العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

خواطر أصولية مع ابن حزم (في النبذ)

إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
قد كنت وعدت بنشر خواطري على كلام ابن حزم في الأصول ، وهي في الأساس تعليقات على كتاب (الإحكام) وكنت أدمن النظر فيه ، أو بالأصح في بعض مباحثه التي اشتر فيها الخلاف بين الظاهرية وغيرهم، ثم أنه عَنَّ لي في فترة ما حفظ كتاب (النبذ) وابتدأت أعلق عليه ، لكنها تعليقات يسيرة مقتضبة لم تستوعب الكتاب، لأني كنت قد عزفت عن مذهب أهل الظاهر عموماً وعن اختيارات ابن حزم رحمه الله خصوصاً. فبدا لي أن أنقل من تعليقاتي على (الإحكام) ما يتناسب مع كتاب (النبذ) لأني أريد أن أكتب شيئاً وأكمله ، فإني أزيد على أصل التعليق كثيراً، ولو جعلت الأصل تعليقاتي على (الإحكام) لما انتهيت إلا في مدة مديدة.
ثم هذه التعليقات لا أذكر فيها حجج القول الصحيح ، بل ولا الحجج على بطلان قوله بشكل مطلق ، بل أقتصر فيها على ما يرد على عباراته أو الحجج على بطلان قوله كما عرضه خاصة ، وعليه جريتُ في عامة الخواطر إلا في النادر حيث ربما ذكرت الحجج في الجملة بشرط أن تكون واردة على ابن حزم بحسب أصوله، أو لبيان أن خصمه لم يقل قوله عن تشهي أو اتباعاً للهوى، ولا أكتفي بأن تكون الحجة صحيحة في نظري ولو كان ذلك قول الجمهور.
وأنبه أني لا أراجع ، ما أكتب مللاً ، لإنه يثقل علي إعادة القراءة، لكني إذا انتهيت إن شاء الله من الخواطر عموماً فسأعيد النظر في جميعها إن شاء الله.
وأنا أرجو من يرى خطأً أو استدراكاً لازماً أن يشارك به ، فإنه لا شك يعين في تصحيح الخطأ ويسهل المراجعة ، ويقوي الثقة بالمكتوب ، واستدراكات الآخرين وتصويباتهم بعض مقاصد النشر.

الكلام في الإجماع ، وما هو ؟
قال رحمه الله : (فَنَظَرْنَا فِي هَذَا القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول من قَالَ ان أهل الْعَصْر الَّذِي اجماعهم هُوَ الاجماع الَّذِي أَمر الله تَعَالَى باتباعه هم الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط فوجدناه صَحِيحا لبرهانين:
أَحدهمَا : أَنه اجماع لَا خلاف فِيهِ من أحد ، وَمَا اخْتلف قطّ مسلمان فِي أَن مَا أجمع عَلَيْهِ جمع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون خلاف من أحد مِنْهُم اجماعا متيقنا مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ فانه اجماع صَحِيح لَا يحل لأحد خِلَافه
)
هذا أول البرهانين وهو احتجاج على الإجماع بالإجماع ، وهو باطل لا محالة.
ونقول : الذين أجمعوا على أن إجماع الصحابة هل هم الصحابة أم عصر آخر غير عصرهم؟
أما الأول فباطل من جهتين :
الأول : إنه احتجاج على الشيء بنفسه كما تقدم.
الثاني : المطالبة بالنقل عن جميع الصحابة. ولا نقل سوى الدعوى ، وهو لا يقبل النقل عن صحابي واحد إلا بالسند الصحيح المتصل ، فكيف نقبل دعواه على جميع الصحابة بغير سند أصلاً؟!
أما الثاني ، وهو أن الإجماع على حجية إجماع الصحابة هو إجماع عصر آخر بعدهم ، فجوابه من أربعة أوجه:
الأولين المذكورين سابقاً .
والثالث : أنه صرح بأن إجماع من بعد الصحابة ليس بحجة.
والرابع : أن ننقضه بنقل الخلاف في الإجماع ككل ، فقد نقل غير واحد الإختلاف في إمكان الإجماع في نفسه عن الإمامية.
ونُقل الخلاف في إمكان العلم بالإجماع على فرض إمكان وقوعه ، ونقلوا هنا قول أحمد : "وما يدريه لعل الناس اختلفوا" وابن حزم ظاهري حتى في كلام الناس، فليس له أن يرده بتأويل من تأوله وأخرجه عن ظاهره.
ونقلوا أيضاً الخلاف في حجيته على فرض إمكانه في نفسه وإمكان العلم به نقلوا هنا قول النظام وبعض الخوارج وبعض الإمامية.

قال رحمه لله : (وَالثَّانِي ـ أي من البرهانين الضرورين على أن إجماع الصحابة حجة ـ أَنه قد صَحَّ أَن الدّين قد كمل بقوله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء، وَصَحَّ أَنه كمل، فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل.
واذا كَانَ هُوَ كَذَلِك فَمَا كَانَ من عِنْد الله تَعَالَى فَلَا سَبِيل الى مَعْرفَته إِلَّا من قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي من عِنْد الله، والا فَمن نسب الى الله تَعَالَى أمراً لم يَأْتِ بِهِ عَن الله عهد فَهُوَ قَائِل على الله تَعَالَى مَالا علم لَهُ بِهِ، وَهَذَا مقرون بالشرك وَوَصِيَّة ابيلس، قَالَ الله تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ}
فاذن قد صَحَّ أَنه لَا سَبِيل الى معرفَة مَا أَرَادَ الله تَعَالَى الا من قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكون الدّين الا من عِنْد الله تَعَالَى؛ فالصحابة رضى الله عَنْهُم هم الَّذين شاهدوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسمعوه فاجماعهم على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ هُوَ الاجماع المفترض اتِّبَاعه لأَنهم نقلوه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الله تَعَالَى بِلَا شكّ
)
أقول : لو أعرضنا عن هذا واكتفينا بأنه مجرد كلام ، لكفى.
ولكن قطعاً للغشب نقول : لو أن أحدهم زاد فقال ، والتابعين هم الذين شاهدوا الصحابة وسمعوا ما عندهم من الوحي الذي سمعوه عن رسول الله فإجماع التابعين على ما أجمعوا عليه هو المفترض اتباعه لأنه نَقْلٌ عن الصحابة الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نعيد الكلام في أتباع التابعين ثم أتباعهم إلى قيام الساعة، لكانت حجته من جنس حجة ابن حزم.
وهذا جواب إجمالي أما التفصيلي فنقول :
قوله : (واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء، وَصَحَّ أَنه كمل، فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله عز وَجل)
أقول : دعوى الإتفاق باطلة ، فإن كثير من العلماء يزعمون أن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة ، لذا قالوا بالقياس والاستحسان والاستصلاح وغير ذلك مما ليس بنص كتاب ولا سنة، وقد نقل هذا عنهم ابن حزم نفسه في (الإحكام) فكيف صح له ادعاء الإتفاق؟!
وعليه بطل ما بناه على هذا الإتفاق المزعوم.
فإن قال : كلام المخالف مردود بقوله سبحانه {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ}.
قلنا : الإجماع المزعوم باطل سواءً أخطأ المخالف أو أصاب.
ثم المخالف يزعم أن القياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها من دين الله كما سيأتي قريباً .
وأيضاً : من أين قلتم أن الإجماع إذا كان عن نص فلا إجماع إلا إجماع الصحابة ، ولماذا لا يجوز أن يكون إجماع غير الصحابة هو أيضاً عن نص وهو حجة أيضاً كإجماع الصحابة؟
إن قال : لو كان ثمة نص أجمعوا عليه ، لما خفي على الصحابة ، بل إن النص لا يصل إلى المجمعين عليه من غير الصحابة إلا عن طريق نقل الصحابة.
قلنا : وبهذا نقول ، ولكن يجوز أن ينقله بعض الصحابة ولا يعلمه البعض الآخر فيختلفوا ، ويعلم به من بعدهم فيجمعوا عليه ويكون هو مستند إجماعهم.
ويجوز أيضاً أن يكون الصحابة مجمعين عليه ، ولكن لم ينقل لنا إجماعهم ، وأجمع من بعدهم ونقل لنا إجماعهم.
فبطل الاختصاص المزعوم.

قال رحمه الله ص30 : (ثمَّ نَظرنَا فِي القَوْل الثَّالِث وَهُوَ ان اجماع الصَّحَابَة اجماع صَحِيح وَأَن اجماع أهل عصر مَا مِمَّن بعدهمْ اجماع ايضا وان لم يَصح فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اجماع فوجدناه بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا:
1. أما أَن يجمع أهل ذَلِك الْعَصْر على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم.
2. واما ان يجمعوا على مَا لم يَصح فِيهِ اجماع وَلَا اخْتِلَاف، لَكِن :
أ. اما على أَمر لم يحفظ فِيهِ عَن أحد من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم قَول.
ب. وَأما على أَمر حفظ فِيهِ عَن بَعضهم قَول وَلم يحفظ فِيهِ عَن سائرهم شَيْء.
فان كَانَ اجماع أهل الْعَصْر الْمُتَأَخر عَنْهُم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فقد غنينا باجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَوَجَب فرض اتِّبَاعه على من بعدهمْ.
وَلَا يجوز أَن يزِيد اجماع الصحابه قُوَّة فِي ايجابة مُوَافقَة من بعدهمْ لَهُم كَمَا لاتقدح فِيهِ مُخَالفَة من بعدهمْ لَو خالفوهم بل من خالفهم وخرق الأجماع الْمُتَيَقن على علم مِنْهُ بِهِ فَهُوَ كَافِر اذا قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ بذلك وَتبين لَهُ الْأَمر وعاند الْحق
)
أقول : أولاً الكلام على إجماع من بعد الصحابة من حيث هو من غير نظر إلى موافقتهم لإجماع غيرهم أو مخالفتهم له، وكل ما استدل به على حجية الإجماع فهو صالح للاحتجاج به على حجية إجماع أي عصر كان.
أما كون إجماع الصحابة أغنى عن الإجماع بعده ، فهو كقولنا : الصحابة إما أن يجمعوا عن مستند أو على غير مستند ، فإن كان عن مستند غنينا به عن إجماع الصحابة.
وكذا نقول : لا يجوز القول بأن المستند يزيد قوةً بإجماع الصحابة عليه كما لا يقدح فيه مخالفتهم له لو خالفوه ، بل من خالف المستند المتيقن على علم منه وبعد قيامة الحجة عليه وتبيينه له وعاند الحق فيه فقد كفر.
فإن قيل : قد لا يبلغنا المستند، فيكون إجماع الصحابة دليلاً عليه، وأيضاً لا يتصور إجماع الصحابة على مخالفة المستند أو إجماعهم على الكفر.
قلنا : وكذا إجماع الصحابة قد لا يبلغنا ، فإنه ربما تعذر علينا الوصول إلى قول بعضهم أو خفي النقل لإجماعهم، فلا يكون مغنياً عن إجماع من بعدهم على فرض حصول إجماعهم. كما لا يتصور إجماع من بعد الصحابة على خلاف إجماع الصحابة ، ولا يتصور في من بعدهم الإجماع على الكفر.
ثم نقول : قد ينقل إجماع الصحابة إلينا بطريق لا تفيد العلم اليقيني ، وينقل إجماع من بعدهم نقلاً متواتراً ، فنستفيد، أو يكون إجماع الصحابة ظني الدلالة بنقل ألفاظ غير يقينية الدلالة عنهم ، ويجمع من بعدهم إجماعاً يقيني الدلالة على حكم ما أجمعوا عليه ، وهكذا فنستفيد أيضاً.
هذا كله على فرض أن إجماع من بعد الصحابة جاء موافقاً لإجماع الصحابة.

قال رحمه الله : ( وان كَانَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا صَحَّ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهَذَا بَاطِل وَلَا يجوز ان يجْتَمع اجماع وَاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعاً، واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر وَأَن يمنعوا من الاجتهاد الَّذِي أداهم الى الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة اذا أدّى انسان بعدهمْ دَلِيل الى مَا أدّى اليه دَلِيل بعض الصَّحَابَة لِأَن الدّين لَا يحدث على مَا قُلْنَا قبل)
أقول : إن أراد أن اجتماع الخلاف والاجتماع في المسألة الواحدة في الزمان الواحد من وجه واحد باطل ، فنعم نسلمه بدلالة العقل، والباطل هنا بمعنى المستحيل.
وإن أراد الإجماع والخلاف في المسألة والواحدة في زمانين أو من وجهين مختلفين باطل ، فهذا لا برهان له به، وما كان كذلك فلا يجوز اتباعه فيه، وسيأتي البرهان على صحة وقوع الإجماع والإختلاف في المسألة الواحدة في زمانين مختلفين أو من وجهين مختلفين.
قوله (واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر) باطل لا محالة ، وبيانه أن اختلاف الصحابة إما أن يكون من عند الله أو لا يكون، وقد بطل أن يكون الخلاف من عند الله كما قدمه هو في أول المسألة ، فبطل أن يكون حلالا للصحابة ذلك الإختلاف، إذ الحلال ما أحله الله ، وقد أبطل هو أن يكون الاختلاف من عند الله، فبطل أن يكون حلالا.
وإذا لم يكن حلالاً كان حراماً باطلاً ، وكل ما كان كذلك فهو ممنوع وكل ما أدى إليه ممنوع أيضاً إذ الحق لا يؤدي إلى باطل ، فعلمنا أن المؤدي إلى الباطل باطل.
فإذا عرفت هذا فإن النظر الذي قاد إلى هذا الخلاف هو أيضاً باطل ، وبيانه أن النظر هنا نظر ينقسم إلى نظر الصحابة الذين وصلوا به إلى الحق والثاني نظر الصحابة الذين أدى بهم النظر إلى الباطل ، فالنظر الثاني هو سبب الخلاف إذ لو كان حقاً لأدى إلى الحق الذي قالت به الجماعة المخالفة لهم.
ومع ذلك فإنا لا نؤثم أحداً منهم لأنهم لم يتعمدوا باطلاً ولا خلا فعلهم من عذر، فإن من لم يبلغه النص المخصص مثلاً فعمل بالعام ، فإنه لا يعلم أن العموم هنا غير مراد وأن العمل به خطأ ، ولا يسعه سوى العمل بما بلغه.
فإن أجمع من بعدهم على قول بعضهم ، فقد انتقلوا مما حرم الله من الإختلاف إلى ما فرضه عليهم من الإجتماع ، وبطل أن يجوز الإختلاف بعد ذلك بدعوى أنه قد حل للصحابة النظر الذي أدى إلى اختلافهم ، لما تقدم من كون اختلافهم السابق حرام من حيث هو اختلاف ، وأن النظر الذي أدى إلى الاختلاف ـ وهو نظر الجماعة المخطئة ـ ليس بحلال.
ولا يجوز أن يقال أن الصحابة المختلفون أباح كل واحدٍ منهم لصاحبه النظر مطلقاً ، بل ما منهم إلا ويعتقد أن الصواب معه وأن مخالفه مخطئ في قوله ونظره ، وأن الصواب أن يتركه ويرجع إلى قوله.
فهذا إجماع على عكس مدعى ابن حزم.
فإن قيل : قد يجوز أن لا يكون الصحابي مستيقناً من قوله فلا يجزم بخطأ خصمه لا في نظره ولا في ثمرة ذلك النظر.
قلنا : هذا لا يجري على قول ابن حزم المطالب باليقين ، ونسلمه ثم نقول : فإما أن يكون جميع الصحابة المختلفين ظانين ظناً وغير مستيقينين من النظر وثمرته فيما اختلفوا فيه ، يكون بعضهم ظاناً وبعضهم مستيقنا.
وعلى الأول : يكون إجماعاً على جواز العمل بالظن ، وهو خلاف مذهب ابن حزم الذي يشترط اليقين في معرفة الأحكام، بل وفي طرقها. وليس فيه مع ذلك أنهم يصححون قول الخصم ولا نظره الموصل إليه ، بل هم في هذه الحال يظنون أن الخصم مخطئ في قوله ونظره، وأن عليه أن يترك ذلك إلى قول المحق ونظره ؛ فلا إجماع على إباحة ذلك النظر بخصوصه.
وإن كان بعضهم مستيقن وبعضهم ظان فالأمر أوضح.

وإذا عرفت هذا واتضح لك أن الخلاف ليس من عند الله فقد بطل أن يكون الإختلاف أو ما أدى إليه من الدين الذي كمله الله سبحانه خلافاً لقول ابن حزم رحمه الله.

وقال رحمه الله : (وبرهان آخر وَهُوَ أَن هَؤُلَاءِ أهل هَذَا الْعَصْر الْمُتَأَخِّرين وَمن وافقوه من الصَّحَابَة أَنما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِيَقِين اذا لم يدْخل فيهم من روى عَنهُ الْخلاف فِي ذَلِك من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واذ لَا شكّ فِي أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ فقد بَطل ان يكون اجماع لِأَن الاجماع انما هُوَ اجماع جمع الْمُؤمنِينَ لَا اجماع بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى نَص على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر})
وكذا كرر الاستدلال بهذه البعضية فيما لو وقع الإجماع على لم يحفظ فيه عن الصحابة إجماع ولا خلاف فقال : (ثمَّ نَظرنَا فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا لم يحفظ فِيهِ اجماع وَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لَكِن اما على حكم حفظ فِيهِ قَول عَن بعض الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون بعض أَو لم يحفظ فِيهِ عَن أحد مِنْهُم من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم شَيْء فوجدناه لَا يَصح لبرهانين
أَحدهمَا أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ لَا كلهم وَلم يَقع قطّ على أهل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اسْم جَمِيع الْمُؤمنِينَ لأَنهم قد سلف قبلهم خِيَار الْمُؤمنِينَ فاذن أهل كل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم انما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِلَا شكّ وَعَلِيهِ فقد بَطل أَن يكون اجماعهم اجماع الْمُؤمنِينَ وَلم يُوجب الله تَعَالَى علينا قطّ اتِّبَاع سَبِيل بعض الْمُؤمنِينَ وَلَا طَاعَة بعض أولى الْأَمر وَأما الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فانهم فِي عصرهم كَانُوا جَمِيع أولى الْأَمر اذ لم يتكن مَعَهم أحد غَيرهم فصح أَن اجماعهم هُوَ اجماع جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبَطل ذَلِك القَوْل جملَة
)
أقول : مقتضى هذا القول أن لا يلزم أحد من الناس اتباع الإجماع ، ويكون أمر الله بذلك باطلاً ، وهذا كفر ممن أجازه إذا علمه وعاند فيه ، كذا قاله ابن حزم ص 25 .
وبيان أن كلام ابن حزم يقتضي أنه لا يلزم أحد اتباع الإجماع أن الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إجماع لهم ، لإنه إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المجمعين فالحجة في قوله خاصة ، وإن لم يكن معهم ، فلا حجة في قولهم بيقين لا يشك في هذا مؤمن. وبعد موته هم بعض المؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس المؤمنين .
ولو تنزلنا وقلنا : لا يؤثر موته صلى الله عليه وسلم في الإجماع بعده ، والكلام في أمته فقط ، قلنا : فلا إجماع بعد موت ورقة نوفل ومن بعده من الصحابة قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الصحابة بعدهم بعض المؤمنين كما قال ابن حزم.
وبذلك تبطل جميع دعاوى الإجماع ويصح أنه لا يلزم أحد اتباع الإجماع وأن أمر الله سبحانه بذلك باطل، وهو ما جعل ابن حزم ادعاؤه كفراً ممن أجازه إذا علمه وعاند فيه.
ثم نقول : لو تنزلنا وقلنا العبرة بمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا نقول : فالصحابة ليسوا جميع المؤمنين ، لأنه قد جاء بعدهم الكثير من المؤمنين ، فهم بعض المؤمنين.
فإن قيل : العبرة بالمؤمنين زمن الإجماع .
قلنا : فيستوي بذلك كل عصر ولا يختص بعصر الصحابة، فالعبرة بإجماع جميع مؤمني ذلك العصر ـ طبعاً بشروطه من تحقق الاجتهاد فيهم ـ .
فإن قيل : لا عبرة بمن سيخلق وإنما العبرة بمن خلق فقط.
قلنا : هذه دعوى ، ولا برهان فهي باطلة، فإنه إذا جاز الاعتداد بمن لا وجود له ممن مضى ، جاز الاعتداد بمن لا وجود له ممن سيأتي، لأن المقصود تحقيق الكلية والبعضية، والاعتداد بغير الموجود في عصر دون آخر يستوي فيه الماضي والآتي.
سلمنا : فنقول فلا إجماع بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه ، وكانت ماتت بعده بستة أشهر. ثم الصحابة بعد ذلك بل وقبله لم يكونوا جميع المؤمنين فقد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لم يصحبوه ولا رؤوه ، وقد عرف كثير منهم ، وهم من يسمون بالمخضرمين ، ولم يعرف أكثرهم. فالصحابة في كل وقت وحال بعض المؤمنين لا كلهم.
فصح أن قول ابن حزم يؤدي إلى أن لا يلزم أحد من الناس اتباع الإجماع ، وأن أمر لله بذلك باطل.
فإذا فهمت هذا علمت أن قوله رحمه الله هو الباطل ، لا أمر الله سبحانه بالاجتماع وباتباع الإجماع.

... يتبع ...
 
التعديل الأخير:
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: خواطر أصولية مع ابن حزم (في النبذ)

أقول : إعلم أن عامة ما تقدم من اعتراضات على ابن حزم مأخوذ من كلامه هو في (الإحكام) فإنه خالف هناك أصحابه في الاعتداد بإجماع الصحابة ، وصحح ـ باللازم ـ صحة إجماع أهل كل عصر لحديث (لا تزال طائفة من أمتي)، ولكن نبه أنه لا سبيل إلى الإطلاع على إجماع أحدٍ منهم لا الصحابة ولا من بعدهم.
وصحح من الإجماعات ما إذا خالف المخالف فيه كفر ، أو ما حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً أو فعل فيه فعلاً يستوي في العلم به الحاضر والغائب كمساقاته أهل خيبر.
وما ذكره في (الإحكام) أوفق وأقرب لقواعده وتصرفاته في عامة كتبه.
وهو أيضاً لا يدفع ما ذكره هنا من أن قوله هذا يستلزم أنه لا إجماع وأنه لا يجب على أحد اتباع الإجماع وأن الأمر به باطل ، وأن ذلك يستلزم الكفر عند من علم به وعاند. لأن المتبع في الصورتين المذكورتين هو النص الذي يستوي في العلم به الكل ، والإجماع لا يزيده قوة إذا وافقه كما لا يضره أو يضعفه إذا خالفه ، كما تقدم عن ابن حزم في إجماع عصر من العصور على ما أجمع عليه الصحابة.

أقول : الذي أعتقده أنه لا إجماع سوى السكوتي . والله أعلم.
وذلك أنه لو قال واحد من الناس : قال عمر أو قال أبو بكر لم يقبل منه حتى يصحح نقله فيه ، فكيف يقبل منه إذا قال : قال الصحابة ، من غير إبراز أسانيد النقل عن أكثر من عشرة آلاف صحابي؟
فإن قيل : إنما المعتبر به هو فقهاؤهم.
قلنا : فهم أيضاً كثر كما تراه في (الإحكام) و(إعلام الموقعين) عند الكلام على فقهاء الصحابة ، وقد ذكر ابن حزم أن من نقلت عنه الفتوى من الصحابة يبغلون نحو بضع وثلاثين ومائة، ولا عهد لنا بإجماع واحد منسوب إلى الصحابة ينقل عن جميع فقهائهم بأسانيد متصلة إليهم.
فلم يبقَ إلا قول من خالفه كفر ، فندري بيقين أن جميع المؤمنين قائلين به.
أما القسم الثاني الذي ذكره ابن حزم وهو فعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستوي الناس في العلم به، فلا يفيد إجماعاً لأن الناس قد تختلف في تأويل ذلك الفعل. وهي القضية التي استدل بها ابن حزم من مساقاة أهل خيبر، قد اختلف فيها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من رأى جواز كراء الأرض ببعض ما يخرج منها ومنهم من منعه كما نقله ابن حزم نفسه في (محلاه) فبطل أن تكون الصور الثانية من صور الإجماع أصلاً.
فإذا كان الأمر كما ذكرنا ، وكنا قد أمرنا بالتزام الجماعة والسواد الأعظم نهينا عن الشذوذ ، ولم يكن ثمة إجماع يمكن الرجوع إليه سوى السكوتي، فقد علمنا أنه المقصود بالاتباع. ولا يضر بعد ذلك أن يظهر الخلاف ، فإن الإجماع السكوتي كالحديث المنقول ، يجب اتباعه بلا خلاف ممن يعتد به ، ومع ذلك متى ضهر ضعفه ترك.
ولهذا علاقة بإجماع الطائفة من الناس لا يعلم لهم مخالف فنقول :
2. إجماع طائفة من الصحابة هل يكون حجة؟!
قال رحمه الله : (وَبِمَا ذكرنَا آنِفا فِي ابطال الْقسم الثَّالِث بَطل قَول من قَالَ أَن مَا صَحَّ عَن طَائِفَة من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَلم يعرف عَن غَيرهم انكار لذَلِك فانه مِنْهُم اجماع لِأَن هَذَا انما هُوَ قَول بعض الْمُؤمنِينَ كَمَا ذكرنَا وَأَيْضًا فان من قطع على غير ذَلِك الْقَائِل بِأَنَّهُ مُوَافق لذَلِك الْقَائِل فقد قفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا اجرام قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} فليتق الله تَعَالَى كل امريء على نَفسه وليفكر فِي أَن الله تَعَالَى سَائل سَمعه وبصره وفؤاده عَمَّا قَالَه مِمَّا لَا يَقِين عِنْده بِهِ وَمن قطع على انسان بِأَمْر لم يوقفه عَلَيْهِ فقد وَاقع الْمَحْذُور وَحصل لَهُ الاثم فِي ذَلِك فان قيل هم أهل الْفضل والسبق فَلَو انكروا شَيْئا لما ستكتوا عَنهُ قُلْنَا وَبِاللَّهِ تعالى التَّوْفِيق)
أقول : سلمنا أن الطائفة بعض المؤمنين فمن أين لنا أن إجماع بعض المؤمنين لا يعلم لهم مخالف يجوز خلافه وترك القول به؟
فإن قيل : الدليل على من فرض اتباعهم.
قلنا : ما نقل عن بعضهم ولم يوجد لهم فيه مخالف إما أن يكون فيه نص أو لا يكون .
والأول ليس موضع الكلام ، إذ الحجة في النص حنيئذٍ ، وقد تقدم.
والثاني : إما أن يكون الحق مع من بلغنا قولهم أو مع من لم يبلغنا قولهم، وليس هناك ثالث.
والثاني باطل إذ مقتضاه أن الحق غير محفوظ. فلم يبقَ إلا الأول وهو أن الحق مع من نقل قولهم.
فإن قيل : فإنه يجوز أن يكون غيرهم مخالف.
قلنا : لا يضر التجويز ، وإلا لم يصح دليل أصلاً ، فإن الحديث الصحيح يجوز أن تظهر لنا فيه علة كانت خافية والعام يجوز أن يظهر لنا فيه مخصص لم نكن نعلمه والنص يجوز أن يكون له ناسخ ، والمطلق يجوز أن يوجد ما يقيده وهكذا.
فإذا لم يكن الغائب الذي يجوز وجوده قادحاً فيما بلغنا ووصل إلينا في النصوص فكذلك فيما أجمع عليه طائفة من الصحابة لم يعلم لهم مخالف.
ويدل عليه قوله سبحانه {وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك} قال ابن حزم الظاهري في تفسيرها : (أَن الاجماع المفترض علينا اتباعة انما هُوَ اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط وَلَا يجوز ان يجمع اهل عصر بعدهمْ على خطأ لِأَن الله تَعَالَى قد ضمن ذَلِك لنا بقوله تَعَالَى {وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك} وَالرَّحْمَة انما هِيَ للمحسنين بِنَصّ الْقُرْآن فاذا كَانَ قطع على انه لم يكن خلاف فَهُوَ اجماع على حق يُوجب الرَّحْمَة وَلَا بُد)
فحينئذٍ نقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ) فإذاً هم مجمعين دائماً إجماعاً يوجب الرحمة لا يخرج عن ذلك إلا ما ثبت اختلافهم فيه عملاً بعموم الحديث ، ولا يخرج عن ذلك إلا ما ثبت اختلافهم فيه بيقين.

... يتبع ...
 
التعديل الأخير:
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: خواطر أصولية مع ابن حزم (في النبذ)

استدراك : قد زعم رحمه الله وكرره أنه إن لم يكن إجماع فهو خلاف لا محالة ، ولم يحتج له بشيء ، واحتج له في (الإحكام) فقال : (فإن قال قائل فإذ هو كما قلتم فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا إنه إجماع؟!
قلنا : نعم فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين :
أحدهما: أن الأصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم.
والثاني: لأن الله تعالى بذلك قضى إذ يقول {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} فصح إن الأصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى أننا لا نزال عليه والذي له خلقنا إلا من استثنى من الأقل.
وبرهان ثالث وهو الذي لا يسع أحدا خلافه : وهو أن ما ادعيتم فيه الإجماع بالظن الكاذب كما قدمنا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا.
إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك سواء أجمع الناس أم اختلفوا ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الإجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الإجماع البتة وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون وإلى مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى كاذبة مفتراة وهذا لا يحل وإذا كان هذا القسم فنحن نقطع حينئذ ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا لأن الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه صلى الله عليه وسلم من الإجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
)
سبحان الله ، إني لأتفكر في كلامه وفي نفسي فلا أدري ما كان يقنعني بكلامه رحمه الله ، إذ هو عند التمحيص يكاد يخلو إلا من التهويل والجرأة في الطرح.
فهاك النظر فيما قال :
أما برهانه العقلي واحتجاجه باختلاف الأغراض والطبائع ، فإنه لا يفيد ضرورة الإختلاف ، بدليل موافقته رحمه الله على وقوع الإجماع في المسائل التي هي من جنس ما إذا خالف المخالف فيها كفر ، ومن جنس ما يعم العلم به الصغير والكبير والحاضر والغائب ، كما وافق على عدد من الإجماعات ليس هذا شأنها كما في كتابه (مراتب الإجماع) ، ولو كان اختلاف الأغراض والطبائع يدل على ضرورة الإختلاف ما وجد إجماع قط.
فلو قيل : قد قلنا بأن الأصل الإختلاف ولم ننكر الإستثناء.
قلنا : هذا ليس بجواب ، فإن دعوى الضرورة المزعومة في البرهان لو صحت لم يكن هناك استثناء أصلاً ، فإذا جاز استثناء بعض المسائل ، فقد بطلت الضرورة المزعومة .
فإن قالوا : بل هو برهان ضروري ، وإنما خرج الخارج من الإجماعات لوجود سبب دعى إلى إجماعهم لولاه لبقوا على الخلاف للضرورة المستفادة من البرهان المذكور.
قلنا : فيرجع الكلام في سبب الإستثناء ، ونقول : فحيث لم ينقل إجماع أو خلاف ، فمن أين لكم أن ليس هناك سبب يوجب الإجماع وقد قال الله سبحانه {ولا تقف ما ليس لك به علم}؟
فإن قيل : عملاً بالأصل.
قلنا : فإما أن يجوز أن يكون هناك سبب للإستثناء قد غفلتم عنه أو لا يجوز ذلك قط وتقولون : بل نحن نعلم بيقين أنه ليس هناك سبب للإستثناء.
فإن قالوا بالثاني : التزمنا قوله سبحانه {إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} وإنما الكلام مع من تواضع لله وترك الكبر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (الكبر بطر الحق وغمط الناس).
وإن قالوا بالأول ، صار العمل بالأصل ظنياً لاحتمال تخلفه ، والعمل بالظن باطل عنده وعند أتباعه.
ثم نقول : دعوى أن ما ذكرتم برهان ضروري على وجوب الإختلاف إنما يصح لو سلمناه حيث لم يوجد داعٍ إلى الإجماع كما تقدم ، فهو أخص من الدعوى.
وأيضاً : دعوى أن ما ذكرتم يوجب الخلاف غير مسلم ، لأن العقول والأغراض والطباع لا تختلف اختلافاً كلياً ، بل تتفق في كثير من الأشياء ، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ، ومقتضاه اتفاق الطباع على أن ما حف الجنة مكروه للنفس، وأن ما حفقت به النار مشتهى للنفس، فاجمع معه قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ) وهذا يقتضي الإتفاق على كثير من الحلال والحرام.
فإن كان النظار في ما يؤدي بنا إلى الجنة من مكاره والنار من شهوات من أحلم الناس بالحلال البين والحرام البين ، وهم علماء الأمة ، فقد ظهر أن الأصل اتفاقهم لا اختلافهم بنفس البرهان المزعوم.
أما برهانه الثاني وهو احتجاجه بقوله سبحانه {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} فهو عام يشمل الناس مؤمنهم وكافرهم ، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بقوله (أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ) فعلمنا أنهم ممن استثناهم الله سبحانه بنص الآية، فيكون الأصل فيهم الاتفاق لا الاختلاف.
أما قوله : (إلا من استثنى من الأقل) ، فنحن الأقل ـ أي أمة محمد عموماً وعلماؤها خصوصا ـ قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ»
أما برهانه الثالث القاطع ، فحاصله أن ما أجمعت عليه طائفة لا يعلم لهم مخالف إما أن يكون مخالف للنص أو موافقاً له ، والأول يغني النص عن تكلف الإجماع، والثاني لا شك أنه اختلاف وإلا كان إجماع على خلاف النص وهو باطل.
والجواب : أن هذه القسمة إما باعتبار ما في نفس الأمر أو باعتبار ما بلغنا.
أما ما في نفس الأمر فلم نكلف به ما لم نعلمه ، فلا اعتراض به قبل ظهوره.
أما الثاني فإن القسمة لا تكون ثنائية ، بل يقال : إن ما أجمعت عليه طائفة لا يعلم لها مخالف أما أن يكون موافقاً لنص نعلمه ، أو مخالفاً لنص نعلمه أو لا نعلم موافقته ولا مخالفته للنص.
فالأول والثاني ليسا موضع البحث مع ابن حزم للاتفاق على أن العمل بالنص.
أما الثالث : فهو موضع البحث ، فإنا نقطع أن المسألة فيها نص في نفس الأمر وإن لم نعلمه ، فهل قول الطائفة التي نقل لنا اتفاقها موافق للنص أو مخالفة له؟
من يدعي أن قول الطائفة إجماع يزعم أنه موافقٌ له لبرهانين ضرورين ـ جرياً على كلام ابن حزم رحمه الله في حفظ الدين ـ :
الأول : أنا لو لم نقل هو حجة فقد زعمنا أن النص لم يحفظ ليبلغنا ولا حفظ القول الموافق له، فيكون بعض الدين قد ضاع، وهو باطل.
فلم يبقى سوى أن قول الطائفة المتفقة هو الموافق للنص وهو إجماع صحيح دال على ذلك المستند الذي لم يبلغنا.
الثاني : ما يأتي عند الكلام على إحداث القول الثالث ، وحاصله أنه لو لم يعلم للأمة إلا قول واحد ، أو قولين ، فإحداث آخر لو كان من الدين لحفظ ، فلما لم يحفظ علمنا أنه ليس من الدين، فلم يبقَ سوى ما اجتمعت الطائفة التي نقل إلينا قولها، لأن الأقوال إما حق وإما باطل ، ومحال أن يكون في المسألة قولين أحدهما حق فلا يحفظه الله ولا دليله ويحفظ القول الباطل ، قال سبحانه : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} فمن زعم القول الباطل هو الباقي والحق قد ذهب فقد ناقض الله في قوله وأكذبه، فإن علم ذلك وعاند فقد كفر والعياذ بالله.

سلمنا أن إجماع طائفة من الصحابة مطلقاً لا يكون حجة ، فإجماع بعض معين منهم قد يكون حجة لمزية فيهم كوجود نص مصرح باتباعهم كقوله صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لَا أَرَى بَقَائِي فِيكُمْ إِلَّا قَلِيلًا، فَاقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي - وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَاقْبَلُوهُ»
فيكون إجماع هؤلاء الأربعة ، أو قول واحدٍ منهم حجة لهذا الحديث.
فإن قيل : فإنهم يختلفون ، فيدل ذلك على أنهم ليسوا معصومين ، وغير ذلك مما يلهج به من لا يعلم.
قلنا : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بأمر لا سبيل إلى اتباعه ، فيكون ما اختلفوا فيه ليس هو المقصود بالحديث ، وإنما نتبعهم حيث أجمعوا وحيث يقول أحدهم القول لا يخالفه فيه باقي المذكورين ، ضرورة إخراج ما لا يعقل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبقاء دلالة باقيه على ظاهرها.


3. إجماع أهل المدينة :
قال رحمه الله : (وَأما من قَالَ ان الإجماع إجماع أهل الْمَدِينَة لفضلها وَلِأَن أهلها شهدُوا نزُول الْوَحْي؛ فَقَوْل خطأ من وُجُوه:
أَحدهمَا: أَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان.
وَالثَّانِي: أن فضل الْمَدِينَة بَاقٍ بِحَسبِهِ، وَالْغَالِب على أَهلهَا الْيَوْم الْفسق بل الْكفْر من غَالِيَة الروافض، فَنَقُول وانا لله وانا اليه رَاجِعُون على ذَلِك.
وَالثَّالِث : أن الَّذين شهدُوا الْوَحْي انما هم الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم، لَا من جَاءَ بعدهمْ من أهل الْمَدِينَة، وَعَن الصَّحَابَة أَخذ التابعون من أهل كل مصر.
وَالرَّابِع : أَن كل خلاف وجد فِي الْأمة فَهُوَ مَوْجُود فِي الْمَدِينَة على مَا قد سلف فِي كتبنَا وَالْحَمْد لله تَعَالَى كثيرا.
وَالْخَامِس : أن الْخُلَفَاء الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ لَا يَخْلُو حَالهم من اُحْدُ وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما :
أما أَن يَكُونُوا قد بينوا لأهل الامصار من رعيتهم حكم الدّين ، أَو لم يبينوا.
فان كَانُوا قد بينوا لَهُم الدّين؛ فقد اسْتَوَى اهل الْمَدِينَة وَغَيرهم فِي ذَلِك.
وان كَانُوا لم يبينوا لَهُم؛ فَهَذِهِ صفة سوء قد اعاذهم الله تَعَالَى مِنْهَا.
فَبَطل قَول هَؤُلَاءِ بِيَقِين.
وَالسَّادِس : أَنه انما قَالَ ذَلِك قوم من الْمُتَأَخِّرين ليتوصلوا بذلك الى تَقْلِيد مَالك بن أنس دون عُلَمَاء الْمَدِينَة جَمِيعًا، وَلَا سَبِيل لَهُم الى مَسْأَلَة وَاحِدَة أجمع عَلَيْهَا جَمِيع فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة المعروفون من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ خالفهم فِيهَا سَائِر الامصار.
وَالسَّابِع : انهم قد خالفوا اجماع اهل الْمَدِينَة وَغَيرهم فِي الْمُسَاقَاة كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي غير ذَلِك
)
أقول : أماقوله (أَحدهمَا: أَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان) إن أراد به لا برهان لصاحبه مطلقاً ، فخطأ فقد نقل هو عنهم احتجاجهم بفضل المدينة وشهود أهلها الوحي.
وإن أراد أنه لا برهان لههم يصح عنده ، فلا يضرهم من حيث دلالته على حجية إجماع أهل المدينة عند من صحح هذين البرهانين ، وإن لم ينفعهم الإحتجاج به على من خالفهم ممن لا يرى الإحتجاج بذلك. كشأن سائر الحجج والبراهين ، فهي حجة على معتقد صحتها دون من لم يعتقده.
فإن قال : شأن الحجة أن تكون صحيحة في نفسها مقتضية لمدلولها مطلقاً.
قلنا : إن أردتَ أن هذا شأنها في نفس الأمر ، فنسلمه ، لكن نقول : ليس من شأن البرهان أن يظهر للجميع ، فقد يعلم البعض وجه الاحتجاج بها ويجهله آخرون فيعرضون عنه، وفرض كل واحدٍ منهم العمل بما أداه إليه اجتهاده ، فإذا كان المالكية يرون صحة الإحتجاج بما تقدم على حجية إجماع أهل المدينة .. كفاهم.
ونبين نحن وجه الإحتجاج به بما يصلح أن يكون حجة على ابن حزم رحمه الله خاصة وإن لم يكن حجة عند غيره.
فنقول : لا خلاف أن الدعاوى كلها ليست إلا حق أو باطل قال سبحانه : {فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ، وأن الله سبحانه ما أحل إلا طيب ولا حرم إلا خبيث ، فقال {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} فبحسب تعبيره رحمه الله نقول : فقد علمنا بيقين أن الدعاوى الباطلة من الخبائث التي حرم الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ، تُخْرِجُ الْخَبِيثَ) ، فبطل أن يكون فيه دعوى باطلة مجمع عليها ، فبان أن ما يجمعون عليه إنما هو حق.
فإن قيل : فإن كثير من أهل المدينة قد يقول بالخطأ والباطل كما قدمناه من فشو الرفض وغيره فيهم.
قلنا : على فرض تسليمه ، فهو ثابت فيما قاله بعضهم وخالفهم فيه آخرين ، أما غيره فليس إلا الحق لعموم الحديث المتقدم.
وهذه حجة لازمة على مذهبه إلا أن يجد نصاً يرده به.
قوله رحمه الله : (وَالثَّانِي: أن فضل الْمَدِينَة بَاقٍ بِحَسبِهِ، وَالْغَالِب على أَهلهَا الْيَوْم الْفسق بل الْكفْر من غَالِيَة الروافض، فَنَقُول وانا لله وانا اليه رَاجِعُون على ذَلِك)
أقول : لا أعلم مالكياً يقول أن إجماع أهل المدينة حجة في كل زمان حتى يعترض عليهم بأنه الناس في زمنه كانوا على الباطل من الرفض وغيره.
ولو فرضنا قائلاً به ، فنحتج له : بأن الحجة إنما هو إجماعهم لا قول أكثرهم حتى يعترض عليهم بفشو الرفض فيهم فلا يضر فشو الباطل فيهم ما لم يجمعوا عليه .
ونقول : سلمنا ما ذكرته وأنه لا حجة في إجماعهم لفشوا الرفض ، فلا يقدح هذا في إجماعهم قبل فشوه وحصوله فيه ، وقد قال بعض المالكية الذين إن الإجماع المقصود إجماع الصحابة أو الصاحبة والتابعين وتابعيهم إلى عهد مالك.
 
التعديل الأخير:
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: خواطر أصولية مع ابن حزم (في النبذ)

قال رحمه الله : (فصل : في نوعين من الإجماع :
إذا اجْتمعت الأمة على إباحة شَيْء أَوْ تَحْرِيمه أَوْ إيجابه ثمَّ ادّعى بَعضهم ان ذلك الحكم قد انْتقل .. لم يلْتَفت الى قَوْله إلا بِنَصٍّ وَإلا فَقَوله بَاطِل؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا اجماع مَعهَا وَلَا نَص من كتاب وَلَا سنة. فَهِيَ سَاقِطَة لقَوْله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فصح أن من لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ صَادِقا أعنى فِي ذَلِك.
وَأما اذا جَاءَ نَصٌّ بِحكمٍ مَا ثمَّ خَصَّ الإجماعُ بعضَهُ فَوَاجِبٌ الإنقيادُ للأجماعِ فإن ادَّعَى مُدَّعٍ أن ذَلِكَ التَّخْصِيصَ متمادٍ وَخَالفَهُ غَيرُهُ فواجِبٌ قطعُ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالرُّجُوعُ الى النَّصِّ إذْ هُوَ الْبُرْهَانُ.
برهَانُ ذَلِكَ أن دَعْوَى التَّخْصِيصِ هَاهُنَا عَارِيةٌ من الإِجْمَاعِ وَمُخَالفَةٌ للنَّصِّ فَهِيَ بَاطِلَة.
فَالْأولُ : نُسَمِّيه اسْتِصْحَابُ الْحَالِ كَقَوْلِنَا فِيمَا ادَّعَاهُ قومٌ من فسخِ النِّكَاحِ بالعنةِ أو بالعيبِ قد صَحَّ النِّكَاحُ بإجماعٍ، فَلَا يَزُول الا بِنَصّ اَوْ إجماع.
وَالثَّانِي: نُسَمِّيهِ أقلُّ مَا قِيْلَ مِثْلُ أنْ النَّصَّ وَرَدَ تَحْرِيمُ الْأَقْوَالِ ثمَّ جَاءَ اجماعُ بإباحةِ شَيْءٍ مِنْهَا فَلَا نُبيحُ مَا قَالَهُ قَائِلٌ فِي ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ على مَا أباحَهُ الإجماعُ فَهَذَا حكمٌ الإجماعِ وَبَيَانِه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
)
أقول : لا بُدَّ أولاً من فهم معنى الاستصحاب وقاعدة أقل ما قيل ثم توضيح كيفية توصل ابن حزم رحمه الله إلا إدخالهما في الإجماع ثم مناقشته.
فنقول :
الاستصحاب : وهو القضاء بأن الحكم الثابت في وقتٍ ما باقٍ في غيره من الأوقات إذا لم يكن هناك دليل يرفعه.
ومثاله في كلام ابن حزم رحمه الله ، إذا تزوجت المرأة رجلاً نكاحاً استوفى الشروط والأركان ، فقد ثبت له حكم الصحة ، فإذا ظهر في الرجل عيب كالعنة أو الجذام أو البرص أو غيره ، فما هو الحكم حينئذٍ؟
قال ابن حزم رحمه الله : ثبتت صحة النكاح قبل ظهور العيب ، فالحكم باقٍ بعد ظهور العيب ما لم يأتِ نص يدل على تغير الحكم من الصحة إلى الفساد أو البطلان.
إذا عرفت هذا فإن ابن حزم جعله من الإجماع لكون مستند الحكم هو الإجماع السابق لحال الاستصحاب ، ثم جر حكم الإجماع بالإستصحاب إلى الحال الثانية ، أي حال ظهور العيب من عنة وجذام غيره، وقال كما قدمناه عنه : (إذا اجْتمعت الأمة على إباحة شَيْء أَوْ تَحْرِيمه أَوْ إيجابه ثمَّ ادّعى بَعضهم ان ذلك الحكم قد انْتقل .. لم يلْتَفت الى قَوْله إلا بِنَصٍّ وَإلا فَقَوله بَاطِل؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا اجماع مَعهَا وَلَا نَص من كتاب وَلَا سنة)
أقول : خصمه يعكس ويقول : الإجماع واقع على النكاح قبل ظهور العيب فقط ، وجره إلى غيره من الأحوال من الكذب على المجمعين ، فإنك لو سألتهم عن الحال الثانية فقد يختلفون كما في المثال المذكور ، فقد روي الخلاف فيه قبل المس وبعده ، فكيف يستباح بالاستصاحب جر حكم بغير مستند؟!
وإذا قد اختلفنا في الحكم في الحال الثانية بطلت دعوى الإجماع في الحالة الثانية ، ولم نتفق على استصحاب حكمه في الحالة الأولى لم يبقَ لنا إلا قوله سبحانه { فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، وبطل الاستصحاب.

أما أقل ما قيل : معناه أنه في حال اختلف المجتهدون في حكم تقديري على مقادير مختلفة ، فإن الإجماع حاصل على الأقل.
فمثلاً ، اختلفوا في دية اليهودي على أقوال : فقيل مثل دية المسلم وقيل نصفها وقيل ثلثها.
فقد حصل الإجماع على وجوب دفع الثلث ، لكن اختلفوا في الزيادة ، فيكون الإجماع على الثلث حجة على صحته. هذا وجه إدخال ابن حزم لهذه القاعدة في الإجماع.
وفيه نظر من جهة أن القائلين بالمماثلة وبالتنصيف يزعمون أن الثلث لا يسقط به الفرض أو المطالبة، وهو المطلوب في معرفة الحكم الشرعي.
وأيضاً القائلين بالمماثلة والتنصيف يزعمون أن الثلث لا يجب إخراجه إلا مع الزيادة لا بدونها، فلم يحصل إجماع.
فالقول بأن الثلث مجمع على إجزائه عن الدية باطل لا إجماع فيه.
وهذا واضح.

ثم تكلم رحمه الله في النص (الكتاب والسنة) ، قال رحمه الله : (قَالَ تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فصح أَنه لَا يحل التحاكم عِنْد الِاخْتِلَاف الا الى الْقُرْآن وَالسّنة)
أقول : لا خلاف فيما ذكر ، لكن يرد عليه احتجاجه بالإجماع والاستصحاب وأقل ما قيل ، فإن قال : العمل بها من العمل بالكتاب والسنة لدلالتهما عليها.
قال كل من خالفه في أصل من الأصول : وكذلك نقول في القياس وعمل الصحابي والاستحسان والاستصلاح وغيرها.
فإن قيل : لا نسلم.
قال خصمه : وكذلك نحن لم نسلم لك العمل بالاستصحاب وأقل ما قيل ، هذا جواب من خالفه فيهما ، ومن وافقه عليهما استدل بمخلفة هؤلاء أيضاً.

والله أعلم
 
أعلى