل يشغلهم بالطبخ يتقافزون بين القدور والمعجنات!

لماذا؟ لأن هذا الشخص نفسه يتوهم أن الخطاب الشرعي بتلاوة القرآن في رمضان خطاب فردي، يسمع هذه الفضائل الشرعية وهو يفكر بنفسه فقط، ولو استحضر هذا الشخص أنه إذا حث أهله وساعدهم على تلاوة القرآن فكل حرف من تلاوتهم يكتب له مثل أجره، لاختلف تعامله كلياً، كما قال صلى الله عليه وسلم (من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)[مسلم:2674].

ولذلك فإن هذا المعنى الحاضر عند أهل العلم، وهو قاعدة "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه" هو الذي عللوا به منع إهداء ثواب القربات كالصدقة والأضحية للنبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه يجوز إهداء ثواب القربات لغير النبي صلى الله عليه وسلم، والسبب في هذا المنع أن أعمال أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها إنما يكتب لنبينا مثل أجورهم أصلاً، سواءً أهدوا ثوابها له أم لا، لأنه -صلى الله عليه وسلم- هو الذي دعانا إلى هذا الهدى، وللإمام ابن تيمية رسالة مستقلة في هذه المسألة، وهي منع إهداء الثواب للنبي صلى لله عليه وسلم نبّه فيه على مثل هذا التعليل.

والمراد أن المسلم ينبغي أن يعمل ذكاءه ويقظته في استثمار أبواب الأجور والثواب، فإذا ساعد أهله بالتخفف من المأكولات الرمضانية وحظوظ النفس، وهيج نفوسهم للتغني بالقرآن، ربما كتب له من ثواب تلاوتهم أكثر من ثواب تلاوته نفسه!

ومن الأوهام النفسية –أيضاً- في الداخل الرمضاني التي تتسبب في خسارة الثواب من الله:

أنك تجد طيفاً واسعا من طلاب العلم يستحضرون ويتناقلون بينهم ما ذكره الإمام ابن رجب عن بعض السلف أنهم كانوا يتركون مجالس العلم في رمضان ويستكثرون من تلاوة القرآن، كنقله عن الزهري أنه (إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام) ونقله عن مالك أنه (إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف)[ابن رجب، لطائف المعارف، دار ابن كثير، تحقيق السواس، ص318].

والذي يظهر –والله أعلم- أن هذه الآثار لم تكن مشهورة بين أهل العلم، وأن أول من أشهرها هو ابن رجب في كتابه المشار إليه، وبواسطته راجت بين المعاصرين في كتبهم عن مجالس شهر رمضان ونحوها.

المهم هاهنا، أن كثيراً من طلبة العلم استقر في أذهانهم أن رمضان ليس وقتاً للعلم، وإنما هو وقت تلاوة القرآن فقط، وليس هاهنا إشكال، وإنما الإشكال أن الكثير يعجز عن أن يعمر يومه بالقرآن، فلا يقرأ إلا بعد صلاتي الظهر والعصر، ساعة أو ساعتين، فيبقى محتاراً أمام بقية اليوم، فالمستقر في وعيه أنه من المعيب أن يشتغل بالعلم في رمضان، فيتسرب وقته تدريجياً إلى الاضطجاع وتنويع حالات الاستلقاء على الأسرة والأرائك، ويتسلل شيئاً فشيئاً إلى برامج التواصل الاجتماعي وفضول تصفح الانترنت، أو أحاديث إزجاء الفراغ التي أحسن أحوالها الإباحة.

فتأمل كيف عجز عن الفاضل الذي هو تلاوة القرآن عامة اليوم، فلم ينتقل لما يليه في الفضل وهو العلم، بل انتقل للترهات والفضول! فيا لصنائع الأوهام النفسية!

وهذا يعني أن هذه الفرضية المشتهرة اليوم وهي أن رمضان ليس وقتاً للعلم أنها فرضية خاطئة بهذا الإطلاق، فالعلم من أجل الأعمال الصالحة التي يحبها الله، فإذا انتهى ورد المسلم من القرآن في شهر رمضان، ولم يستطع أن يقرأ أكثر من ذلك، فليشغل وقته بالعلم فهذا خير من ضياعه في الفضول، وأي شيء أعظم من أن ينتهي المسلم من ورده من القرآن في رمضان، فينشر صحيح البخاري بين يديه، ويقرأ أحاديث سيدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويتأمل حياته ويومه وزهده ووصاياه وسمو نفسه فيتزكى بتلك الأحوال النبوية؟! أو يراجع محفوظاته من العلم حتى لا ينساها بتركها شهراً كاملاً دون مراجعة، أو يفقه أهله وجماعة مسجده في أحكام الصيام والتراويح والزكاة وزكاة الفطر لمناسبة الزمان، ونحو ذلك.

ومن مشاهد الأوهام النفسية في الداخل الرمضاني أيضاً، أنك تجد بعض المصلين يحرص أن يتدبر ما يقرأ الإمام من القرآن في صلاة التراويح، لكنه إذا جاء الإمام للشفع وقرأ سورة الأعلى والكافرون، توقف عن التدبر، وشعر أن هذه كالفاصل الروتيني وليست موطناً أعظم للتدبر!

والواقع أن هذه الحالة تتعلق بأصل أعم، وهي غفلة بعض المصلين عن إيلاء السور التي شرع تكرارها المزيد من التدبر، كسورة الفاتحة والأعلى والكافرون والإخلاص والسجدة والإنسان الخ، فهذه السور التي شرع الشارع تكرارها في صلوات معينة يعني أن فيها قدراً زائداً من الأهمية للمسلم، لا أنها مجرد فواصل فقط!

فأين من يعيش مثل هذا المعنى ويمتلئ قلبه أن أجل ما تدبره في صلاة التراويح هو سورة الفاتحة التي هي أعظم ما تكلم به ملك الملوك سبحانه؟!

ومن الأوهام النفسية في الداخل الرمضاني أن بعض الناس وهو يسمع المواعظ عن فضل تلاوة القرآن في رمضان لا يخطر بباله إلا أن تلاوة القرآن في رمضان في النهار وهو صائم، ويستغرب جداً أن تكون التلاوة المقصودة في ليل رمضان وهو مفطر! وهذا الوهم سبق أن كتبت فيه مقالة مستقلة بعنوان (هل تلاوة القرآن مخصوصة بنهار رمضان؟) وهي منشورة على الشبكة .

والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدي رسول الله وآله وصحبه.


 
أعلى