أركان الصَّوْم
للصوم ثلاثة أركان: النية، والإمساك عن المفطّرات، والصائم(
[1]).
الركن الأول: النيّة:
أي: قصد الصوم، وهي ركن في كل صوم فرضًا كان أم نفلًا لقوله ﷺ: >إنما الأعمال بالنيات<، متفق عليه.
· ويشترط فيها ما يلي:
١- أن تكون لكل يوم من أيام الصيام؛ فلا تكفي نية عامة لجميع شهر رمضان(
[2])؛ لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة. فلو نوى أول ليلة من رمضان صوم الشهر كله لم تكف لغير اليوم الأول.
٢- التبييت في صوم الفرض: ولو نذرًا أو قضاءً أو صوم استسقاء أمر به الإمام، وهو: إيقاع النية ليلًا في أيّ جزء منه من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ولو أثناء صلاة المغرب. فلو قارنت النية الفجر لم يصح صومه؛ لعدم التبييت؛ وذلك لخبر أبي داود والنسائي: >من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيامَ له< أي: صحيحَ، كما هو الأصل في النفي من توجّهه إلى الحقيقة.
والتبييت شرط ولو لصبي صغير أراد الصوم؛ فلا يصح صومه بدون تبييت.
· وأما في صوم النفل فلا يشترط التبييت بل يمتدّ وقتها إلى قبل زوال الشمس، بشرط عدم منافٍ للصوم كأكل وشرب وجماع؛ فلو نام شخص واستيقظ في الحادية عشر صباحًا ونوى الصوم اليوم تطوعًا لله صحّ صومه، لكن إن كان قد أكل أو شرب قبل النية فلا يصح الصوم، وكذا لا يصح الصوم لو نوى بعد الزوال. وذلك لحديث عائشة i قالت: >كان النبي ﷺ يأتيني فيقول: أعندكِ غَداء؟ فأقول: لا، فيقول: إني صائم<، رواه الترمذيّ وقال: >هذا حديث حسن<. والغَداء -بفتح الغين- اسم لما يُؤكَل قبل الزوال، والعَشاء اسم لما يُؤكَل بعده.
٣- التعيين في صوم الفرض: بأن ينوي أن يكون عن رمضان، أو كفارة، أو نذر. وخرج بالفرض النفل؛ فلا يجب التعيين فيه، بل يصح بنية مطلقة بأن يقول: >نويتُ الصوم غدًا لله تعالى<.
· وأكمل النية أن يقول: >نويتُ صومَ غدٍ عن أداء فرضِ رمضانِ هذه السنةِ إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم<. وأما أقل النية فهو أن يقول: >نويتُ صوم رمضان<، أو >نويتُ الصوم عن رمضان<؛ فلا تجب نية الغد، ولا الأداء، ولا الفرضية، ولا تعيين السنة، ولا الإضافة لله تعالى.
٤- ألّا يأتي بعدها بمنافٍ لها: كرفضها ليلًا، أي: أن يقطع نيته ولا يريد الصوم؛ فحينئذ لا تكفي لو صام ولا بد من تجديدها ليلًا، وكذا لو نوى الصيام ثم ارتدّ -والعياذ بالله- ثم عاد إلى الإسلام؛ فيجب تجديد نية الصيام.
〇 مسألتان:
الأولى: تصح النية في الليل وإن أتى بعدها ليلًا بما ينافي الصوم أي: بمفطِّر، كأن نوى في نصف الليل صوم غد، ثم أكل بعدها أو شرب أو جامع قبل الفجر؛ فهذا لا يضر النية ولا يحتاج لتجديدها. وكذا لو نام بعد النية ثم تنبّه ليلًا، فلا يجب التجديد؛ لأن النوم ليس منافيًا للصوم.
ولو نوت الحائض حال حيضها صوم الغد وهي تعلم أن دم الحيض سينقطع قبيل الفجر كأن مضى أكثر الحيض وهو 15 يومًا، أو كانت تعلم قدر عادتها كل شهر وأنه سينقطع، فتصح نيتها ولا يجب تجديدها. فإن لم يمض أكثر الحيض ولا قدر العادة منه ليلًا لم يصح صومها وإن انقطع الدم؛ لأنها لم تجزم بالنية ولم تبن على أصل تعتمد عليه.
الثانية: لا أثر للتردد الذي قد يكون في النفس ليلة الثلاثين من رمضان في صحة النية والصوم على اعتبار أن الشهر قد يكون 29 يومًا، فلو قال شخص ليلة الثلاثين من رمضان: >أصوم غدًا إن كان من رمضان< صحّ؛ لأن الأصل بقاء رمضان.
وهذا بخلاف ما لو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صيام غد؛ فلو قال شخص ليلة الثلاثين من شعبان: >أصوم غدًا إن كان من رمضان< لم يصح صومه إن بان أنه من رمضان؛ لانتفاء الأصل الذي يستصحبه، مع عدم الجزم بالنية.
ويستثنى ما لو قال ذلك ظنًّا في نفسه لخبر من يظن صدقه كعبد وامرأة وفاسق؛ فإنه يجوز حينئذ الصوم، ولا يجب لما تقدم من أن الوجوب مخصوص بما إذا اعتقد صدق مَن ذكر.
الركن الثاني: الإمساك عن مفطِّر:
والمفطّرات هي:
١- الجماع: وهو إدخال الحَشَفَة أو قدرِها مِن فاقدها، في فرج ولو دبرًا، مِن آدميٍّ أو غيرِه، أنزل أم لا.
· وإنما يكون مفطّرًا للصائم بشروط هي:
أ- أن يكون ذاكرًا لصومه: فيجامع عن عمد، بخلاف الناسي لصومه؛ فلا يفطر؛ لخبر الصحيحين: >من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتمّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه<، وفي رواية صححها ابن حبان وغيره: >ولا قضاء عليه<. فقد نص على الأكل والشرب، فعُلم غيرهما بالأَوْلى.
ب- أن يكون عالمًا بالتحريم: بخلاف الجاهل المعذور بجهله بأن كان حديث عهد بإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء. وأما غير المعذور بجهله فيفطر.
ج- أن يكون مختارًا، بخلاف المكرَه على الوطء؛ فلا يفطر.
· واعلم أنّ كون المكرَه على الجماع لا يفطر مقيَّد بقيدين:
أ- كون الإكراه بغير حق: بخلاف ما لو أكره به زوجته أو جاريته في صيام نفل؛ فإنها تفطر به.
ب- كونه على غير الزنا: بخلاف ما لو أكره على الزنا؛ فإنه يفطر؛ لأن الإكراه على الزنا لا يبيحه بخلافه على الأكل ونحوه فإنه يجعله مباحًا.
٢- الإنزال: أي: خروج المنيّ، إما باستمناء مطلقًا، أو بمباشرة على تفصيلٍ حاصلُه:
· إن كان الإنزال بالاستمناء أي: بطلب خروج المني سواء كان بيده، أو يد زوجته، أو بغيرهما، بحائل أو لا.. أفطر مطلقًا.
· إن كان الإنزال باللمس فتارة يكون الملموس مما تشتهيه الطباع السليمة -وهن النساء- أو لا؛ فإن كان مما لا تشتهيه الطباع السليمة كالأمرد الجميل.. فلا يفطر مطلقًا أي: سواء كان اللمس بشهوة أم لا، بحائل أم لا.
· وأما إذا كان الإنزال بلمس ما يشتهى طبعًا فتارة يكون الملموس محرَّما وتارة لا؛ فإن كان محرَّما -كالأخت وأمّ الزوجة- ولمسها بشهوة وبلا حائل.. أفطر بالإنزال، وإلا فلا يفطر به كأن لمسها بلا شهوة فأنزل، أو لمسها بشهوة مع حائل فأنزل.
· وأما إذا كان غير محرَّم -كزوجة وأجنبية- فإن لمسها بحائل فلا يفطر وإن كان بشهوة، وإن كان بغير حائل فيفطر بالإنزال سواء لمسها بشهوة أم لا.
〇 وهنا مسائل:
الأولى: يحرم على الصائم صيام فرض مباشرة المرأة بنحو لمس ومعانقة وتقبيل إذا خيف منه إنزال ومع ذلك فصيامه صحيح إذا لم ينزل.
الثانية: لا يفطر بسبب نزول المني بالاحتلام.
الثالثة: إذا أنزل بسبب نظره أو فكره لم يفطر، إلا إذا علم أنه ينزل بسبب ذلك النظر والفكر بأن جرت عادته بالإنزال بهما، فإنه يفطر؛ لأن ذلك في معنى طلب خروج المني. ولو أحس بانتقال المني وتهيئه للخروج بسبب استدامة النظر فاستدامه حتى أنزل.. أفطر.
٣- الاستقاءة: أي: طلب خروج القيء مع خروجه بالفعل؛ فإن طلب خروج القيء بدون خروجه من جوفه بالفعل فلا يفطر، بخلاف من غلبه القيء فقاء.. فلا يفطر؛ لخبر أبي داود: >من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض<. ويجب عليه أن يغسل فمه بعد القيء ويبالغ في المضمضة حتى ينغسل جميع ما في فمه، ولا يبطل الصوم في حالة أن غلبه القيء وسبقه ماء المضمضة إلى الجوف بدون تعمد؛ لأن إزالة النجاسة مأمور بها.
· وأما النخامة وهي: ما يخرج من صدر الإنسان أو خيشومه من البلغم عند التنحنح، فقلعها أي: إخراجها من محلها الأصلي، ومجّها أي: إخراجها من الفم لا يفطر الصائم.
وأما ابتلاع النخامة فيبطل الصوم بها إذا تحقق ما يلي:
أ- أن تصل إلى حد ظاهر الفم: وأول ظاهر الفم من الشفتين، وآخره مخرج الحاء من الحلق. أما إذا لم تصل إلى الظاهر كأن وصلت إلى مخرج الهمزة فابتلعها.. فلا يفطر.
ب- أن تجري نازلة إلى الجوف، مع القدرة على مجها: بخلاف ما لو سبقت نازلة ولم يقدر على مجها.
فإذا وصلت النخامة إلى ظاهر الفم ثم نزلت إلى الجوف مع تمكنه من مجها فيبطل صومه؛ لتقصيره.
٤- وصول عين يمكن الاحتراز عنها، إلى ما يسمَّى جوفًا، من منفذ مفتوح عرفًا.
· فقولنا: >عين<: يشمل المأكول ولو قليلًا كحبة سمسم، وغير المأكول كخيط أو حصاة.
وخرج بالعين الأثر؛ فلا يضر وصول الريح بالشمّ إلى الدماغ، ولا وصول الطعم بالذوق إلى الجوف بدون وصول عين من ذلك المذوق. ولا يضر الدخان الذي فيه رائحة البخور أو غيره إذا دخل الجوف؛ لأنه ليس عينًا.
وأما دخان التتن فهو مفطر؛ لأنه يتولّد منه عين؛ إذ أنّ له أثرًا يحسّ كما يشاهد في باطن الآلة التي يشرب بها.
· وقولنا: >يمكن الاحتراز عنها<: يخرج ما لا يمكن الاحتراز عنها كغبار الطريق، وما يمكن أن يدخل للجوف عند غربلة الدقيق.
مثل ذلك ابتلاع ريق نفسه بشرط أن يكون:
أ- خالصًا غير مختلط بغيره كصبغ وحبر مثلًا.
ب- طاهرًا غير مختلط بنجس كدم(
[3])؛ فلا بد من غسل فمه بالماء وإن نقاه من الدم؛ وذلك حتى يزيل النجاسة.
ج- مِن معدنه؛ فاللسان والفم كله معدن. أما لو ابتلع الريق الذي وصل حمرة الشفاه فيبطل صومه.
فلا بد من توافر هذه الشروط في الريق حتى لا يضر. وأما ابتلاع ريق غيره كزوجة فإنه يفطر به؛ لأنه عين داخلة إلى جوف.
· وقولنا: >إلى ما يسمَّى جوفًا<: أي: أن يكون مجوَّفًا من الداخل كالمعدة، والرأس أي: تجويف الجُمْجُمة، والمريء، وباطن الأذن، والإحليل، والدبر، والمثانة.
قال في المختار: >والإحليل: مخرج البول، ومخرج اللبن من الضرع والثدي<.
فما دخل الفم وجاوز الحلق بوصوله إلى مخرج الهمزة والهاء أفطر به، ولو لم يستمر نازلًا إلى المعدة، كأن أدخل خيطًا أو أدخل الطبيب نحو ناظور للفحص.
ولو أدخل ميلًا في إحليل ذكره.. أفطر به ولو لم يتجاوز الحشفة.
ولو وصل شيء إلى الرأس عن طريق الأنف بالاستعاط وغيره كماء أو دواء.. أفطر به.
ولو أدخل أصبعه في دبره أثناء الاستنجاء.. أفطر به. وضابط الدخول المفطر هنا: أن يجاوز الداخلُ ما لا يجب غسله في الاستنجاء، بخلاف ما يجب غسله في الاستنجاء؛ فلا يفطر إذا أدخل أصبعه قليلًا ليغسل الطيات التي فيه.
وخرج به ما لا يسمّى جوفًا؛ فإذا وصلت إليه عين فإنه لا يفطر به، كما لو أدخل إبرة في جلده، أو غرز سكيّنًا فوصلت إلى مخ ساقه، فلا يفطر؛ لأنه لا يعدّ عضوًا مجوّفًا.
· وقولنا: >من منفذ مفتوح<: كالفم والأنف، بخلاف غير المفتوح؛ فلا يضر وصول الماء إلى الجوف بتشرب المسام كما يحصل عند الاستحمام ولو أحس ببرودة في جوفه.
· وقولنا: >عرفًا<: أي: انفتاحًا ظاهرًا يُدرَك بالعين، واحترز به عن نحو العين الباصرة فإنها وإن كانت من حيث التشريح الطبيّ مفتوحة تصل إلى الجوف إلا أن انفتاحها ليس ظاهرًا. فلو اكتحل في عينه فلا يضر ولو وجد طعمه في الحلق، أو قطر في عينه فوجد طعمه في الحلق؛ لأن انفتاح العين ليس انفتاحًا ظاهرًا في الحس.
ومن هذا القبيل الحقنة في العضلة والوريد ولو كانت مغذّية، فإنها لا تضر؛ لأنها لا تدخل من منفذ مفتوح، كما أن العضل والوريد لا يسمَّى جوفًا.
تنبيه: حصول الفطر بالجماع والإنزال والاستقاءة ودخول العين إلى الجوف إنما يكون إذا كان ذلك مع العمد والاختيار والعلم بالتحريم في الكل؛ فإن فقد شرط منها فلا فطر؛ فلو أكل ناسيًا مثلًا قليلًا كان المأكول أو كثيرًا لم يفطر وأتم صيامه. لكن لا يعذر الجاهل إلا إن قرب عهده بالإسلام ولم يكن مخالطًا لأهله بحيث لم يعرف منهم أن ذلك لا يفطر، أو نشأ ببادية أو بلدة بعيدة عن العلماء بحيث لا يستطيع النقلة إليهم.
〇 مسائل:
الأولى: لو سبق ماء إلى الجوف بفعل غير مأمور به أفطر.
مثال: لو توضأ وأثناء المضمضة أو الاستنشاق دخل الماء إلى جوفه؛ فإن كان بالغ فيهما فقد أفطر؛ لأن هذه المبالغة غير مأمور بها بل قد نهي عنها في أثناء الصوم، بخلاف ما لو سبق الماء بدون مبالغة.
مثال: اغتسل شخص لجنابة أو جمعة فغسل أذنيه فسبق الماء إلى الجوف؛ فلا يفطر؛ لأن ذلك الماء دخل بسبب فعل واجب أو مسنون، بخلاف ما لو دخل بغسل تبرّد أو تنظيف، فإن ذلك مباح لا مأمور به فيفطر به.
الثانية: إنما يحل الفطر عند اشتباه غروب الشمس باجتهاد. بمعنى أن نهاية الصوم إنما تكون بغروب الشمس، فإذا علم غروب الشمس برؤيتها غاربة، أو علم وقت غروبها بنحو ساعة أو أذان فقد حل له الإفطار، ولكن إذا اشتبه عليه الحال فحينئذ عليه أن يتحرى ويجتهد بوسيلة ما وبعدها يفطر.
مثال: أن يكون له ورد يعتاده بين العصر والمغرب من قراءة أجزاء من القرآن أو أذكار، فإذا انتهى منها تكون الشمس قد غربت؛ فحينئذ في اليوم الذي اشتبه عليه الحال لنحو غيم أو غيره إن أتم ورده في الوقت المعتاد يكون قد غلب على ظنه أن الشمس قد غابت؛ فيحل له الإفطار.
مثال: أن يكون خيّاطًا مثلًا وقد اعتاد أن يخيط بين العصر والمغرب ثوبًا؛ فإنه إذا خاط الثوب يغلب على ظنه أن المغرب قد حان.
ولا يفطر بدون تحرّ ولو ظن الغروب؛ لأن الأصل بقاء النهار، فيحرم عليه أن يهجم على الطعام جزافًا بلا تحرّ.
ثم إذا أفطر وتبيّن غلطه وأن الشمس لم تغرب وجب عليه القضاء، وإذا بان صوابه أو لم يبن شيء صحّ صومه.
الثالثة: يجوز السحور بدون تحرٍّ ولو مع الشك في طلوع الفجر. وذلك لأن الأصل بقاء الليل، ولا يزول إلا بدليل يدل على طلوع الفجر، وهذا الدليل لم يوجد. نعم، إذا أخبره عدل بطلوع الفجر لزمه الإمساك.
ثم إذا تبين الحال وظهر له غلطه فقد بطل صومه ووجب عليه القضاء، وإذا بان صوابه أو لم يبن شيء صح صومه.
الرابعة: يصح صوم من طلع عليه الفجر وهو يجامع إذا نزع فورًا بقصد ترك الجماع حال الطلوع؛ فإن استدام وجب عليه القضاء والكفارة.
وقولنا: >بقصد ترك الجماع<: يخرج ما لو نزع بقصد التلذذ فيفطر به، ولا يضر لو نزع بقصد ترك الجماع وأنزل؛ لأن الإنزال تولّد من مباشرة مباحة.
ومثل هذه المسألة ما لو طلع عليه الفجر وفي فمه طعام فلفظه في الحال؛ فإن صومه صحيح، ويعذر حينئذ إن سبق إلى جوفه شيء منه.
* * *
خلاصة الباب
أركان الصوم ثلاثة: النية، والإمساك عن المفطرات، والصائم.
الركن الأول: النية أي: قصد الصوم. ويشترط فيها ما يلي: 1- أن تكون لكل يوم من أيام الصيام. 2- التبييت في صوم الفرض. 3- التعيين في صوم الفرض بأن ينوي أن يكون عن رمضان أو كفارة أو نذر.
وأكمل النية أن يقول: >نويتُ صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم<.
مسألتان:
الأولى: تصح النية في الليل وإن أتى بعدها ليلًا بما ينافي الصوم.
الثانية: لا أثر للتردد الذي قد يكون في النفس ليلة الثلاثين من رمضان في صحة النية والصوم على اعتبار أن الشهر قد يكون 29 يومًا.
الركن الثاني: الإمساك عن مُفَطِّر: والمفطّرات هي:
١- الجماع وهو: إدخال الحشفة أو قدرها من فاقدها، في فرج ولو دبرًا، من آدمي أو غيره، أنزل أم لا. وإنما يكون مفطرًا للصائم بشروط هي: أ- أن يكون ذاكرًا لصومه فيجامع عن عمد. ب- أن يكون عالمًا بالتحريم، بخلاف الجاهل المعذور بجهله بأن كان حديث عهد بإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء. ج- أن يكون مختارًا.
٢- الإنزال: أي: خروج المني، إما باستمناء مطلقًا، أو مباشرة على تفصيل حاصله: أن الإنزال إن كان بالاستمناء.. أفطر مطلقًا. وأما إذا كان الإنزال باللمس فتارة يكون الملموس مما تشتهيه الطباع السليمة أو لا؛ فإن كان مما لا تشتهيه الطباع السليمة.. فلا يفطر مطلقًا. وأما إذا كان الإنزال بلمس ما يشتهى طبعًا فتارة يكون الملموس محرَّمًا وتارة لا؛ فإن كان محرَّمًا ولمسه بشهوة وبلا حائل.. أفطر بالإنزال، وإلا فلا يفطر به. وأما إذا كان غير محرَّم فإن لمسها بحائل فلا يفطر وإن كان بشهوة، وإن كان بغير حائل فيفطر بالإنزال سواء لمسها بشهوة أم لا.
وهنا مسائل:
الأولى: يحرم على الصائم مباشرة المرأة بنحو لمس ومعانقة وتقبيل إذا خيف منه إنزال.
الثانية: لا يفطر بسبب نزول المني بالاحتلام.
الثالثة: إذا أنزل بسبب نظره أو فكره لم يفطر، إلا إذا علم أنه ينزل بسبب ذلك النظر والفكر.
3- الاستقاءة: وقلع النخامة ومجها لا يفطر الصائم. وأما ابتلاع النخامة فيبطل الصوم بها إذا تحقق ما يلي: أ- أن تصل إلى حد ظاهر الفم، وأول ظاهر الفم من الشفتين، وآخره مخرج الحاء من الحلق. ب- أن تجري نازلة إلى الجوف، مع القدرة على مجها.
4- وصول عين يمكن الاحتراز عنها، إلى ما يسمَّى جوفًا، من منفذ مفتوح عرفًا.
تنبيه: حصول الفطر بالجماع والإنزال والاستقاءة، ودخول العين إلى الجوف إذا كان ذلك مع العمد والاختيار والعلم بالتحريم في الكل؛ فإن فقد شرط منها فلا فطر.
مسائل: الأولى: لو سبق ماء إلى الجوف بفعل غير مأمور به أفطر.
الثانية: إنما يحل الفطر عند اشتباه غروب الشمس باجتهاد. ولا يفطر بدون تحر ولو ظن الغروب، إذا أفطر وتبين غلطه وجب عليه القضاء، وإذا بان صوابه أو لم يبن شيء صحّ صومه.
الثالثة: يحل السحور ولو بشك في طلوع الفجر. ثم إذا تبين الحال وظهر له غلطه فقد بطل صومه ووجب عليه القضاء، وإذا بان صوابه أو لم يبن شيء صح صومه.
الرابعة: يصح صوم من طلع عليه الفجر وهو يجامع إذا نزع فورًا بقصد ترك الجماع حال الطلوع، فإن استدام وجب عليه القضاء والكفارة. ومثل هذه المسألة ما لو طلع عليه الفجر وفي فمه طعام فلفظه في الحال؛ فإن صومه صحيح، ويعذر حينئذ إن سبق إلى جوفه شيء منه.
تعليقات على النص
فَصْلٌ: أَرْكَانُهُ: نِيَّةٌ، وَيَجِبُ لِفَرْضِهِ، تَعْيِينٌ، وَتَبْيِيتٌ وَإِنْ أَتَى بِمُنَافِيهِ أَوْ نَامَ أَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ حَيْضٍ تَمَّ أَكْثَرُهُ أَوْ قَدْرُ الْعَادَةِ بَعْدَهَا لَيْلًا، وَلِنَفْلِهِ كَوْنُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِلَا مُنَافٍ مِنْ فَجْرِهِ، وَلَوْ نَوَى غَدًا عَنْ رَمَضَانَ فَكَانَ مِنْهُ صَحَّ فِي آخِرِهِ لَا أَوَّلِهِ إِلَّا إِنْ ظَنَّهُ بِقَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ وَإِمْسَاكٌ عَنْ مُفَطِّرٍ كَجِمَاعِ أَوِ اسْتِقَاءَةِ غَيْرِ جَاهِلٍ مَعْذُورٍ ذَاكِرًا مُخْتَارًا، لَا قَلْعِ نُخَامَةٍ وَمَجِّهَا فلو نَزَلَتْ فِي ظَاهِرٍ فَجَرَتْ مَعَ تَمَكُّنِ مَجِّهَا أَفْطَرَ وَكَوُصُولِ عَيْنٍ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ جَوْفَ مَنْ مَرَّ وَلَوْ بِسَبْقِ مَاءٍ مِنْ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهِ وَكَإِنْزَالِهِ بِنَحْوِ لَمْسٍ نَاقِضٍ أَوِ اسْتِمْنَاءٍ وَلَوْ بِاسْتِدَامَةِ نَحْوِ نَظَرٍ، وَحَرُمَ نَحْوُ لَمْسٍ خِيفَ مِنْهُ إِنْزَالٌ. وَحَلَّ فِطْرٌ بِتَحَرٍّ وَسُحُورٌ وَلَوْ بِشَكٍّ فَلَوْ بَانَ غَلَطُهُ قَضَى، فَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّ فِيهِمَا وَلَمْ يَبِنِ الْحَالُ قَضَى فِي الْأَوَّلِ، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ صَحَّ.
(فَصْلٌ) في أركان الصَّوم: (أَرْكَانُهُ) ثلاثة أحدها: (نِيَّةٌ) لكلِّ يوم، كغيره من العبادات (وَيَجِبُ لِفَرْضِهِ) كنفله الذي له سبب (تَعْيِينٌ) لجنسه ككونه عن رمضان أو نذر أو قضاء؛ فعُلم أنّه لا يجب التعيين في نفل الصوم غير ذي السبب ولو راتبًا (وَتَبْيِيتٌ) لنيّته كلَّ ليلة ولو من صبيٍّ؛ لخبر: >مَن لم يبيِّت الصيامَ قبل الفجر فلا صيامَ له<، رواه النسائي، وهو محمول على الفرض. فإن لم يبيِّت لم يقع عن رمضان بلا خلاف ولا نفلًا؛ لأنّ رمضان لا يَقبل غيرَه. ولا بدّ أن تكون بين الغروب والفجر؛ فلا يكفي مقارنتها لأحدهما. ويُشترط في النية ألّا يأتي بعدها بمنافٍ لها كرفضها ليلًا وردّته بعدها (وَإِنْ أَتَى) بعدها ليلًا (بِمُنَافِيهِ) أي: الصّومِ كأكل وشرب وجماع (أَوْ نَامَ) كذلك (أَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ حَيْضٍ) كنفاس (تَمَّ أَكْثَرُهُ أَوْ قَدْرُ الْعَادَةِ) منه (بَعْدَهَا لَيْلًا) فلا يجب تجديدها، فإن لم يَتمّ أكثرُ ما ذُكر ولا قدرُ العادة منه ليلًا لم يصحّ صومها؛ لأنّها لم تجزم بالنية ولم تَبْنِ على أصل.
تنبيه: أقلّ النية في رمضان: >نويتُ الصوم عن رمضان< وإن لم يقلْ: >غدًا<، لا: >نويتُ صومَ غدٍ< إذا لم يقلْ: >عن رمضان<. وكمالها أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السَّنة إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم. (وَ) يجب (لِنَفْلِهِ) أي: يُشترَط (كَوْنُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ) من ذلك اليوم (بِلَا مُنَافٍ) له (مِنْ) طلوعِ (فَجْرِهِ) كأكل وجماع وكفر وحيض ونفاس وجنون، وإلّا فلا يصحّ.
(وَلَوْ نَوَى غَدًا) أي: صومَه (عَنْ رَمَضَانَ) سواء قال: >إن كان منه< أم لا (فَكَانَ مِنْهُ) وصامه (صَحَّ) ووقع عنه (فِي آخِرِهِ) لأنّ الأصل بقاؤه (لَا) في (أَوَّلِهِ) لانتفاء الأصل مع عدم جزمه بالنية (إِلَّا إِنْ ظَنَّهُ) أي: كونَه منه (بِقَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ) أي: يَظنّ صدقَه، كعبد وامرأة ومراهق وفاسق؛ فيصحّ صومه وإن لم يجب؛ إذ الوجوب مخصوص بما إذا اعتقد الصّدق، ويقع عنه إن تبيَّن كونه منه؛ لجزمه بالنية.
(وَ) ثانيها (إِمْسَاكٌ عَنْ مُفَطِّرٍ) وذلك (كَجِمَاعِ) أي: تغييب الحَشَفة أو قدرها مِن مقطوعها بفرج (أَوِ اسْتِقَاءَةِ غَيْرِ جَاهِلٍ مَعْذُورٍ) بأن قَرُب عهدُه بالإسلام أو نشَأ بعيدًا عن العلماء، فصومُ مَن جامَع أو استَقاء (ذَاكِرًا) للصَّوم (مُخْتَارًا) للفعل عالمًا بتحريمه أو جاهلًا غيرَ معذور باطلٌ، بخلاف النَّاسي والمكرَه المستبيحِ لفعله بالإكراه ومَن غلَبه القيءُ والجاهلِ المعذور (لَا) كـ(ـقَلْعِ نُخَامَةٍ) من رأسه أو باطنه (وَمَجِّهَا) فلا يُفطر بهما؛ لأنَّ الحاجة إليهما ممَّا تَتكرَّر فرُخِّص فيه (فَلَوْ نَزَلَتْ) مِن رأسه (فِي) حَدِّ (ظَاهِرٍ) وهو مَخْرَج الخاء المُعْجَمة وكذا الحاء المُهْمَلة عند النَّوويِّ (فَجَرَتْ مَعَ تَمَكُّنِ مَجِّهَا) بأن قدَر عليه (أَفْطَرَ) لتقصيره، بخلاف ما إذا عجَز عنه. (وَكَوُصُولِ عَيْنٍ) وإن قلَّت كسمسمة، بخلاف الأثر كالطَّعم إذا وصل بالذَّوق إلى حلقه والرِّيح إذا وصل بالشَّمِّ إلى دماغه، ومنه يؤخذ أنَّ وصول دخان البَخُور أو غيرِه إلى الجوف لا يُفطر به وإن تعمَّد فَتْحَ فيه لأجل ذلك، وفرضُ المسألة إذا لم يُعلم انفصال عين منها، ولا بُدَّ أن يكون وصولها (مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ) بخلاف وصولها من المسامِّ (جَوْفَ مَنْ مَرَّ) وهو غير الجاهل المعذور حال كونه ذاكرًا مختارًا، والمرادُ بالجوف داخلُ البطن والدماغ وإن لم يكن مُحيلا كحلق وباطن أذن وإحليل ومثانة وهي مجمع البول فيَضر وصول شيء إليه (وَلَوْ بِسَبْقِ مَاءٍ) نَشأ (مِنْ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهِ) كمبالغة في مضمضة أو استنشاق أو غسلة رابعة أو غُسْل تبرُّد (وَكَإِنْزَالِهِ) أي: إخراجِ منيه (بِنَحْوِ لَمْسٍ) كقبلة أو مسٍّ (نَاقِضٍ) بأن يكون لأجنبية بلا حائل (أَوِ اسْتِمْنَاءٍ) أي: طلبِ خروج المني (وَلَوْ) بنحو ضمٍّ أو لمس بحائل؛ إذ الاستمناء لا يعتبر فيه حائل ولا عدمه، أو (بِاسْتِدَامَةِ نَحْوِ نَظَرٍ) كفكر، وخرج بذلك مجرد النظر والفكر إذا لم يَعلم من عادته أنه يُنزل بهما فإنه لا يفطر.
(وَحَرُمَ نَحْوُ لَمْسٍ) بيدٍ كمعانقة أو تقبيل (خِيفَ مِنْهُ إِنْزَالٌ) وهو ضابط تحريك الشهوة المذكور في عباراتهم.
(وَحَلَّ فِطْرٌ) من الصوم إذا ظن دخول الليل (بِتَحَرٍّ) بوِرْد وغيره كما في أوقات الصلاة، لا بغير تحرٍّ ولو بظن؛ لأنّ الأصل بقاء النهار (وَ) حلَّ (سُحُورٌ وَلَوْ بِشَكٍّ) في بقاء الليل؛ لأن الأصل بقاؤه، نعم، لو أخبره عدل بطلوع الفجر أمسك وجوبً (فَلَوْ بَانَ غَلَطُهُ) في الأول بأن أفطر بعد غروب الشمس، أو في الثاني بأن تسحّر بعد طلوع الفجر (قَضَى) صومه فيهما؛ لبطلانه؛ إذ لا عبرة بالظن البيِّنِ خطؤُه. (فَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّ فِيهِمَا وَلَمْ يَبِنِ الْحَالُ) أي: هل كان ذلك ليلًا أو نهارًا (قَضَى فِي الْأَوَّلِ) أعني الفطر؛ لأن الأصل بقاء النهار ولم يَستند إلى اجتهاد في انقضائه، دون الثاني؛ لأن الأصل بقاء الليل ولا موجِب للحكم بدخول النهار، فإن بان الصواب فيهما صحّ صومهما، أو الغلطُ فيهما لم يصحّ.
(وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ) حالًا عقب ابتداء الطلوع (صَحَّ) صومُه إن قصد به ترك الجماع وإن أنزل؛ لتولّده من مباشرة مباحة. فإن مَكث لم يصحّ صومه.
([1]) وبعضهم لم يعد الصائم ركنا في الصوم.
([2]) ولكن تسن نية عامة في أول الشهر بأن ينوي صيام شهر رمضان كاملًا، وفيها فائدتان:
الأولى: صحة صوم يوم من نسي تبييت النية فيه على مذهب الإمام مالك رحمه الله؛ فيصح صوم من قلّده،
والثانية: أخذه الأجر كاملًا لو مات قبل تمام الشهر؛ اعتبارًا بنيته.
([3]) قال العلامة الباجوري في حاشية شرح ابن قاسم: >يُعفَى عنه في حق من ابتُلى بدم لثته<.