العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

عرض لكتاب" لا إنكار في مسائل الخلاف" للدكتور عبدالسلام المجيدي -وفقه الله.

إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
بمشيئة المولى سأعرض على حلقات في هذا الملتقى لهذا الكتاب والذي هو عبارة عن بحث كتبه الدكتورعبدالسلام المجيدي -وفقه الله- نشرته مجلة الأمة القطرية في العدد 94 ربيع الأول لعام 1424هـ، فلعل الإخوة يفيدون منها وأيضاً لا يبخلوا بملاحظاتهم- وفق الله الجميع.

قبل العرض أقدم نبذة مختصرة عن صاحب البحث، والذي آمل أن يلتحق بنا قريباً بمشيئة الله في هذا الملتقى المبارك.
-هوالشيخ الدكتور عبدالسلام بن مقبل المجيدي حاصل على الماجستير والدكتورة من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في الخرطوم - السودان.
- حاصل على إجازة الإقراء بالعشر الصغرى والكبرى للقرآن الكريم .
- يعمل حالياً أستاذاً في قسم القرآن وعلومه في جامعة ذمار- اليمن.
- مدير مركز النور المبين لتدريس القرآن والقراءت- صنعاء -اليمن.
- شارك كعضو في لجنة التحكيم في العديد من المسابقات القرآنية الداخلية في اليمن و الدولية ومنها مسابقة دبي العالمية للقرآن الكريم.
له مؤلفات عديدة مطبوعة من أشهرها:
(1)إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه القرآن الكريم.
(2) ضوابط في فهم الرواية الواردة في تفسير القرآن.
(3) تلقي النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ القرآن الكريم
(4)التنوير بأصول التفسير.
وغيرها من الكتب والبحوث
.

يتبع إن شاء الله​
 
التعديل الأخير:
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي


(1) تقديم للكتاب

هذا تقديم كتبه الشيخ عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فقال تعالى: (( ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ)) (آل عمران:7)، ذلك أن الآيات المحكمات، هن الآيات واضحات الدلالة، قطعيات الدلالة، لا تحتمل الكثير من المعاني المتداخلة والمتشابهة، بحيث تشكل هذه الآيات القاعدة الثقافية، والنسيج الذهني، والمشترك من المعاني والقواعد الأساسية، التي يلتقي عليها المسلمون جميعاً، حيث لا لبس في دلالتها ولا خفاء.

وما وراء ذلك من الآيات المتشابهات تعتبر من ظني الدلالة، خفي المعنى المقصود، لأن تعريف المتشابه بأنه: الذي يدخل في أشباهه حتى يصعب تمييز المعنى المراد، لخفائه ودقته واحتمالاته وعدم قطعيته، لذلك تذهب فيه العقول مذاهب شتى، وتختلف في تحديد المعنى المراد منه.

وتبقى الآيات المحكمات هي الضابط المنهجي لفهم الآيات المتشابهات، بحيث لا تخرج المعاني والأحكام المستنبطة من الآيات المتشابهات بشكل عام عن ما قررته الآيات المحكمات من الأحكام.

وحيث إن الناس يتفاوتون في إدراكهم، وكسبهم العلمي، ومدى رسوخهم في المعرفة، وتجربتهم، وتضلعهم في اللغة، واختلاف ميولهم ومؤهلاتهم، وتباين قدراتهم، بما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «الفوارق الفردية» فيصبح الاختلاف ثمرة لذلك كله، الأمر الطبيعي الفطري الذي يصعب القضاء عليه أو التحرز منه.. وغاية ما يمكننا من المعالجة لقضية الخلاف والتعامل معها إنما يكون بوجود مناهج وأصول لضبط فهم دلالة الآيات المتشابهات بدلالة الآيات المحكمات، إلى جانب توفر صفات وخصائص أدب الخلاف، والحوار، والالتزام بخلق المعرفة، والتسليم بأن ذلك الاختلاف واقع فطرة من الله سبحانه وتعالى: (( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ)) (هود:118-119)، ((ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ)) (التغابن:2).

لذلك نرى عملياً أن المؤمنين درجات والكفار درجات، لقد خلق الله الناس متفاوتين لتتكامل الحياة ويستقيم أمرها، إذ لا يمكن أن يتصور الإنسان أن يكون الناس نسخة مكررة، أو نمطية واحدة عن بعضهم بعضاً، ذلك أن الأعمال والأفكار والمدركات متفاوتة في هذه الحياة، والخلق متفاوتون، سواء كان ذلك بأصل الخلق، أم بطبيعة الكسب، وبذلك فكأن بين الحياة بآفاقها وأعمالها المتفاوتة، وبين الناس بفوارقهم الفردية ومهاراتهم المتنوعة، تواعد والتقاء و«كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » (أخرجه البخاري).

حتى على ساحة الإيمان الواحد نجد المؤمنين، الذين اصطفاهم الله واختارهم لوراثة النبوة، قد جعل منهم الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات بإذن الله.. هذا التنوع وهذا التفاوت، إذا أحسنت إدارته، يشكل نوعاً من التنافس ويصبح من أهم المحرضات الثقافية والحضارية، وميداناً للاستباق بالخيرات، لدرجة يمكن القول معها: إن هذا التفاوت والاختلاف هو المهماز النفسي والعلمي لتحريك عجلة التنمية، فجدلية الحياة دائمة المدافعة بين الخير والخير، والشر والشر، والخير والشر: ((كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلاْرْضِ)) (الرعد:17)، فلولا هذا الضرب لما طفا الزبد ولما انقشع ولما عُرف الحق؛ وقال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ )) (الفرقان:31).. فالشر من لوازم الخير، وهذه جدلية الحياة: ((وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ )).

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كان أنموذجاً يُحتذى في استيعاب الخلاف وقبوله، وحسن قيادته وإدارته، وتحويله من ظاهرة فرقة وتنابذ إلى وسيلة قوة ووحدة وتكامل وتنافس في الكسب.

لقد عَرَف صلى الله عليه وسلم منازل أصحابه رضوان الله عليهم وإمكاناتهم، فكانت المهمات التي يكلف بها متناسبة مع المواهب والمؤهلات، وكان من تعاليم النبوة إنزال الناس منازلهم.. قَبِل صلى الله عليه وسلم بوجهات النظر المتعددة، وأقرها جميعاً، طالما أنها في إطار الفهم الصحيح، وحضهم على الاجتهاد، ورعى هذا الاجـتهاد، ودرَّب عـليه، بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، خاصة وأن ما أنزل عليه من القرآن حمال أوجه كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، ذلك أن هذه الأوجه سوف تثمر خلافاً وتنوعاً، وفي ذلك إثراء للحياة العقلية وغنى في الاجتهاد والنظر.

وبعد:

فهذا «كتاب الأمة» الرابع والتسعون: «لا إنكار في مسائل الخلاف» للدكتور عبد السلام مقبل المجيدي، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ضمن جهودها المتنوعة ومحاولاتها الثقافية المتعددة لإعادة التشكيل، وصبغ ذهنية الفرد المسلم ورؤيته بصبغة الله سبحانه وتعالى: (( صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ )) (البقرة:138)، واسترداد فاعليته، وتبصيره بأن التكليف المنوط به في كل مرحلة يمر بها مرتبط بحدود الاستطاعة والوسع، انطلاقاً من قوله تعالى: ((لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) (البقرة:286)، وقوله : ((فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ )) (التغابن:16)، فإن بَذَل جهده واستفرغ وسعه تبرأ بذلك ذمته، ويخرج من عهدة التكليف، ويطبق الإسلام المكلف به، حتى ولو لم يستكمل تطبيق جميع التكاليف، لعدم توفر الاستطاعة.

إن تحرير هذه القضية – فيما نرى- من الأهمية بمكان، حماية للطاقات والإمكانات من الهدر والتبديد وصرفها إلى المواقع غيرالمجدية، وحماية للعاملين للإسلام من المجازفات التي يعوزها حسن التقدير، والحيلولة دون اختلاط الأمنيات بالإمكانيات، وترك ما نملكه، أو نملك فعله، إلى التطاول إلى ما يملكنا ويخرج عن حدود استطاعتنا.. إن سوء التقدير للاستطاعات وللتكاليف سوف يؤدي إلى فقدان إمكاناتنا، والعجز عن وضعها في المكان المناسب، وبذلك نتحول إلى الوقوف عاجزين عن التقاط الفرص التاريخية التي قد لا تتكرر، فنضيع ما نستطيعه، ونهزم فيما لا نستطيعه، وتعظم مسؤوليتنا أمام الله سبحانه وتعالى.

ولا بأس من التذكير هنا بأن بعضنا، لسوء تقديره وخطأ قراءاته للأمور وتداعياتها، وما يترتب عليها من العواقب، تغلب عليه ذهنية الاستسهال، فيقوده ذلك إلى اقتحام المسالك الصعبة ويتمنى لقاء العدو، دون إعدادٍ أو استعداد، وتستهويه الرايات العمِّـيَّة، المهم بالنسبة له أن يفرغ حماسه في المجازفات ودخول المعركة دون استبانة أو بصيرة لسبيلها أو تقدير لعواقبها.

وبعضنا الآخر تغلب عليه ذهنية الاستحالة، فيرى الأمور على غاية من الصعوبة، فهي عنده مستحيلة، ولا يبصر منها إلا آثارها السلبية التي تحاصره، وتحيط به من كل جانب، فيقع في حالة من اليأس والعجز والشلل وفقدان الأمل، وتعمى عليه الأمور، وتحول حالة العجز واليأس بينه وبين رؤية دوائر الخير في الحياة والمجتمع والواقع، وحتى في المستقبل، وسبيل الدخول إليها، وكيفية التوسع فيها، والتعامل معها.

وقد تكون هذه الظواهر في أصلها طبيعة في البشر، ونتيجة لأنواع مختلفة من المعاناة والتربية والثقافة، والتوارث الاجتماعي وغير ذلك من العوامل التي يصعب حصرها في هذه العجالة.. وكم كنا نتمنى أن يؤدي الخلاف في وجهات النظر للقضايا، والتنوع في النظر إليها والحكم عليها، أنواعاً من الحوار والنقاش والمثاقفة والمحاورة والمشاورة والمراجعة، لينتج ذلك منهجاً وسطاً متوازناً سننياً، يحيط بعلم الأشياء، ويجتهد في النظر إلى عواقبها، ويحسن تقدير الإمكانات وكيفية توظيفها، واغتنام الفرصة التاريخية.

ولا بد من الاعتراف بأن الحـوار والمناقشـة والمشـاورة مهما بلغ لا يمكن أن يقضي على التباين في وجهات النظر، وإنما يضيِّق مداها ويُسهم بالوصول إلى المساحة الأكبر من التفاهم وبناء المشترك البشري وزيادة دائرة التفاهم.

كم نحن بحاجة اليوم إلى الاعتراف بالاختلاف، والتيقن من سر أنه الخلق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنه لا سبيل إلى تبديل خلق الله، سواء على مستوى الذات أو (الآخر)، وأن كرامة الإنسان أصلاً منوطة بأنه أهلٌ لحرية الاختيار، وليس مبرمجاً على الطاعة وعدم المعصية كالملائكة، وأن هذا الاختيار يمكن أن يؤدي به إلى الطاعة أو إلى المعصية، وأن المسؤولية الشرعية هي فرع لحرية الاختيار، وأن ممارسة الأهلية والإنسانية (الاختيار) تعني القبول بالتباين والاختلاف في وجهات النظر، تبعاً للتباين بالمواهب والإمكانات والكسب العلمي والمعرفي، وهكذا سنة الحياة، إذ تستحيل الحياة وتصبح لا معنى لها، ولا تدفق لمجراها، إذا كان الناس جميعاً نسخة مكررة، ولا أدل على ذلك من الحال التي انتهت إليها الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، حيث فشلت وسقطت؛ لأنها أرادت أن يكون الناس نسخة مكررة من التجمد والتخلف والتقليد والتراجع، لأنها لم تسمح إلا أن يكون الناس نسخة مستنسخة أو مكررة عن الزعيم، وهذا ضد الطبيعة البشرية، وضد سنن الحياة وسبل نموها، وبناء الحضارة، وقيام العمران الإنساني.

ولعلنا نقول: بأن الخلاف والتنوع الواقع تاريخياً في الحياة الإسلامية، كان وراء هذا الإنتاج الضخم من التراث العلمي والثقافي وإنضاج الكثير من المناهج والقواعد والعلوم:

- فاختلاف أهل الكتاب في كتابهم، وما انتهت إليه حالهم، وتعاملهم مع النص الإلهي، هو الذي أدى إلى الفزع على النص القرآني، ودعا المسلمين، بعد معركة اليمامة، إلى جمع القرآن.

- والاختلاف حول حدود النص القرآني، هو الذي أدى إلى نسخ القرآن، واعتماد ما اصطلح على تسميته «بمصحف الإمام» زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه.

- وأسباب الوضع والانتحال، واختلاط الأمور، والادعاء على الرسول صلى الله عليه وسلم والاختلاف حول ما ينسب إليه من قول أو فعل أو تقرير، هو الذي أدى إلى هذا العمل العظيم من علم مصطلح الحديث، وبيان العلل، وتحديد أسباب الوضع، وبروز علم الإسناد، ومعايير الجرح والتعديل.

- واللحن في اللغة وفشو الخطأ، هو الذي أدى إلى تقعيد القواعد ووضع علم النحو والصرف.

وهكذا سائر فنون العلم والمعرفة، تجيئ غالباً ثمرة لجدلية التباين والخلاف والتحدي، حيث يجتهد كل فريق للتدليل على صوابية قوله ورأيه، وهذا سبيل النمو الذهني.

ويمكن القول: بأن هذا الكم الهائل من العطاء الفكري والفقهي والمذهبي والمنهجي في التراث الإسلامي، ما هو إلا ثمرة لحرية التفاكر والخلاف والتنافس، ولا أعتقد أن أي دين أو أية عقيدة شكلت قيمها محرضاً ثقافياً وفكرياً كحال العقيدة الإسلامية وكتابها الخالد القرآن، الذي كان الأساس الذي تمحورت حوله سائر الجهود الذهنية، وبقيت على تباينها واختلاف مناهجها مقرة بمشروعيته العليا.

وليس أمر البيان النبوي بأقل شأناً في تنمية الجهود الذهنية، على المستويات المتعددة، حسبه أنه بيان القرآن الكريم وتنـزيل أحكامه على واقع الحياة.

وقد يكون من الأبجديات الأولى في رحلة الإيمان، الاعتقاد بأن البشرية جميعاً أبناء أسرة واحدة، قال تعالى: (( يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ)) (النساء:1)، وأن الاختلاف واقع في أصل الخلق، وقال تعالى: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ... )) (الحجرات:13).

فهذا الجعل، بكل مؤهلاته وخصائصه وتضاريسه وتنوعه واختلافه، سبيل إلى التكامل والتعاون والتنامي: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ )) (هود:118-119).

ولعل القضية الأهم تبقى: كيف ندير الخلاف، وكيف نتربى على قبوله، والإقرار بأنه حق إنساني، بل حق وواجب إسلامي، ونتعلم كيف نختلف، لأن ذلك ليس أقل شأناً من أن نتعلم كيف نتفق، وكيف نصل إلى مرحلة الاعتراف (بالآخر)، وأن له كل الحق أن يكون له رأي كما أن لنا رأياً ، وأن أدب الخلاف يعتبر من أرقى الآداب الإنسانية وأعلى مراتب الأخلاق، وأن الانغلاق والتعصب مراهقة وطفولة بشرية، وأن هناك معرفة وهناك خلق معرفة، فلا يجوز أن يتحول العلم إلى لجاج وبغي ومدعاة للتفرق، كما قال تعالى: (( وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ)) (الشورى:14)؟

وهنا قضية نعتبرها على غاية من الأهمية وهي: أن الاعتراف (بالآخر) وبرأيه كواقع لا يعني إطلاقاً إقراره على ما هو عليه، ولا إعطاءه شهادة بصواب ما هو عليه، حسبه أن ذلك اختياره ورأيه ومسؤوليته، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ)) (النساء:115)، سواء في ذلك الخلاف الداخلي مع الذات أو الاختلاف مع (الآخر)، لأن مظان الخلاف موجودة من الناحية النظرية، وواقعة من الناحية العملية، ويبقى أن الآيات المحكمات، قطعية الدلالة، تشـكل الرؤية المشتركة الواحدة، أو القاعدة التي يقوم عليها البناء الفقهي والفكري والعقدي، وفي الوقت نفسه تشـكل الضابط المنهجي والإطـار المرجعي للآيات ظنية الدلالة –كما أسلفنا- وهذا من نعم الله تعالى أنه لم يصبّ العقول البشرية في قوالب واحدة ويجيئ البشر منمطين مستنسخين، وإنما جعل العقل سبيل طلاقة وانطلاق وحرية واجتهاد، وجعل النص المحكم دليل العقل إلى المعرفة ووسيلة الوحدة وقيام المشترك الثقافي.

وإذا أحسنا إدارة الخلاف، وتحلينا بأدبه، تحول إلى خلاف تنوع وتكامل وتعاون ونمو، وأصبح علامة صحة، وإثراء وإغناء للمسيرة، وإفادة من جميع العقول، وما شرعت الشورى إلا كآلية لإدارة ذلك والاستفادة من جميع الخبرات، حتى الاستفادة من خبرات (الآخر).. فالحكمة ليست حكراً على شخص أو على أمة أو على مرحلة تاريخية دون سواها، ولكنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

أما إذا فشلنا في إدارة الخلاف، تحول إلى تضاد وتبعثر وتفرق، وأصبح خطراً ماحقاً.

وإدارة الخلاف تعني - فيما تعني – معرفة كيفية الانتهاء والوصول إلى الرأي الراجح، ومن ثم اقترانه بالتنفيذ، مع الاعتراف ببقاء ووجود المرجوح، فقد تتغير الظروف وتأتي معطيات التطبيق ليصبح المرجوح راجحاً، لذلك نرى أن الاجتهادات والمدارس الفقهية الكثيرة، وتعدد الآراء، حتى على مستوى المذهب الواحد، حيث يخالف الإمـام تلامذته أو التلامذة إمامهم إذا تبينت لهم قرينة، تشكل مساحات خصبة لاختيار الاجتهاد الملائم ومن ثم اعتماده للتنفيذ.. فالقضاء الملزم في أصله لا يخرج عن أن يكون رأياً اجتهادياً اختير من بين سائر الآراء لملاءمته، واقترن بالتنفيذ والإلزام، دون التضييق على العقول والاجتهادات الأخرى، التي بقيت لها حرية النظر والتي تبقى قرائن ودلالات واجتهادات مساندة ومحققة للقضاء القانوني، لكنها ليست قانوناً ملزماً.

ولعل تراثنا الفقهي والفكري ومدارسنا الاجتهادية واجتهاداتنا السياسية التاريخية، حتى ضمن إطار المذهب الواحد، بدءاً من اجتهادات الصحابة وخلافاتهم، وهم خير القرون، ومروراً بالمذاهب الفقهية والفكرية، دليل على مدى حـرية الرأي التي شـرعها الإسـلام بعـيداً عن الإرهاب الفكري أو التعصب الفقهي ومحاولات إقصاء الرأي (الآخر)، وإن حدث شيء من التعصب والغلو فيمكن القول: بأن الشذوذ دليل استقرار القواعد وتقعيدها.

إن الإطلاع على الرأي (الآخر) ومناقشته وحواره وتتبع استدلالاته، ومحاورة صاحبه، سبيل لتمرين العقل وتنميته، وتوسيع المدارك، وبناء المشترك الإنسانـي، وتوسيع دائرة التفاهم، فإذا كان الإنسان ذاته بعد فترة من استزادة الإطلاع والمعرفة والتجربة يصبح له رأي آخر مختلف عن ما سبق له، وأن ما سبق له من رأي يحتاج إلى التأمل والمراجعة وعدم التنكر، فما بالنا (بالآخر) الخارج عن الذات؟

وكم نحن بحاجة إلى إعادة النظر في مناهجنا التربوية والفقهية والفكرية، وإعادة تأسيسها، وتأصيل واقعية الخلاف، وأدب الخلاف، وسنة الخلاف، ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بأرقى المنتديات والجامعات؛ والاستزادة من دراسة المقارنات، من فقه ولغة وأدب ومذاهب وأديان، وامتلاك أدوات البحث العلمي والموضوعي، التي تمكننا من استيعاب الرأي (الآخر) المخالف، وكيفية التعامل معه، والإفادة منه، وإدارته.

إن عملية الاختناق الثقافي، والعجز عن الإبداع والعطاء المقنع، والتخاذل عن التعامل مع واقع الحياة والتبصر بسننها، والتحول إلى حالة الجمود والتقليد والمحاكاة، جاءت نتيجة طبيعية لما تقدمها من آفات التعصب الفقهي والفكري والمذهبي والحزبي والطائفي والعنصري.

إن هذه الآفات تشكل خطورة كبيرة عندما تستشري وتصل إلى مرحلة الوباء الاجتماعي وتصبح مصلحة لبعض القائمين عليها، ومن ثـمّ يكون التوارث الاجتماعي، فتقام المتاريس والخنادق والحواجز والأسوار الفكرية والفقهية والنفسية حولها، وغاية ما في الأمر من الناحية العلمية والثقافية يصبح إعادة إنتاج الماضي، وإعادة قراءة الذات، والانغلاق عليها، والتفتيش ليس عن الحقيقة والدليل، والقيام بالمقارنة والترجيح، وإنما التفتيش عن المسوغات والانتقاء، للاعتداد بالرأي، ومحاولة لـيّ عنق النص، حتى المحكم منه، وتقديم قول صاحب المذهب أو الإمام أو المجتهد أو الشارح المظنون القابل للخطأ على قول الشارع القطعي المعصوم، وبذلك تنتقل صفة الخلود من النص الإلهي إلى اجتهادات البشر، فيصبح الرأي الاجتهادي مقدساً لا يُمس وصالحاً لكل زمان ومكان!

وهنا تصيب العطالة والانغلاق النفوس والعقول، والأدوات في الوقت نفسه، ويسود التعصب الحزبي والمذهبي أو العنصري، ويُسوّى المخالف بالرأي بالعدو، وقد يقدم عليه العدو، وينكمش مفهوم الأخوة الشاملة ليحل محله حزبيات وطائفيات وعنصريات وقوميات، خاصة وأن داء التعصب لا يقف عند حد، إنما يسري حتى ضمن الحزبية الواحدة والطائفة الواحدة والعنصرية الواحدة، لأنه داء سار كالنيـران التي تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله، فهو لا يتوقف عند حدود؛ وتصبح فتوى التكفير والتفسيق والارتداد والانحراف... جاهزة ومسبقة الصنع، وتُستباح الدماء والأعراض في أحيان كثيرة، باسم مصلحة الدعوة، ويستسهل الإقدام على الكذب ليصبح كذباً في سبيل الله، وتستباح المحرمات وتنتهك الأعراض لضرورة الدعوة، وانتصاراً للإسلام، وقد يصبح المشرك أكثر قرباً من المخالف بالرأي، وتسوغ الكثير من التصرفات بالنصوص، التي تنـزل على غير محلها، ويكثر الأنبياء الكذبة، أو الفقهاء المرتزقة، أو المثقفون من خونة الحقيقة، ويمكن أن يدّعى الإجماع، الذي لا وجود له إلا في ذهن قائله، لمسائل فقهية وتفسيرية كثيرة، حتى يعتبر الخارج عليها خارجاً عن الطاعة مفارقاً للجماعة، مستباح الدم.

هذه الآفات والظواهر المرضية دفعت الكثير ممن نصبوا أنفسهم قادة في مجال الحزبيات والطائفيات، وقد يكونون جهلة بأبسط الأحكام الشرعية، إلى انتزاع صلاحيات الإمامة العظمى، فأعطوا أنفسهم صلاحيات ما تقتضيه البيعة للإمامة العظمى، وأصبحوا يشهرون سيف الخروج عن الطاعة ومخاطر الانخلاع من البيعة فوق رؤس العباد من الأتباع، أو إن شئت فقل: فوق السائرين بلا رؤوس من الأتباع، لأن المتعصب لا رأي له، وعند ذلك تنتهك الحرمات تحت شعارات إسلامية، وتقام المؤسسات التي تأكل أموال الناس وتستهين بها، تحت شعار الإسلام، وتزهق الأرواح باسم الإسلام، ويستبد التعصب حتى يصل الأمر بأن تنسخ آية واحدة من آيات القرآن (آية السيف) سائر الآيات والأحكام التي تعتمد الدعوة والحوار والمباهلة والمجادلة بالتي هي أحسن والقول اللين، ويُدّعى أن ذلك قول الجمهور، ويسقط القلم من الأيدي، ويشهر السلاح، ليسقط البرهان ويرفع السنان، والله سبحانه وتعالى يقول: (( لا إِكْرَاهَ )) (البقرة:256) حتى في الحقائق الإلهية المطلقة المنـزلة من السماء، ويقول للرسول القدوة صلى الله عليه وسلم: (( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:22)، ويقول: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) (ق:45)، ويقول: ((يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ )) (الممتحنة:8)، وعند ذلك تبدأ رحلة الضلال والتضليل والعبث بالأحكام الشرعية، وتنـزيلها على غير محالها، ودون توفر حالاتها وشروطها، ويسود جو من الإرهاب الفكري الذي يقضي على كل شيء.

وأكتفي هنا بمثال، قد اعتبره كافياً ليكون نافذة على الحالة التي يستبد معها التعصب بالعقول ويستأثر بالنفوس، ويصب العقل بشكل عام في أوعية معدنية، ويسود ضيق العطن (بالآخر) حتى ولو كان مسلماً، ومن الجماعة نفسها، حيث يصل التعصب وحدة الاختلاف إلى مرحلة يصبح المشرك معها يأمن على نفسه عند بعض الفرق، التي ترفع شعار الإسلام والحكم الإسلامي، التي ترى أنها على الحق المحض الذي ليس بعده إلا الضلال.. لقد أصبح المشرك يأمن على نفسه أكثر من المسلم المخالف بوجهة النظر والاجتهاد، حيث لا سبيل أمام المسلم للخلاص من التصفية الجسدية إلا بإعلان وإظهار صفة الشرك (!)

«يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجبرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد أجرناكم.. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: (( وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)) فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن» (الكامل في اللغة والأدب للمبرد: 2/122).

ولعل من النعم الكبيرة، أن جعل الإسلام الاختلاف في وجهات النظر والتباين بالآراء والتعددية بالأفكار، لا يؤدي إلى التفرق في الدين، أو تفريق الدين، ووجود الشيع الذي نهى الله عنه بقوله: ((وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) (الروم:31-32) ذلك أن التعددية والتباين والاختلاف في وجهات النظر إنما تتمحور حول النص المعصوم المتأتي من معرفة الوحي، الذي يشكل مشروعية ومرجعية شرعية تؤطر الخلاف في الوقت نفسه، كما يشكل معيار التقويم الذي يحدد الخلل ويبين الخطأ، ولعل ذلك هو السبب بأن جميع الفرق تعلن أنها تنطلق في رؤاها واجتهاداتها من الكتاب والسنة.

فالنصوص المحكمة، واضحة الدلالة، في الكتاب والسنة، تؤسس وترسي قاعدة الوحدة، ومنهج النظر، ومساحة المتفق عليه، والمعايير التقويمية لكل الاجتهادات والآراء المتعددة، وفي المقابل نرى أن النصوص الظنية الدلالة تجعل المجال رحباً أمام العقل ليدرك أقصى ما يستطيع.

ولقد جاء التراث الإسلامي في مجالات المعرفة جميعاً غنياً بوجهات النظر، لدرجة أنه اسـتوعب كل الاحتمالات الممكنة للنظر مع أدلتها، إلا أن هذا الطيف الواسع، الذي يتمحور حول النص أو حول معرفة الوحي، لم يفقد الأمة الانتماء، بحيث استطاعت أن تبقى متماسكة وممتدة وقادرة على العطاء خلال خمسة عشر قرناً، بينما الكثير من الأمم والحضارات التي سـادت سرعان ما بادت، وتحولت إلى مشـخصات أو شواخص وحفريات حجرية، ليس لها إلا الذكرى والعبرة التاريخية.

إن مساحة المتفق عليه أو مساحة المشترك، التي أورثتها الآيات المحكمات، وبيان حدودها، وتنـزيلها من قبل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، جعلت نسيج الأمة الذهني متماسكاً، ومعاييرها موحدة، ورؤيتها متقاربة.

كما أن الآيات ظنية الدلالة فتحت المجال واسعاً، وحرضت العقل المجتهد على بلوغ الآفاق الفكرية في مختلف الميادين.

وهنا قضية قد يكون من المفيد طرحها، والدعوة إلى إعادة النظر والمراجعة والحوار وتبادل الرأي حولها، ذلك أنه على الرغم من أن الآيات المحكمات واضحة الدلالة وقطعية الدلالة –كما أسلفنا- وأنها تشكل القيم المعيارية، أو معايير التقويم للاجتهادات الظنية المتأتية من دلالة الآيات الظـنية، الأمر الذي انتهى - فيما نرى - إلى تقرير القـاعدة القـائلة: لا اجتهاد في مورد النص، فإن الإشكالية هنا – في تقديرنا- لا تتمثل في إبطال النص أو إلغاء حكمه للواقعة، واستبداله بحكم آخر، أو تشريع آخر للواقعة - فلا يجوز الاجتهاد في إيجاد حكم شرعي لواقعة بيَّن القرآن حكم الله فيها، والإقدام على ذلك كفر بلا جدال- وإنما الإشكالية هنا في تنـزيل هذا الحكم الشرعي على الواقع أو على الواقعة.

فقد لا تكون شروط التنـزيل للحكم الشرعي على الواقعة متوافرة في ذات المحل، فإذا توفرت الشروط والمقومات والاستطاعات فقد وجب التنـزيل، وإذا فقدت الشروط والاستطاعات فلا يجوز تنـزيل الحكم على المحل لفقدان التكليف أصلاً، حيث لا بد من الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي الذي يوافق الواقعة، ذلك أن العدول عن حكم شرعي لعدم توفر شروط التنـزيل لا يعني إسقاط الشريعة واستبدالها، وإنما يعني الاجتهاد لمعرفة الحكم الشرعي الملائم للاستطاعة.. والأمر في كل الأحوال يدور حول الحكم الشرعي وليس العدول عنه، وليس اجتهاد عمر رضي الله عنه، في عدم قطع يد السارق عام الرمادة إلا دليل على عدم توفر شروط التنـزيل، فدرأ الحد بالشبهة.. والدرء نص وحكم شرعي أيضاً.

وهنا يمكن القول: بأنه بالإمكان الاجتهاد في مورد النص، أي في محل تنـزيله، والنظر في توفر الشروط للتنـزيل، فإذا لم تتوفر الشروط فقد ينـزل حكم آخر على الواقعة، وهذا لا يعني إلغاء الحكـم الشرعي أو تعطيله، وإنما يعني أن شروط تنـزيله لم تتوفر، وهذا مجال واسع وخصب لتعدد الآراء ووجهات النظر والاجتهاد، لأن تنـزيل الأحكام الشرعية المحكمة على غير محالها إساءة للمحل، واهتزاز لليقين بجدوى الحكم الشرعي، ونجاعته، فباب الاجتهاد والنظر واسع وواسع جداً في إطار القيم الإسلامية، ولا أدل على ذلك من هذا العطاء الكبير العظيم المتنوع، الذي على تباينه واختلافه لم يخرم حقوق الأخوة، ولم يؤد إلى البغي.. إنه علم مرتبط بأهدافه وأخلاقه وآدابه.

ولقد كان ذلك واضحاً ابتداءً من جيل الصحابة واختلافهم في وجهات النظر والاجتهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم وإقراره صلى الله عليه وسلم ذلك، كما بقي واضحاً في أذهان الرواد طيلة مسيرة الأمة الثقافية، ولم يحصل الضيق به إلا في فترات التعصب وذهاب العلم وسيادة التقليد.

يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل يقول هذا ورجل يقول هذا كان في الأمر سعة» (مجموعة الفتاوى لابن تيمية، 30/80).

ويقول إسماعيل القاضي، فيما نقله ابن عبد البر: «إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن تكون توسعة لأن يقول إنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا» (جامع بيان العلم، 2/82).

ويقول القاسم بن محمد: «لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاَّ رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمله» (الاعتصام للشاطبي، 2/170).

ويقول ابن تيمية، رحمه الله: «وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة» (الفتاوى، 24/173).

ويقول الشاطبي، رحمه الله: «فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضرها هذا الاختلاف» (الاعتصام للشاطبي،23).

ويقول الزركشي، رحمه الله: «اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية قصداً، للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصرون في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع» (الاختلافات الفقهية، البيانوني، 23) ([1]).

والكتاب الذي نقدمه، يمكن أن يعتبر محاولة جادة للتأصيل والتأسيس الشرعي، وبيان مشروعية الخلاف، واستيعاب هذه الإشكالية، وتقديم نماذج من خير القرون لكيفية التعامل معها، والتي يمكن أن تصنف على رأس الإشكاليات التي يعاني منها العقل المسلم المعاصر، حيث يتجلى عجزه عن التعامل مع آثار هذه الإشكالية في المجالات المتعددة، من فقهية وفكرية وثقافية، وعلى الأخص في أيام الأزمات التي قد تتطلب نوعاً من الفكر الدفاعي، الذي يمكن أن نطلق عليه «فكر الأزمة» أو «فكر التعامل مع الأزمة»، والذي بدأ يعمم على الحالات والمراحل كلها، ليوقع المسلم بالتعصب والانغلاق، أو ما يسمى «بأزمة الفكر».

إن استدعاء موضوع الخلاف والتعدد في وجهات النظر، والبحث في مشروعيته، ورصد تجلياته في العصور التاريخية المختلفة، وآلية استيعابه، ابتداءً من خير القرون، وكيفية تحويل الخلاف من ساحة المواجهة إلى رحابة الحوار، ومن التضاد والصراع إلى التنوع والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن الصدام والتقاطع إلى التوازي والتكامل، وإبراز أهميته في تخصيب العقول، وإثراء العطاء، وتحريك عجلة التنمية، في المجالات المتعددة، وأهمية التزام المعرفة بأخلاقها، وانضباط العلم بأهدافه وآدابه، منعاً للبغي والظلم، وتفكيكاً للتعصب والغلو، يعتبر من الأولويات لواقع المسلمين.

ولعل الأهم في الموضوع المطروح يكمن في محاولة إعادة تشكيل ثقافة الخلاف، أو فقه الخلاف، لنتعلم ونعرف كيف نختلف، والتسليم بأن ذلك من سنن الله في الخلق وسنن الاجتماع البشري، وأن المشكلة ليست في الاختلاف وإنما بكيفية إدارته والتعامل معه، ليتحول من مشكلة إلى حل، ومن نقمة إلى نعمة.

وتزداد الحاجة أكثر فأكثر إلى مثل هذه الموضوعات في هذا العصر العالمي، أو عصر العالم الواحد، إعلامياً وثقافياً ومعلوماتياً، حيث ينفتح العالم على بعضه وعلى نفسه، بكل ثقافاته المختلفة والمتنوعة، وتطوى مسافة الزمان والمكان، الأمر الذي يتطلب المعدة الثقافية التي تتمتع بقوة الهضم وإبصار المشترك الإنساني، بحيث نعرف: ماذا نأخذ وماذا نعطي؟ نأخذ المفيد ونتقوى به، ونطرح الفضلات الثقافية الضارة.

والكتاب يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، على الطريق الطويل، تتطلب خطوات أصبحت من الضرورة بمكان لتفكيك التعصب، والتقليد، ومحاصرة الطائفيات، والحزبيات، التي بدأت تحاصرنا وتتحكم بالعقل المسلم، وتدفعـه للتحرك تحت الرايات العمِّـيَّة، اسـترداداً لمفهوم الأخوة الشاملة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر مزيداً في ذلك: «العمل الإسلامي بين الثوابت والمتغيرات» للدكتور صلاح الصاوي.
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي


(2) هذه الحلقة الثانية فيها مقدمة المؤلف- حفظه الله.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سـيئات أعمـالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة أزدلف بها إلى مغفرته، وسلم عليه تسليماً يحشرني به في زمرة أوليائه.
وبعد،
فإن من القواعد الفقهية، التي تعبر عن جملة من ضوابط الحياة العلمية والاجتماعية، وتؤصل مسيرة الهدى والرشد في الشريعة المباركة، قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف).. ولكن استعمالها بإطلاق أوقع لبساً كبيراً عند فئتين: فئة حاولت رفضها إجمالاً، وفئة حاولت الاستدلال بها مطلقاً.
ولضبط هذه القاعدة الفقهية، بحيث توضع في حاقِّ موضعها، فقد ألف في شرحها وتفصيل المراد بها عددٌ من العلماء منهم: الإمام البدر محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، الذي ألف رسالةً سماها: (نهاية التحرير في رد قولهم ليس في مُخْتَلَفٍ فيه نكير) وهي رسالةٌ مخطوطةٌ لم تطبع بعد؛ كما تناولها عدد من المعاصرين بالتفصيل والبيان، في محاولةٍ لفهم النفسية الفقهية الجليلة التي انصبغت بها الحياة الإسلامية العلمية على مر القرون..
ومن هذه القاعدة استُنْبِطَتْ قواعد أخلاقية وعلمية انصبغ بها المجتمع الفقهي، المتراحم المتحاور، ورواده وطلابه .
وزاد من ضرورة الاهتمام والتناول لهذا الموضوع ارتفاعُ رايات الحوار (الهادئ) و(الموضوعي)، وشيوع مبدأ (الرأي الآخر)…وصارت هذه الألفاظ أسساً أخلاقية ومبادئ ثقافيةً عامة في أوساط الاجتماعات الفكرية والفئوية الناضجة التي تجيد فن إدارة الحوار، والجدال بالحسنى، كما أضحت أُسساً عقديةً تتشدق بعض المنابر العالمية كأنما هي في حقها صنيعةٌ خاصة لها نالت عليها براءةالاختراع والتقنين، مع أنها حقاً نالت وسام القبح إذ استعملتها في باطلها، ونبذتها وراءها ظهرياً في حاق موضعها... بيد أن هذه الألفاظ -نظرياً على الأقل- باتت مقياساً يدل على مدى التمتع بالظاهرة الحضارية والنضج الثقافي والإيماني عند الأفراد والجماعات، وبموجبها أصبح كلٌ يعبر عن رأيه، ويحق للآخر أن ينتقده وفق أي قناعةٍ فكرية.
وهذه القاعدة الفقهية: (لا إنكار في مسائل الخلاف) تختزل كثيراً من تفاصيل تلك المبادئ، وتعبر عن السبق الإسلامي الفقهي، النظري والتطبيقي، لهذه الدعاوى بضوابطها الشرعية، وأُسسها الأخلاقية.
ومما يؤكد أهمـية الموضوع أن المذاهب الإسـلامية الـتي لم تنشأ إلا لتيسير استيعاب الشريعة، والمتانة الفقهية، والتقعيد الأصولي... أصابتها عوارض التعصب بعد حين، مما أحدث عند (البعض) ردة فعل إزاءها فتنكر لها، وحاول تكوين مذهب اللامذهب... وفي واقعنا المعاصر، نشأت حركات إسلامية باتجاهات معاصرة، ولكن سرت إليها عوارض مذهبية وقبلية مرضية في وقتٍ مبكر، نسـبياً، عند مقارنتها بالمـذاهب؛ إذ تكاد هيمنة التعصب الحزبي، والعصبية القبلية الحركية، وتقديس نصوص مؤسسيها أو قادتها، أن تطمس أنوار الشريعة التي قامت أصلاً لنصرتها، ونشر تعاليمها، وجمع المسلمين حولها، قرآناً وسنة... فإذا بها مع طول المدى تحاول جمع المسلمين حول نصوص قياداتها، وآرائهم، وفي هذه الأثناء تضيع معالم بارزة للدين، أولها: الأخوة الإسلامية العامة، حيث تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة، فالتعصب للأخوة الخاصة يلغي الأخوة العامة ويقضي على بهائها، وتحل الحالقة، ويتفرق المؤمنون في الدين...وقد أُمروا ألا يتفرقوا فيه .
وثانيها: يتلاشى النصح الصادق، ويختفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما لحق أشخاص قيادات الاتجاه الواحد وأقوالهم وأفعالهم من هالات التقديس، التي تنغرس مع الزمن في العقل الباطن لأتباعهم، ويحل محل ذلك التأويل لكل فعل يصدر عنهم، أو رأي يتبنونه، ويُتحيل باسم الدين للوصول إلى ذلك .
ولذا كان لا بد من دراسة هذه القاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) دراسةً فقهيةً أصولية ودعوية ليستبين لطلبة الهدى مكامن الآفاق الرفيعة فيها، ولتحـد من عبث الأهواء بمدلولـها، ولتوقف من يقذف بها حيث شاء بما لم يقصده واضعوها...ولتُرْبَط بالتصور الإسلامي الكلي العام، والفقهي الخاص، فتكتمل بذلك جوانب المناقشة العلمية التي تؤدي إلى إخبات من وصله العلم .
ومن ثـمّ، فإن هذا البحث يكشف عن مقدار الاستيعاب الفقهي للخلاف، سواء من حيث الاعتراف الواقعي بوجوده، أو من حيث كيفية التعامل معه، أو الاعتراف بمشروعيته فيما هو مشروعٌ فيه، أو بالتوقي من شروره حال تأديته إلى ذلك... وذلك كله من خلال قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) التي تعكس صورة من صور الانفتاح الفقهي المنضبط على آراء الآخرين واختلافاتهم، وتضبطها بالنصوص الشرعية والمقاصد العامة للتشريع، وتستوعبها ضمن الأخوة الإسلامية، ووحدة جماعة المسلمين .
ويتمحـور البحث حول مفهومين أساسين، هما القاعدة الفقهية: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، والإنكار نفياً وإثباتاً؛ الذين يظهران كأساسين في هذه القاعدة التي تعبر في عمومها عن كونها قاعدة فقهية، كما تعبر في فحواها عن الإنكار نفياً وإثباتاً.
ويهتم البحث ببيان الموقف من الخلاف في المسائل الشرعية، وبيان الموضع الصحيح للاستشهاد بهذه القاعدة، ومدى النسبية والإطلاق فيها، مما يستلزم معرفة القول الصحيح في معيار التذكير بالإنكار.
ويمكن القول: إن هذا البحـث محاولـة لاسـتيفاء شرح قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وبيان المراد من وضعها في الأصل، وضرورة الاستشهاد بها في موضعها، مع بيان الخطأ والصواب في ذلك، لتستبين من ثـمّ، الآفاق التي أرادها الفقهاء من وضع هذه القاعدة ورديفاتها من القواعد الفقهية، صيانة للدين، واستيعاباً لاختلاف الآراء، وضبطاً لتعدد الأفكار والرؤى، ووقوفاً وسطاً بين الغالي في الحق والجافي عنه.
والله المستعان، ومنه يُرْجى الهدى والرشاد، ويُستلهم السداد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

القواعد الفقهية
السمات العامة.. ومرتكزات المعالجة
خصائص وسمات القواعد الفقهية
لعله من الأهمية بمكان في مستهل هذا البحث الإشارة إلى أن القواعد والضوابط الفقهية، بشكل عام، إنما وُضِعَتْ لتقريب استيعاب المسائل الشرعية خاصة في جزيئات الفقه المشتهرة بين أهل العلم بـ (علم الفروع)…وهي تتميز بمجموعة من الخصائص، من أهمها:
1- أنها صياغة بشرية، وضعها الفقهاء استنباطاً، وهذا يجعل حصر جميع متعلقاتها الشرعية أمراً فوق الطاقة البشرية، ومن ثم فهي أغلبية تشمل معظم الجزئيات التي تتعلق بها وليست كلية، والغاية من وضعها أن: «تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد, وتقيد له الشوارد وتقرب عليه كل متباعد».
2- أنها نسبية، شأنها شأن كثيرٍ من الضوابط العلمية في اللغة والنحو والقراءات، التي وضعت في وقتٍ متأخرٍ عن نشوء العلم المعين الذي يُتَلقى تلقياً، وحاول واضعوها إدخال عددٍ من الجزئيات العلمية فيها، ولذا تجد أن أهل ذلك الفن يكثرون من الاستثناءات من ذلك الضابط في فنهم…، ومن ثم فقد يقال بأن القاعدة الفقهية المعينة صحيحة بالنسبة لهذه الجزئية غير صحيحة بالنسبة لأخرى، ويترتب على هذا أن يستعان بالقاعدة للرجوع إلى النص المتعلق بها، ويجعل القاعدة الفقهية محل استشهاد لا استدلال.
3- أن فهمها إنـما يكون بحسب ما يُفهِـم منها أصـلُ الوضع لا بحسب ما يعطيه العقل من ظاهر لفظها، مما يعـني عـدم الاغترار بما يظهر من تعميمٍ لعبارات أهل الفنون واصطلاحاتهم وتطبيقها على القضايا المتناولة مع عدم بذل الجهد في معرفة طبيعة القاعدة، وقرائنها الحالية المصاحبة، وأصل وضعها.
4- أهمية الحذر من الانسياق إلى التعميم في الأدلة والقواعد قبل الفحص، ذلك أن كثيراً من نصوص القواعد الفقهية توهم العموم المطلق...وهذا يحتاج إلى التروي فيه...وإذا كان العموم المطلق في الأدلة الشرعية مما يُتروى في الاستدلال به فأولى أن يكون ذلك في القواعد الفقهية البشرية الوضع.
وقريب من هذا أن ظاهر بعض القواعد الفقهية ذاته قد يكون خاضعاً لعصرٍ معين أُطلقت فيه تلك القاعدة: ومثلها القواعد الأصولية فمصطلح (سنة) تختلف دلالتها الأصولية والفقهية الخاصة عن معناها الشرعي العام ومن ذلك قول ابن عباس: «الله أكبر سنة أبي القاسم» في حج التمتع يعني بها طريقة النبي صلىالله عليه وسلم الشاملة للوجوب والاستحباب، ومثله قول ابن مسعود: «ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم».. بينما هي في اصطلاح الأصوليين مرادفة للمندوب غالباً .
5- لا بد من مراعاة التطور الدلالي في فهم القواعد الفقهية، «لأن دلالة الخطاب إنـما تكون بلغة المتكلم وعـادته المعروفة في خطابه لا بلغة وعادة واصطلاحٍ أحدثه قومٌ آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال سبحانه وتعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ )) (إبراهيم:4)».
وهذا كله يوجب على المستشهد بقاعدةٍ فقهيةٍ أو ضابطٍ علميٍ أن يلتزم نوعاً من الورع القلبي، والعلمي الخالص لكي يتمكن من الوصول إلى البينة الحقيقية في المسألة محل البحث لا أن ينقاد للهوى المزَيَّن كأنه بينة كما قال سبحانه وتعالى: (( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ )) (محمد:14).
6- بناؤها على أساس النصوص، فالنص الشرعي هو مرجع القواعد الفقهية، وإليه تُحـاكَم، فلا يُغالى فيها حتى يُحاكم النص إليها، فإذا جاءت القاعدة مخالفةً للنص الشرعي اطُّرحت واتُبِع النص الشرعي ضرورةً؛ إذ كيف تعود على أصلها بالإبطال؟
7- بعض القواعد الفقهية مجرد ضوابط لفهم نصٍ بعينه أو مجموعة نصوص، وليست قواعد مطردة، ومن ذلك مثلاً قاعدة: «النص الوارد على خلاف القياس يقتصر على مورده» أوردوها لفهم جواز بيع السلم، وبيع الاستصناع، وبيان وجود نصٍ دل على جوازهما مع أنهما على معدوم... بخلاف غيرهما من العقود التي تكون على معدوم فتدخل في إطار نصٍ آخر يمنعها.... فالقاعدة هنا مجرد بيان لعدم جاز القياس على هذين العقدين .
8- التقابل بين القواعد الفقهية الذي يؤدي إلى التكامل، ذلك أنه بسبب النسبية والوضع البشري في القواعد الفقهية، ولكونها أغلبية فإن كل قاعدةٍ يقابلها –في الغالب- قاعدةٌ أخرى حتى يتم ضبط المسائل الشرعية من جميع الجوانب المأمور بها، ومثال ذلك: قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» لم تفِ بضبط الـنص الذي هـو أصلها، وهو: ((فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ )) (البقرة:173) فأردفوها بقاعدة أخرى تكملها وتضبطها، وهي: «ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها».
وفي ضوء هذه الخصائص والسمات، منع أهل العلم الإفتاء المحض بموجب القواعد الفقهية دون تدبر في أصولها النصية، وتحرير لمحل الفتوى: هل يدخل فـي هـذه القاعـدة أو تلك، ولـذا قال الإمـام ابن نجيم في: «لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنـها ليست كلية بل أغلبية ، وقال ابن دقيق العيد: الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصلية» .
وعلى هذا أيضاً تكون القواعـد الفقهية محل استشهاد لا استدلال، ولا يصح للمفتي أن يَرُدَّ استدلاله على فتوى معينةٍ إلى هذه القاعدة أو تلك، بل يستعيـن بالقاعدة للرجوع إلى النص المتعلق به، إلا أن يكون مـتأكداً من دخول الجزئية المعينة تحت هذه القاعدة مع الأخذ بعين الاعتبار ما سبق من خصـائص القواعـد الفقهية… فلا بأس على ما هو الشـائع في فتاوى أهل العلم.

مرتكزات المعالجة
تتمحور المرتكزات الرئيسة لمعالجة هذا الموضوع حول أربعة مفاهيم وأسس عقدية إيمانية، هي:
- الاستسلام لله رب العالمين؛
- الأخوة الإسلامية، ولزوم جماعة المسلمين العامة؛
- الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي؛
- اختلاف الآراء طبيعة بشرية، وفطرة إلهية.
أولاً: الاستسلام لله رب العالمين:
الاستسلام لله رب العالمين، معنى يكشف عن سر تسمية الدين الحق بـ (الإسلام)، ذلك أن هذه التسمية تحوي في طياتها معاني: «الانقـياد، وإظهار الـخضوع»، والإخلاص وكمال الاتباع… ولذا فما يقال: فلان مُسْلِـمٌ إلا لأنه يحمل معنيين:
أحدهما أنه «الـمُسْتَسْلِمُ لأَمر اللَّه، والثانـي أنه المُخْلِصُ للَّه العبادة» ، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (( قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدّينَ (11)وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ)) (الزمر:11-12).
ولأن الأمر كله لله فإن المسلم المستسلم لربه كثيراً ما يردد في أول صلاته: (( قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ )) (الأنعام:162-163)؛ من أجل ذلك كان الاستسلام والانقياد للأمر الشرعي من صفات المؤمنين في مقابل صفات المنافقين كما في قوله عز وجل: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ)) (النور:51). وبذلك تظهر منافاة الإسلام، ومنهج المسلمين في التلقي لكل تصورٍ فكريٍ أو حركةٍ عمليةٍ يظهر فيهما شائبة تمردٍ على إرادة الله سبحانه وتعالى الكونية القدرية، أو أمره الشرعي الواجب، إما منافاةً كليةً وإما منافاةً جزئية بحسب الواقع.
وينتج عن هذا الأساس أساس آخر هو: قداسة النص المعصوم (القرآني والنبوي الصحيح)، فيكون للنص المعصوم تعظيمه وتقديسه، وهيبته…فلا يستحيي المسلم – بمقتضى ذلك-أن يُنعت بأنه رجل (نص)، أو أن مجتمعه (مجتمع نصي أو نصوصي)، ولا يفر من التسليم للنص ببعض العبارات التي لا تنتمي للنص، ويكفي أن الرضا بأمر الله سبحانه وتعالى، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتفاء شائبة الحرج الصدري هو دليل وجود الإيمان لا غير، كما قال عز وجل: (( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً)) (النساء:65).
ثانياً: الأخوة الإسلامية:
وأما الإخوة الإسلامية، فدعامة أساسية من الدعائم التي يقوم عليها الدين، ويتربى عليها المسلمون، ولذا ذكر الله أخوة الدين، باعتبارها:
- أعظم النعم التي أمتن بها على المسلمين في قوله: ((وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (آل عمران:103- 105).
- أعظم النعم التي امتن بها الله على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل جلاله: (( هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (الأنفال:62-63)، وذكَّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى ذاته فـئة من المسلمين فقال: « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟».
- من أسباب إقامة أمر الدين، ذلك أن الاجتماع على إقامة الدين هي وصية الله Uلهذه الأمة ومن سبقها من أمم الأنبياء كما قال الله تعالى: (( شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ )) (الشورى:13).. لقد «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقـة والمخـالفة»، كما أن في ذلك توجـيهاً بأن لا تتفرقوا «عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصارى أو كما كنتم متفرقين فى الجاهلية يحارب بعضكم بعضا».
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمة الاجـتماع والألفـة والأخـوة في أظهر ما يجتمع عليه المسلمون فقال: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» أي «اقرأوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه، وقاد إليه فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهةٍ تقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للأُلفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة».
والأخوة في الدين حقيقة قاطعة ترد إليها كل مسألة ظنية محتملة، فالإسلام آخى بين المسلميـن ووحـدهم، فهو: « بمعنى تحالف شامل لكل المسلمين يقتضي التناصر والتعاون بينهم على من قصد بعضهم بظلم» لقولـه تعالى: (( إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )) (الحجرات:10)، وقولـه: ((وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)) (التوبة:71).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وقولـه صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُـهُ، وَلا يَخْـذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، فَلا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْـطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: « الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ».
فمن توفرت فيه هذه الصفات الإيمانية بحسب ظاهره كان أخاً لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه، وإن لم يجر بينهما عقد خاص، فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بما سبق.
والمؤمن الذي تثبت له أخوة الإيمان هو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ»، ففي هذا الحديث المحكم: «أن أمور الناس محمولةٌ على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك».
ويتفرع عن هذا الأساس أسس أخرى، منها:
1- النصوص من الآيات والأحاديث التي وردت في الأخوة الإيمانية أو تحدثت عن الجماعة ولزومها، إنما وردت في الأخوة العامة، ولا يحل لأحد أن ينـزلها على الأخوة الخاصة مع مصادرة مدلوها العام، أو أن يستدل بها على أخوةٍ لحزب أو تنظيم أو جماعة إسلامية، أو مذهب فكري، أو فقهي.
2- مشروعية الأخوة الخاصة بحيث تحكمها الأخوة العامة، الأخوة الإسلامية العامة مقدمة على كل إخاءٍ جزئي، أو عقد تحالفٍ خاص في حال التعارض، والأصل أن الأخوة الخاصة إنما تكون لزيادة التثبيت على مبادئ الإسلام والقيام بها، وعلى رأس تلك المبادئ التي يلزم القيام بها النصح للمسلمين والقيام بحقوقهم، فإذا كانت هذه الحقيقة مستقرة فلا بأس من الإخاء الخاص في ضوء ذلك كما قال النووي: المؤاخاة في الإسلام، والمحالفة على طاعة الله، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق، هذا باق لم ينسخ... وهذا معـنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة».. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام» فالمراد به حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه».
3- الأخوة الإسلامية العامة ثابتة بحقوقها وواجباتها، مهما ظهر من اختلاف فرعي بين المسلمين، فالأخوة الإسلامية ولزوم جماعة المسلمين، والحرص على بقاء ذات البين متساميةً عاليةً يهيمن عليها الحب، وتطغى عليها الألفة، ركيزةٌ من ركائز الدين، وشعيرةٌ عامةٌ من شعائره: ((فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ)) (الأنفال:1)، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وقال: « أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَال:َ صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ».
ومن ثم فإن حقوق المسلم على المسلم ثابتة، مهما اختلف معه في وجهة نظرٍ، أو مسألةٍ فرعيةٍ، ومن حقوقه عليه أن ينصحه مع اصطحاب الرفق الحب واللين والحكمة والموعظة الحسنة حال خلافه في مسألةٍ فيها دليل شرعي على خلاف ما ذهب إليه.
وعند حدوث اجتهاداتٍ في مسألةٍ محتملةٍ تتفاوت فيها المدارك، وتتجاذبها الأدلة فلزوم الجماعة حقيقة قاطـعة، تـقدم عـلى ما قد يثيـره الاخـتلاف الطبعي بين المسلميـن، فلا يثيـر الاختلاف رغبة تفرق، وإرادة بغض.
ومن الحوادث التي تنسحب عليها هذه القاعدة، ما جـاء عَنْ سَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جَاءَتْهُ جُهَيْنَةُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَأَوْثِقْ لَنَا حَتَّى نَأْتِيَكَ وَتُؤْمِنَّا؛ فَأَوْثَقَ لَهُمْ فَأَسْلَمُوا، قَالَ: فَبَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ وَلا نَكُونُ مِائَةً، وَأَمَرَنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إِلَى جَنْبِ جُهَيْنَةَ، فَأَغَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا كَثِيرًا، فَلَجَأْنَا إِلَى جُهَيْنَةَ فَمَنَعُونَا، وَقَالُوا: لِمَ تُقَاتِلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَام؟ِ فَقُلْنَا: إِنَّمَا نُقَاتِلُ مَنْ أَخْرَجَنَا مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا: نَأْتِي نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرُهُ؟ وَقَالَ قَوْمٌ: لا بَلْ نُقِيمُ هَاهُنَا، وَقُلْتُ أَنَا فِي أُنَاسٍ مَعِي: لا بَلْ نَأْتِي عِيرَ قُرَيْشٍ فَنَقْتَطِعُهَا، فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْعِيرِ وَكَانَ الْفَيْءُ إِذْ ذَاكَ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْعِيرِ وَانْطَلَقَ أَصْحَابُنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَامَ غَضْبَانًا مُحْمَرَّ الْوَجْهِ، فَقَالَ: «أَذَهَبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جَمِيعًا وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ ؟ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْفُرْقَةُ، لأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلاً لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ، أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ» فَبَعَثَ عَلَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الأَسَدِيَّ، فَكَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ أُمِّرَ فِي الإِسْلامِ .
فقد اختلف الصحابة هنا على ثلاثة اجتهادات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كره تفرقهم، وعدم اجتماعهم.
إن الأخوة الخاصة توثق القيام بواجبات الإسلام القطعية، ومنها أخوة المسلمين العامة، ذلك أن الأصل في عقد الأخوة الخاصة - وهي التي كان يسلكها أتباع المذاهب قديماً، وأتباع الجماعات والأحزاب حديثاً، وأصحاب الصداقات الخاصة عموماً- أن تكون أول أبجدياتها القيام بواجبات الإسلام وعلى رأسها التزام حقوق المسلمين عموماً، وهي الحقوق التي وجبت بمقتضى الأخوة الإيمانية التى أثبتها الله جل جلاله بين المؤمنين عموماً، «فهذه الحقوق واجبةٌ بنفس الإيمان، والتزامها بمنـزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتةٌ لكل مؤمن على كل مؤمن وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة».
«فمن كان قائماً بواجب الإيمان كان أخاً لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه وإن لم يجر بينهما عقد خاص، فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما».
واجتماع بعض المسلميـن على طـاعة الله، ضـمن إطارٍ خاص، لا يُسْقِطُ حقوق الأخوة العامة، ولا يسول لهم «التعصب لمن دخل فى حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل فى حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فان الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان».
ثالثاً: الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي:
وأما الاجـتهاد في طلب الهدى الشرعي، فذلك ببذل الجهد الشرعي - من أهله- للوصول إلى الهدى المسـتقيم في نصرة الله عز وجل: وهذا يقتضي - مما يقتضيه- إعمال العقل في البحث عن مراد الله سبحانه وتعالى في كلامه أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإعمال الجوارح في القيام بما يحب الله عز وجل، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (( وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ )) (الحج:40)، (( إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ )) (محمد:7)، ونصرة الله عز وجل تشمل القيام بدقائق الإسلام وجلائله، إجهاداً للنفس في الوصول إلى مراد الله سبحانه وتعالى مما يؤدي إلى الاستقامة على الهدى المستقيم: ((وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) (الحج:54)، ((وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ)) (العنكبوت:69)، ولذا عَرَّفَ صاحب (مسلم الثبوت) الاجتهاد: بأنه بذل الطاقة من الفقـيه في تحصيل حـكمٍ شـرعي ظني.
ولكن هذا الإعمال للعقل والجوارح ابتغاء مرضاة الله عز وجل مقيدٌ بالضوابط العلمية لفهم النصوص، وهي ضوابط جُمِّعت من استقراء النصوص، ومقيدٌ كذلك بكيفية فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للنصوص وتطبيقه لها، وكيفية اتباع الصحابة رضي الله عنهم لذلك؛ إذ قد شرفهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فتأهلوا لتأويل نصوص الوحي المعصوم، ووضعه في مواضعه بما لم يتأهل له غيرهم، كما قـال إبراهيم التيمي: خلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يومٍ يـحدث نفسـه، فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: «يا أمير المؤمنين! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم أُنْزِل، وإنه سيكون بعدنا أقوامٌ يقرؤون القرآن، ولا يعرفون فيم نزل، فيكون لكل قومٍ فيه رأيٌ، فإذا كان لكل قومٍ فيه رأيٌ اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا». فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس رضي الله عنه، ثم دعاه بعد فعرف الذي قال، ثم قال: «إيه أعد علي».
لقد كان الصحابةرضي الله عنهم من أوائل من أرادوا المسلمين على التزام ضوابط الفهم للنص المعصوم، فعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النـبي - وأنا يومئذٍ حديث السن-: «أرأيتِ قول الله عز وجل (( إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا )) (البقرة:158)، فما نرى على أحدٍ شيئاً أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله ((إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا))» .
وأحكام الدين، من حيث كونها محكمةً أو مجالاً للاجتهاد ومن ثم الاختلاف، ترجع إلى قسمين:
- قسم هو أساس الدين، سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأمور العملية، وقد وردت في آيات محكمة لا تحتمل التأويل، ولا تثير الاختلاف، لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون هذه الأمور ثابتة على مر العصور كأصول العقيدة الإسلامية، ومنها أركان الإيمان الستة إجمالاً، وأركان الإسلام الخمسة، وأكثر أحكام المواريث، وأصول أحكام الأحوال الشخصية، وأصول الأحكام الحارسة للكليات الخمس.
- وقسمٌ تنتمي إليه معظم أحكام الفقه الفرعية، وقليل من الجزئيات العقدية الموغلة في الفرعية، فكانت محلاً لاختلاف الأنظار بحسب مبلغ علم كل ناظر، وبحسب جهده في إعمال أدوات الاستنباط في كل مسألة... وهذه حكمة العليم الخبير، وعلى هذا فاختلاف الأنظار لا ضير فيه إذا لم يكن مبنياً على الهوى والتشهي، وكان المراد منه تحري الصواب قدر الإمكان، وهذا دالٌ على مدى قصد الشارع لاجتهاد من يملكون أدوات الاجتهاد في الاستنباط، وإن وقع الاختلاف بينهم.
والاجتهاد لا يكمن فقط في إدراك الحكم الشرعي في الواقعة الجزئية، والاستسلام لحكم الله فيها بعد معرفته، بل في الاجتهاد أيضاً في تنـزيلها على الواقع وفق الشرع، وفي هذا الباب قد تتفاوت الأنظار، وتختلف الموازنات، وباستصطحاب الأسس السابقة يتم التعامل في المختلف فيه.
رابعاً: اختلاف الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية:
وأما كون اختلاف الآراء طبيعة بشرية، وفطرة إلهية، فذلك لطبيعة نقص الإنسان وقصوره.. فالاختلاف بين أفراد البشر أمرٌ طبيعي بل إنه آيةٌ من آيات الله تعالى في الخلق: ((وَمِنْ ءايَـٰتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوٰنِكُمْ )) (الروم:22).. والاختلاف داخل ضمن قسمة رحمة الله بين عباده في الدنيا للابتلاء والاختبار: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ)) (الزخرف:32)، ((وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ )) (هود:118)، (( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ )) (الفرقان:20).
ومن جملة الاختلاف: اختلاف الآراء والأفهام والاستيعاب للنصوص، الذي ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد الخلفاء الراشدين، أي في عهد خير القرون.
ومن صور الاختلاف في الرأي ما يرجع إلى الحفظ، ومنه ما يرجع إلى الفهم، ومنه ما يرجع إلى اختلاف التقدير في مراعاة المقاصد العليا للشريعة، ومن ذلك انقسام الصحابة حول أسرى بدر إلى فرقٍ ثلاث، للاختلاف في الفهم والنظر إلى المقاصد الشرعية العليا.. فقد كان الاختلاف بين ثلاثة من الصحابة (أبو بكر، وعمر، وعبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم) ثم انقسم الصحابة بعدهم إلى فرقٍ ثلاث تبعاً لهم، وسبب الاختلاف هو الفهم والنظر إلى المقاصد العليا للشريعة وتنـزيلها على الواقع.. فقد أخرج الإمام أحمد أنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاءِ الأَسْرَى؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، قَالَ وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ، قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، قَالَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَارًا، قَالَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. قَالَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، قَالَ فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليهوسلم فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: (( مَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) (إبراهيم:36)، وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَـكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ: ((إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ )) (المائدة:118)، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ: ((رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلاْرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً )) (نوح:26)، وَإِنَّ مِثْلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى قَـالَ: (( عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ )) (يونس:88)».
وقد بقي الاختلاف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جارياً، بسبب ذلك، كما في حادثة بني قريظة، وصلاة العصر... فإن من صلاها في وقتها نظر إلى النص وإلى فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر بصلاتها في بني قريظة، وهو الإسراع والتعجيل، ومن أخذ بظاهر أمره نظر إلى ضرورة عدم التقدم بين يدي الله ورسوله وبناء الأمـور على الظاهـر كما قال النـبي صلى الله عليه وسلم مرة لما استوى يوم الجمعـة: « اجْلِسُوا» فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ».
كما اختلف المهاجرون والأنصار ومسلمة الفتح إلى فرقتين في الفهم المقاصدي، نظراً لعدم بلوغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَـابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلافِهِمْ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَـلَيْهِ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَـالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَـذَا عِلْمًا، سَمـِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليهوسلم يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْـتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».. قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
لقد اجتمع في هذا الحديث عدة أسباب للاختلاف:
1- الاختلاف في تنـزيل المقاصد العليا للشريعة على نازلة الطاعون، فبعضهم نظر إلى الحفاظ على رجال المسلمين، وبعضهم رأى عدم الرجوع فيما عزم عليه خليفة المسلمين من أمر خطة سفره بدخول الشام.. وهذا الخلاف هو بين خيرة أهل الأرض، بعد الأنبياء ، بين المهاجرين الأولين والأنصار ثم مسلمة الفتح رضي الله عنهم.
2- الاختلاف في فهم الصحابيين المبشرين بالجنة: عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما في مسألة القدر، وتبرير الموقف المتخذ.
3- الاختلاف كان بسبب الفهم، نظراً لفقدان النص من حافظة الجيش كاملاً مع من استقبلهم من الصحابة في الشام حتى أخبرهم به واحد هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وهذا يجعلنا نقرر أن الاختلاف طبيعة بشرية، وواقع لا مفر منه.
ولعل من أهم دلالات ذلك على الفرد والمجتمع: استيعاب واقعية الخلاف فـي الواقع، فيتم تقبل وجوده كظاهرة، وعـدم أخـذه بعنف أو استفزاز، لأنه يدخل ضمن الحكمة الإلهية، وإنما يقابل بما أمر الله به ورسوله بحسب أنواعه، وأسبابه.
والخلاف إجمالاً يمكن تقسيمه إلى: اختلاف تنوع واختلاف تضاد، حيث تكاد تتفق نظرات أهل العلم، قديماً وحديثاً، على ذلك.
واختلاف التنوع كثيرٌ في المسائل الفقهية، بل في المسائل الدينية عموماً، حيث «يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «كِلاكُمَا مُحْسِنٌ»، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، ونحو ذلك مما قد شُرِعَ جميعه».
ومن ذلك مثلاً: ما جاء عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَرَأَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا اغْتَـسَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّـمَا اغْتَسَلَ فِي آخِرِهِ، قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي جَعَـلَ فِي الأَمْرِ سَعَـةً.. قُلْتُ: أَرَأَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي آخِرِهِ. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَـةً.. قُلْتُ: أَرَأَيْتِ رَسُـولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَـرُ بِالْقُرْآنِ أَمْ يَخْفُتُ بِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا جَهَرَ بِهِ، وَرُبَّمَا خَفَتَ. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً.
لذلك يمكن القول: إن اختلاف وسائل العمل الإسلامي، من اختلاف التنوع؛ فمن المسلمين من ينهد لإحياء العلم الشرعي، ومنهم من ينهد للجهاد في سبيل الله، ومنهم من ينهد لإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من ينهد لنفع الناس وقضاء حوائجهم والتخفيف من كرباتهم... ومما يعبر عن ذلك أصدق التعبير أن الله تعالى قال: ((وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ)) (التوبة:122) فذكر قوماً نفروا للجهاد في سبيل الله، وبيَّن أن المؤمنين لن ينفروا له كافة وما كان لهم ذلك، شرعاً وقدراً، وأنه ينبغي أن تنفر فئة منهم لطلب العلم وبثه بين الناس، واستحداث الوسائل المساعدة على تحقيق ذلك الهدف.
وأما اختلاف التضاد، فينقسم إلى سائغ وغير سائغ، وهو ليس مذموماً على إطلاقه، ولكن المحرم منه نوعان:
أحدهما: «كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم منصوصاً بيِّناً لم يحل الاختلاف فـيه لمن علمه»، فإن الله تعالى يقول:
((وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ )) (البينة:4)، وقال جل ثناؤه: (( وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ )) (آل عمران:105) «فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات».
وثانيهما: كل بغيٍ ينشأ عن اختلافٍ لا بد منه كاخـتلاف التنوع أو اختلاف الاجتهاد فيما يجوز فيه الاجتهاد... فالمنع هنا للنتيجة وإن كانت المقدمة صحيحة، وذلك لقطعية الأخوة الإسلامية في مقابل الظنون التي تنشأ عن الاجتهادات.
ويمكن إزالة بعض الخلاف بزوال أسبابه، يمكن تحويل عددٍ كبيرٍ من مسائل الاختلاف إلى مسائل اتفاق؛ إذ أن سبب الخلاف فيها عائد إلى الطبيعة البشرية في عدم الإحاطة بالعلم كله، فإذا كان سبب الخلاف غياب النص عن أحد الطرفين، أو أخذه بجزئية في مفهوم نصٍ مع احتماله لغيره، فيمكن إبراز النص لمن علمه فيختفي الاختلاف، وهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، فيحيلون كثيراً من مسائل الخلاف إلى مسائل اتفاق بعد وضوح النص عند من حفظه، كما في حادثة الطاعون المتقدمة، وأشـار الشافعي إلى هذين الأمرين فقال: «الناس مختلفون في هذه الأشياء، وفي كل واحد منها كتاب أو كتاب وسنة. قال: ومن أين ترى ذلك ؟ فقلت: تحتمل الآية المعنيين فيقـول أهل اللسـان بأحدهما، ويقول غيرهم بالمعنى الآخر الذي يخالفه، والآية محتملة لقولهما معاً، لاتساع لسان العرب؛ وأما السنة فتذهب على بعضهم وكل من ثبتت عنده السنة قال بها، إن شاء الله، ولم يخالفها، لأن كثيراً منها يأتي واضحاً ليس فيه تأويل».
وعلى الرغم من عدم إمكانية زوال الخلاف في الرأي مطلقاً، إلا أنه قد يوجد في الاختلاف المنضبط مقاصد شرعية؛ فالخلاف في الرأي لم يزل منذ خير القرون، لذلك فتصوُّر بعضهم أنه يمكن إزالة هذا الخلاف هـو مما ينافي الشرع، والطبيعة، والواقع، والعقل.
أما الشرع، فظاهرٌ أن الله سبحانه وتعالى شرع بعض الأحكام التي تختلف فيها اجتهادات البشر، كما تختلف في استنباط دلالات نصوها، وهي غير المحكمات الشرعية القطعية، وهذا بحد ذاته دالٌ على جواز الاختلاف لا على جواز إرادة الخلاف.
وأما الطبيعة، فلأن الله تعالى جعل الاختلاف في الأرزاق من آياته في طبيعة الناس، ومنها رزق الذكاء والذاكرة وقوة الفهم والحفظ.
وأما الواقع، فإن واقع الصحابة، وهم خير القرون، يقول: بأنهم اختلفوا، فكيف غيرهم؟
وأما العقل، فإن كل ما سبق يطبع العقل على وجود الخلاف، حتى أن الشخص الواحد قد يخالف رأياً ارتآه بالأمس في دليلٍ شرعي، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة (المُشَرِّكة) حيث اختلف قضاؤه فيها عنه قبل عام: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
واستقرار حقيقة عدم زوال الخلاف بين الناس يوسع صدور المسلمين لاحتماله خاصةً ما كان سائغاً، وينبغي أن تقوم مناهج التربية على تطبيع المسلمين على هذه الحقيقة وتقبلها، والتعامل معها وفق الشرع بمختلف أقسامها.
ويظهر من كلام من تشدد في ذم الخلاف مطلقاً أنه يعني النـزاع والفرقة وليس مجرد الاختلاف في الرأي مع بقاء عصمة الأخوة وحقوقها بل إن الاختلاف قد يكون نعمةً في ذاته ما دام في حدوده المنضبطة لم يخرج إلى نزاع أو اقتتال، ولذا ألف السيوطي كتابه: (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب).
والنفسية السوية، يسهل عليها أن تستوعب وقوع الخلاف في المجتمع الواحد، خاصة إذا كان اختلاف تنوع، بل يعد ذلك من ضرورات قيام الحياة وإعمارها، ومن ضرورات كون الخلـق خلقاً كما قال الله عز وجل: (( وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (الذاريات:49)، ولذا فإن الذم في ذلك يكون واقعاً على من بغى على أخيه الآخر لا على الاخـتلاف من حيث هو اختلاف، «وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قولـه تعالى: (( مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ)) (الحشر:5)، وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم وترك آخرون؛ وكما في قوله تعالى: (( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَـٰهَا سُلَيْمَـٰنَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً )) (الأنبياء:78-79) فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعـلم؛ وكما في إقرار الـنبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ولمن أخرها إلى أن وصـل إلى بني قريظة؛ وكما في قولـه: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب ...».
وعليه، فإن سلف الأمة وجميع الأئمة لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضاً، أو يخطئ بعضهم بعضاً، وإنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق وتحقيق مقاصد الشرع بما يتوصلون إليه من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد استوعب الفقه الإسلامي وجود الاختلاف، لأن كثيراً من النصوص «يحتمل التأويل ويُدْرَكُ قياساً»، فذهاب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس اجتهادٌ يؤجر عليه ولو أخطأ، ما دام قد سلك سبيل الاجتهاد، وإن خالفه فيه غيره .
وإذا كان الخلاف أمراً واقعاً، وضرورة خلقية، فإنه لا يحدث الفرقة ما دام منضبطاً بميزان الشرع، بل إن الذي يحدث الفرقة هو بطر الحق، والتعصب للرأي، والاستعلاء على الآخرين، وقد تنازع بعض التابعين تنازعاً شديداً في القراءات مع أنها جميعاً مشروعة حتى قام عثمان t بالعمل العظيم في تعميم المصاحف، وذكرهم بمشروعية القراءة على الأحرف المنـزلة.
وعلى الرغم مما يلحظ في زماننا هذا من أن أكثر أعمال الحركات والاتجاهات الإسلامية هي أعمال تكاملية؛ إذ أن معظم الأعمال التي يبرز فيها هذا الاتجاه أو ذاك هي أعمالٌ نوعية تعود إلى اختلاف التنوع، إلا أن النـزاع والتنافس ونبذ استيعاب هذا النوع من الاختلاف هي السمة الطاغية، وقد يجمع كل طرفٍ من أطراف الاختلاف حقاً وباطلاً، فتحل العصبية الذميمة، وتصادرُ من كل طرف حقـه وباطله، ثـم يضيع الهدى نتيجةً لهذا التنازع الذميم، ويترتب على ذلك التقاطع والتدابر والمكر ببعضهم.
وقد يكون سبب ذلك إما عدم استيعاب وقـوع الخلاف فـكرياً أو نفسياً أو عملياً، وإما الإصرار على تثبيت الخطأ والصواب من كل ذي انتماء على أنه صواب محض من حزبه وفئته، وقد يستدل على ذلك بأدلة منها قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) «إذ التعصب سببٌ يرسخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة، والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم وسموه ذباً عن الدين ونضالاً عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق، ورسوخ البدعة».
فإذا عرف أن الاختلاف حقيقةٌ واقعية، بل إن الاختلاف فى الأحكام أكثر من أن ينضبط، سهل تربية النفس على الموقف الصحيح منه، نابذاً ابتداءً كل تقطيعٍ لعرى الأخوة لمجرد وقوع الخلاف بينهما، «ولو كان كل ما اختلف مسلمان فى شىء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة»
إن وقوع الاختلاف، يفترض أن يؤدي إلى أخذ الصواب من كل طرف، ولا تمنع هيبة المخطئ من الإنكار عليه، لكن دون حطٍ أو تفريطٍ في حقوق الأخوة الإسلامية؛ كما قال الذهبي: «وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أُمِرْنا باتباع أكثرهم صواباً، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خـالفوا فيه لقياس أو تأويل، وإذا رأيت فقيهاً خالف حديثاً أو رد حديثاً أو حرف معناه فلا تبادر لتغليطه... وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف»...
وقد يكون مع كل طرفٍ شيءٌ من الصواب وشيء من الخطأ، فيؤخذ الصواب من كل طرف مع التماس العذر في وقوع الخطأ.
حتى أنه يمكن الإشارة إليه –لشدة خفائه على المتصدرين في محاريب الفكر والقلم في عصرنا- بـ (علم حفريات المصطلح).​
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك يا أبا عبد الله
وسلمت يمينك
يعجبني فيك أنك عرفت رسالة الموقع على وجهها فأدَّاك ذلك إلى تميزك في الانتخاب والاختيار،
رأيناك هناك في قسم التقارير العلمية والنتائج الفقهية متألِّقاً
واليوم نراك هنا في ملتقى أدب الخلاف وقانون الجدل.
ولا أدري أين ألقاك غداً
ولكن لا ريب - بحول الله وقوته - أنا نراك:
إما مصعِّداً على أحد مدارج الموقع العلمية
أو هابطاً إلى إحدى الدقائق الفقهية والتي من دقتها آخت الذرات النووية فلا تنقسم ولا تتجزأ.
أو تائها متردِّداً بين الكتب الصفراء العتيقة وبين النوازل المدلهمة الإلكترونية
وكل ذلك
سيراً
في منهج مستقيم
وطريق قويم
مع دعاء وإلحاح
"وقل رب زدني علما"


وأخيرا:
في أمثال هؤلاء من طلبة العلم، وفي مثل هذه الهمم والطاقات المتدفقة، يحلو للمرء أن ينشد ويتغنى:
تغني بك الدنيا كأنك طارق 8888 على بركات الله ترسو وتبحر
تناديك من شوق مآذن مكة 8888 وتبكيك بدر ياحبيبي وخيبر
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
ملاحظة مهمة:

إذا كانت هذه الأبحاث متعددة الموضوعات فأقترح أن تفرد كل مبحث منها بموضوع خاص

حتى نستطيع قراءة ومناقشة كل مبحث على حدة وتسجيل الفوائد والملاحظات
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي


أثر الخلاف في المسائل الفقهية من حيث الإنكار وعدمه

البحث عن الخلاف، وطبيعته، وأسباب حدوثه، وآدابه، ليس مجال هذا البحث؛ الذي يهتم بتناول الخلاف من حيث إنه حدثٌ واقعٌ ظاهر في حياة المسلمين العلمية، في الميدان الشرعي، ولا بد من شرح مبسط لقاعدة البحث قبل الدخول في مناقشتها باعتبارها وضعت (قننت) حكماً عند حدوث الاختلاف، وأرشدت إلى معالم لاستيعاب الخلاف سارت عليها الحياة الفقهية عند الأمة الإسلامية .
فقد تضمنت هذه القاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) عدة معالم علمية وفقهية، وأرست عدة مبادئ للجدل والحوار بحسب ظاهر لفظها ومفهومها، منها:
1- أرست مبادئ للحوار والمناظرة بين المختلفين، يقف على رأسها حسن الظن بالمخالف، وعدم الإنكار عليه باليد...أما الإنكار عليه نصحاً، أو مناظرةً، أو مشـاورةً، أو مباحـثةً، أو تخطـئة على نتيجة الاجتهاد مع أدب القول... فهذا كان دأب أهل العلم في كل خلاف مذ كان عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
2- لا يسري النهي عن المنكر فيما اخـتلف فـيه الفقهاء ما دام لم يخالف نصاً ولا إجماعـاً ولا قياسـاً جليـاً . والقيد هنا قد أشـار إليه واضعو القاعدة.
3- الأصل في الخلاف بين المسلمين التماس العذر للمخالف، وإحسان الظن به، ولذا لا يسري إليه الإنكار باليد، وإنما يتم الحجاج العلمي معه.
4- قسمت هذه القاعدة الأحكام الشرعية إلى قسمين: محكمات قطعية، ومسائل فرعية...وذلك حتى يتسنى لكل ناظر في الفقه الإسلامي أن يفرق بين النوعين من حيث أهميتهما، وحكم تركهما أو فعلهما .
5- خضوع كل من يخالف في محكمات الشريعة للإنكار عليه، بحسب مفهوم القاعدة .
6- المحكمات الشرعية هي أساس الدين وجوهره، وعليها مدار اتفاق المسلمين، ويجب حراستها بالإنكار على الخارج عليها، بحسب مستوى الإنكار اللائق به .
7- لا يخرج عن طائلة الإنكار والنقد فيها أياً كان، مهما جلّ قدره، أو عظمت مكانته، فالعبرة في النظر للفعل لا للفاعل.
ولكن هذه القاعدة، بحسب ظاهرها، جعلت الخلاف حكماً ومرجعاً يُعتمد عليه: فعند حدوث نقاشٍ في مسألةٍ فقهية اختلفت فيها الأنظار، وأراد كل طرفٍ أن يظْهِر ترجيح أحدها، فإن كل طرفٍ مُلْزَمٌ بأن يتحاكم إلى هذه القاعدة… والحكم هو ألا تنكر الرأي الآخر مهما ظهر أن النص ضده أو معه، أو أن الرجحان رفعه أو وضعه... وهذا بحسب ظاهرها.
كما حوت - بحسب ظاهرها أيضاً- نفياً بمنطوقها، وإثباتاً بمفهومها: فنفت الإنكار في المسائل المختلف فيها، وأثبتت الإنكار في المسائل المتفق عليها.
الإشكالات المتبقية في فهم هذه القاعدة ما يلي: وتبقى هناك إشكالات أخرى، من مثل:
1- ما المراد بالإنكار المنفي هنا؟ هل هو الإنكار باليد أم باللسان؟
2- هل المراد الإنكار الواجب أم المستحب؟
3- حال كونه باليد، فكيف تكون عبارة المنكر باللسان...ليناً ورفقاً؟
4- وهل تجوز بعد ذلك المباحثة والمناقشة والإقناع بين الطرفين إذا كان النفي متوجهاً لجميع أساليب الإنكار من يدٍ ولسان؟
5- وهل يؤخذ بظاهر لفظها فيجعل خطاباً عاماً للعالم فيخاطب به المسلمون وغيرهم، في المسائل العلمية والعملية، الأصلية والفرعية؟
6- هل كل المسائل المختلف فيها لا تنكر بأي أسلوبٍ من أساليب الإنكار؟
لقد أردت بطرح هذه التساؤلات منع المسارعة في أخذ القاعدة على ظاهرها وإطلاقها، ولتكون مدخلاً لبحث القضايا الرئيسة في مدلولاتها .
وعند النظر في عبارات أهل العلم، يظهر جلياً أن الإطلاق في القاعدة ليس على ظاهره، فقد اتفقوا على التذكير بالإنكار على المخطئ في المسائل المختلَف فيها في الجملة، لانتماء التذكير بالإنكار إلى عدد من القطعيات الشرعية، ولكن عباراتهم اختلفت في تفصيل المعيار الصحيح الدقيق للإنكار في المختلف فيه، كما يأتي تفصيله.

معيار التذكير بالإنكار
اختلفت عبارات أهل العلم في معيار التذكير بالإنكار في المسائل المختلَف فيهاعلى عدة أقوال، منها:
القول الأول: معيار الإنكار هو ما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعةً إلى محظور متفقٍ عليه:
ذهب إلى هذا الرأي الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماوردي ومثله أبو يعلى الفراء، فقد قال الماوردي: «وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعةً إلى محظورٍ متفقٍ عليه...».
ولكن الماوردي أورد فرقاً بين ما إذا كان المنكر لـه ولاية الاحتساب أم لا، فقال: «واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي: هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا ؟ على وجهين: أحدهما، وهو قول أبي سعيد الإصطخري: أن له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه فيما اختُلف فيه. والوجه الثاني : ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ولا يقودهم إلى مذهبه، لتسويغ الاجتهاد للكافة، فيما اختلف فيه، فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق عليها».
ونص صاحب الفروع على مثل هذا، فقال: «فقد بينا الأمر على أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، وفي كلام أحمـد أو بعض الأصحـاب ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف فيها أنكر وإلا فلا.. وللشافعية أيضاً خلافٌ، فلهم وجهان في الإنكار على من كشف فخذيه»، وذكر تفصيلاً لفروع كثيرة وردت فيها نصوص، وضعف الخلاف فيها، ونقل عن عدد من أئمة الشافعية والحنابلة الإنكار فيها .
واعتبار أن يكون الخلاف ضعيفاً لحدوث الإنكار هو ما عبروا عنه بقولهم:
فليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافٌ له حظ من النظر
فإن كان معتبراً لم ينكر على صاحبه إن تبادل الطرفان بيان الحجة، وإقناع المستفتي بما عندهما من أدلة.
فتحصل من هذا:
1- أن عبارة الماوردي تدل على ترك الإنكار في المختلف فيه حيث قال: «ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته»، لكن استثناءه دالٌ على أنه يريد أن ثمة مسائل خاصة من مسائل الخلاف لا بد من إنكار القول الآخر فيها إن كان ضعيفاً أو شاذاً، وأن بعض مسائل الخلاف التي يقوى فيها دليل كل طرف فلا إنكار فيها، ولنصطلح على تسمية هذا النوع الذي يقوى الخلاف فيه بـ«مسائل الاجتهاد»، وذلك لأن إجهاد الذهن فيها مطلوب لمعرفة أقرب الأقوال إلى نص الشارع ومقاصد التنـزيل والشريعة، لعدم ظهور نص أو إجماع أو قياس جلي فيها.
2- أن الإنكار المنفي هنا إنما هو عن غير من له ولاية الحسـبة، فأما من له ولاية الحسبة فله حق الإنكار على أحد الوجهين لما يترجح عنده أنه منكر.
3- أن ما ضعف الخلاف فيه ينكر، وهذا يدل على تقسيمهم مسائل الخلاف إلى قسمين، وإن لم يصطلح أهل العلم هنا على تسمية مستقلة لكل قسم.
القول الثاني: معيار الإنكار في مسائل الخلاف هو مذهب المحتسَب عليه:
وصرح بهذا الإمام الغزالي، رحمه الله تعالى، حين ذهب إلى أن من شـروط الإنكار: «... أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة. فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ غير المسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام، وجلوسه في دارٍ أخذها بشفعة الجوار. نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ، وينكح بلا وليٍ ويطأ زوجته فهذا في محل النظر، والأظهر أن له الحسبة والإنكار…»، وتابعه الشيخ زكريا الأنصاري في كتابه «أسنى المطالب» إلا أنه استثنى من ناحية عملية بعض المسائل المختلف فيها كشرب النبيذ فإن «أدلة عدم تحريمه واهية» على حد تعبيره، وهذا يدل على شعوره بأن قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) لا تنطبق على كل مسألةٍ مُخْتَلَفٍ فيها.
وبذلك فإن الإمام الغزالي يرى:
1- أن من شروط الإنكار: أن يكون المنكر معلوماً، ولكن كلمة (معلوماً) ليست واضحة هنا: فهل المراد بها ورود نص قطـعي الدلالـة أو يكفي أن تكون دلالته ظاهرة؟
2- أن ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه.
3- أنه ليس لأحدٍ أن ينكر على أحدٍ فعله ما دام مباحاً في مذهب الفاعل.
4- أنه يجب على كل مقلدٍ اتباع مذهب مقلده، فإن خالفه أُنْكِر عليه في الأظهر.
5- أن معيار التذكير بالإنكار الفعلي والقولي هو المذهب، فمن فعل شيئاً رآه جائزاً في مذهبه فلا يُنْكَرُ عليه وإن كان مخالفاً لظاهر النص.
على أن الإمام الغزالي، رحمه الله تعالى، قد بنى مذهبه هذا على أن كل مجتهد مصيب في المسائل الفقهية، حيث قسم المسائل العلمية الشرعية إلى: المسائل الفقهية وهي أحكام الحل والحرمة التي يتصور أن يقال فيها (كل مجتهدٍ مصيبٌ)، والمسائل العلمية العقدية والعقلية التي لا يتصور فيها ذلك.
وواضحٌ أنه – إذا سلمنا عدم مجانبة هذا القول للنص الشرعي الآمر عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة- فإن أقل ما يمكن أن يقـال فيه: إنه مخالفٌ لما اشتهر من إنكار الصحابة بعضهم على بعض- مما سترد أمثلة له، إن شاء الله تعالى- بل لفعل الفقهاء حيث يرد بعضهم قول بعض عند مناقشة كثيرٍ من مسائل الفقه، كما هو ظاهر في كتب علم الكلام أو علم الأصول، أو علم الفقه المسمى بعلم الفروع... والظاهر أن هذا غير غائبٍ عن الإمام رحمه الله، فلعله أراد بالإنكار هنا التغييـر باليد، وأما باللسـان فأقل الحالات أنه لا بأس ببيان كون المختلف فيه منكراً عند القائل به على سـبيل الإقناع والإرشـاد، وبيان الدليل من غير اصطحاب توبيخٍ أو تقريع... ولذا فإن أكثر الشافعية يرون حد الحنفي إذا شرب نبيذاً، لضعف أدلته.
القول الثالث: معيار الإنكار مذهب المحتسب عليه إلا في حالات استثنائية أهمها بُعْدُ المأخذ:
وإليه ذهب الإمام السيوطي، فقد قال في كتابه الأشـباه والنظائر: «لا ينكر المختلف فيه، وإنـما ينكر المجمع عليه، وتستثنى صورٌ ينكر فيها المختلف فيه:
إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء.
الثانية: أن يُتَرافَعَ فيه لحاكمٍ فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده.
الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حقٌ كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته وكذلك الذمية على الصحيح».
وضعف المأخذ هو ما ارتضاه العز بن عبد السلام معياراً للإنكار في المختلف فيه.
وذهب إلى شيءٍ قريبٍ من هذا الإمام القرافي، فإنه مال إلى اعتبار مذهب المحتسب عليه هو معيار الإنكار «إلا أن يكون مدرك القول بالتحليل ضعيفاً جداً ينقض قضاء القاضي بمثله لبطلانه في الشرع كواطئ الجارية بالإباحة معتقداً لمذهب عطاء، وشـارب النبيذ معتـقداً مذهب أبي حنيفة»، وأرشد إلى وجود نوعٍ من المسائل تكون أقل درجة في الإنكار من غيرها من الخلافيات فقال: «وإن لم يكن معتقداً تحريماً، ولا تحليلاً، والمدارك في التحريم والتحليل متقاربة، أرشد للترك برفق من غير إنكار وتوبيخ ؛ لأنه من باب الورع المندوب، والأمر بالمندوبات والنهي عن المنكرات هكذا شأنهما الإرشاد من غير توبيخ».
وبالنظر إلى الترتيب الزمني للأئمة السابقين، نلحظ أن قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) قد قيدها الماوردي والفراء، ثم ذكر الغزالي ما يُشبه الإطلاق فيها، مع أنه قيدها بمسائل الأصول فيتم فيها الإنكار عنده، ثم عاد القرافي وابن مفلح والسيوطي فقيدوها، ومنعوا إطلاقها.
كما نلحظ أن السيوطي ذهب إلى أن مذهب أحد الطرفين إن كان بعيداً شرع الإنكار، وهذا مساوٍ تماماً لما في القول الأول من مشروعية الإنكار عند ضعف الخلاف.
القول الرابـع: رأي الإمـام عـبد الله بن سـليمان الجرهـزي (تـ1035هـ):
فقد ذكر كلام السيوطي وزاد عليه مجموعة زياداتٍ، ولذا يمكن أن نعد كلامه رأياً رابعاً، وتتلخص هذه الزيادات في التالي:
1- بين نوع الإنكار المنفي في قولهم (لا ينكر المختلف فيه)، فالإنكار المنفي إنما هو «باعتبار الإنكار الواجب، أما المندوب فيندب حتى في المختلف فيه برفق»، ومعنى ذلك «أن الإنكار المندوب لا يُنفى عن المختلف فيه بل يثبت لكل منكرٍ أي حرامٍ مجمعٍ على حرمته، أو مختلفٍ فيه، فيطلب ويدعى على وجه النصيحة إلى الخروج من الخلاف».
2- هذا الإنكار المنفي (الإنكار الواجب، الإنكار باليد) عن المختلف فيه إنما هو لغير المحتسب الذي نصبه الإمام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما المحتسب «فينكر وجوباً، على أن من أخل بشيءٍ من الشعائر الظاهرة ولو سنة كصلاة العيد، والأذان، فيلزمه الأمر بهما…»، وكون الحاكم له حق الإنكار في المختلف فيه ذكره صاحب «البحر الزخار»؛ إذ لا يد فوق يده وعموم ولايته.
ويلحظ مما سبق أن أيّاً من الفقهاءلم يُصرِّح بأن المعيار المعتبر هو النص، بل حقيقـة قولهم أن جعلوا نص المذهب مقدماً على النص الإلهي أو النبوي الصحيح (!) وذلك لا لأن نصوص المذاهب تخالف النص، بل لأنه قد صار من المعلوم بالضرورة أن نصوص المذاهب ووجوهها وطرقها إنْ هي إلا محاولاتٌ استنباطية للحوادث والمسائل الفقهية من النص، وإن كان التعبير – عند بعضهم- عن هذه المسألة بـ«الإلزام المذهبي» مع أنه نصٌ في النهاية غير سائغٍ من الناحية (المنهجية) الأدبية والعلمية أمام النص، على أنه يوجد في نصوص المذاهب اختلافاتٌ تعبر عنها الوجوه والطرق، والاختيارات، تؤول في الأخير إلى الاختلاف في فهم النص، فلماذا تعسير الطريق والرجوع إلى نصٍ غير معصـومٍ تعددت وجوهـه لما فيه من خلاف في المذهب الواحد؟
ولا يُفهم من هذه الملحوظة أن الأئمة يُقدمون النص المذهبي على النص؛ بل المحمل الحسن الواجب لهم - وهو الواقع منهم - هو اعتقاد أن النص المذهبي يُعبر عن الفهم للنص فذهبوا إليه مباشرة دون أن يُعبروا عن ذلك بالقول مثلاً: معيار الإنكار هو مذهب المحتسَب عليه في فهمه للنص.
وتدل العبارات الواردة في كلام الأئمة، من مثل: «أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، (أن يكون الخلاف ضعيفاً)، (ألا يكون معتبراً)، (وهو ما ليس له حظٌ من النظر…)» على معنىً واحد هو أن الإنكار في المختلف فيه ينتفي إن كان الخلاف قوياً، ويُثْبَتُ إذا كان الخلاف ضعيفاً (غير معتبرٍ، بعيد المأخذ..)، ولكن الإشكال هو في معيار الضعف، فقد يكون الخلاف عندك ضعيفاً، وعند غيرك قوياً (!)
ومع ذلك، فإن إجماع الأئمة منعقدٌ على عدم الأخذ بإطلاق هذه القاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكماً.
فهم لم يجمعوا على معيارٍ محددٍ في الإنكار لفظياً، حيث اختلفت عباراتهم فيه.. ونلحظ أنه كلما تأخر عهد العالم كان أشد احترازاً في ضبط القاعدة، وهو يثبت ما تقدم من أن الوضع البشري يعتريه القصور في التعبير عن القاعدة، وعلى الرغم من ذلك فإن حاصل المذاهب السابقة يكاد يكون واحداً يتلخص في أن معيار الإنكار هو مذهب المحتسَب عليه، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه.
ومما يدل على عدم الأخذ بإطلاق قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكماً، أنه يقف حائلاً بين هذا الرأي الذي يجعل للمذهب اعتباراً في الإنكار وبين صدق تطبيقه، أن كل خلافٍ مروي في كتب الفقه لا يعد خلافاً، فهناك عدد لا يستهان به من مسائل الخلاف إنما يُنقل فيه قول المخالف احتمالاً… أي سُمِع عن فلان أنه قاله نقلاً عن صاحبه، وبينهما قرون، أو نقله أحدهم في كتابٍ عن صاحبه، والسند منقطع أو معضل بينهما، وقد يكون الانقطاع لأجيال، أو تقَوَّله عليه لغلٍ شخصي… وقد يورده أحدهم تخريجاً، أو احتمالاً، دون تأكدٍ من صحة الخلاف عنه، ولا وسيلة للتثبت من قوله فيه، فلماذا نجعل المسألة متعلقةً بخلاف فلان، وليس عندنا ما يدل على أنه خالف حقيقة.
ومن أمثلة هذا ما عزاه بعضهم إلى سفيان الثوري، رحمه الله، من جواز إمامة المرأة للرجال، وما عزاه آخرون إلى الإمام الطبري من جواز كون المرأة قاضيةً مطلقاً في الحدود وغيرها، وما ذكروه عن أبي حنيفة من جواز درء الحد عن واطئ الخادمة، وما ذكروه عن أبي جعفر الطحاوي أنه أجاز الشرب من المسكر ما لم يسـكر، أو ما نُسب إلى أبي الخطاب ابن دحية أنه أفتى بقصر المغرب في السـفر ركعتين… ونحـو ذلك مما يوجد في كتب الفروع الموسعة.
ويذهب ابن تيمية إلى أن ذلك يعود إلى أن «القول المحكي قد يسمع من قائلٍ لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم بل يذكر كلاماً مجملاً يتناول النقيضين ولا يميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر فيحكيه الحاكي مفصلاً ولا يجمله إجمال القائل، ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضاً، وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسـه، وما كل من قـال قولاً التزم لوازمـه، بل عامـة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم …».. ويقول عن نقل بعضهم: «وكثيرٌ من ذلك لم يحرر في أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله».
كما ذهب ابن القيم إلى أنه: «كثيراً ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثيرٌ من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدةٍ متبوعةٍ مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تُفضي إلى ذلك لما التزمها، وأيضاً فلازم المذهب ليس بمذهب وإن كان لازم النص حقاً، لأن الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمه، ولو علم أن هذا لازمه لما قاله، فلا يجوز أن يقال هذا مذهبه، ويقوله ما لم يقله».
ومما يمكن أن يضاف أيضاً إلى أدلة عدم الأخذ بإطلاق هذه القاعدة، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكماً: أن خلاف العالم فـي مسألةٍ ما قد تكون من زلات أهل العلم، أو من شواذ الأقوال، وهو ما حذر منه أهل العلم قديماً وحديثاً، وقد يستمرئ العالم زلته وهو لا يشعر، ولا ينقص ذلك من قدره لطبيعته البشرية، وهذا ما حذر منه الراشدون، فقد قال عمر رضي الله عنه: «ثلاثٌ يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافقٍ بالقرآن، وأئمةٌ مضلون»، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حقٌ، وعلى القرآن منارٌ كأعلام الطريق…».
ومن أمثلة ذلك، بيان ابن عباس، رضي الله عنهما، لزلة غيره، فقد روى عكرمة عن ابن عباس قال في مسألة فقهية قال فيها ابن مسعود بقول: ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم في الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال الله تعالى: (( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ )) ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.. ورواه البيهقي من طريقه من وجه آخر عن سعيد بن جبير: سئل ابن عباس عن الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال: ليس بشيء إنما الطلاق لما ملك، قالوا فابن مسعود قال: إذا وقت وقتاً فهو كما قال، قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن،
ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو مسـلم الخولاني أنه قدم العراق فجلس إلى رفقةٍ فيها ابن مسـعود فـتذاكروا الإيمان، فقلت: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: أتشهد أنك في الجنة. فقلت: لا أدري مما يحدث الليل والنهار. فقال ابن مسـعود: لو شهدت أني مؤمن لشهدت أني في الجنة. قال أبو مسلم فقلت: يا ابن مسـعود ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، كافر السرير كافر العلانية، مؤمن العلانية كافر السريرة؟ قال: نعم! قلت: فمن أيهم أنت؟ قال: أنا مؤمن السريرة مؤمن العلانية. قال أبو مسلم قلت: وقد أنزل الله عز وجل: (( هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ)) فمن أي الصنفين أنت؟ قال: أنا مؤمن. قلت: صلى الله على معاذ. قال: وماله؟ قلت: كان يقول اتقوا زلة الحكيم، وهذا منك زلة يا ابن مسعود. فقال: استغفر الله.
وعن أبي عوانة قال: شهدت أبا حنيفة وكتب إليه رجل في أشياء فجعل يقول: يقطع يقطع، حتى سأله عمن سرق من النخل شيئاً، فقال: يقطع، فقلت للرجل: لا تكتبن هذا. هذا من زلة العلم. قال لي: وما ذاك. قال قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ» قال: امح ذاك، واكتب لا يقطع لا يقطع.
ولذا ذكر القرطبي عدداً من المسائل المنقولة عن أهل العلم والدين، وبين أنها زلات لا يجوز اتباعها، ومن ذلك قوله: «ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم، وقد حذرنا من زلة العالم، ولاحجة في قول أحدٍ مع السنة، وذكر النسائي أيضاً عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحاً إلا عن إبراهيم».. وعن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه، وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين! مصنف هذا الكتاب زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالمٍ إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب.
لذلك يمكن أن يقال: إذا أخذنا بالخلاف في كل شيء، فكيف تعد الزلة خلافاً ؟
ومما يدل -أيضاً- على عدم الأخذ بإطلاق قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكماً، عند من قرر هذه القاعدة من ناحية عملية، أنهم ينكرون بعض مسائل الخلاف باليد عند الاقتضاء.
ويضاف إلى ذلك: التطبيق العملي للقرآن الكريم: وهو السيرة النبوية الشريفة، وما يتبع ذلك من فهمٍ للصحابة وعملٍ يوائم الشريعة؛ إذ عليهم نزل القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم يتلو عليهم آيات الله سٍبحانه وتعالى ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة… ولم يوجد أحد منهم يعتبر المذهب الخاص به هو معيار الإنكار، بل كان النص عندهم هو معيار الإنكار مادام ظاهر الدلالة، والحجة عليه لائحة، والفهم فيه غير بعيد المأخذ.
ونخلص من ذلك كله إلى أن القائلين بقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، رحمهم الله جميعاً، لم يريدوا بها، عند تقريرها، التطبيق المطلق على كل مسألة مختلَفٍ فيها كما يتبادر من لفظها، بل قد يكون مرادهم منها نفي الإنكار (لا إنكار) باليد، أو بالقول على سبيل التوبيخ والنعي الشديد... أما الإنكار بمعنى النصح، وبيان الحجج العلمية فهو مشروعٌ عندهم جميعاً، والنفي متوجهٌ لمن ليس له ولاية الحسبة، أما من له ولاية الحسبة فيحملهم على القول الصحيح في المسألة المختلَف فيها، مع أن هذا قابلٌ للتفصيل ويخضع لمرونة في التطبيق بحسب الواقع.
كما قد يكون مرادهم من كلمة (الخلاف) الواردة في عبارة (في مسائل الخلاف) - وبعضهم سماها مسـائل الاجتهاد، الذي ينتفي فيه الإنكار السـابق - الخلاف القوي، أما الخلاف الضعيف فيُنكَر فيه على من ضعف قوله باليد ممن يحق له ذلك أو باللسان على حسب كلٍ… وهذا ظاهرٌ من كلامهم إلا الإمام الغزالي، ففي قوله نوع ترددٍ ظاهر، ومعنى هذا أنهم قسموا عملياً المسائل الخلافية إلى قسمين: مسـائل الخلاف، وهي ما كان أحـد القولين فيها ضعـيفاً، حيث يكون فيها نصٌ أو إجماعٌ أو قياسٌ جليٌ، وليست داخلة ضمن القاعدة، ومسائل الاجتهاد، وهي ما كانت الأقوال فيها قوية، وهي المراد بالقاعدة… وهذا التقسيم بهذه الهيئة العملية، صار تقسيماً اصطلاحياً عند المتأخرين تحت الاسمين السابقين.
لقد قيد أهل العلم هذه القاعدة، ولم يطلقوها كما يوهم ظاهر اللفظ، وذلك لخطورة القول بها على إطلاقها.

آثار الاستدلال بقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف)
الفهم الخاطئ لهذه القاعدة، والاستشهاد بها على إطلاقها دون بيانٍ وتفصيلٍ للمراد من مدلولها في العموم كقاعدة، ومن مدلول كلمة (الخلاف) أو كلمة (الاجتهاد) في الخصوص، يوقع لبساً كبيراً شأن كل احتجاجٍ بالكلام المجمل دون بيان تفصيلي يتبعه.
وقد اشتكى كثرة من المحققين من ذلك حتى قال الشاطبي: «وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظراً آخر... فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع فيقال: لم تمنع والمسألة مختلفٌ فيها، فيجعل الخلاف حجةً فى الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليلٍ يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمداً، وما ليس بحجةٍ حجةً، حكى الخطابي فى مسألة البِتْع المذكور فى الحديث عن بعض الناس أنه قال: إن الناس لما اختلفوا فى الأشربة وأجمعوا على تحريـم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه، حرمنا ما اجتمعوا وأبحنا ما سواه. قال: وهذا خطأٌ فاحشٌ وقد أمر الله تعالـى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله فى الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين، هذا مختصر ما قال، والقائل بهذا... قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه...» .
وهذا الفهم الخاطئ يؤذن بآثار خطيرة، منها:
1- تقليل الاعتماد على النصوص، وضعف النظر إليها، لأنه لا تكاد تخلو مسألةٌ من خلاف، وذلك بخلاف المسائل الاجتهادية فالخلاف فيها سائغٌ، والغلو في الاستدلال بهذه القاعدة يجعلها ترجع على أصلها – وهي النصوص- بالإلغاء والإبطال فتكون نداً للنص، وهذا ما جعل الأمير الصنعاني ينكر على من يستدل بهذه القاعدة في مقابل النص إنكاراً شديداً فيقول: «فإن كان هذا منكراً في عصره – يعني النبي صلى الله عليه وسلم- ونـهى عنه، فما الذي صيره معروفاً بعد وفاته حتى يقال لا ننكر؟ هل بعد وفاته نسخٌ أو وحي يُصير المنكر معروفاً؟…إن هذا لشيءٌ عجاب! أبعد رسول الله صلى الله عليهوسلم شيءٌ يُستدرك عليه، ويُثْبِت ما نفاه، ويبطـل إنـكار ما أنكره؟ ليت شعري ما الذي صير طاعته بعد وفاته ليست بواجبة؟» .
2- تتبع زلل العلماء وشواذ الأقوال؛ إذ هي منقولةٌ كخلاف… ولا بد من التحقيق الدقيق الذي يبين الفارق بين شاذ قول أهل العلم وخلافهم المعتبر.
3- تسويق إلى التناول السطحي لاختلاف العلماء، مما ينتج عنه تسـويغ كلٍ من الرأيين الواردين في المسألة الواحدة ولو كان الخلاف فيها ضعيفاً أو شاذاً، وهذا يؤدي إلى العمل بالرخص مطلقاً، وتؤخذ الأقوال بالتشهي ولو كانت مجرد رأي فقيه،لا دليل له من النص الصحيح، مما يؤذن بانحلال عزائم المكلفين في التعبد، ويصير ما يُزعم أنه الشريعة عبادة للهوى، كما قال الشاطبي: «الترخيص إذا أُخِذَ به في موارده على الإطلاق كان ذريعةً إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أُخِذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه… فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب طريق الخروج منها، وهذا ظاهر، وقد وقع هذا المتوقع في أصول كليةٍ وفروع جزئية كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز».
4- انهيار قـواعد الإسلام، أصوله وفروعه… إذ أن أهل البدع، إنما خالفوا في مسائل تصدق عليها هذه القاعدة؛ وهم لم ينكروا نصاً بل حرفوا، وسموا تحريفهم تأويلاً، ولا مفر من تطبيق هذه القاعدة عليهم عند قبولها على إطلاقها؛ مع تأثر بعض أجلة العلماء، ممن لا يُشَكَّ في دينهم، ببعض بدعهم.
5- اجتثاث علم الجرح والتعديل، إذ إن كثرة من رجال الحديث قد اختلف العلماء في قبولهم وردهم، والتطبيق العملي لهذه القاعدة ألا يُبحث عن الراجح في ذلك بل من جرَّح أخذ بذلك ومن عدَّل أخذ بذلك… دون إنكارٍ وبحثٍ للراجح.
6- تضييع شرائع الإسلام من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة، والتواصي، وأطر الظالم على الحق أطراً.
7- اندراس وسائل التقويم الداخلي دخل صفوف الحركات والجماعات الإسلامية، وذهاب أعظم معالم الدين كالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الشوكانـي: «هذه المقالـة (أي لا إنكار في مسائل الخلاف) قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناك، والمنـزلة التي بيناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل وبإيجاب رسوله صلىالله عليه وسلم على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته، ومعيار ذلك هو الكتاب والسنة، فعلى كل مسـلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكراً، وإن قال قائلٌ بما يخالف ذلك من أهل العلم فقوله منكرٌ يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانياً…».
وحقيقة الأمر، أن لآثار هذه القاعدة عند الأخذ بها على إطلاقها أثراً بالغاً في انحراف المفاهيم العقدية الأساسية، مع أن الأمر واضحٌ في أن القاعدة، بالنظر إلى أصل وضعها، لم يقصد بها الواضعون لها تعميم الإطلاق، كما هو ظاهر.. وهذا ما جعل الشوكاني يقول مبيناً خطورة إطلاق هذه القاعدة: «وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة» .
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
القول الجامع في معيار التذكير بالإنكار

القول الجامع في معيار التذكير بالإنكار

القول الجامع في معيار التذكير بالإنكار

هو: أن الإنكار يشرع عند ظهور مخالفة النص بضوابط فهمه التي تُلُقيت منه، وتناقلها أهل العلم في أصولهم وكتبهم، وعلى هذا تجتمع عبارات أهل العلم.
أبعاد «القول الجامع»:
وقد سميناه «قولاً جامعاً» ولم نسمه «راجحاً» لأن حقيقة أقوال السابقين تؤول إليه، وإنما اختلفت عباراتهم مع أنها تدور حول هذا المعنى لرغبة كلٍ منهم الدقة في التعبير عن مراده، ولليقين في أن المذاهب المختلفة إنما تدور حول النص، والاستنباط منه، فالحقيقة التي تظهر من استقراء أقوال الأئمة أنها تجتمع على حقيقةٍ واحدة لا يخالف فيها أحد من المتقدمين، أو ظنوا أن الأصلح في المخاطبة أن يعبروا بما عبروا به، خاصةً والعلم مزدهرٌ، ودولة الإسلام قائمة قياماً دونه كل قيامٍ، ولم يكن قد نبغ من يُحَمِّل عباراتهم ما لا تحتمل كما هو الحال اليوم، ولذا أطلقنا على آرائهم مصطلح (قول) لا (رأي)؛ لأنها في الجملة لا تختلف.
وقد أجمع على ذلك المسـلمون، بدءاً من الصحابة رضوان الله عليهم، كما في قول ابن عباس رضي الله عنهما: « أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ، أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟» ، مروراً بأهل العلم مثل الإمام ابن حزم، رحمه الله تعالى، الذي قال: «ولما وصفناه من أنه إذا لم يكن إجماعٌ فلا بد من الخلاف ضرورةً، لأنهما متنافيان، إذا ارتفع أحـدهما وقع الآخر ولا بد، وإذا كان كذلك فالمرجوع إليه هو ما افترض الله عز وجل علينا الرجوع إليه من القرآن والسنة بقوله عز وجل: ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ )) (النساء:59)، وقال سبحانه وتعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ (2) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ)) (النجم:3-4) وقال عز وجل: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )) (النحل:44)، فصح أنه لا يحل التحاكم عند الاختلاف إلا إلى القرآن والسنة».
ويذهب الإمام النووي إلى القول بأنه: « ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً»، فلم يجعل المذهب هو المعيار للإنكار.
وقرر أنه: (لا يُنْكَرُ مختلَفٌ فيه)، تقييداً لقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) بالمسائل التي لا نص فيها، ولا إجماع، ولا قياس جلي.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد صرح في كتابه: «إقامة الدليل على إبطال التحليل» بأن معيار الإنكار هو النص، وتبعه تلميذه ابن القيم في «إعلام الموقعين» حيث وضع لذلك عنواناً ظاهراً هو: «خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف» قائلاً: «وكيف يقول فقيهٌ (لا إنكار في المسائل المختلَف فيها) والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنةً، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء»، مبيّناً أن الإنكار لا يتوجه إلى المسائل الاجتهادية.. «وأما إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماعٌ، وللاجتهاد فيها مساغٌ، لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً» .
وذهب الزركشي إلى أن الخلاف لم يزل «بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتَهَداً فيه، وإنـما ينكرون ما خـالف نصاً أو إجماعاً قطعياً أو قياساً جلياً» .
وشدد على ذلك الإمام الشوكاني بقوله: «فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقةٌ من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفاً وينهى عما علمه منكراً، فالحق لا يتغير حكمه، ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله، ولا إنكار على من خالفه بمجرد قول قائل، أو اجتهاد مجتهد، أو ابتداع مبتدع. فإذا قال تارك الواجب أو فاعل المنكر: قال بهذا فلانٌ، أو ذهب إليه فلانٌ، أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلانك، بل قال لنا في كتابه العزيز: (( وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ)) (الحشر:7) فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله».. وأكد على ذلك أيضاً الإمام ولي الله الدهلوي.
لقد قام الإجماع القطعي على اعتبار النص معيار الإنكار والتذكير، لا محيد عنه، ولا محيص منه للمسلمين في التعامل مع المسائل الشرعية.. ومما يمكن الاستدلال به، لزيادة الاطمئنان:
1- أن هذا هو الذي قام عليه الدليل الصحـيح الصـريح، الذي لا معارض له، كما في قولـه عز وجل: (( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ )) (النساء:59)، ((ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء )) (الأعراف:3)، ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )) (النساء:83) .
فالرد عند التنازع إلى غير القرآن والسنة حرام، بل إن الرد عند التنازع إلى غير الشريعة المعصومة، والاحتجاج بالقاعدة على النص – عند الشوكاني- يظهر كأنه نوعٌ من التشـريع، وإظهار نبوة جديدة بعد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.. يقول الشوكاني: «وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) فيقال له: ومتى فوض الله سبحانه وتعالى من يدعي الاجتهاد على الشريعة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليهوسلم وجعله حاكماً فيها بما شاء، وعلى ما شاء، فإن هذه نبوةٌ لا اجتهاد، وشريعةٌ حادثةٌ غير الشريعة الأولى، ولم يرسل الله سبحانه إلى هذه الأمة إلا رسولاً واحداً».
2- أن هذا هو الذي طبقه الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم من مسائل خلافية، وكان يجري بينهم التذكير والإنكار بالمجادلة والمحاورة ثم يفيء منهم من فاء إلى النص .
3- أن بعض الصحابة امتنع ومنع من اتباع اختيار الحاكم في المسألة الخلافية، وأنكروا عليه، فكيف غيره .
4- وهذا هو الذي قال به السلف الصالح ونصوا عليه .
5- وهو الذي نص عليه أئمة المذاهب الأربعة، وشددوا على التحاكم إليه .
6- وهذا هو الذي تدل عليه عبارات أصحاب الأقوال السابقة عند التحقيق فإن حاصل ما ذكروه أن هذه القاعدة الفقهية الجليلة (لا إنكار في مسائل الخلاف) ليست على إطلاقها، بل هي مقيدةٌ بما لم يُخالَف فيها نصٌ أو إجماعٌ أو قياسٌ جليٌ، أما إذا كان القول الآخر ضعيفاً، أو بعيد المأخذ، أو ليس له حظٌ من النظر، فالإنكار فيه مشروع .
7- وهذا هو السبيل الوحيد لوحدة المسلمين، فإنه لا يمكن جمع المسلمين إلا بردهم إلى النص الصحيح الصريح بشروط الاجتهاد المعلومة في الاستنباط منه، أما إذا قُبل أن يكون المتحاكَم إليه هو المذاهب، ويكون الخلاف مرجعاً كما حدث في القرون المتأخرة؛ فإن الشريعة الواحدة تصير بالمذاهب كشرائع متعددة متنافرة.
ولكن هل ينسجم هذا مع قوله عز وجل: (( إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء )) (الأنعام:159)؟ وهل ينسجم مع قولـه عز وجل: ((وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )) (المؤمنون:52-53)؟ نعم! قد تكون التوسعة ظاهرةً في اختلاف التنوع بالسر والجهر في البسملة، وبتـنوع عدد تكبيـرات العيد والجنازة، وبالسر والجهر في صلوات الليل مما ورد بكلٍ منها ما صح من الأخبار.. وقد تكون التوسعة ظاهرة في اختلاف التضاد نظراً لاختلاف الاجتهاد فيما يصح فيه مع بقاء عواصم الأخوة والجماعة والألفة وتحري الصواب، ولكن كيف تكون التوسعة في أن يكون الاختلاف دليلاً ليختار كل ما يشتهيه ويطلبه، على أنه لا ينبغي أن ينساق المرء وراء عواطف يتوهمها ويستدل عليها من حديث محل نظر.
وأن يكون ذلك هو السبيل الوحيد لوحدة المسلمين، فذلك لأن الفقهاء الذين يختلفون في المسألة الواحدة يمكن أن يرد بعضهم على بعض وفق الأدلة العلمية التي يميل إليها كل منهم مع شرح بعضهم لبعضٍ صدره، واطمئنانه إلى صدور اجتهاده عن غيرة للدين، والبحث عن هدى الله المستقيم، كما كان شأنهم مذ نبغت المذاهب المتبوعة، حيث تجري النقاشات بين الليث بن سعد ومالك، والشافعي وأصحاب أبي حنيفة، والشافعي إسـحاق بن راهويه وأحمـد بن حـنبل، وشـيء من ذلك ما نشاهده من حال الدول المتقدمة في هذه الأيام.
8- والرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة الصحيحة، واعتبارهما معياراً للإنكار، والتذكير، والنصح، هو الذي يوازن بين قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) وبين القواعد الفقهية الأخرى مثل: (سد الذرائع)، و(الأخذ بمذهب الاحتياط)، و(استحباب الخروج من الخلاف)، و(اتقاء الشبهات)، (الزجر عن تتبع رخص الفقهاء)، وقاعدة (الحذر من زلل العلماء)…فالمسائل الخلافية ليست كالمسائل الاجتهادية التي تُظْهَرُ فيها الحجج العلمية دون إنكارٍ لقوة الخلاف فيها، لكن زلة العالم في المسألة الخلافية توجب الرجوع إلى النص.
9- وهذا هو الذي ينسجم مع القواعد الشرعية القطعية مثل: وجوب التذكير، والنصيحة، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوب التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والرد عند التنازع إلى الكتاب والسنة.
10- أن ذلك هو الذي يحقق المقاصد الإسلامية، من جعل الشريعة هي الحاكمة، والفاصلة بين المختلفين، وهو الذي يحقق نبذ الهوى، ومخالفته، وإخضاع النفس للشريعة، كما قرر المحققون من العلماء أنه «ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد، فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيراً فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هـواه وما يوافق غرضـه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بـكلام بعض المفتيـن المتأخرين، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: «أصحابي كالنجوم»… وإن صح فهو معمولٌ به فيما إذا ذهب المقلد عفواً فاستفتى صحابياً أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يُقال ليس بداخلٍ تحت ظاهر الحديث لأن كل واحدٍ منهما متبعٌ لدليلٍ عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباعٌ للهوى… فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها، وأيضاً فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلـى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم».
11- أن هذا هو الكفيل بإرسـاء قواعد الشـريعة التي تبيـن كون الشيء حلالاً أو حراماً، فإن المعايير السابقة جعلت بيان كون الشيء حلالاً أو حراماً، منكراً أو معصيةً أو معروفاً، عائد إلى ما قرره أصحاب المذاهب، وقد يوجد في المذهب الواحد أكثر من قول… وليست الشريعة هي ما يقرره فلانٌ من الأئمة بحسب فهمه للشريعة… بل ما ثبت من النص، واتضح فيه فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كذلك… وقد شدد العلماء في هذا الباب على اعتبار النص الصحيح هو المقياس لاعتبار المنكر منكراً…قال الشوكاني - وهو يتكلم عن فقه الاحتساب-: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين، والركنان الكبيران من أركانه، وهو مجمعٌ على وجوبهما إجماعاً من سابق هذه الأمة ولاحقها، لا يعلم في ذلك خلافٌ… وظهور كون هذا الشيء منكراً يحصـل بكونـه مخالفاً لكتاب الله سبحانه وتعالى أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو لإجماع المسلمين».
12- كما أن التعبد إنما يكون بترك ما نـهى عنه الشرع أو فعل ما طلبه، ولا يكون التعبد بالخلاف بأي حال، وإنما ذلك من عمل الذين يريدون الدين بالتشهي وهو المسمى بالهوى شرعاً، كما قال ابن عبد البر: «الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله».

الإنكار في مسائل الخلاف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
النص معيار الإنكار، هو الأساس الذي اعتمده الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي صلى الله عليهوسلم وبعده، للنظر في فيما بينهم من مسائل خلافية، وكان يجري بينهم التذكير والإنكار بالمجادلة والمحاورة مع الخلق الرفيع والأدب العالي وحمل بعضهم لبعض على أحسن المحامل حتى وإن غلظت العبارة أحياناً، ثم يفيء منهم من فاء إلى النص، وهذا كثيرٌ وافرٌ، ومن أمثلته:
1- عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صلىالله عليه وسلم خَالِدَ ابْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَاه،ُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلىالله عليه وسلم يَدَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ - مَرَّتَيْنِ-» . ونلحظ هنا أن ابن عمر ومن معه أبوا طاعة الأمير فيما ظهر لهم أنه يخالف الشرع، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعَرَّضَ بخالدٍ أن يفعل ما لا ينبغي، ويأمرهم به، مع أن خالداً هنا كان الأمير، واجتهد فيم أمرهم به.
2- عن علي رضي الله عنه قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى! قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلىالله عليه وسلم مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:َ «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». ويظهر هنا جلياً أنه لم يكن عندهم نصٌ بالامتناع عن طاعة الأمير، بل النص الصريح بطاعته، إنما قاسوا الأمر، ورجعوا إلى المقاصد العليا للإسلام، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّن لهم خطورة الطاعة في هذه الحال، ولم يشفع لهم حسن نيتهم.
3- عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا.. قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟! فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ»، فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ، أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لا! يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي.
انظر إلى الخلاف بين أبي بكر وبين أولئك النفر المؤمنين رضي الله عنهم في كيفية توجيه الخطاب لأبي سفيان، لم يُثِرْ ضغينةً بينهم، بل ارتفعت نفسياتهم عن التأثر بالخلاف في معالجة القضية التي أمامهم، على الرغم من اختلاف الأسلوب في محل النـزاع، على أن المرجع في تصحيح الوجهة هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أبان للشاكي ضرورة أخذ الصفح ممن اشتكى منه.
4- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً.. فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ، فَغَضِبَ الرَّجُلُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلا تَرَى إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ يُرَغِّبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُبَاهَى بِهَا الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمْ السَّلام».. وواضـح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على إنكاره على ابن رواحة لكنه بيَّن له خطأ فحوى الإقرار.

الإنكار في مسائل الخلاف بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم
لقد امتد الإنكار في مسائل الخلاف، بين الصحابة رضوان الله عليهم إلى ما بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع وحدة الصف ورقي الأسلوب، ومن أمثلة ذلك:
1- إنكار الصديق رضي الله عنه على من اقترحوا حبس جيش أسامة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ... إن رسول الله صلىالله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صلىالله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة واجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر! رُدَّ هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حـول المدينة؟ فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلىالله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلىالله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليهوسلم. فوجه أسامـة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
ونلحظ أن المصلحة التي كانت في حبس الجيش هنا أظهر ما تكون بحسب المقياس البشري، ولكن أبا بكر ما كان ليؤخره وقد كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بإنفاذه قبل أن يموت، فهذه مصلحة في مقابل نص، فينبغي أن تُلْغى.
2- الرجوع إلى النص في تنازعٍ بين النعمان بن بشيـر والمغيرة ابن شعبة في إدارة معركة حربية: وذلك بعد تأكد للنعمان أن الظروف الحربية موائمة للعمل بالنص، فأنكر على المغيرة نظره إلى مصلحة أخرى في مقابل النص، فقد قال المغيرة بن شعبة حين رأى كثرة العدو في نهاوند، وهم يأتون ساحة المعركة أتالاً بعضهم إثر بعض، والمسلمون ينتظرونهم فلا يناجزونهم: لم أر كاليوم فشـلاً! إن عـدونا يـتركون أن يتتاموا فلا يُعْجَلوا، أما والله لو أن الأمر إلي لقد أعجلتهم به، وكان النعمان رجلاً بكاء، فقال: قد كان الله جل وعلا يشهدك أمثالها فلا يخزيك ولا يعري موقفك، وإنه والله ما منعني أن أناجزهم إلا بشيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلىالله عليه وسلم كان إذ غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلوات، وتهب الأرواح، ويطيب القتال... الحديث ثم انتصر المسلمون في المعركة، وشهد الانتصار على نفاذ بصيرة النعمان.
3- إنكار عددٍ من السلف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض اجتهاداته: فقد أنكر شـيبة بن عثمان العـبدري على الفـاروق - رضي الله عنهما - عزمه على توزيع مال الكعبة، كما رواه البخاري عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَـالَ: لَقَـدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صـَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ! قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاك.َ قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا .
والإنكار هنا إنما لاختيار الحاكم في مسألة اجتهادية لا نص فيها، وتم الإنكار قبل الفعل. وقوله:لم يفعله صاحباك، فيه فائدة في تكوين البصائر الإيمانية للسياسة الواقعية، فإن منا من يزعم أن السابقة التاريخية من عمل المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين لا تعد دليلاً على شيء، وهذا زخرفٌ من القول ظاهر، فإن الأصل في السابقة التاريخية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«… عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»، وقوله: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ونحو ذلك.
وكذلك أنكر سعد بن أبي وقاص وابن عمر على عمر بن الخطاب رضي الله عنهم نهيه عن التمتع بالحج.. فعن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي. فقال الضحاك بن قيس: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه.
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هِيَ حَلالٌ. فَقَالَ الشَّامِيُّ: إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم .
ونلحظ هنا أن الإنكار كان أيضاً لاختيار الحاكم، وفي هذين الحديثين تحريضٌ ظاهرٌ على نقض اختيار الحاكم حال ظهور مجانبته للراجح شرعاً، مع أن عمر إنما اجتهد بالنظر إلى مقاصد أخرى في الشريعة. ولم يقل أحد في هذه الحالة لا إنكار عليه لأنها مسألة فرعية خلافية .
كما أنكر سالم بن عبد الله بن عمر على جده نهيه عن التطيب بعد رمي الجمرة قبل طواف الإفاضة، فقد قال سالم: قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلىالله عليه وسلم بَعْدَمَا يَرْمِي الْجَمْرَةَ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ إِلَى الْبَيْتِ» قَالَ سَالِمٌ: «فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليهوسلم أَحَقُّ أَنْ نَأْخُذَ بِهَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ».
4- إنكار ابن مسعود وغيره على عثمان إتمام الصـلاة بمـنى، فعَنْ عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْد ِاللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهم قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلىالله عليه وسلم رَكْعَتـَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ، وفي رواية: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا؟ قَالَ: الْخِلافُ شَرٌّ.
5- إنكار ابن عباس على عليِّ رضي الله عنه حرقه للمرتدين، لوجود النص، وتصديق عليٍّ رضي الله عنه له، فعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِي اللَّه عَنْه حَرَّقَ قَوْمًا ،فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فبلغ ذلك علياً فقال: صدق ابن عباس.
6- إنكار عليّ، بأسلوب بليغ، على ابن مسعود رضي الله عنهما فتياه في قضية فرضية، فعنه رضي الله عنه أنه أُتِىَ في فريضة ابني عم أحدهما أخ لأم فقالوا: أعطاه ابن مسعود المال كله، فقال: يرحم الله ابن مسعود إن كان لفقيهاً! لكني أعطيه سهم الأخ للأم ثم أقسم المال بينهما .
7- إنكار عائشة رضي الله عنها على عددٍ من الصحابة، بأسلوبها الراقي المتميز، بيانها الصواب فيما أخطأوا فيه:
أ- إنكارها على عمر رضي الله عنه ، فقد انكرت عليه في حديث تعذيب الميت ببكاء أهله، فعن ابن عباس قال: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاءِ الرَّكْبُ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهْ وَا صَاحِبَاهْ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ! لا، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَحَدٍ وَلَكِنْ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ: (( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)) (فاطر:18) قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى .
ب- إنكارها على ابن عمر رضي الله عنهما، ومثل ذلك جاء عن ابن عمر أيضاً وأنكرته عائشة بأسلوبها الراقي، فعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْـلِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَـظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ»، وفي لفظ: فقالت عائشة: غَفَرَ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا».
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ أنه سأل ابن عمر عن الطِّيب عند الإحرام، فقال: لأن أتطيب بقطران أحبَّ إلى من أن أفعل، قَالَ ذَكَرْتُهُ لِعَائِشـَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا .
وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْد ُاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلاةَ الضُّحَى، قَالَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلاتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَال:َ أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ، قَالَ وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا أُمَّاهُ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ إِحْـدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدُهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ .
ج- إنكارها على ابن مسعود رضي الله عنه، فعن أبي عطية الوادعي قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: إن ابن مسعود قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، والموت قبل لقاء الله، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن حـدثكم بحديث لم تسألوه عن آخره وسأحدثكم عن ذلك، إن الله إذا أراد بعبده خيراً قيض له ملكاً قبل موته بعامٍ فسدده ويسره حتى يموت، وهو خير ما كان، فإذا حضر فرأى ثوابه من الجنة فجعل يَتَهَوَّع نفسه ود أنها خرجت، فعند ذلك أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإذا أراد بعبدٍ سوءاً قيض له شيطاناً قبل موته بعام، فصده وأضله وفتنه حتى يموت شر ما كان، ويقول الناس: مات فلان، وهو شر ما كان، فإذا حضر فرأى ثوابه من النار جعل يتبلع نفسه، ود أنه لا يخرج، فعند ذلك كره لقاء الله وكره الله لقاءه.
د- إنكارها على أبي هريرة رضي الله عنه، فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» فقيل لعائشة رضي الله عنها: إن أبا هريرة يقول لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً. فقالت عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة، حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره، إن المشركين كانوا يهاجون رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: « لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا من مهاجاة رسول الله صلىالله عليه وسلم».
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يفتي أن من أدركه الفجر وهو جنب فقد أفطر، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: يرحم الله أبا هريرة لم يحفظ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الفجر ورأسه يقطر من ماء الجنابة ثم يصوم، فبلغ ذلك أبا هريرة رضي الله عنه فقال: هي أعلم مني، فرجع عن قوله.
ولفظ مسـلم: عن عَبْد الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه يَقُصُّ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلا يَصُمْ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ لأَبِيهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ. قَالَ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَن،ِ فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلا مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَـمْ؛ قَالَ: هُـمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاس،ِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلىالله عليه وسلم قَالَ فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِك:ِ أَقَالَتَا فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ .
8- إنكار أمهات المؤمنين على عائشة، رضي الله عنهنّ، اختيارها في رضاع الكبيـر، ويأبين الأخذ به مع بقاء المودة والأخوة، فقد قالت لها أمُّ سلمة: إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلامُ الأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ. قَالَ فَقَالَتْ عَائِـشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُـولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْـوَةٌ؟ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ»، ثم قالت أم سلمة: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا.
9- إنكار ابن عباس على عدد من الصحابة رضي الله عنهم، فقد أنكر على معاوية استلامه غير الركنين اليمانيين. فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا: إِنَّهُ لا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ، فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا.
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم في الرجل يقول إذا تزوجت فلانة فهي طالق قال الله تعالى: (( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ )) ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.. ورواه البيهقي من طريقه من وجه آخر عن سعيد بن جبير، سئل بن عباس عن الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال ليس بشيء إنما الطلاق لما ملك، قالوا فابن مسعود قال إذا وقت وقتاً فهو كما قال، قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
كما أنكر ابن عباس على المسور بن مخرمة فتياه بمنع المحرم من غسل رأسه: فعن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاء،ِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ .
10- إنكار ابن عمر رضي الله عنهما على غيره، فقد أنكر على ابن عباس منعه الحاج من طواف القدوم قبل الوقوف بعرفات، فقد أخرج مسلم عَنْ وَبَرَةَ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لا تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ؟
وذُكِرَ لابن عمر أن أنساً يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، فَقَالَ: وَهِلَ أَنَسٌ، إِنَّمَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم بِالْحَجِّ وَأَهْلَلْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلىالله عليه وسلم هَدْيٌ فَلَمْ يَحِلَّ .
وأنكر ابن عمر على أبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي قولهم بعموم النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، إذ قال رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلا بَيْتَ الْمَقْدِس،ِ فَقـَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ.. قال الشافعي: «أنكر على من يقول لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ورأى أنه لا ينبغي لأحدٍ أن ينتهي عن أمر فعله رسول الله».
11- أمثلة أخرى من واقع الصحابة والتابعين:
أ- إنكار أم سلمة على سمرة بن جندب فتواه بقضاء صلاة الحائض.
ب- إنكار أبي بن كعب على عبد الله قولـه في ليلة القـدر، فعن زر ابن حبيش قال أتيت أبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر! ما تقول في ليلة القدر فإن عبد الله يقول: من يقم الحول يصبها، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليعلم أنها في رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكنه عمي على ناسٍ كثير لكي لا يتكلوا، فو الذي أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم إنه لفي رمضان وإنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت: أبا المنذر بم علمت ذلك؟ قال: بالآية التي حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظنا وعددنا إنها لهي هي ما يستثنى، قال قلت لزر: وما الآية قال تطلع الشمس غداتئذ كأنها طست ليس لها شعاع.
ج- إنكار مجاهد على طاوس فتواه فيمن ترك رمي حصاة، فعن ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن رجل ترك من رمي الجمار حصاة، فقال: يطعم لقمة وربما قال تمرة، فقال مجاهد: يرحم الله أبا عبدالرحمن ألم يسمع ما قال سعد بن أبي وقاص، إن سعداً قال: رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست، فلم يعب بعضنا على بعض وربما قال: فلم يعب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.

الإنكار بأسلوب تذكيري أقوى
يأخذ الإنكار نوعاً من الحدة المطلوبة لبعد مأخذ أحد الطرفين عند الاختلاف، ويضعف الخلاف دون أن يؤثر ذلك على حقوق الأخوة الواجبة، ويظهر هذا في أمثلة عديدة، منها:
1- إنكار الصحابة على بعضهم بأسلوب أعلى، من حيث حدة الإنكار، دون الخروج عن حقوق الأخوة العامة والطاعة:
- فقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على زيد بن أرقم رضي الله عنه بيعه وشراءه بما يشبه صورة الربا؛ فعن العالية قالت: كنت قاعدة عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فأتتها أم محبة، فقالت لها: يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم! قالت: فإني بعته جاريةً إلى عطائه بثمانمائة نسيئة، وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمائة نقداً. فقالت لها: بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلىالله عليه وسلم إن لم يتب.
- وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يوتر من أول الليل، فإذا قام سحراً جمع إلى وتره ركعة فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليلعب بوتره، ما عليه لو أوتر أول الليل فإذا قام سحراً صلى ركعتين ركعتين فإنه يصبح على وتر.
- وأنكر ابن عمر على ابنه بلال اجتهاده في منع النساء من الصلاة في المسـاجد؛ فعن عبد الله بن عمر قَالَ سَـمِعْتُ رَسُـولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا»، قَالَ فَقَالَ بِلالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ فَأَقْـبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَـبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ؟!.. وعلى الرغم من أن عائشة تكاد أن توافق هذا الاجتهاد عندما قالت: لو يعلم رسول الله ما أحـدث النسـاء بعـده لمنعهن المسجد كما منعت نسـاء بني إسرائيل إلا أن إنكار ابن عمر كان شديداً كما هو ظاهر.
2- إنكار الصحابة على الحاكم اختياره بأسلوب أعلى، في حدة الإنكار، دون الخروج عن حقوق الأخوة العامة والطاعة:
- فقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على غيره نهيهم عن حج التمتع لمجرد اجتهاد أبي بكر وعمر في ذلك، فـعنه قَالَ: تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليهوسلم فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ يَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ، أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ؟! ، وفي رواية: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْهُجَيْمِ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هَذَا الْفُتْيَا الَّتِي قَدْ تَشَغَّفَتْ أَوْ تَشَغَّبَتْ بِالنَّاسِ أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ؟ فَقَالَ : سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ رَغِمْتُمْ .
- وأنكر ابن عباس على عمر والصحابة الذين قالوا بالعول مع تقادم الأمر، وقال: أترون الذي أحصى رَمْلَ عَالِج عدداً جعل في مالٍ نصفاً وثلثاً وربعاً، إنما هو نصفان وثلاثة أثلاث، وأربعة أرباع. وعن عطاء قال: قلت لابن عباس: إن الناس لا يأخذون بقولي، ولا بقولك، ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثاً على ما نقول. قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. ما حكم الله بما قالوا.
وظاهرٌ أن المسألة التي ذكرها ابن عباس اجتهادية، ولكن ابن عباس زاد في حدة إنكاره في مسألة يظهر أن الصواب مع غيره لا معه .
- ومثل ذلك حدث لأبي الدرداء مع معاوية؛ فعن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إِلا مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِمِثْلِ هَذَا بَأْسًا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ مُعَـاوِيَةَ، أَنَا أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُـولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ؟! لا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا، ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى مُعَـاوِيَةَ أَنْ لا تَبِـيعَ ذَلِكَ إِلا مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَزْنًا بِوَزْنٍ .
- الأساس الشرعي التعليمي لارتفاع حدة الإنكار:
ولعل هذه الحدة في الإنكار عندما يبعد مأخذ أحد طرفي الخلاف، مطلوبة أحياناً ما دامت لا تؤثر على حقوق الأخوة، ووحدة الجماعة المسلمة... وذلك لتنبيه الطرف الآخر لبعد مأخذه، وضرورة مراجعته لموقفه.. وهذا أسلوب نبوي كريم متبع في التعليم والتنبيه، ومما يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنهما عندما قتل الرجل الذي نطق بالشهادة عملاً بمصلحة متوهمة: «يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ» قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا.. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وهذا الموقف يدل على أمور، منها:
1- أن الحدة قد تكون مطلوبة في الإنكار، إنْ ضعف مأخذ أحد طرفي الخلاف.
2- لا ينبغي أن تنساق الظنون والأوهام في رصد تصرفات المنتمين لجماعة فكرية، أو حركة إسلامية من قبل أفراد في جماعة أخرى.. فيفسرون كل تصرف، ولو كان عملاً خيرياً أو دعوياً محضاً، بالسوء لمجرد انتمائه إلى اتجاه فكري أو حركي مغاير... ما هكذا يظن المسلم بأخيه المسلم.. لقد سرت الظنون الكاذبة في أوساط أفراد بعض الجماعات والحركات الحديثة ففرقت المسلمين، وأوغرت الصدور، ودنست صفاء النفوس.
3- وقوع الخطأ، الذي تزداد فيه حدة الإنكار من قبل طرفٍ لآخر، لا يعني غمط فضيلة المنكَر عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من عتابه الشديد لأسامة أبقاه أميراً على البعوث حتى بعد وفاته، ودافع عنه صلىالله عليه وسلم فقال وهو على المنبر: «إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ - يريد أسامة بن زيد - فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَأيْمُ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ خَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا - يريد أسامة بن زيد - لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ» .
فمتى تنصبغ نفسياتنا الدعوية على جمع هذه المعاني جميعاً؟

من أقوال السلف في معيار الإنكار
أَمر السلف باتباع النص، والرجوع إليه عند الاختلاف، وأظهروا قصور البشر، غير المعصومين، عن عدم الوقوع في الخطأ، وأكدوا أنه تقع من العالم الزلة، وشددوا في التحذير منها، ومن ذلك:
- قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: «ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، قال ابن عبد البر تعليقاً على ذلك: «هذا إجماعٌ لا أعلم فيه خلافاً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله». فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخاف عليكم ثلاثاً، وهنَّ كائناتٌ: زلة عالم، وجدال منافقٍ بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم»، وقد ورد ذلك في عدة آثار يستأنس بها.
- وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِزِيَادٍ: هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الإِسْلامَ؟ زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ.
- وقال معاذ بن جبل: «... إياك وزيغة الحكيم، وحكم المنافق. فقيل: وكيف لي أن أعلم زيغة الحكيم؟ قال: كلمة ضلالةٍ يلقيها الشيطان على لسان الرجل، فلا يحملها، ولا يتأمل منه، فإن المنافق قد يقول الحق، فخذ العلم أنى جاءك، فإن على الحق نوراً»،
- وعَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيَّ عَائِذَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عُمَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ لا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ حِينَ يَجْلِسُ إِلا قَالَ: اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَوْمًا: إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ؟ فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيم،ِ وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ.. قَالَ قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلالَةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بَلَى، اجْتَنِبْ مِنْ كَلامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مَا هَذِهِ، وَلا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا.
وأنى تُعرف زيغة الحكيم، وزلة العالم إلا بالرجوع إلى النص؟ وكيف يمكن عَدُّ ما صدر عن أيٍّ كان خلافاً مع احتمال أن يكون زللاً وإن كان اجتهاداً ؟ وهنا بيَّن معاذ رضي الله عنه معيار معرفة الزلل برده إلى النص.
- وقال سلمان الفارسي: «كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وتقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان، وأما مجادلة منافقٍ بالقرآن فإن للقرآن مناراً كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا فكلوه إلى الله تعالى، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم».
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ويلٌ للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليهوسلم، فيترك قوله ثم يمضي الأتباع» أي يمضون على قوله الأول.
- ومثل ذلك تحذير أهل العلم من نوادر العلماء...وهي الشواذ، وفيها قال أبو بكر الآجري: «فليس ينبغي إذا زل بعض من يُشار إليهم زلة أن يُتبع على زلـله، هذا قد نهينا عنه، وقد خيف علينا من زلل العلماء».. وقد بوب ابن عبد البر لذلك، فقال: باب في خطأ المجتهدين من المفتين والحكام، ومن كلامه السائر في هذا الموضع: «شبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير».
وهذه الآثار الجليلة، التي نرى فيها أساطين العلم والتربية من الصحابة وكأنهم يوشكون على الاتفاق حول ألفاظ بعينها في التعبير عن معنى واحد، توضح لنا جملة حقائق، منها:
1- أن العالِم بشر كسائر البشر، فليس كل ما صدر منه هو الهدى، أو الفعل الحق، أو القول الفصل... بل هو مجتهد في إصابة الحق، فقد يصيبه فيؤجر أجرين، وقد يُخلفه فيؤجر أجراً واحداً... وهذا يجعل متابعيه وسائليه - من غير العامة المقلدين- يتبصرون في أقواله ويوازنون في فتواه بين أدلته وأدلة غيره، ثم ينظرون أيهما الحق.
2- أن وقوع الخلاف بين أهل العلم طبعي يعود لبشريتهم، فإما أن يكون الخلاف لزلة واحد منهم، أو لخطئه، أو لعدم وصـول العلم إليه، أو نحو ذلك من الأعذار.
3- أن العالم قد يفتي شيئاً لا يصح أن يُعتمد، وكونه أفتى بشيء خالفه فيه غيره لا يخول اتباعه على أية حال، ولذا كم خالف مقررو المذاهب كلام أئمتهم، وذكروا أن الأصح في غيره، ووضع الشاطبي في ذلك قاعدةً جامعةً تبين قصور الاستدلال فقط بقول العالم في كل مسألة، ثم الاحتجاج بالخلاف دلالة على أن المسـألة سهلة فقال: «إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بـها تقليداً له، وذلك لأنـها موضوعةٌ على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلةً، وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها هذه الرتبة، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة».. وبعضهم يظن أن الخلافيات فيها مصلحةٌ للأمة بالتوسعة عليها، ولكن الـخلافيات قد تكون بعض الآراء الواردة فيها هي زلات لعلماء، فهي عين مخالـفة النص.
والعالم وإن كانت زلته دون قصدٍ ولا تعمدٍ، وهو في اجتهاده «معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة، وذكر منها أمثلة، ثم قال: فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم أياماً متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه».
لكنني أؤكد أن كل ما سبق لا يؤثر على مقدار العالم وتبجيله في وسط المجتمع المسلم، ولا يجعل أتباعه أيضاً يتبعونه في كل شيء ويسلموه دينهم في كل شيء تعصباً، ولا يجعل مخالفيهم يتشغبون عليه وعليهم تفسيقاً وتضليلاً وتبديعاً، بل غاية ما يفعلونه نصحهم بود، وإنكار خطأهم برفق، ولننظر في القصة التالية وكيف تعامل معها محقق كالإمام الذهبي، فيما لو صحت، فقد قال أحمد بن حنبل: بلغ بن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث البيعان بالخيار فقال: يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم قال: أحمد هو أورع وأقول بالحق من مالك. قلت: لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال: هـذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث لأنه رآه منسوخاً، وقيل عمل به وحمل قوله حتى يتفرقا على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هذا الحديث وفي كل حديث له أجر ولا بد فإن أصاب ازداد أجراً آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية، وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما، وقد اعتذر الأمام أحمد للإمام مالك في تأوله لهذا الحديث بما يدل على سعة صدره مع مخالفيه، فقال: «ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوله ذلك».

من أقوال الأئمة الأربعة في معيار الإنكار
النقول عن الأئمة الأربعة، رحمهم الله، في معيار الإنكار كثيرة،منها:
أولاً: من أقوال أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:
1- «إذا صح الحديث فهو مذهبي».
2- «... لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه» قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.
3- «... وإذا قلت قولاً يخالف كتاب الله سبحانه وتعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي».
وفي بيان ذلك يقول ابن الشحنة: «إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عُمِل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفياً بالعمل به؛ فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة».
فصار ما يدل عليه الدليل قول للإمام، وإن لم يقل به بخصوصه، لأنه قعَّد قاعدة عامة يتحاكم إليها في المسائل الجزئية، كما قال ابن عابدين: «قد يجاب بأن الإمام لما أمر أصحابه بأن يأخذوا من أقواله بما يتجه لهم منها عليه الدليل صار ما قالوه قولاً له، لابتنائه على قواعده التي أسسها لهم، فلم يكن مرجوعاً عنه من كل وجه، فيكون من مذهبه أيضاً... فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صح نسبته إلى المذهب لكونه صادراً بإذن صاحب المذهب؛ إذ لا شك أنه لو علم ضعف دليله رجع عنه واتبع الدليل الأقوى...».
وفي هذا النقل أبلغ القول على تثبيت حقيقة رجوع الأئمة وأتباعهم المجتهدين إلى النص عند الاختلاف، ومن ثم فهـو معيار الإنـكار، لأن ما صح فيه الخبر بلا معارض فهو مذهب للمجتهد وإن لم ينص عليه.
ثانياً: من أقوال مالك بن أنس، رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:
1- «إنما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه».
2- وهنا قصةٌ توضح رجوع الإمام مالك إلى النص، وعدم علمه السابق به، فقد قال ابن وهب: سمعت مالكاً سُئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس على ذلك الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه». فقال: إن هذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يسأل، فيأمر تخليل الأصابع.
ثالثاً: من أقوال الشافعي، رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:
1- «ما من أحدٍ إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلىالله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلىالله عليه وسلم، وهو قولي».
2- «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلىالله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد».
3- «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم، ودعوا ما قلت»، وفي رواية: «فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد».
4- «إذا صح الحديث فهو مذهبي».
5- «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي».
6- «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني .فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً».
7- «وكل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلىالله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي» .
8- «وإذا رأيتموني أقول قولاً، وقد صح عن النبي صلىالله عليه وسلم خلافه، فاعلموا أن عقلي قد ذهب» .
9- «كل ما قلت، فكان النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلىالله عليه وسلم أولى، فلا تقلدوني» .
رابعاً: من أقوال أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، وتقعيداته للمذهب:
1- «لا تقلدوني ولا تقلد مـالكاً ولا الشافـعي ولا الأوزاعـي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا»، وفي رواية: «لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير» . وقال مرة: «الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخير».
2- «رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار» .
وهذه النقول توضح أسساً علمية هامة في مجال الاجتهاد ومجال البحث العلمي، وآداب الاختلاف، منها:
1- رجوع الأئمة عند التنازع إلى النص، وجعله معيار الإنكار والتذكير العام، وهذا إجماعٌ لا ريب فيه كما قال الشيخ ولي الله الدهلوي: «فلم يُبِحْ الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة، وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قول قائل لأنه غير القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم، وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم، على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم، فيأخذه كله. فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة، أو جميع أقوال مالك، أو جميع أقوال الشافعي، أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم، ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول إنسانٍ بعينه، أنه قد خالف إجمـاع الأمة كلها، أولها عن آخرها، بيقين لا إشـكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفاً ولا إنساناً في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، نعوذ بالله من هذه المنـزلة».
2- الأئمة كغيرهم من البشر يفوتهم من العلم ما هو لازم نقصانهم، ولا يحط هذا من مكانتهم، وأن أقوالهم في المسائل الاجتهادية تظل آراءً على الرغم من قيمتها العلمية، وصدورها من أهل الذكر الذين هم جهة الاختصاص للإفتاء في المسائل الشرعية، ولكن ينظر في أدلة كلٍ وحجته، دون تثريب على الآخر، لمن أراد التفحص والبحث.
3- تأكيد الرجوع إلى النص عند استبانة مخالفته بالعمل بقول واحدٍ منهم، والزجر الشديد عن تقليدهم حال ظهور أنه يخالف النص.
4- لا يعني هذا الحط من مكانة المذاهب كطرق تعليمية متدرجة للفقه الإسلامي الرحب، ولا الخروج على الناس بمذهـب اللامذهبية... إذ ما نمت المذاهب إلا نمو الاصطلاحات الفقهية التي لم تكن بارزة في عهد النبي صلىالله عليه وسلم، لتسهل الفقه، وتفرعه تفريعاً مناسباً.. وليست هي خطأ بذاته بل الخطأ ما قد يصحبها من تعصب، أوتحزب، حتى عد الإمام السيوطي اختلاف المذاهب منةً كبرى، ونعمة ظاهرة... وهي كذلك وخاصة في بحثها لمظان هدى الله، ورجوعها إلى النصوص الشرعية وضوابط فهمها، والتثبت منها عند الاختلاف.
وهنا يجب اصطحاب قاعدةٍ أساسيةٍ في التعامل مع أهل العلم في أقوالهم التي ترد في المسائل الخلافية، وهي: أنه لابد من أمرين، أحدهما أعظم من الآخر:
أحدهما: النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه، وتنـزيهه عن الأقوال الضعيفة الخاطئة أو المخطئة المناقضة لما بعثَ الله سبحانه وتعالى به رسوله من الهدى والبينات، إذ هي «خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين، وإخراجها منه، وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويلٍ» فإنه «لا حجة في قول أحدٍ مع السنة\"
«والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول، فقالوا بمبلغ علمهم، والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثم ولا نعصم» فمخالفة الأئمة في مسألةٍ ما ظهر أن الراجح فيها ليس في أقوالهم «لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها»، كما أنه «ليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها ولا نسبةٌ له إلى تعمد خلاف الصواب».
وهذا ما رأينا عليه الصحابة رضي الله عنهم تطبيقاً حين ترد عليهم المسائل التي اختلفت فيها أنظارهم فيثنون على المخالف ويبينون عذره فيما أخطأه، ثم يبينون الصواب، وفعل عائشة خير مثال، وقد تشتد أحياناً في نفي ما تراه مخالفاً للشريعة في نصه أو مراميه...وفي ذلك قال بعض أهل العلم:
وإذا أتتك مـقالةٌ قد خـالفت نص الكتاب أو الحديث المسند
فاقف الكتاب ولا تمل عنه، وقف مـتأدباً مع كـل حبرٍ أوحدِ
فلحوم أهل الـعلم سمٌ للجناة عليهم فاحفظ لسـانك وابعدِ
وهذا يقودنا إلى بيان حقيقة هي النتيجة لما سبق، وهي التي توضح بصورةٍ أجلى معنى هذه القاعدة الجليلة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وهي: أن هناك فرقاً بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد.
ولكن، هل يُفهم من كل ما سابق أن التقليد محرم بالمرة؟
لا! وليس الكاتب في المقام الذي يتجرأ فيه على مثل هذا الحكم بعد الخلاف الواسع الوارد في ذلك، ويظهر أن الاختلاف في المسألة يكاد يكون لفظياً، وأن الذين ذكروا أن التقليد محرم، ومنهم ابن حزم، وابن عبد البر، وابن القيم، والشوكاني، وغيرهم، محتجين بأن الله تعالى ذم التقليد بقوله: ((ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ )) (التوبة:31)، وقولـه: ((وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ )) (الأحزاب:67) ونحو ذلك من الآيات.. وأن الأئمة قد نهوا عن تقليدهم كما سبق...
وقد بينوا جواز التقليد العام، إذ بين ابن القيم أن التقليد الذي يرى امتناعه هو «اتخاذ أقوال رجلٍ بعينه بمنـزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قولٍ سواه، بل لا إلى نصوص الشارع، إلا إذا وافقت نصوص قوله. قال: فهذا هو التقليد الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة»، وأثبت ابن القيم والإمام ابن الوزير والشوكاني تبعاً لابن عبد البر فوق التقليد مرتبة أقل من الاجتهاد، هي مرتبة الاتباع، وحقيقتها الأخذ بقول الغير مع معرفة دليله، على حد ما ورد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف: «لا يحل لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا».
وفي بيان الفرق بين التقليد والاتباع، يقول الإمام محمد بن إبراهيم الوزير:
هم قلدوهم واقتديت بهم فكم بين المقلد في الهوى والمقتدي
من قلد النعمان أمسى شارباً لمثلثٍ نجسٍ خبـيثٍ مزبـدِ
ولو اقتدى بأبي حنيفة لم يكن إلا إماماً راكعاً في المسجدِ غير أنه لا يُظَنُّ أن أحداً يخالف أن التقليد، لا بالمعنى الذي ذكره هؤلاء الأعلام من اتباع كل خطأ وصواب استبان فيه ذلك، يجوز عند الضرورة حتى للعالم فضلاً عن العامي، ومن ذلك إذا لم يظفر العالم بنصٍ من الكتاب أو السنة، ولم يجد إلا قول من هو أعلم مـنه، فيقـلده. أما التقليد المحرم فهو أن يكون العالم متمكناً من معرفة الحق بدليله، ثم مع ذلك يعدل إلى التقليد، فهو كمن يعدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى. والتقليد إنما هو لمن لم يكن قادراً على الاجـتهاد، أو كان قـادراً عليه لكن لم يجد الوقت لذلك، فهي حال ضرورة كما قال ابن القيم. وقد أفتى الإمام أحمد بقول الشافعي، وقال: إذا سئلت عن مسألة لم أعرف فيها خبراً أفتيت فيها بقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش، وقد قال النبي صلى الله عليهوسلم: «لا تسبوا قريشاً، فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً».
ومن الناحية الدعوية فالأمر ظاهر في واقع الناس، فلا يمكن أن يكون عند كل منهم أهلية الاجتهاد صغيراً وكبيراً وذكراً وأنثى.
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
انتهينا في ما سبق إلى تأكيد أهمية وجوب الرجوع عند التنازع للنص المعصوم، وأن لا يُجعل الخلاف مرجعاً عند التحاكم، وأن يُطّرَح التشهي والهوى عند تعاطي مسائل الشريعة التي اختلفت فيها الأنظار، وخاصة في المسائل المتنازع عليها مما تعم به البلوى، ويشتهر؛ إذ يحاول كل عالـمٍ إبراز أدلته ووجهـته فيها، فتكون فرصة للاستماع إلى الأدلة، ثم الأخذ بما تطمئن إليه النفس من غير تشهٍ ولا هوى.

وفي هذا القسم من البحث محاولة للتفريق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية، وتحديد الموضع الصحيح للاستشهاد بقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، انطلاقاً من كونـها لا تدخل في جميع مسائل الخلاف، كما يُوهِم منطوقها.

الفرق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية
عدم التفريق([1]) بين المسائل الاجتهادية - وهي التي لا يُنكر على القائلين فيها بقولٍ اجتهادي، ولكن تبقى المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن بغية التباحث، والتي وضع أهل العلم علماً مستقلاً بذاته له متونه التي تُحْفَظ - وبين المسائل الخلافية - وهي التي ينكر فيها على المخالف ما دامت لا تدخل ضمن المسائل الاجتهادية، وتتفاوت درجات الإنكار فيها بحسب حال كل قضية - هو الذي أدخـل اللبس في فهم قاعدة : (لا إنكار في مسائل الاختلاف)، فاعتقد بعضهم « أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفٌ من الناس ممن ليس لهم تحقيقٌ فـي العلم»([2])، مع أن كل من نصَّ عـلى هذه القاعـدة بعبارة (لا إنكار في مسائل الخلاف) إنما يعني بها مسائل الاجتهاد، وإن لم تكن التسمية الاصطلاحية التي تفرق بين النوعين مستقرةً، ولذا عبر بعضهم عن هذه القاعدة بالعبارة السابقة، وعبر آخرون عنها بقولهم: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)([3])…وهذا أدق في اصطلاح البحث.

ويظهر هذا التقسيم - مسائل خلافية ومسائل اجتهادية - في عبارات العلماء الواردة أقوالهم فيما سبق، حيث ورد في عباراتهم عند الاستثناء من قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف): «أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، أن يكون الخلاف ضعيفاً، ألا يكون معتبراً، ما ليس له حظٌ من النظر…» وكل هذه العبارات ترجع إلى معنىً واحد هو أن الإنكار في المختلَف فيه ينتفي إن كان الخلاف قوياً، ويُثْبَتُ إذا كان الخلاف ضعيفاً (غير معتبرٍ، بعيد المأخذ..)، ولكنها في الحقيقة تجعل الخلاف القوي ضابطاً للمسألة الاجتهادية، فكل ما فيه خلافٌ قويٌ فهو مسألةٌ اجتهادية فلا إنكار فيها، كالجهر بالبسملة، والإسرار بها في الصلاة… لكن لا بد من تحرير القوة والضعف ليتحدد الأمر أكثر.

تعريف المسائل الاجتهادية([4]):
المسائل الاجتهادية، التي يكون الخلاف فيها قوياً معتبراً له حظٌ من النظر، هي التي يظهر فيها وصفٌ من الأوصاف التالية:

أ- ما تجاذبها أصلان شرعيان صحيحان، فترددت بين طرفين وضح في كلٍ منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات، ومنها: زكاة الحلي، ترددت بين النقدين والعروض، وقبول رواية مجهول الحال وشهادته تردد بين العدل والفاسق([5]) ومن ذلك مسألة من جاء يتابع الإمام وهو في السجود الأخير من آخر ركعة: هل يكبر ويقرأ أذكار ما بقي من الصـلاة أم يتابعه بالحركات دون الأذكار ثم يستأنف تكبير الإحرام بعد السلام؟ ومثل جلسة الاستراحة عند من قال بها: هل لها ذكر أم يسكت عندها؟ بل أهي للاستراحة أم للحاجة أم للتعبد؟... فهذه من «محالِّ الاجتهاد المعتبر» ([6])، ومثل هذه تماماً قصة صلاة العصر في بني قريظة… مع ملاحظة أمرٍ جليلٍ هو وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم للإقرار أو الإنكار، أما الآن فليس إلا لزوم آداب الخلاف، والاجتهاد في تحري الهدى، سواء بالنفس للمتأهل لذلك، أو بالنظر في الثقة الأمين وأخذ أقواله بدليل أو بتقليد، بحسب كلٍ.

ب- المسائل التي ليس «فيها دليلٌ يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديثٍ صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به، الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها»([7]) كخروج النجاسات من غير السبيلين، وأخذ رجلٍ حقه من مغتصبه دون الرجوع إلى قضاء في حال ظلم القضاء.

ومما يدخل ضمن هذا النوع: كيفية التعامل مع النوازل الطارئة في الواقع([8]): حيث تنتابها الاجتهادات الدعوية المختلفة مما يواجه الدعاة في مختلف ميادينهم، فالاجتهاد في معالجة تلك الواقعة داخل ضمن النطاق الاجتهادي... ويوضح ذلك ما حدث لهارون عليه السلام في تعامله مع نازلة الشرك التي حدثت من بعض قومه بعد أن ذهب عنهم موسى، وفيها عبر كثيرة ليس هذا ميدان بسطها إنما الإشارة إلى أن المسألة في فحواها كبيرة؛ إذ الكلام عن شرك وتوحيد... ولكن الاجتهاد هو في أسلوب التعامل... ومثل ذلك اختلاف آراء الصحابة في كيفية التعامل مع نازلة المرتدين ومانعي الزكاة... وكما يشدد هنا على تذكر الأخوة الإيمانية الواجبة ومصادرة الظنون التي قد تنشأ عن الاجتهادات المختلفة، كذلك ينبغي أن نصطحب أنه ينبغي بيان الحجج العلمية في اتخاذ أسلوب لمعالجة الموقف وإشاعته بين الناس، وأن ذلك لا يعد تشهيراً... وإلا لما وصلنا شيء مما نستدل به الآن أو نستنبط منه الأحكام المختلفة.

ج- ما تجاذبه نصان أو أكثر، وكل واحدٍ مقبول سنداً ظاهر دلالة: كتكبيرات العيد والجنائز، والجهر والإسرار بالبسملة، وكاستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر والنساء، والقراءة بالبسـملة سـراً أو جهراً وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه([9]).

ومن النماذج التي يمكن إيرادها لتقريب هذه المسألة، نموذج لمسألة اجتهادية اختلف فيها ثلاثة من أئمة العراق، ومع كل إمام دليله من السنة: فقد روى عبد الوارث بن سـعيد قال : قدمـت مكة فوجدت بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعاً، وشرط شرطاً، فقال: البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته فقال: البيع جائز، والشرط جائز، فقلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة ؟ فأتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط، البيع باطل، والشرط باطل.. ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز، والشرط باطل.. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، وشرط لي حملانها إلى المدينة، البيع جائز، والشرط جائز([10]).

فهذه مسألة اجتهادية، تجاذبتها الأدلة المختلفة، فاختلفت فيها الأنظار.


د- ما ورد فيه نصٌ، ولكنه ليس محل اتفاقٍ في دلالته، مع ظهور قوة استدلال الطرفين، وذلك كرفع اليدين في تكبيرات العيدين والجنائز، وإعادة اليدين إلى موضعهما بعد الركوع، وكيفية الهوي إلى السجود، ومن أمثلتها: الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وفي الخلاف في تفضيل عثمان على علي، والخلاف في تكفير تارك الصلاة والاركان الأربعة غير الشهادتين تكاسلاً، ووجوب المضمضة والاستنشاق أو استحبابهما، ووجوب قضاء الفوائت بدون عذر أو عدم جواز قضائهما أصلاً، والخلاف في اختلاف المطالع ودوره في إثبات الشهر، وطلاق الثلاث بلفظ واحد وهل يقع ثلاثاً أو واحدة.

ومن النماذج التي يمكن إيرادها هنا، اختلاف خمسة من الصحابة في مسألة اجتهادية، فقد روى الشعبي قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة المخمسة وهي: أم وجد وأخت، فقال لي: ما قال فيها الصديق رحمه الله؟ قلت: أعطى الأم الثلث، والجد ما بقي، لأنه كان يراه أباً. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين – يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه-؟ قلت: جعل المال بينهم أثلاثاً. قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قال: «كذا». قلت: أعطى الأخت النصف، والأم ثلث ما بقي، والجد الثلثين، لأنه كان لا يفضل أماً على جد. قال: فما قال فيها زيد بن ثابت؟ قلت: أعطى الأم الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجد، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة إلى الثلاثة. قال: فزم بأنفه ثم قال: بم قال فيها أبو تراب؟ قال: قلت: أعطى الأم الثلث، والأخت النصف، والجد السدس([11]).
فهذه مسألة واحدة اختلف فيها سادات أهل العلم من الصحابة بعد الاجتهاد في دلالات النصوص الواردة فيها.

أما المسائل الخلافية: فهي أعمُّ من ذلك، إذ تشمل كل ما وقع فيه خلافٌ، وإن كان ضعيفاً أو شاذاً أو مما اعتبر من زلات العلماء، وذلك كالخلاف في نكاح المتعة، أو في عدة المتوفى عنها، أو في ربا الفضل، أو في ربا البنوك…. فكل مسائل الاجتهاد من مسائل الخلاف وليس العكس([12])، بحسب اصطلاح هذا البحث.

الفرق في الحكم بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية:
من الفروق الأساس في الحكم بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية، أن المسائل الاجتهادية لا إنكار فيها باليد، ولا باللسان بإقذاع وتثريب، وليس لأحدٍ أن يُلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يُتَكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، بخلاف المسائل الخلافية الأخرى ([13]).

ولا بد من التأكيد هنا أن كلام الأئمة حول قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) فيه ما يشير إلى تقسيم المختلَف فيه إلى قسمين، من حيث التعريف ومن حيث الحكم: مسائل خلافية يكون فيها الإنكار قائماً بأنواعه، ومسائل اجتهادية لا إنكار فيها إلا تذكيراً علمياً ومباحثة… وقد يلمح وجود هذا التقسيم بصورةٍ عملية في ثنايا كلامهم، وإن لم يكن التقسيم الاصطلاحي مستقراً، فالسيوطي يستثني من هذه القاعدة، والاستثناء يقتضي وجود اثنين: مستثنىً وهو المسائل الخلافية فالإنكار فيها قائمٌ، ومستثنىً منه وهو المسائل الاجتهادية، فالإنكار فيها هو المنفي على تفصيل في ذلك، والماوردي يجعل الإنكار قائماً فيما ضعف فيه الخلاف وهذه هي المسائل الخلافية، وينفي الإنكار فيما عدا ذلك من المسائل الخلافية وهي المسائل الاجتهادية([14])، ومثله الفراء… فتقسيم المسائل الخلافية إلى نوعين أحدهما يكون فيه الإنكار، والآخر لا إنكار فيه مما يجعل القاعدة أكثر انضباطاً، وهذا واضحٌ في كلام العلماء من ناحيةٍ عملية، وإن لم يوجد من حيث الاصطلاح.

ومن أجل هذا الحكم للمسائل الخلافية، فإن المعمول به عند أئمة الفقهاء قيام الإنكار باليد حال الاقتضاء لبعض المختلَف فيه، فعند «فقهاء الحديث مثلاً أن من شرب النبيذ المختلف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يُفَسَّقُ، ولا تقبل شهادته، وهذا يرد قول من قال لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا خلاف إجماع الأئمة، وقد نص الإمام أحمد على أن من تزوج ابنته من الزنا يقتل، والشافعي وأحمد ومالك لا يرون، خلاف أبي حنيفة، فيمن تزوج أمه وابنته أنه يدرأ عنه الحد بشبهةٍ دارئةٍ للحد، بل عند الإمام أحمد يقتل، وعند الشافعي ومالك يحد حد الزنا في هذا»([15]).

ويظهر من هذا، ومما سبق في كلام الأئمة، أن الحمل على القول الصحيح في المسألة المختلف فيها واجبٌ على من له ولاية الحسبة وغيره، والإنكار الشديد على من فعل منكراً مطلوبٌ شرعاً بدرجات الطلب الشرعية إلا أن حق الإلزام إنما يكون لمن له ولاية الحسبة، وفي المقابل فللرعية الإنكار على الحاكم اختياره غير الصحيح في مسألة خلافية ضعف الخلاف فيها كما فعل علي في الإنكار على عمر وعثمان، وكما فعل ابن عباس في الإنكار على علي... مما سبق التمثيل له، أما المسألة الاجتهادية فليس للحاكم أن يحمل فيها غيره على قولٍ يظنه راجحاً، فضلاً عن غيره.

وعلى هذا، فإن مفهوم الإنكار المنفي في المسائل الاجتهادية هو: الإنكار باليد، أو التشنيع على المخالف، أو القدح في دينه وعدالته، كرميه بالبدعة أو الفسق، وهجره من أجلها، فإن هذا كله يطبق على من أتى منكراً في مسـألة غير اجتهادية سـواءً كان ذلك في مسـألة إجمـاعية أم خلافية…وكل شيءٍ بحسبه، ولا يتنافى في هذا مع بيان الراجح من الرأيين([16])، وهذا كان فعل الصحابـة رضي الله عنهم.. فعن عبد الله بن عمر أَنَّ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ. قَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا! وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ؟!([17]).

ويلحظ أن الإنكار هنا على رؤوس الأشهاد، فهو يتعدى مجرد بيان الحجة العلمية… مع أن الصحابة رضي الله عنهم أنفسهم مختلفون في وجوب غسل الجمعة، فحكم غسل الجمعة مسألةٌ اجتهادية، وكذلك التأخر عنها حتى يخطب الإمام ليس بحرام، ولكن عمر أنكر على عثمان في كلٍ منهما.. ولذا، فحـتى المسـائل الاجتهادية تختلف مراتب بيان الحجج العلمية فيها فقد يصل فيها بيان الحجة العلمية إلى نوعٍ من التشهير، كما سبق وكما في إنكار عائشة، رضي الله تعالى عنها، في مسألةٍ اجتهاديةٍ هي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى.

فعن مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ! قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا، فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْظِرِينِي وَلا تَعْجَلِينِي. أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (( وَلَقَدْ رَءاهُ بِٱلاْفُقِ ٱلْمُبِينِ )) (التكوير:23)، ((وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ)) (النجم:13)؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ. لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّـمَاءِ سَـادًّا عِظَمُ خَلْقِـهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ». فَقَالَتْ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ((لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلاْبْصَـٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ)) (الأنعام:103)؟ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ )) (الشورى:51)؟ قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: ((يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )) (المائدة:67)، قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: ((قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاْرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ )) (النمل:65)»([18]).

ويظهر من الحديث أن إنكار عائشة رضي الله عنها إنما كان في مسألةٍ اجتهادية، وهي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وقد جعلته مساوياً لإنكارها الزعم بكتمان النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الرسالة.

وقد تخفت حدة الإنكار حتى تصل إلى مجرد قيام كلٍ من المجتهدين بعمل ما يظنه صواباً، وبيان وجهته في ذلك، كما في حادثة بني قريظة، فعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ ([19]).

ولكن الذي نشدد عليه أن كلاً من المختلفين أو المتبعين لقول اجتهادي يجب ألا يضحي بالأخوة الإسلامية القطعية الثبوت والدلالة، وحقوقها، في مقابل مسألة خلافية الخلاف فيها محتملٌ، أو اجتهادية قد سبق الخلاف في مثلها أو نحوها بين أهل العصور الفاضلة فما أذهبت وداً، وما أوقدت بغضاء، ولا قدحت في دين... ما دام ذلك في الإطار العام للأصول والثوابت الإسلامية القطعية.

إن المسائل الاجتهادية - وليس كل مسألة خلافية - فيها سعة ورحمة، وقد قال فيها عمر بن عبد العزيز: ما أحـب أن أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمةٌ يقتدى بهم، فلو أخذ رجلٌ بقول أحدهم كان في سعةٍ.. وفيها قال القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.. وفيها قال يحيى بن سعيد: ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه، ولا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله.. وفيها قال سفيان الثوري: «إذا رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه»([20]).
ولذا عقب ابن عبد البر عند ذكره لبعض هذه الآثار مسندة: «هذا فيما كان طريقه الاجتهاد» ([21])، وهي التي يقـول فيها أهل العـلم: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد» ([22]).

سبب الاختيار للمصطلح: الاصطلاح على المسائل التي لا إنكار فيها «بالمسائل الاجتهادية» أوجبه ضرورة التوقف عند ظاهر النص ما لم تكن هناك ضرورةٌ لتأويله فتسمى المسألة خلافيةً حال بروز الخلاف فيها، ولولم يكن الخلاف فيها سائغاً، فقد يكون ضعيفاً، أما المسائل الاجتهادية فسبب التسمية هو تسويغ الاجتهاد في فهم النص أو النصوص الواردة فيها لعدم غلبة ترجيح أحدها غلبةً ظاهرة، فيجتهد العقل وفق الضوابط المعلومة في ترجيح قولٍ من الأقوال الواردة فيها، بخلاف الخلافية غير الاجتهادية فإن النص فيها ظاهرٌ فيتوقف عنده، وإن خالف بعضهم فيها لسببٍ أو لآخر، وعلى هذا: فكل مسألة اجتهادية هي مسألة خلافية، ولكن ليس كل مسألة خلافية هي مسألة اجتهادية([23]).

ولم يشترط أهل العلم، للتفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية، أن تكون المعرفة بكون المنكر منكراً معرفةً قطعية، بل قد يكون في اعتبار كونه منكراً خلافٌ، ولكنه خلافٌ ضعيف، وردَّ المحققون على من أبى إلا أن تكون المعرفة بكون المنكر منكراً قطعية، ومن ذلك قول الشوكاني: «وأما قول الجلال([24]) ها هنا: إن المنكر هو ما كان دليله قطعياً بحيث لا خلاف فيه فمن ساقط الكلام وزائفه؛ فإن إنكار المنكر لو كان مقيداً بهذا القيد لبطل هذا الباب وانسد بالمرة، وفعل من شاء ما شاء؛ إذ لا محرم من محرمات الشريعة في الغالب إلا وفيه قولٌ لقائل، أو شبهةٌ من الشبه، وسيأتي في هذا الكتاب([25]) في السير أنه لا إنكار في مختلَفٍ فيه… وهو أيضاً باطل من القول، وإن كان أقل مفسدة من هذا الكلام»([26]).

على أنه ينبغي التنبيه إلى أن إيجاد ضابطٍ مانعٍ جامعٍ يحجز بين الأنواع المختلفة لمسائل الاجتهاد ودرجات بيان الحجة العلمية ومتى ترتفع حدة الإنكار والتثريب فيها أمرٌ عسير الضبط([27])، لكن المشترك فيها عدم التغيير باليد، وعدم التجريح والرمي بالبدعة أو الفسق أو النفاق أو نحو ذلك، ومثل هذا يُحتَرَزُ منه جداً لشيوع تساهل بعضهم فيه، خاصة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»([28])، كما قال: «لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ»([29]).

أسباب وضع قاعدة: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد):
يبقى أن يُشار إلى أن الأئمة، الذين وضعوا هذه القاعدة، لم يقصدوا بها أن تكون على إطلاقها لتصادر النصوص الصحيحة الصريحة بمجرد وجود خلاف قطعاً، بل حَمَلَهم على وضعها -فيما يظهر- ما يلي:

1- الحجز بين المتنازعين من مقلدة المذاهب، وفي الواقع المعاصر يبرز مكانهم مقلدو الحركات والأحزاب والجماعات الإسلامية، أو أتباع الاتجاهات الإسلامية المعاصرة .

2- تخفيف وطأة الخلاف بين العلماء فيما فيه سعة من مسائل الاجتهاد، التي مضى تقريرها آنفاً، خوفاً من أن يختلفوا ظاهراً فيخالف الله بين قلوبهم باطناً، «ولا شك أن الخلاف الفقهي في ذاته لا ينتهض لإحداث الفرقة، وإنما تتسبب الفرقة عن ضيق الصدور، واستحكام الهوى، والتعصب للرأي»([30]).

3- الحث على الاجتهاد في النوازل والمسائل الخلافية على أوسع نطاق بين المتأهلين، للوصول إلى هدى الله في الواقعة المعينة، وهذا هو الذي جعل أبا حنيفة يقول في المسائل الاجتهادية: «قولنا هذا رأيٌ، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منا»([31]).. ومما يدل على أن أبا حنيفة أراد بقوله هنا «المسائل الاجتهادية» لا غيرها، الجمع بين قوله هذا وبين فعله العملي، حيث روى الخطيب البغدادي عنه في الموضع ذاته أنه خطَّأ ابن أبي ليلة في إقامته حد القذف على مجنونة، وخَطَّأ الحسن في مسألة أفتى فيها ونقلها بعض من كان عند أبي حنيفة، لورود النص الحاجز لأن تعد المسألة اجتهادية، وتقدم عدم رجوعه في مسألة أنكرها عليه الأوزاعي لورود النص... وجمع بين الأمرين الإمام أحمد في قوله: «رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار»([32]).

4- التذكير بوجود اختلاف التنوع، وفيه يتم الجمع بين الأقوال التي تعتمد على جانبٍ واحـدٍ عند النظر إلى أدلة المسألة الواحدة، وهو ما يُسمى اختلاف الوهم، وقريب منه اختلاف الضبط، واختلاف السهو والنسيان([33])، ويدرجه المعاصرون في اختلاف التنوع، ومن أمثلته ما جاء عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ! عَجِبْتُ لاخْتِلافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِهْلالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَوْجَبَ. فَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ. إِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةً وَاحِدَةً، فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا. خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا، فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظْـتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ رَكِبَ فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَـلَّ، وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ - وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالاً- فَسَمِعُوهُ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ يُهِلُّ، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا عَلا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ، وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ عَلا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ. وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلاهُ، وَأَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، وَأَهَلَّ حِينَ عَلا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ ([34]).

وهذا النوع كثيرٌ في الشريعة الإسلامية.

لعل هذه بعض أسباب وضع هذه القاعدة، ولم يقصد الفقهاء من وضعها أن تعود القاعدة الفقهـية على أصلها وهو النص، وما تبعه بالإلغاء والإبطال.



بين وجهة النظر الشخصية.. والالتزام بالشرع
ربما اعترض معترض: بأنه لا خلاف في الرجوع إلى النص عند التنازع، ولا خلاف في جعله معياراً للإنكار والتذكير، ولا يعقل أن تُجْعل نصوص الأئمة مقابل النص، ولكن القاعدة السابقة تجعل معيار الإنكار هو مذهب المحتَسَب عليه، ما وضعها الفقهاء إلا لأنهم أيقنوا أن اختلاف الأئمة إنما كان في دلالة النص، وكلٌ له قرائنه في نصرة فهمه للنص المعصوم، سواءً فهم أن النص الذي يُرجع إليه يجب تأويله، أو أنه خاص، أو عام، أو مطلق، أو مقيد، أو منسوخ…وكلٌ من المذاهب ينصر رأيه، ويعتقد أنه الحق…ولسان حال كلٍ: «ليس فهمك للنص بأولى من فهمي له»… ولذا وُضِعَتْ هذه القاعدة.

وبتعبير آخر، قد يقال: لا خلاف في الأخذ بالنص… بل عندما تَدَّعي أن النص «الشرع» معك في مسألة معينة اختلفنا فيها ندعي -نحن- أن النص معنا فيها…فما تقول بأنه حرامٌ لدليلٍ نقول هو حلالٌ لدليلٍ.. فضابط أن يكون معيار التذكير بالإنكار هو النص لا خلاف عليه، لكنه غير ضابطٍ لاختلاف الأنظار فيه.

هذه الشبهة، صارت شنشنة عصرية يرددها غير المتخصصين، وأحياناً يرددها خصوم الشريعة، ووقع فيها بعض المتخصصين، ولذا باتت ترددها أعمدة بعض الصحف الليبرالية عند مناقشة أي قضيةٍ من زاويةٍ إسلامية، وصار سلاح (هذا فهمك للنص، ووجهة نظرك فيه فلا تفرضها على غيرك) سلاحاً فعالاً عند العلمانيين تلقفه بعض الإسلاميين تحت وطأة الانهزام النفسي، والضغط الهائل على أمة الإسلام من كل جهة.

وقد كانت نتيجة ذلك في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية قبل حل الخلافة العثمانية أن يكون لكل مذهبٍ قاضياً في المدينة الواحدة، وقد يتطور الأمر إلى أن يكون لكل مذهبٍ إماماً في الصلاة!([35])، وأما بلاط الحكم أي مقر الحكم المملوكي، أو الخلافة العثمانية فإنه يكون متمذهباً بمذهبٍ واحد.

ولكن النتيجة الخطرة لاستقرار هذا النوع من التعامل مع النص- إن نجح في العصر الحديث- أن يُرضى بالعلمانية بديلاً عن تحكيم الشريعة، وذلك لأن كل إنسانٍ -بحسب هذه الشبهة- لا ينبغي له أن يفرض (رأيه الفقهي) على الآخر، فيصير الأمر فوضى، أو يُقبل بالمذاهب المختلفة، وفضاً للنـزاع بين المذاهب (الفهوم) المختلفة فالمقترح المناسب لموضة العصر هو العلمانية التي تكفل لكل مذهبٍ (فهمٍ) حريته، وتبقى الدولة في منأى عن ذلك، وتختار الفهم المناسب لها.

أما في الواقع الحالي، فإن مذهبية بعض الاتجاهات الإسلامية المعاصرة قد بلغت من الاختلاف حداً كبيراً في فترة وجيزة، عند مقارنتها بنشأة المذاهب الفقهية الإسلامية، وبداية التعصب فيها، وصار خصوم الإسلاميين يرون العلمانية الحل الأمثل للجمع بيـن هـذه التيارات التي لم تجمعها مقاصد الدين، ونصوصه القطعية.

فهي شبهة ذات شقين: هل كل مسألة خلافية يقبل فيها بكل الآراء لمجرد أنها خلافية، ويهدر النص لمجرد الاختلاف في دلالته، وفي مقابل ذلك فإن كثيراً من الناس يجعلون رأياً قيل في مسألةٍ اجتهادية أمراً قاطعاً تدور حولـه الولاءات، وتقطع من أجله الصلات الشرعية القطعية، مع أن هذا الرأي يعبر عن صاحبه، ووجهة نظره في فهم المسألة والنظر في الفتوى الشرعية المناسبة لها من خلال النصوص والمقاصد العامة.

وأما الجواب على هذه الشبهة، فيتمثل أساساً في: أن الخلاف في بعض المسائل إنما نشأ بسبب غياب النص من حافظة المجتهد، و هذه الشبهة مبنيةٌ على أن إمام المذهب ثم أتباعه من بعده قد أحاطوا بالنصوص علماً، بحيث تبقى المشكلة فقط في دلالة النص! وهذا خلاف نصوص أئمة المذاهب المتقدمة، كما أنه لا يجرؤ أحدٌ على التصريح به، فإن الخطأ في الاجتهاد قد يعرض «إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه وإما بعدم الإطلاع عليها جملة»([36])، ولذا قال الشافعي منبهاً على هذا التقعيد النفسي الفاسد في النظر إلى أئمة المذاهب المتبوعة: «ما من أحدٍ إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي» ([37]).
فما الذي يجب عند ذلك ؟

لقد قَعَّد الإمام الشافعي القاعدة التي تجب إزاء ذلك، فقال: «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد»([38])، وقال ابن عابدين مبيناً علة إمكان أن تنسب بعض الاختيارات الشافعية للحنفية «لأن ما صح فيه الخبر بلا معارض فهو مذهب للمجتهد وإن لـم ينص عليه، لما قدمناه في الخطبة عن الحافظ ابن عبد البـر والعارف الشعرانـي عن كل من الأئمة الأربعة أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)»([39]).

ولذلك صرح عددٌ من علماء المذاهب بظهور القول الصحيح بعد وفاة إمامٍ قال بقول غير صحيح لعدم علمه بالدليل، ومن ذلك ما قاله الشعراني: «فإن قلت: فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ولم يأخذ بها؟ فالجواب: الذي ينبغي لك أن تعمل بها، فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها، فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال: لا أعمل بحديث إلا إن أخذ به إمامي، فاته خير كثير، كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذاً لوصية الأئمة، فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بما فيها، وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه»([40]).

إن كثيراً من مسائل الفقه، التي يحتاج إليها الناس وتعم بها البلوى، ويفتون بها، هي ثابتةٌ بالنص أو الإجماع، وإنما وقع النـزاع فيها لعدم وصول الدليل، لا للتنازع في دلالته، والمراد أن الكثير من مسائل الفقه في الأمور الدينية المحضة، قد اختلف فيها لكن ظهر القول الراجح فيها بعد الاختلاف، كما في النص على التعامل مع نازلة الطاعون، التي اختلف فيها الصحابة، من العشرة المبشرين والمهاجرين والأنصار ومعهم مسلمة الفتح، ثم استبان الراجح بما رواه لهم عبد الرحمن بن عوف.. على أن ميدان المسائل الاجتهادية ما زال بعد ذلك واسعاً جداً سواء كان في الأمور الدينية المحضة أو الدنيوية المحضة أو الدينية غير المحضة، ومثال ذلك الصلاة، فإن أصل حكمها وأصل حكم تاركها بالكلية، وأصل أركانها التي تكون ماهيتها العامة.

كل ذلك معلوم يدخل ضمن النص أو الإجماع، وفي كتب الفروع خلافات واسعة واجتهادات كبيرة في تفاصيل الصلاة بعد ذلك. والمعتمد في الخلاف فيها عدم الإنكار بالتجريح والحط على المخالف، بل بيان الحجج العلمية مع عدم ضيق كل من الطرفين نشر حجج الآخر بأمانة وحسن ظن عند مناقشتها.

ومثال ما ظهر فيه القول الراجح مما ورد فيه الخلاف: «كون الحامل تعتد بوضع الحمل لا بأطول الأجلين، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينـزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار… إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل… وعلى كل حال فلا عذر عند الله عز وجل يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد من نـهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوباً، لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة»([41]).

ومن ثم فلا يصح أن تختلف الأنظار في المسائل التي جاء النص فيها صريحاً، ويؤخذ بظاهره إذا استثني ما يجب تأويله لسبب علمي منضبط، ويعضد بعمل السلف الصالح… وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: ((تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا )) (البقرة:187)، فكيف بمن تعداها؟

إلا أن وجهة النظر الشخصية تبرز بين المجتهدين في مسائل كثيرة، ضمن إطار المسائل الاجتهادية، وليس في كل مسألة خلافية، وقد تقدم أنها غير ملزمة إلا لصاحبها، أو من ظهر له رجحان قوله أو اطمـأن إلى تقليده.. واختلاف الآراء في المسائل الاجتهادية «راجعٌ في الحقيقة إلى الوفاق، لاتفاق أطرافه على تحري مقصود الشارع، وهو واحد»([42]).

بين عصبيتين:
وفي الوقت الراهن، فإن أمر العصبية العصرية قد سرى سرياناً غريباً إلى كثير من الأحزاب والاتجاهات والجماعات الإسلامية المعاصرة، حتى صار أصلاً من أصول الممارسات اليومية عندها، ونمى في العقل الباطن لأفرادها، بل أصبح جزءاً من التركيبة النفسية لهم، وفاق العصبية العارضة التي كانت تعتري بعض أتباع المذاهب.. وتتمثل هذه العصبية في أمرين:

الأمر الأول: الإصرار على تقديم وجهة النظر الشخصية في المسائل التي يوجد فيها نص، فيكون مأخذ القائل فيها ضعيفاً بعيداً، لكنهم يصرون عليها كأنها نصٌ منـزل، ثم يقمعون كل من يحاول النصح وبيان النص للعامة، ويمنعون كل من يبرز خطأهم في تلك المسألة، فتصبح وجهة النظر الشخصة هي الأصل وتُتَأول لها النصوص.

ويرحم الله الإمام العز بن عبد السلام، فقد اشتكى بمرارة من ظاهرة العصبية المذهبية لمتبوع مع ضعف مأخذه، قائلاً: «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس... وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته»([43]).

وإذا قارنا بين هذه الصورة، التي رسم ملامحها الإمام العز بن عبد السلام، وبين واقع العصبية المعاصرة في بعض الحركات والجماعات، نجد أن التعلل بالأعذار هي ذاتها عند محاولة المناقشة لما تصدره قيادات هذه الحركات من فعاليات فكرية أو عملية، وتقويمها، والنقد لها.

الأمر الثاني: الإصـرار على منع الآراء الأخـرى في المسـائل التي لا تعدو أن تكون اجتهادية، والرأي فيها مجرد رأي، وقد يُقدَر على أحسن منه... مع أن الأصل الإكثار من السماح بظهور الآراء المختلفة، وتنمية هذا الحس رغبة في الوصول إلى أحسن ما يمكن أن يُوصَل إليه.

التوسع في (الفهوم): إن مسألة الفهم للنص، وكون فهم فلانٍ له ليس بأولى من فهم مقابله، على ما جاء في الشبهة، أمر صحيح في المسائل الاجتهادية مما سبق بيانه، ولكنه غير صحيح على إطلاقه، أي غير صحيح أن يقال في كل مسألة خلافية؛ إذ قد يكون الفهم عملاً بالظاهر، والقرائن التي تحف به تقتضيه أو تنفيه، وقد يكون الفهم تأويلاً صحيحاً، وقد يكون تأويلاً فاسداً، وقد يكون الفهم تحريفاً للكلم عن مواضعه… فهل كل فهمٍ يُقبل حتى يُقال ليس فهم فلانٍ بأولى من فهم الآخر؟… إن للفهم ضوابطه التي يقبل بها، وموازينه التي يوزن بها… فهو ليس مرسلاً على عواهنه.

وتكمن المشكلة في أن النـزاع لو رُدَّ إلى المذاهب (الفهوم) لآل ذلك إلى أن يكون الدين بالهوى والتشهي، فيختار كل ما هو أسهل له في الخلاف؛ إذ يعتبره فهماً للنص، فلا مناص من الرجوع إلى النص معياراً للتذكير والإنكار، فهو السبيل للخروج من الهوى وفق الضوابط المعلومة، وقد جعل الشاطبي، رحمه الله تعالى، ذلك في مسائل الخلاف «ضابطاً قرآنياً ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى: (( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ )) (النساء:59)، وهذا المقلد قد تـنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد الرجوع إلى الأدلة الشرعية من كتابٍ وسنةٍ صحيحة، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة، فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجـوع إلى الله والرسـول، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت، ولذلك أعقبها بقوله: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) (النساء:60)الآية»([44]).

لذلك فإن ظاهر النص، أو تأويله الصحيح، لا يصادَر بهذه المقولة: (هذا فهمك للنص)، لأن المسائل الشرعية التي يُخْتلَف عليها يجب - عند بحثها - سلوك السبيل العلمي المنهجي القويم لفهمها، الذي يتمثل في:

- النظر في النص، ثبوتاً ودلالة، وفق قواعد الأصول وضوابط الفقه؛ ثم في الفهم النبوي له؛ ثم في التطبيق النبوي لمدلوله؛ ثم في بيان الصحابة له وعملهم، الذي يوضح فهمهم له (في ضوء أصول الشريعة)([45])،

- الرجوع في كل شأنٍ علمي إلى مكان الاختصاص فيه، فإن كان الاختلاف في التفسير فيرجع إلى المفسرين، وإن كان في الحديث رُجع إلى المحدثيـن، وإن كان في اللغة رجع إلى أولي العلم بها، وإن كان في الفقه رُجِع إلـى الفقهاء، لأن كلاً منهم في اختصاصه يكون من أهل الذكر.

- أن يكون المستنبط من أهل الاجتهاد، أو ممن يحق له البحث في تلك المسألة (الاجتهاد الجزئي)، وقد امتلك أدواتها.

- نبذ ما وقع فيه العلماء من زلات، وإن كان هذا لا يعد طعناً فيهم، كما سبق، فلا يقبل فهمهم له، بمعنى أننا لا نقبل الفهم الذي تدل الدلائل على أنه زلة، مع بقاء مكانة القائل دون بخسٍ أو هضمٍ أو غلو.

- اصطحاب التفريق بين نوعي المسائل العامة: المسائل الاجتهادية التي لا تنكر على القائلين بقول اجتهادي فيها، والمسائل الخلافية، كما سبق.

كل هذه الترتيبات العلمية، تُضَيِّق هوة التوسع في فهم النص، وتضبطه.

من آداب الوصول إلى فهم النص:
إن من آداب الوصول إلى هدى الله عز وجل الحق من فهم النص: أن يُقدم النص على الرأي الشخصي والقناعات المسبقة؛ إذ شأن القناعات المسبقة تأويل النص وفق الهوى، وقد أشار ابن مسعود رضي الله عنه إلى هذا بقوله: « إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةَ وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ، يُبَدُّونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُه،ُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ وَيَقْصُرُونَ الصَّلاةَ، يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ »([46]).

فالهوى الشخصي، أو الاستجابة لضغوط الواقع، ورغبات الفئات المختلفة، أو تكوين القناعات المسبقة قبل معرفة الهدى في النص يجعل سوء العمل مزيناً كأحسن العمل، وفرقٌ بين البينة والتزيين، وهو ما كان ينأى عنه السلف الصالح، إذ معنى (يبدون أهواءهم قبل أعمالهم) أي يتبعون أهواءهم ويتركون العمل الذي افترض عليهم([47])، ولذا كان السلف يرجعون إلى النص عند وضوحه، فكم رجع عمر إلى قول أبي بكر، أو إلى قول علي، وكم رجع أبو هريرة إلى قول أمهات المؤمنين.

فالخلاف في المسائل الفقهية واقعٌ لا ريب فيه، ولكن لا بد في النظر إلى النص من حيث السبيل المنهجي، ومن حيث الأدب العلمي، ومن حيث المقاصد العليا للشريعة…إذ إن الاسـتدلال بالشـريعة حتى على ما يظهر أنه ليس منها بديهة قائمة إن لم تراع الآداب السابقة، بل قد ظهر للعيان أنه لا يوجد أحدٌ من المجادلين في المسائل الشرعية إلا استند على ما جعله له دليلاً، وخالف فيه، فهل يقال في خلافه إنه مصيب؟ حتى قال الإمام الشاطبي، رحمه الله تعالى: «ولذلك لا تجد فرقةً من الفرق الضالة، ولا أحداً من المختلفين في الأحكام يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، بل قد رأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفقه بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنـزهة...فهذا كله يوجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل»([48]) .

ولذا، فعند وصول دفاع الحِجاجِ في المسألة الخلافية، غير الاجتهادية، إلى الحد الذي يدعي فيه كل من الطرفين بروز فهمه للنص المعصوم على الآخر، يأتي فاصلاً بيناً قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»([49]).



بين حجية الإجماع.. ورحمة الاختلاف
قد يُستدل على عدم الإنكار على المختلَف فيه بالقول الشهير: «إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة»([50])، وهي قاعدةٌ عظيمة تناقلها علماء الإسلام.. كما قد يُستدل على ذلك بقول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غيره من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه»([51]).

وتنطوي هـذه القاعـدة على جوانب من الإيجاب والسلب، وفقاً لما نحن بصدده هنا، من ذلك:

1- هذه القاعدة كقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) سواء بسواء، تشتمل على معالم جليلة في الحياة الفقهية الإسلامية، غير أنها ليست على إطلاقها، وما قيل في تلك يُقال في هذه.

2- المراد من كون الاختلاف رحمة، ومن قول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله - إن صح عنه- هو السعة في جواز أصل الاجتهاد، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا حل لمن بعدهم…فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف؛ إذ قد يظهر النص لقوم ويغيب عن آخرين… ولا ينبغي لأحدٍ عنده قولان في مسـألة خـلافية - غير اجتهادية- أن يأخذ إلا بما يعضده الحَكَم الحق عند التنازع وهو النص قرآنياً كان أو نبوياً… قال ابن حزم، رحمه الله تعالى: «وإذا صح الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يحرم على من بعدهم ما حل لهم من النظر، وأن يمنعوا من الاجتهاد الذي أداهم إلى الاختلاف في تلك المسألة إذا أدى إنساناً بعدهم دليل إلى ما أدى إليه دليل بعض الصحابة»([52])، وهذا صنيع ابن تيمية، وهو الذي أكد على الرحمة في الاختلاف، حيث كان يتوسع في المسائل الاجتهادية، وينكر في غيرها من الخلافيات على من خالف الدليل.

3- بل من العلماء من أنكر أن يكون (الاختلاف رحمة) مطلقاً، ومنهم بعض من نُسِب إليه القول المذكور؛ فقد رد الإمام مالك وغيره على ذلك فيما ذكره الشاطبي في قولـه: «وأما قول من قال إن اختلافهم رحمة وسعة فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. قيل له: فمن يقول: إن كل مجتهد مصيب. فقال: هذا لا يكون قولان مختلفان صوابين»([53]). ولو سُلِّم صحة هذا القول فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، أي أن المجتهد مصيبٌ بسلوكه طريق الاجتهاد، فهو حثٌ على الاجـتهاد، وعـدم الاتكال على الغير، وأن مسائل الخلاف قد جعل الله سبحانه وتعالى فيها سعةً بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك. قال القاضي إسماعيل: «إنما التوسعة في اختلاف أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسـعةٌ في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسـعة أن يقـول الإنسـان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا»، قال ابن عبد البر: «كلام إسماعيل هذا حسن جدا»([54]).

4- ومن محامل الكلام السابق، أن المراد به مسائل الاجتهاد في العبادات المحضة أو غير المحضة مما لم يظهر الدليل فيها بوضوح، أو تجاذبته الأدلة ومقاصد الشريعة الشريفة، وهذا ما يدل عليه عمل من قعد القاعدتين الواردتين في هذا المبحث، وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني جامعاً بين الأمرين:

وأخذي باختلافهـم مبـاحٌ لتوسيع الإله على الأنامِ

ولست مخالفاً إن صح لي عن رسول الله قولٌ بالكلامِ

الاجتهاد من مقاصد الشريعة:
ويؤكد ما سبق حقيقة هامةٍ من حقائق الشريعة، هي أن الاجتهاد من مقاصد الشريعة، وفي مسائله السعة، وأما الاختلاف الذي يؤدي للتنازع فلـيس مقصـوداً للشريعة، ولا هو من طبيعتها، فالشـريعة «لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمةً بين المختلفين فيها، وفي غيرها من متعلقات الدين، فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فلما جاءتهم مواضـع الاشـتباه وكلوا ما لم يتعلق به عملٌ إلى عالمه على مقتضى قوله تعالى: (( وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ )) (آل عمران:7)، و[لأن]الفِطَر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشـارع، فلـو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها، وهم القدوة في فهم الشريعة، والجري على مقاصـدها،لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الـدالة على ذم الاختلاف»([55]).

وقد أنكر الصحابة بعضهم على بعض في المسائل الاجتهادية من المسائل الخلافية، لكن الإنكار لم يتعد أن يكون باللسان، وقد يتسع بهذا الأسلوب إلى نوعٍ من التشهير غير القادح في صحة الدين، ولا التارك لحسن الظن بالمسلميـن، وهو ما صـارت أمم الأرض تفاخر به إن وجد عندها، وتدرجه تحت إطار النقد، وتعتبره قيمة إنسانية عليا، وحقاً من حقوق الإنسان في عـلاقته مع الآخر، دون أن يشـق ذلك على الآخر أو يعتبره تهجماً، أو قدحاً في العرض أو الدين، وتقدم بعض ما يدل على ذلك.

ومما يدل عليه أيضاً: ما جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِـيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّه عَنْه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْن،ِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ ([56]) .. لكن عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا؟ قَالَ: الْخِلافُ شَرٌّ ([57]).

وتتجلى في موقف ابن مسعود رضي الله عنه، هنا، عدة آداب شرعية في كيفية التعامل مع المسائل الاجتهادية:
- إنكاره على عثمان رضي الله عنه في مسألة اجتهادية إنكاراً تشهيرياً على الرغم من أن عثمان هو أمير المؤمنين فلم يقل: حكم الحاكم ملزم، ولا المسألة اجتهادية، ولا لا ينبغي الإنكار خوفاً من الوقوع في التشهير، ولم يقل النصح يجب أن يكون سراً.

- إنكاره عليه الإتمام مع أن المسألة اجتهادية عند الصحابة أنفسهم؛ فإن عائشة وعبد الله بن مسعود ذاته وعثمان رضي الله عنه يرون أن القصر رخصة، وأن الإتمام مشروع، لكن ابن مسعود أنكر ترك السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في منى... فهذا إنكارٌ لترك سنة لا لفعل محظور.

- لم يتعد الإنـكار في هذه المسألة الاجتهادية هذا القدر، بل عاد ابن مسعود عملياً فتابع عثمان، وقال: الخلاف شر . وهذا يوضح بجلاء أن الصحابة كانوا ينـكرون على بعضـهم، ويخطئون الاجتهاد، لم يقولوا: لا إنكار في مختلفٍ فيه، ولا قالوا: الخلاف رحمة واسعة، بل ابن مسعود يقول: الخلاف شر.. ولم يقولوا: كل مجتهدٍ مصيب، بل خطَّأ بعضهم بعضاً في عددٍ من المسائل الفقهية (الفرعية).. ولم يجعلوا أحداً فوق النقد، ولكنهم لم يفسدو الأخوة العامة، وواجباتها القطعية بمثل هذه المسألة، بل بعد أن يبين أحدهم حجته، ويُظْهِرَ خطأ الآخر يبقي يقره على اجتهاده، بغض النظر عن مخالفته له في نتيجة هذا الاجتهاد «وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريقٍ للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك»([58]).

بيد أنه من المفارقات المؤلمة في الواقع الإسلامي المعاصر أن نشاهد صورتين طاغيتين:
الأولى: قـد ترى من يقوم بالنقد والتذكير الشرعي في مسألة فيها نص شرعي فإذا تمَّ التذكير به ثار المذكَّر على المذكِّر، وأشهر في وجهه سلاحاً قاطعاً لكل تذكيرٍ ونصحٍ وحوارٍ، هو سـلاح (المسألة خلافية) و(لا إنكار في مسائل الخلاف)…وقد تصادَرُ بمثل ذلك النصوص المعصومة ابتداءً، ويُصادَر العمل بمقتضاها تبعاً كما قال الشوكاني، رحمه الله تعالى: «وربما يقوم في وجهه([59]) من يريد تقويم الباطل فيقول له: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)»([60])، فتصـادر النصوص باسم أن الأفهام متغايرة، ولا بد من قبول الرأي الآخر .

الثانية: قد ترى من يقوم بالنقد والنصـح والتذكيـر والإنـكار بما يقتضيه الموقف، وبيان الأخطاء التي يجب أن تُتوقى في عملٍ إسـلامي أو فعل عام، أو اجتهاد خاطئ من قبل عالمٍ متبوع أو داعية مقلَّد... فيصادَر النصح، ويقمع التذكير، ويكبت الإنكار، ويُتَهمُ أصحابه بالجهالة والغرور والعمالة والفسق والفجور، والنفاق... إلى آخر المصطلحات القاتمة التي يعبث بها العابثون، فيتهمون الناقد بتوجيهها إليهم في حين يقومون بتسديدها له سهماً إثر سهم يقطعون أوصال الأخوة الإسلامية، ويقطعون أرحامهم... ويظهر بعضهم اقتفاء منهج السلف، وترك آثار من (تلف!)، ويظهر آخرون منهم أنهم أول المؤمنين بالحوار، والنابذين للصنمية الشخصية، وأفعالهم قد تبدي لنا غير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.



من معالم استيعاب الاختلاف في التقعيد الفقهي
الناظر في الفقه الإسلامي، يلحظ مدى حفاوة أهل العلم بتقعيد قواعد متعددة لاستيعاب الخلاف استقاء من مقاصد الشريعة، ومن أهم هذه القواعد: قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) التي حاولنا مناقشتها ووضعها في مواضعها الحقة عند الاستشهاد بها فيما مضى.. ومن القواعد الأخرى المهمة التي وُضِعَتْ لاحتواء الخلاف خوفاً من أن يؤدي إلى التنازع، ولتكوين النفسية التي تقبل بوجوده وطبيعيته، بل وأهميته أحياناً، قاعدتان أخريان تذكران أحياناً في أصول الفقه وأحياناً في القواعد الفقهية وهما، «كل مجتهد مصيب»، و«استحباب الخروج من الخلاف».

أولاً: قاعدة (كل مجتهدٍ مصيب):
بُنيت قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) على قاعدة: (كل مجتهد مصيب)([61]).. يقول الإمام النووي، رحمه الله: «إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه»([62])، وقال غيره: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد على من اجتهد فيها، وقلد مجتهداً، لأن المجتهد إما مصيب أو كالمصيب في حط الإثم عنه وحصول الثواب له»([63]).

والمقصد الأرشد والأسمى في وضع هذه القاعدة أمران:
الأول: هو الحفاظ على وحدة المسلمين، والنظر إلى أن مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ قطعي، بخلاف المسائل الفقهية الفرعية التي ينتمي كثير منها إلى دائرة الظنيات.

الثاني: الحث على الاجتهاد لمن يملك أدواته في محاولة الوصول إلى هدى الله في الوقائع النازلة.

وقد غلا بعضهم في هذه القاعدة، فزعم أنها تشمل المسلمين وغيرهم ممن عرف الإسلام وسمع به، وقامت حجته عليه([64]).

غير أن هناك نزاعاً في أصلها، وقد اختلفت فيها أقوال الأصوليين حتى تشعبوا، ولكنهم، كما قال الشوكاني «لم يأتوا بما يشفي طالب الحق»([65])، لذلك انتهى الشوكاني إلى أن الدليل البيِّن الذي يرفع النـزاع «ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، هو الحديث الثابت في الصحيح من طرق: أن « الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»([66])، فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً، واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر...»([67]).

وقد كان الصحابة يُخَطِّيء بعضهم بعضاً في الاجتهادات، حتى في المسائل الاجتهادية، كما تقدم، وكما «روي أن علياً رضي الله عنه وابن مسعود وزيداً خطَّؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس: من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصـفاً وثلثاً. قد ذهب النصفان بالمال فأين موضـع الثلث؟ وروي عن ابن عباس أنه قـال: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً… وهذا إجماعٌ ظاهرٌ على تخطئة بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، فدل على أن الحق من هذه الأقوال في واحد وما سواه باطل»([68]) بل «كان ينكر بعضهم على بعض أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار من يجوز أنه من أهل النار، وإن كان غفرانه في الجملة مقطوع»([69])، بل ثبوت أجره على الاجتهاد أمر بدهي في الشريعة الإسلامية.

لذلك يمكن القول: إن المراد بهذه القاعدة - حال التسليم بها- هو أن الاجتهاد صواب في ذاته لا في نتيجته، وقد يكون المراد صواب الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي لكل فيها حظٌ من النظر، لا في المسائل الخلافية، ولذا قـال الزركشي: «الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحـد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً([70]) فيه، وإنما ينكرون ما خـالف نـصاً أو إجماعاً قطعياً أو قياساً جلياً»([71])، فهذا الذي قرره الزركشي هو مدار البحث، وهو متفق عليه لا يخالف فيه أحد، إنما يتفرقون في التعبير والتفصيل بعد ذلك…ولكن المحاكمة تكون إلى هذا الأصل.

كما يمكن القول: بأن الخلاف حولها لفظي عند الجمع بين النواحي التنظيرية والتطبيقية للفقهاء القائلين بها، لقيامهم بالإنكار على مخالفيهم في الاجتهاد في مسائل خلافية، وعند القول بأن المراد من أن كل مجتهد مصيب في أصل الاجتهاد، أو في رفع الإثم عنه وثبوت الأجر له، أو في الاجتهاد في مسألة اجتهادية محتملة.

وهذا كله يقود إلى أن المراد الأعظم من وضع هذه القاعدة: الحث على الاجتهاد، واستكثار الآراء في المسألة للمتأهلين من أجل الوصول إلى الهدى الرباني، وأن يجتمع المسلمون حول عاصم الأخوة، وحقائقها القطعية.

ثانياً: قاعدة (استحباب الخروج من الخلاف):
وخوفاً من أن يؤدي الاختلاف إلى التنازع، ويطغى على حقوق الأخوة الإسلامية، فإن أهل العلم قد وضعوا قاعدة أخرى تمثل تتميماً لقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) وذلك بالنظر إلى النصوص القطعية التي تمنع التنازع بين المسلمين وتحرمه، واعتبار ذلك أحد المقاصد الهامة للشريعة الإسلامية... فالاختلاف، مهما كان مبرره، هو بوابة التنازع، وهذه القاعدة هي: (استحباب الخروج من الخلاف).

وقد صارت (مراعاة الخلاف) قاعدة فقهية معتمدة وعُرِّفت بأنها: إعمال دليل ( المخالف) في لازم مدلوله الذي أُعْمِلَ في نقيضه دليلٌ آخر، أو يقال هي: اعتبار خـلاف (الغير) بالخروج منه عند قوة مأخذه بفعل ما اختلف فيه([72]).

ومن أمثلة ذلك، أن الإمام مالك، رحمه الله، اختار أن يكون الوتر ثلاث ركـعات «لأن جماعة من أهل العلم يقولون الوتر ثلاث ركعات لا سلام فيها، فأراد مالك إبقاء الصورة إذ لم يجز عنده اتصالها»([73]).. والشافعية يستحبون مسح الرأس كله في الوضوء مع أنهم لا يقولون بوجوب ذلك مراعاة لخلاف المالكية.

وقسم العز بن عبد السلام الخروج من الخلاف إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.

القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل، كقراءة البسملة في الفاتحة فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي، وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن وكذلك مالك في أحد الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه... والضابط في هذا أن مأخذ المخالفة إن كان في غاية الضعـف والبعد من الصـواب فلا نظر إليه ولا التفات إليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن كانت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات([74]).

ولكن الخلاف الذي يُراعى هنا هو ما كان في المسـائل الاجتهادية لا في كل خلاف، أي ما كان مأخذ المخالف فيما ذهب إليه قوياً بحيث لا يعد هفوة أو شذوذاً، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع فهو معدود في جملة الهفوات والسـقطات لا من الخلافيات المجتهدات، ومن ها هنا لم يراع خلاف أبي حنيفة رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين، وكذلك إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد.. ومنه أيضاً ما نقل عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية([75]).

وإنما كان الحرص علىالخروج من الخلاف لسببين: خوفاً من احتمال التورط في نقيض مقصود الشارع بفعل ما هو خلاف الأولى مطلقاً؛ وللحاجة الماسة للأمة الإسلامية إلى تقريب وجهات النظر بينها، عسى أن تجتمع كلمتها، وتتحد صفوفها كأنها بنيان مرصوص.

فالاختلاف سواء كان اختلاف تنافٍ أو تضاد يؤدي إلى التنازع، بل إن اختلاف التنوع قد أدى إلى التنازع في صور قديمة ومعاصرة، فكيف إذا كان اختلاف تنافٍ؟

ومن المفاسد العظيمة التي يؤدي إليها التنازع مفسدتان: أولاهما: ظلم النصوص بوضعها في غير موضعها، ومصادرة ما عند كل طرفٍ من حق وباطل، وخطأ وصواب، لمجرد أنه ينتمي فكرياً إلى اتجاه إسلامي آخر، ثم يعقب ذلك أن تختار بعض هذه الاتجاهات من المذاهب والأقوال ما تشتهيه ويوافق هواها لا ما يوافق هدى الرحمن، والله تعالى يقول: (( وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ )) (ص:26)، ويقول: (( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ )) (المائدة:77).

وقد يزينون هذا الخطأ الكبير بالاستدلال بقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) أمام عامة أتباعهم، ثم يمارسون أقسى أنواع الإنكار في واقعهم العملي.

وثانيهما: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم بعضاً، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عن عمل لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم، لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يؤثرون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات، وإسناد الوظائف([76])، وبذل المساعدات، وتيسير المعاملات، من يكون فاقداً لأهلية ما أُسند إليه، قوة وأمانة، ويحاربون القوي الأمين بغياً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، لمجرد الرغبة الشخصية في وجود شخص موافق لهم في كل صغير وكبير دون أدنى تقويمٍ أو نصح ٍحق، مكتفين بإلهاء أتباعهم بشيءٍ صوري من النصح والتذكير والإنكار.



من أخلاق الصحابة والسلف في الإنكار
استوعب الصحابة، رضوان الله عليهم، فقه الاختلاف، فلم يفسد الخلاف بينهم المعالم الإسلامية القطعية، مثل: الأخوة الإسلامية بحقوقها من حب ومودة ونصرة وتعاون، فأعملوا في ذلك قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) في موضعها فلم تمزق لهم وحدة، ولا شققت لهم أخوة.

ولم يتركوا النصح فيما بينهم والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ورد الخطأ، والتنبـيه عليه عندما يظهر في اجتهاد أحدهم، ولم يجعلوا قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) على إطلاقها تستعلي على النصوص، وعلى المحكمات الشرعية لمجرد ظهور خلاف فلان منهم فيها، مع التماس العذر له في خلافه من سهوٍ أو نسيانٍ أو عدم بلوغ دليل .

لقد تمت عملية تطبيعٍ تربوية للصحابة بشأن عدم التنافي بين الإنكار وبين بقاء عاصم الأخوة وحقوقها، وبقاء جلالة قدر كل من الطرفين عند الطرف الآخر([77]).. لذلك فإن المتأمل في مواقف بعض الصحابة، مما ورد في ثنايا هذا البحث وأقوالهم وعباراتهم التقويمية في الإنكار، بعضهم على بعض، وأساليبهم الراقية في التعامل مع الخـلاف، يخـلص إلى مـا يأتي مما يمكن تسميته، «آداب التذكير والإنكار في المسائل الاجتهادية»:

1- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يتقن حفظه، فيبين الآخر أن هذا هـو عذره، وهذا كما قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها، في ابن عمر رضي الله عنهما: رحم الله أبا عبد الرحمن! سمع شيئاً فلم يحفظه.

2- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يفهم كيفية الجمع بينه وبين نصٍ آخر إلا بهيئة غير صحيحة، كما حاول ابن عمر الجمع بين أن تكون آخر صلاته من الليل وتراً، وبين حبه التنفل إن قام من نومه، فيضيف إلى الوتر في أول الليل ركعة أخرى لتصبح شفعاً، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الإنكار عليه: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليلعب بوتره.

3- قد يسمع المرء النص فلا يورده على أصل ما سمعه، إما لنسيان وإما لخطأ، وفي ذلك قالت السيدة عائشة في ابن عمر رضي الله عنهم: غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.

4- قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه يحفظ بعضه ويترك بعضه دون شعوره أو لطارئ حدث أثناء الحديث.. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة! حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره.

5- قد يغفل المرء عن النص لعدم علمه به، فيفتي على خلافه، وفي ذلك تقول السـيدة عائشـة رضي الله عـنها: يرحـم الله أبا هريرة لم يحفظ... وقد رجع أبو هريرة إلى فتواها لما بلغه النص.

6- قد يذكر المرء النص دون أن يبين معناه فيقع السامع في حيرة لتعارض ظاهر ما سـمع مع نصـوص أخرى.. تقول السيدة عائشة في ابن مسعود رضي الله عنهم: يرحم الله أبا عبد الرحمن حدثكم بحـديث لم تسألوه عن آخره.

7- قد يستلزم الإنكار نوعاً من التذكير بأهم الحقائق الإسلامية وهي التحاكم إلى الله ورسوله، وترك غيرهما ولو كان من أفضل الخلق...وذلك لتثبيت حقيقة الاستسلام لله وحكمه لا لظن أن العالم يخالف قول الله عمداً، ومن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما منكراً على اجتهادٍ لأبيه: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ذلك ابنه سالم فقال في مسألة شبيهة: «فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ بها من قول عمر»، ومثل ذلك قال في ابن عباس رضي الله عنهما: فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباسٍ إن كنت صادقاً؟

8- قد يكون العذر لمن أخطأ في الفتوى عدم تركيزه أثناء الإفتاء لعارض طارئ مما لا يخلو منه المرء أحياناً، كما قـال ابن عمر في أنس ابن مالك، رضي الله عنهم: يرحم الله أنساً، وهل أنس.

9- قد يكون سبب الخطأ في الفتوى زلل العالم، وذلك لا يخل منه أحد.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم..وهنا استبعد على ابن مسعود قولها، ثم استدرك أنه قد يحدث ذلك للطبيعة البشرية، فتكون زللاً ولا تؤثر على مقداره وجلالته.

الثناء على المجتهد والدعاء له قبل الإنكار عليه:
ومما يلحظ في الروايات السابقة كلها: تقديم الثناء على المجتهد، في المسائل الفرعية، والدعاء له، على بيان سبب خطئه وتصحيح ذلك الخطأ، ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فتوى لابن مسعود وقد خالف اجتهاده فيها: يرحم الله ابن مسعود، إن كان لفقيهاً!

ومما يصور طبيعة التواد بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل التي اختلفوا فيها ما وقع بين عائذ بن عمرو وأبي برزة رضي الله عنهما، فقد كان عائذ بن عمرو يلبـس الخز([78])، ويركب الخـيل، وكان أبو بـرزة لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، ويلبس ثوبين ممصرين، فأراد رجل أن يشي بينهما، فأتى عائذ بن عمرو فقال: ألم تر إلى أبي برزة يرغب عن لبسك وهيئتك ونحوك، لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، فقال عائذ: يرحم الله أبا برزة، من فينا مثل أبي برزة.. ثم أتى أبا برزة فقال: ألم تر إلى عائذ يرغب عن هيئتك ونحوك، يركب الخيل ويلبس الخز، فقال: يرحم الله عائذاً! ومن فينا مثل عائذ([79]).

وهذا الثناء على المخالف في مسألة معينة قبل بيان الصواب سمتٌ عند الأكابر والفضلاء في الأمة، فعن شريح القاضي أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيئ، فقال شريح: ((وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلَـٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:227)،لم يزده عليها.. فأتى مسروقاً فذكر ذلك له فقال: يرحم الله أبا أمية! لو أنا قلنا مثل ما قال لم يُفَرَّجْ أحد عنه وإنما أتاه ليفرج عنه، ثم قال: هي تطليقة بائنة وأنت خاطب من الخطاب([80]).

وهذا كقول الله جل جلاله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)) (التوبة:43) فقدم العفو على عتابه فيما فعل، وهذا يوضح لنا صورة الأدب الرفيع في التعامل مع الخطأ، وأن هذا الأدب لا يمنع من إنكار الخطأ مهما كان مقام العالم، وأن حدوث الاختلاف في الفتوى بين الأفاضل مع بقاء توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ووحدة صفهم مسألة بدهية في المجتمع المسلم يتقبلها العقل المسلم تلقائياً.

من أدب الشافعي في الخلاف:

للإمام الشافعي، في استيعاب واقعية الاختلاف في المسائل الاجتهادية مع بقاء الأخوة بحقوقها، أدب ونهج مستمد من نبع النبوة، فقد اختلف مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى الصدفي، ولكن الصدفي تحدث عن الشافعي واستيعابه لفقه الخلاف فقال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة»([81]).. ومدرسة الشافعي مليئة بالنماذج الفذة من هذا الوجه الذي يستوعب فقه الخلاف، ففي ترجمة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهو من تلامذته، ذُكِر تصانيفه ومنها: كتاب في الرد على الشافعي، وكتاب في الرد على فقهاء العراق... قال الذهبي: «وما زال العلماء قديماً وحديثاً يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفقه العالم وتتبرهن له المشكلات»([82]).
من أدب ابن حنبل في الخلاف:
ومن مدرسة ابن حنبل يُتَعلم كيفية استيعاب فقه الخلاف، فقد روى العباس بن عبد العظيم العنبـري (ت240هـ) قال: كنت عند أحمـد ابن حنبل وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، فتناظـرا في الشهـادة - أي الشهادة بالجنة للمبشرين بها- وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه([83]).
وأرسـل إبراهيم بن عبد العزيز إلى إبراهـيم النظام مالاً أحـوج ما يكون إليه، وقال له: إن كنا اختلفنا في المقالة-أي في الرأي والمذهب-فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية([84])، وقد رأيتك حيث مررت بي على حالٍ كرهتها، وينبغي أن تكون نزعت بك حاجة، فإن شئت فأقم بمكانك مدة شـهر أو شـهرين، فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زماناً من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون ديناراً فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر([85]).
فاستوعب أهل الفقه الخلاف، فلم تمنعهم الأخوة وطلب اجتماع المسلمين من الرد على بعضهم، وبيان أرائهم في صواب صاحبه وخطئه، ولم يؤد بهم الرد ولا الاختلاف في الاجتهاد إلى التنازع والتناحر والوقيعة فيما بينهم، وتمزيق عرى أخوتهم... وبقي بعضهم يثني على بعض.



خاتمة
لقد حاولت في ما سبق أن أعرض لجانب من الجوانب المهمة في الفقه الإسلامي، يكشف عن مدى ما يتوفر عليه من السعة والرحابة في اسـتيعاب الخـلاف من خلال هذه القاعدة الفقهية الجليلة: (لا إنكار في مسـائل الخلاف)، وأنها يجب أن توضـع في موضعها اللائق بها... كما حاولت أن أبيِّن أن هذا الاستيعاب إنما يتجسد في الاتساق التام بين هذه الثلاثية الفريدة من: إشاعة التقويم بأنواعه المختلفة، والتعامل الشرعي معه وفق أقسام مسائل الخلاف مع بقاء الأخوة الإسلامية، والمحافظة على صلاح ذات البين.

فالتقويم والنقد يعتبر في المجتمع الإسلامي معلماً شرعياً، وركيزة أساسية، وقيمة خلقية، سواء تمَّ من خلال النصح مع الستر والإسرار في الحالات الفردية أو الأفكار الشخصية، أو من خلال الإنكار مع الإظهار في حالة كون الخلل أفكاراً علنية أو أفعالاً مقتدى بها، وعدم استعلاء أيٍّ كان على النقد أو ترفعه، أو تكوين حساسياتٍ مفرطة إزاء ذلك، فضلاً عن مصادرة النقد أو التهجم على أصحابه أو الحط منهم بشتى الألقاب، مما يفعله بعض المتأخرين من محاولة محاربتهم في كل وادٍ وناد.. والتقويم والنقد هي القيمة التي يتباهى بها العالم اليوم، مع أنها كانت من أهم القيم التي اتضحت خلال مسيرة أمة الإسلام الحافل بجليل القيم والأعمال حتى اعترانا ما اعترانا من نبذ كثير من معالم الدين وراءنا ظهرياً، ثم كان الانبهار بالوافد، والانصهار فيه.

كما يتجسد هذا الاستيعاب في ظاهرة التطبيع التربوي على تقبل الخلاف نفسياً، والقبول بظاهرة تعدد الآراء، والاستيعاب النفسي لها، مع مناقشتها على درجات من التقويم والتسديد بحسب اقترابها من النص والمقاصد العامة والخاصة للتشريع، فكلما بعدت ازدادت حدة الإنكار في ظل حسن الظن، والأخوة الإسلامية، وهذا ما أرسته قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف)، مع تذكر أن الإنـكار قد يعلو إذا كان الخلاف بعيداً، أو ضعيفاً والنص ظاهراً في الدلالة محتفٌ بقرائن تدل على المراد.

ولا يعني ذلك انثلام عرى الأخوة بين المتناصحين، ولا انفراط عقد المحبة بين طرفي الإنكار، بل يزداد الصف المسلم صلابة وقوة وتماسكاً، وتبقى حقوق كل مسلم على أخيه المسلم وواجباته من المسائل القطعية التي لا تُصادرها المسائل الظنية المختلف فيها ما دام ذلك باقياً في ظل الأصول المعلومة.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعالم الثلاث وأكد عليها مجموعة في عدة أحاديث، منها ما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُـمْ ثَلاثًا: فَيَرْضَى لَكُـمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» الحديث([86])،
فقولـه: «أن تعتصموا بحبل الله جميعاً» يشير إلى أهمية عروة الأخوة الإسلامية، وقرنها بعبادة الله وحده لا شريك له.

وقولـه «بحبل الله ولا تفرقوا» يشير إلى ضرورة استيعاب الخلاف في النفسية المؤمنة، فلا يؤدي إلى التفرق بما أنه مسألة طبيعية، وغريزة فطرية، على أن يكون استيعابه من جهة الحفاظ على آدابه، وأخلاقه، مع التقويم المستمر الذي يعبر عنه النصح في الحديث في حال حدوث الخلاف على أمر ما بياناً لحبل الله الذي يعتصم به إن كان الخلاف ضعيفاً، واستيعاباً لعدم إثارته للتفرق إن كان الخلاف قوياً،وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»([87])، فجمـع بين النصح ولزوم الجماعة... والمراد جماعـة المسلميـن العامة، ولا ينبغي تنـزيلها على جماعة بعينها من المسلمين.

ومنها ما رواه أنـس رضي الله عنه أن الـنبي صلى الله عليه وسلم قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا؛ أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»([88])، وفي لفظ قال: « تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ»([89])، وفي رواية: «فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نُصْرَةٌ»([90]).

فقولـه صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك» ثبت حقيقة الأخوة الإسلامية قبل كل شيء، ثم على خطٍ موازٍ لها ومبينٍ لبعض حقائقها أمر بنصرة الأخ المسلم أياً كان: تلميذاً أو شيخاً أو حزباً أو جماعة أو أميراً أو مأموراً، وجعل من أهم حقائق نصرته أن يحجزه عن خطئه، وينهاه عن ظلمه وهذا هو التقويم للعوج، والنصح والإنكار مع بقاء حقوق الأخوة بل جعل هذا من حقوق الأخوة... وسمى الخطأ الذي يقع فيه أخوه المسلم ظلماً، لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، سواء كان قولاً أو رأياً أو فعلاً.

وقد تجسدت هذه المعاني التي تنطوي عليها هذه القاعدة في كثير من النماذج التطبيقية، التي تقدم بجلاء ووضوح صورة المجتمع الإسلامي الراشـد وهو يجمع بين هذه القيم الرفيعة، من مثل ما حـدث بين عمار بن ياسر وأبي موسـى الأشعري من جهـة، وبين عمر بن الخطاب وابن مسعود من جهة أخرى، رضي الله عنهم جمـيعاً، حيث أنكر عمار بن ياسر على عمر بن الخطاب فتواه بعـدم تيـمم الجنب، وأنـكر أبو موسى عـلى ابن مسعود الفتوى ذاتها، ودار بين الجميع حوار قمة في المثالية والواقعية:

عن شقيق قال: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْد ِاللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي؟ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (( لَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً )) (المـائدة:6)، فَقـَالَ عَبْدُ اللَّـهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا، قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِد الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا» فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ نَفَضَهَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟ وفي رواية: قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنْ شِئْـتَ، لِمَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ حَقِّكَ، لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا.. وفي رواية أخرى، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ ([91]).

وعلى الرغم من جلالة هذين الصحابيين: عمر وابن مسعود إلا أنه لم يؤخذ بقولهما في عدم صـلاة المسلم عند فقد الماء، وتُرك قولهما رضي الله عنهما، كما قال ابن عبد البر: «فلما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد ربه من معنى آية الوضوء بأن الجنب داخل فيمن قصد بالتيمم عند عدم الماء بقوله: (( فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ )) (المائدة:6)، تعلق العلماء بهذا المعنى ولم يعرجوا على قول عمر وابن مسعود، وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصح»([92]).

فلم يوجد تقديسٌ لشخصٍ بعينه، ولا احتج بعضهم على بعض بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، بل تم الإنكار، ولكن وجود الإنكار لم يقضِ على الخلاف، بيد أن أخوة الإسلام وحقوقها وواجباتها، ومعرفة كل ذي فضلٍ فضله بقيت لم تمس، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: «ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا، ولم يصيروا شيعاً، لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فما أُذِن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً، واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين، لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به... وكانوا مع هذا أهل مودةٍ وتناصحٍ، أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة... ودليل ذلك قوله تعالى: (( وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )) (آل عمران:103) فإذا اختلفوا، وتقاطعوا كان ذلك لحدثٍ أحدثوه من اتباع الهوى»([93])، «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا فى الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: ((إِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) (النساء:59)، وكانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين»([94]).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) مصطلح الاجتهاد يتسع ليشمل المسائل الخلافية، كما هو صنيع الغزالي، ومثله مصطلح الخلاف، الذي يشمل النوعين في المعنى العام، فالتفريق هنا اصطلاحي، لا لغوي.

([2]) إعلام الموقعين، 3/ 289.

([3]) وردت عبارة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) في عدد من المصادر مثل: دليل الطالب، ص46؛ منار السبيل،1/ 125؛ كشف القناع،1/ 479، وتقدمت في كلام الغزالي.

([4]) قد يُقال: كيف يبدأ البحث ببيان حكم المسألة الاجتهادية والمسألة الخلافية قبل التعريف، والجواب واضح في أن الحكم أشهر لشهرة القاعدة، والتعريف أخفى فبدأ بالأوضح، ثم انتقل إلى الأخفى…على أن تفصيل الحكم سيأتي لاحقاً، إن شاء الله تعالى.

([5]) انظر الموافقات، 4/155 .

([6]) الموافقات،4/155 .

([7]) إعلام الموقعين، 3/ 289 .

([8]) انظر في هذا الموضوع: الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر.

([9]) انظر ابن تيمية،30/ 80 .

([10]) أخرجه الطبراني في الأوسط، 4/ 335؛ وهو في مسند أبي حنيفة، ص160.

([11]) انظر الكامل للمبرد،1/ 179؛ والقصة رواها: البيهقي في سننه الكبرى،6/ 252؛ وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد،4/ 229، أن البزار أخرجها؛ وانظر تلخيص الحبير، 3/ 88، وليس فيها ذكر لقضاء أبي بكر، وذكروا بدلاً عنه ابن عباس.

([12]) انظر مدخل لترشيد العمل الإسلامي، ص23.

([13]) من النماذج التي يمكن إيرادها لتوضيح ذلك، أن أبا حنيفة اجتمع مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، كما حكى ابن عيينة، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه؟ فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، فقال الأوزاعي : كيف لم يصح وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه، فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود لشيءٍ من ذلك، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتقول حدثني حماد عن إبراهيم؟ فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون من ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر صحبة وله فضل صحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله، انظر فتح القدير، 1/ 318.

([14]) وكذلك عند الإمام الزركشي في المنثور فقد أقر هذه القاعدة محل البحث، ولكن بعبارة تدل على إقراره العملي بالتقسيم.

([15]) إعلام الموقعين، 3/ 287 .

([16]) انظر مدخل لترشيد العمل الإسلامي، ص24 .

([17]) مسلم 2/580.

([18]) مسلم، 1/ 159.

([19]) البخاري، 1/ 321 .

([20]) حلية الأولياء، 6/ 368؛ التمهيد،9/ 229 .

([21]) جامع بيان العلم وفضله،2/ 302 .

([22]) انظر مثلاً كشف القناع،1/ 479؛ منار السبيل،1/ 125.

([23]) وهذا مجرد اصطلاح اتبع فيه الباحث ما ظهر من عبارات الأئمة السابقين، ثم من حقق أقوالهم؛ إذ المراد من الاجتهاد هنا هو بذل الوسع في معرفة مراد الشارع في النازلة المعينة فيما ليس فيه نصٌ، أو إجـماعٌ، أو قـياسٌ جلي، أو فيما فيه عارضٌ من العوارض المذكورة أعلاه، والمراد بالخلافية ما دخـله الخلاف حـتى لو كان فيه نصٌ أو ادعي فيه إجماعٌ أو قياسٌ جلي، وهذا هو استعمال الفقهاء والعامة.

([24]) يشير إلى الإمام الحسن الجلال في كتابه (ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار).

([25]) يعني كتاب الأزهار في فقه الهادوية، والسيل الجرار حاشية عليه .

([26]) السيل الجرار،3/ 81 .

([27]) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية،24/ 173 .

([28]) البخاري، 5/ 2264 .

([29]) البخاري، 5/ 2247 .

([30]) مراعاة الخلاف، ص34 .

([31]) تاريخ بغداد، 13/ 352.

([32]) إيقاظ الهمم، ص21.

([33]) انظر تفصيل ذلك في: حجة الله البالغة،1/ 411.

([34]) سنن أبي داود، 2/150.

([35]) فصارت الشريعة بالمذاهب كشرائع متعددة متنافرة، لا بالمعنى الذي أراده السيوطي.

([36]) الموافقات،4/ 169.

([37]) إعلام الموقعين،2/ 204.

([38]) إعلام الموقعين،2/ 282؛ إيقاظ الهمم، ص58.

([39]) رد المحتار، 1/ 385.

([40]) الميزان، 1/ 141.

([41]) إعلام الموقعين، 3/ 289.

([42]) الثوابت والمتغيرات، ص5.

([43]) قواعد الأنام، 2/ 135.

([44]) الموافقات، 4/ 134.

([45]) وأدلة ذلك مبسوطة في مواضعها كقوله صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي » (أخرجه الترمذي)، 5/ 26؛ وانظر مجمع الزوائد، 1/ 156، 189.

([46]) الموطأ،1/ 173.

([47]) انظر تفسير القرطبي، 1/ 437.

([48]) الموافقات، 3/ 76.

([49]) مسند أحمد، 4/ 228؛ سنن الدارمي، 2/ 320.

([50]) ذكر هذه العبارة ابن قدامة في المغني،1/ 17؛ ويظهر أن ابن تيمية نقلها كما في الفتاوى في عدة مواضع مثل:22/ 252،30/ 80... والذكر على سبيل الإقرار.

([51]) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية،30/ 80.

([52]) النبذة الكافية، ص21 .

([53]) هـكذا! ولعل (صوابين) منصوبة بفعل مقدر، وتقدير الجملة: هذا لا يكون. لا يكون قولان مختلفان صوابين .

([54]) جامع بيان العلم وفضله،2/ 304؛ ونقله صاحب الموافقات، 4/ 129 .

([55]) الموافقات،4/ 130.

([56]) البخاري،1/368 ؛ مسلم،1/ 438.

([57]) أبو داود، 2/ 198.

([58]) فتاوى ابن تيمية،19/ 122.

([59]) يعني من يُذَكِّرُ بالنصوص .

([60]) السيل الجرار،3/ 218 .

([61]) انظر في هذه القاعدة: اللمع في أصول الفقه، ص130؛ البرهان،2/ 860؛ إرشاد الفحول، ص436؛ التبصرة، ص498.

([62]) شرح النووي على صحيح مسلم،2/ 23؛ وانظر قواعد الفقه،1/ 511 .

([63]) كشف القناع،1/ 479 .

([64]) انظر مثلاً روضة الناظر، 1/ 362؛ الإبهاج، 3/260 .

([65]) إرشاد الفحول، ص 437؛ ومثله كلام صاحب التبصرة، ص505؛ وانظر تفصيلاً جامعاً فيها: مجموع فتاوى ابن تيمية، 19/ 203.

([66]) أخرج البخاري في صحيحه «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».

([67]) إرشاد الفحول، ص 437؛ ومثله كلام صاحب التبصرة، ص505.

([68]) التبصرة، ص501.

([69]) المعتمد، 2/ 392.

([70]) لاحظ أن عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية إنما هو على الاجتهاد في ذاته لمن تأهل له، وأما نتيجة الاجتهاد فقد أنكر الصحابة بعضهم على بعض، والفقهاء بعضهم على بعض إنكاراً لم يتعد اللسان، وهذه كتب (الفروع) زاخرة بذلك، وهي تمثل صورة راقية تدل على مدى استيعاب الفئات الفقهية المختلفة للخلاف، وعدم خرم الأخوة الإسلامية بذلك .

([71]) المنثور، 2/140.

([72]) انظر تفصيل ذلك في: مراعاة الخلاف بحث أصولي، ص13 .

([73]) المنتقى شرح الموطأ،1/ 209 .

([74]) قواعد الأحكام،1/ 215.

([75]) مراعاة الخلاف، ص73.

([76]) موقف الأمة من اختلاف الأئمة، ص180.

([77]) من ذلك: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا، قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ، فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْـوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لا، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي (مسلم،4/ 1947).

([78]) في النهاية،2/ 28: \\\"الخزُّ المعروف أوّلا ثياب تُنْسَج من صُوف وإبْرَيَسم وهي مُبَاحة، وقد لَبسها الصَّحابة والتَّابعون فيكون النَّهى عنها لأجْل التَّشبُّه بالعجم، وَزِيّ المُتْرَفِينَ، وإن أريد بالخَزِّ النَّوعُ الآخر وهو المعروف الآن فهو حرام لأن جميعَه معمولٌ من الإبْرَيَسم وعليه يحمل الحديث الآخر قَومٌ يَسْتَحِلُّون الخَزّ والحرير\\\".

([79]) الطبقات الكبرى، 4/ 300.

([80]) الطبري، 2/ 430 .

([81]) سير أعلام النبلاء، 10/ 16 .

([82]) سير أعلام النبلاء، 12/ 500.

([83]) أدب الاختلاف، ص72؛ وانظر أمثلة أخرى في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 300.

([84]) أي شرف النفس والإنسانية، وأخلاق الرجال الأحرار أي الكرماء .

([85]) صفحات من صبر العلماء، ص220.

([86]) أخرجه مسلم.

([87]) الترمذي، 5/ 34؛ ابن ماجه، 1/ 84.

([88]) البخاري، 2/ 2550.

([89]) البخاري، 2/ 863.

([90]) أخرجه الدارمي.



([91]) أخرجه البخاري؛ ومسلم.

([92]) التمهيد، 19/ 274.

([93]) الموافقات، 1/ 187.

([94]) مجموع فتاوى ابن تيمية، 24/ 172.
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
بين حجية الإجماع.. ورحمة الاختلاف.

بين حجية الإجماع.. ورحمة الاختلاف.

بين حجية الإجماع.. ورحمة الاختلاف.

قد يُستدل على عدم الإنكار على المختلَف فيه بالقول الشهير: «إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة»، وهي قاعدةٌ عظيمة تناقلها علماء الإسلام.. كما قد يُستدل على ذلك بقول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غيره من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه».
وتنطوي هـذه القاعـدة على جوانب من الإيجاب والسلب، وفقاً لما نحن بصدده هنا، من ذلك:
1- هذه القاعدة كقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) سواء بسواء، تشتمل على معالم جليلة في الحياة الفقهية الإسلامية، غير أنها ليست على إطلاقها، وما قيل في تلك يُقال في هذه.
2- المراد من كون الاختلاف رحمة، ومن قول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله - إن صح عنه- هو السعة في جواز أصل الاجتهاد، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا حل لمن بعدهم…فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف؛ إذ قد يظهر النص لقوم ويغيب عن آخرين… ولا ينبغي لأحدٍ عنده قولان في مسـألة خـلافية - غير اجتهادية- أن يأخذ إلا بما يعضده الحَكَم الحق عند التنازع وهو النص قرآنياً كان أو نبوياً… قال ابن حزم، رحمه الله تعالى: «وإذا صح الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يحرم على من بعدهم ما حل لهم من النظر، وأن يمنعوا من الاجتهاد الذي أداهم إلى الاختلاف في تلك المسألة إذا أدى إنساناً بعدهم دليل إلى ما أدى إليه دليل بعض الصحابة»، وهذا صنيع ابن تيمية، وهو الذي أكد على الرحمة في الاختلاف، حيث كان يتوسع في المسائل الاجتهادية، وينكر في غيرها من الخلافيات على من خالف الدليل.
3- بل من العلماء من أنكر أن يكون (الاختلاف رحمة) مطلقاً، ومنهم بعض من نُسِب إليه القول المذكور؛ فقد رد الإمام مالك وغيره على ذلك فيما ذكره الشاطبي في قولـه: «وأما قول من قال إن اختلافهم رحمة وسعة فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. قيل له: فمن يقول: إن كل مجتهد مصيب. فقال: هذا لا يكون قولان مختلفان صوابين». ولو سُلِّم صحة هذا القول فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، أي أن المجتهد مصيبٌ بسلوكه طريق الاجتهاد، فهو حثٌ على الاجـتهاد، وعـدم الاتكال على الغير، وأن مسائل الخلاف قد جعل الله سبحانه وتعالى فيها سعةً بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك. قال القاضي إسماعيل: «إنما التوسعة في اختلاف أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسـعةٌ في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسـعة أن يقـول الإنسـان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا»، قال ابن عبد البر: «كلام إسماعيل هذا حسن جدا».
4- ومن محامل الكلام السابق، أن المراد به مسائل الاجتهاد في العبادات المحضة أو غير المحضة مما لم يظهر الدليل فيها بوضوح، أو تجاذبته الأدلة ومقاصد الشريعة الشريفة، وهذا ما يدل عليه عمل من قعد القاعدتين الواردتين في هذا المبحث، وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني جامعاً بين الأمرين:
وأخذي باختلافهـم مبـاحٌ لتوسيع الإله على الأنامِ
ولست مخالفاً إن صح لي عن رسول الله قولٌ بالكلامِ
الاجتهاد من مقاصد الشريعة:
ويؤكد ما سبق حقيقة هامةٍ من حقائق الشريعة، هي أن الاجتهاد من مقاصد الشريعة، وفي مسائله السعة، وأما الاختلاف الذي يؤدي للتنازع فلـيس مقصـوداً للشريعة، ولا هو من طبيعتها، فالشـريعة «لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمةً بين المختلفين فيها، وفي غيرها من متعلقات الدين، فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فلما جاءتهم مواضـع الاشـتباه وكلوا ما لم يتعلق به عملٌ إلى عالمه على مقتضى قوله تعالى: (( وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ )) (آل عمران:7)، و[لأن]الفِطَر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشـارع، فلـو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها، وهم القدوة في فهم الشريعة، والجري على مقاصـدها،لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الـدالة على ذم الاختلاف».
وقد أنكر الصحابة بعضهم على بعض في المسائل الاجتهادية من المسائل الخلافية، لكن الإنكار لم يتعد أن يكون باللسان، وقد يتسع بهذا الأسلوب إلى نوعٍ من التشهير غير القادح في صحة الدين، ولا التارك لحسن الظن بالمسلميـن، وهو ما صـارت أمم الأرض تفاخر به إن وجد عندها، وتدرجه تحت إطار النقد، وتعتبره قيمة إنسانية عليا، وحقاً من حقوق الإنسان في عـلاقته مع الآخر، دون أن يشـق ذلك على الآخر أو يعتبره تهجماً، أو قدحاً في العرض أو الدين، وتقدم بعض ما يدل على ذلك.
ومما يدل عليه أيضاً: ما جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِـيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّه عَنْه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْن،ِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ .. لكن عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا؟ قَالَ: الْخِلافُ شَرٌّ .
وتتجلى في موقف ابن مسعود رضي الله عنه، هنا، عدة آداب شرعية في كيفية التعامل مع المسائل الاجتهادية:
- إنكاره على عثمان رضي الله عنه في مسألة اجتهادية إنكاراً تشهيرياً على الرغم من أن عثمان هو أمير المؤمنين فلم يقل: حكم الحاكم ملزم، ولا المسألة اجتهادية، ولا لا ينبغي الإنكار خوفاً من الوقوع في التشهير، ولم يقل النصح يجب أن يكون سراً.
- إنكاره عليه الإتمام مع أن المسألة اجتهادية عند الصحابة أنفسهم؛ فإن عائشة وعبد الله بن مسعود ذاته وعثمان رضي الله عنه يرون أن القصر رخصة، وأن الإتمام مشروع، لكن ابن مسعود أنكر ترك السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في منى... فهذا إنكارٌ لترك سنة لا لفعل محظور.
- لم يتعد الإنـكار في هذه المسألة الاجتهادية هذا القدر، بل عاد ابن مسعود عملياً فتابع عثمان، وقال: الخلاف شر . وهذا يوضح بجلاء أن الصحابة كانوا ينـكرون على بعضـهم، ويخطئون الاجتهاد، لم يقولوا: لا إنكار في مختلفٍ فيه، ولا قالوا: الخلاف رحمة واسعة، بل ابن مسعود يقول: الخلاف شر.. ولم يقولوا: كل مجتهدٍ مصيب، بل خطَّأ بعضهم بعضاً في عددٍ من المسائل الفقهية (الفرعية).. ولم يجعلوا أحداً فوق النقد، ولكنهم لم يفسدو الأخوة العامة، وواجباتها القطعية بمثل هذه المسألة، بل بعد أن يبين أحدهم حجته، ويُظْهِرَ خطأ الآخر يبقي يقره على اجتهاده، بغض النظر عن مخالفته له في نتيجة هذا الاجتهاد «وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريقٍ للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك».
بيد أنه من المفارقات المؤلمة في الواقع الإسلامي المعاصر أن نشاهد صورتين طاغيتين:
الأولى: قـد ترى من يقوم بالنقد والتذكير الشرعي في مسألة فيها نص شرعي فإذا تمَّ التذكير به ثار المذكَّر على المذكِّر، وأشهر في وجهه سلاحاً قاطعاً لكل تذكيرٍ ونصحٍ وحوارٍ، هو سـلاح (المسألة خلافية) و(لا إنكار في مسائل الخلاف)…وقد تصادَرُ بمثل ذلك النصوص المعصومة ابتداءً، ويُصادَر العمل بمقتضاها تبعاً كما قال الشوكاني، رحمه الله تعالى: «وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)»، فتصـادر النصوص باسم أن الأفهام متغايرة، ولا بد من قبول الرأي الآخر .
الثانية: قد ترى من يقوم بالنقد والنصـح والتذكيـر والإنـكار بما يقتضيه الموقف، وبيان الأخطاء التي يجب أن تُتوقى في عملٍ إسـلامي أو فعل عام، أو اجتهاد خاطئ من قبل عالمٍ متبوع أو داعية مقلَّد... فيصادَر النصح، ويقمع التذكير، ويكبت الإنكار، ويُتَهمُ أصحابه بالجهالة والغرور والعمالة والفسق والفجور، والنفاق... إلى آخر المصطلحات القاتمة التي يعبث بها العابثون، فيتهمون الناقد بتوجيهها إليهم في حين يقومون بتسديدها له سهماً إثر سهم يقطعون أوصال الأخوة الإسلامية، ويقطعون أرحامهم... ويظهر بعضهم اقتفاء منهج السلف، وترك آثار من (تلف!)، ويظهر آخرون منهم أنهم أول المؤمنين بالحوار، والنابذين للصنمية الشخصية، وأفعالهم قد تبدي لنا غير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

من معالم استيعاب الاختلاف في التقعيد الفقهي
الناظر في الفقه الإسلامي، يلحظ مدى حفاوة أهل العلم بتقعيد قواعد متعددة لاستيعاب الخلاف استقاء من مقاصد الشريعة، ومن أهم هذه القواعد: قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) التي حاولنا مناقشتها ووضعها في مواضعها الحقة عند الاستشهاد بها فيما مضى.. ومن القواعد الأخرى المهمة التي وُضِعَتْ لاحتواء الخلاف خوفاً من أن يؤدي إلى التنازع، ولتكوين النفسية التي تقبل بوجوده وطبيعيته، بل وأهميته أحياناً، قاعدتان أخريان تذكران أحياناً في أصول الفقه وأحياناً في القواعد الفقهية وهما، «كل مجتهد مصيب»، و«استحباب الخروج من الخلاف».
أولاً: قاعدة (كل مجتهدٍ مصيب):
بُنيت قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) على قاعدة: (كل مجتهد مصيب).. يقول الإمام النووي، رحمه الله: «إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه»، وقال غيره: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد على من اجتهد فيها، وقلد مجتهداً، لأن المجتهد إما مصيب أو كالمصيب في حط الإثم عنه وحصول الثواب له».
والمقصد الأرشد والأسمى في وضع هذه القاعدة أمران:
الأول: هو الحفاظ على وحدة المسلمين، والنظر إلى أن مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ قطعي، بخلاف المسائل الفقهية الفرعية التي ينتمي كثير منها إلى دائرة الظنيات.
الثاني: الحث على الاجتهاد لمن يملك أدواته في محاولة الوصول إلى هدى الله في الوقائع النازلة.
وقد غلا بعضهم في هذه القاعدة، فزعم أنها تشمل المسلمين وغيرهم ممن عرف الإسلام وسمع به، وقامت حجته عليه.
غير أن هناك نزاعاً في أصلها، وقد اختلفت فيها أقوال الأصوليين حتى تشعبوا، ولكنهم، كما قال الشوكاني «لم يأتوا بما يشفي طالب الحق»، لذلك انتهى الشوكاني إلى أن الدليل البيِّن الذي يرفع النـزاع «ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، هو الحديث الثابت في الصحيح من طرق: أن « الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»، فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً، واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر...».
وقد كان الصحابة يُخَطِّيء بعضهم بعضاً في الاجتهادات، حتى في المسائل الاجتهادية، كما تقدم، وكما «روي أن علياً رضي الله عنه وابن مسعود وزيداً خطَّؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس: من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصـفاً وثلثاً. قد ذهب النصفان بالمال فأين موضـع الثلث؟ وروي عن ابن عباس أنه قـال: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً… وهذا إجماعٌ ظاهرٌ على تخطئة بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، فدل على أن الحق من هذه الأقوال في واحد وما سواه باطل» بل «كان ينكر بعضهم على بعض أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار من يجوز أنه من أهل النار، وإن كان غفرانه في الجملة مقطوع»، بل ثبوت أجره على الاجتهاد أمر بدهي في الشريعة الإسلامية.
لذلك يمكن القول: إن المراد بهذه القاعدة - حال التسليم بها- هو أن الاجتهاد صواب في ذاته لا في نتيجته، وقد يكون المراد صواب الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي لكل فيها حظٌ من النظر، لا في المسائل الخلافية، ولذا قـال الزركشي: «الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحـد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً فيه، وإنما ينكرون ما خـالف نـصاً أو إجماعاً قطعياً أو قياساً جلياً»، فهذا الذي قرره الزركشي هو مدار البحث، وهو متفق عليه لا يخالف فيه أحد، إنما يتفرقون في التعبير والتفصيل بعد ذلك…ولكن المحاكمة تكون إلى هذا الأصل.
كما يمكن القول: بأن الخلاف حولها لفظي عند الجمع بين النواحي التنظيرية والتطبيقية للفقهاء القائلين بها، لقيامهم بالإنكار على مخالفيهم في الاجتهاد في مسائل خلافية، وعند القول بأن المراد من أن كل مجتهد مصيب في أصل الاجتهاد، أو في رفع الإثم عنه وثبوت الأجر له، أو في الاجتهاد في مسألة اجتهادية محتملة.
وهذا كله يقود إلى أن المراد الأعظم من وضع هذه القاعدة: الحث على الاجتهاد، واستكثار الآراء في المسألة للمتأهلين من أجل الوصول إلى الهدى الرباني، وأن يجتمع المسلمون حول عاصم الأخوة، وحقائقها القطعية.
ثانياً: قاعدة (استحباب الخروج من الخلاف):
وخوفاً من أن يؤدي الاختلاف إلى التنازع، ويطغى على حقوق الأخوة الإسلامية، فإن أهل العلم قد وضعوا قاعدة أخرى تمثل تتميماً لقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) وذلك بالنظر إلى النصوص القطعية التي تمنع التنازع بين المسلمين وتحرمه، واعتبار ذلك أحد المقاصد الهامة للشريعة الإسلامية... فالاختلاف، مهما كان مبرره، هو بوابة التنازع، وهذه القاعدة هي: (استحباب الخروج من الخلاف).
وقد صارت (مراعاة الخلاف) قاعدة فقهية معتمدة وعُرِّفت بأنها: إعمال دليل ( المخالف) في لازم مدلوله الذي أُعْمِلَ في نقيضه دليلٌ آخر، أو يقال هي: اعتبار خـلاف (الغير) بالخروج منه عند قوة مأخذه بفعل ما اختلف فيه.
ومن أمثلة ذلك، أن الإمام مالك، رحمه الله، اختار أن يكون الوتر ثلاث ركـعات «لأن جماعة من أهل العلم يقولون الوتر ثلاث ركعات لا سلام فيها، فأراد مالك إبقاء الصورة إذ لم يجز عنده اتصالها».. والشافعية يستحبون مسح الرأس كله في الوضوء مع أنهم لا يقولون بوجوب ذلك مراعاة لخلاف المالكية.
وقسم العز بن عبد السلام الخروج من الخلاف إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل، كقراءة البسملة في الفاتحة فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي، وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن وكذلك مالك في أحد الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه... والضابط في هذا أن مأخذ المخالفة إن كان في غاية الضعـف والبعد من الصـواب فلا نظر إليه ولا التفات إليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن كانت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات.
ولكن الخلاف الذي يُراعى هنا هو ما كان في المسـائل الاجتهادية لا في كل خلاف، أي ما كان مأخذ المخالف فيما ذهب إليه قوياً بحيث لا يعد هفوة أو شذوذاً، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع فهو معدود في جملة الهفوات والسـقطات لا من الخلافيات المجتهدات، ومن ها هنا لم يراع خلاف أبي حنيفة رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين، وكذلك إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد.. ومنه أيضاً ما نقل عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية.
وإنما كان الحرص علىالخروج من الخلاف لسببين: خوفاً من احتمال التورط في نقيض مقصود الشارع بفعل ما هو خلاف الأولى مطلقاً؛ وللحاجة الماسة للأمة الإسلامية إلى تقريب وجهات النظر بينها، عسى أن تجتمع كلمتها، وتتحد صفوفها كأنها بنيان مرصوص.
فالاختلاف سواء كان اختلاف تنافٍ أو تضاد يؤدي إلى التنازع، بل إن اختلاف التنوع قد أدى إلى التنازع في صور قديمة ومعاصرة، فكيف إذا كان اختلاف تنافٍ؟
ومن المفاسد العظيمة التي يؤدي إليها التنازع مفسدتان: أولاهما: ظلم النصوص بوضعها في غير موضعها، ومصادرة ما عند كل طرفٍ من حق وباطل، وخطأ وصواب، لمجرد أنه ينتمي فكرياً إلى اتجاه إسلامي آخر، ثم يعقب ذلك أن تختار بعض هذه الاتجاهات من المذاهب والأقوال ما تشتهيه ويوافق هواها لا ما يوافق هدى الرحمن، والله تعالى يقول: (( وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ )) (ص:26)، ويقول: (( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ )) (المائدة:77).
وقد يزينون هذا الخطأ الكبير بالاستدلال بقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) أمام عامة أتباعهم، ثم يمارسون أقسى أنواع الإنكار في واقعهم العملي.
وثانيهما: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم بعضاً، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عن عمل لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم، لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يؤثرون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات، وإسناد الوظائف، وبذل المساعدات، وتيسير المعاملات، من يكون فاقداً لأهلية ما أُسند إليه، قوة وأمانة، ويحاربون القوي الأمين بغياً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، لمجرد الرغبة الشخصية في وجود شخص موافق لهم في كل صغير وكبير دون أدنى تقويمٍ أو نصح ٍحق، مكتفين بإلهاء أتباعهم بشيءٍ صوري من النصح والتذكير والإنكار.

من أخلاق الصحابة والسلف في الإنكار
استوعب الصحابة، رضوان الله عليهم، فقه الاختلاف، فلم يفسد الخلاف بينهم المعالم الإسلامية القطعية، مثل: الأخوة الإسلامية بحقوقها من حب ومودة ونصرة وتعاون، فأعملوا في ذلك قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) في موضعها فلم تمزق لهم وحدة، ولا شققت لهم أخوة.
ولم يتركوا النصح فيما بينهم والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ورد الخطأ، والتنبـيه عليه عندما يظهر في اجتهاد أحدهم، ولم يجعلوا قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) على إطلاقها تستعلي على النصوص، وعلى المحكمات الشرعية لمجرد ظهور خلاف فلان منهم فيها، مع التماس العذر له في خلافه من سهوٍ أو نسيانٍ أو عدم بلوغ دليل .
لقد تمت عملية تطبيعٍ تربوية للصحابة بشأن عدم التنافي بين الإنكار وبين بقاء عاصم الأخوة وحقوقها، وبقاء جلالة قدر كل من الطرفين عند الطرف الآخر.. لذلك فإن المتأمل في مواقف بعض الصحابة، مما ورد في ثنايا هذا البحث وأقوالهم وعباراتهم التقويمية في الإنكار، بعضهم على بعض، وأساليبهم الراقية في التعامل مع الخـلاف، يخـلص إلى مـا يأتي مما يمكن تسميته، «آداب التذكير والإنكار في المسائل الاجتهادية»:
1- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يتقن حفظه، فيبين الآخر أن هذا هـو عذره، وهذا كما قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها، في ابن عمر رضي الله عنهما: رحم الله أبا عبد الرحمن! سمع شيئاً فلم يحفظه.
2- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يفهم كيفية الجمع بينه وبين نصٍ آخر إلا بهيئة غير صحيحة، كما حاول ابن عمر الجمع بين أن تكون آخر صلاته من الليل وتراً، وبين حبه التنفل إن قام من نومه، فيضيف إلى الوتر في أول الليل ركعة أخرى لتصبح شفعاً، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الإنكار عليه: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليلعب بوتره.
3- قد يسمع المرء النص فلا يورده على أصل ما سمعه، إما لنسيان وإما لخطأ، وفي ذلك قالت السيدة عائشة في ابن عمر رضي الله عنهم: غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
4- قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه يحفظ بعضه ويترك بعضه دون شعوره أو لطارئ حدث أثناء الحديث.. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة! حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره.
5- قد يغفل المرء عن النص لعدم علمه به، فيفتي على خلافه، وفي ذلك تقول السـيدة عائشـة رضي الله عـنها: يرحـم الله أبا هريرة لم يحفظ... وقد رجع أبو هريرة إلى فتواها لما بلغه النص.
6- قد يذكر المرء النص دون أن يبين معناه فيقع السامع في حيرة لتعارض ظاهر ما سـمع مع نصـوص أخرى.. تقول السيدة عائشة في ابن مسعود رضي الله عنهم: يرحم الله أبا عبد الرحمن حدثكم بحـديث لم تسألوه عن آخره.
7- قد يستلزم الإنكار نوعاً من التذكير بأهم الحقائق الإسلامية وهي التحاكم إلى الله ورسوله، وترك غيرهما ولو كان من أفضل الخلق...وذلك لتثبيت حقيقة الاستسلام لله وحكمه لا لظن أن العالم يخالف قول الله عمداً، ومن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما منكراً على اجتهادٍ لأبيه: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ذلك ابنه سالم فقال في مسألة شبيهة: «فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ بها من قول عمر»، ومثل ذلك قال في ابن عباس رضي الله عنهما: فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباسٍ إن كنت صادقاً؟
8- قد يكون العذر لمن أخطأ في الفتوى عدم تركيزه أثناء الإفتاء لعارض طارئ مما لا يخلو منه المرء أحياناً، كما قـال ابن عمر في أنس ابن مالك، رضي الله عنهم: يرحم الله أنساً، وهل أنس.
9- قد يكون سبب الخطأ في الفتوى زلل العالم، وذلك لا يخل منه أحد.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم..وهنا استبعد على ابن مسعود قولها، ثم استدرك أنه قد يحدث ذلك للطبيعة البشرية، فتكون زللاً ولا تؤثر على مقداره وجلالته.
الثناء على المجتهد والدعاء له قبل الإنكار عليه:
ومما يلحظ في الروايات السابقة كلها: تقديم الثناء على المجتهد، في المسائل الفرعية، والدعاء له، على بيان سبب خطئه وتصحيح ذلك الخطأ، ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فتوى لابن مسعود وقد خالف اجتهاده فيها: يرحم الله ابن مسعود، إن كان لفقيهاً!
ومما يصور طبيعة التواد بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل التي اختلفوا فيها ما وقع بين عائذ بن عمرو وأبي برزة رضي الله عنهما، فقد كان عائذ بن عمرو يلبـس الخز، ويركب الخـيل، وكان أبو بـرزة لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، ويلبس ثوبين ممصرين، فأراد رجل أن يشي بينهما، فأتى عائذ بن عمرو فقال: ألم تر إلى أبي برزة يرغب عن لبسك وهيئتك ونحوك، لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، فقال عائذ: يرحم الله أبا برزة، من فينا مثل أبي برزة.. ثم أتى أبا برزة فقال: ألم تر إلى عائذ يرغب عن هيئتك ونحوك، يركب الخيل ويلبس الخز، فقال: يرحم الله عائذاً! ومن فينا مثل عائذ.
وهذا الثناء على المخالف في مسألة معينة قبل بيان الصواب سمتٌ عند الأكابر والفضلاء في الأمة، فعن شريح القاضي أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيئ، فقال شريح: ((وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلَـٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:227)،لم يزده عليها.. فأتى مسروقاً فذكر ذلك له فقال: يرحم الله أبا أمية! لو أنا قلنا مثل ما قال لم يُفَرَّجْ أحد عنه وإنما أتاه ليفرج عنه، ثم قال: هي تطليقة بائنة وأنت خاطب من الخطاب.
وهذا كقول الله جل جلاله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)) (التوبة:43) فقدم العفو على عتابه فيما فعل، وهذا يوضح لنا صورة الأدب الرفيع في التعامل مع الخطأ، وأن هذا الأدب لا يمنع من إنكار الخطأ مهما كان مقام العالم، وأن حدوث الاختلاف في الفتوى بين الأفاضل مع بقاء توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ووحدة صفهم مسألة بدهية في المجتمع المسلم يتقبلها العقل المسلم تلقائياً.
من أدب الشافعي في الخلاف:
للإمام الشافعي، في استيعاب واقعية الاختلاف في المسائل الاجتهادية مع بقاء الأخوة بحقوقها، أدب ونهج مستمد من نبع النبوة، فقد اختلف مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى الصدفي، ولكن الصدفي تحدث عن الشافعي واستيعابه لفقه الخلاف فقال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة».. ومدرسة الشافعي مليئة بالنماذج الفذة من هذا الوجه الذي يستوعب فقه الخلاف، ففي ترجمة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهو من تلامذته، ذُكِر تصانيفه ومنها: كتاب في الرد على الشافعي، وكتاب في الرد على فقهاء العراق... قال الذهبي: «وما زال العلماء قديماً وحديثاً يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفقه العالم وتتبرهن له المشكلات».
من أدب ابن حنبل في الخلاف:
ومن مدرسة ابن حنبل يُتَعلم كيفية استيعاب فقه الخلاف، فقد روى العباس بن عبد العظيم العنبـري (ت240هـ) قال: كنت عند أحمـد ابن حنبل وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، فتناظـرا في الشهـادة - أي الشهادة بالجنة للمبشرين بها- وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه.
وأرسـل إبراهيم بن عبد العزيز إلى إبراهـيم النظام مالاً أحـوج ما يكون إليه، وقال له: إن كنا اختلفنا في المقالة-أي في الرأي والمذهب-فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية، وقد رأيتك حيث مررت بي على حالٍ كرهتها، وينبغي أن تكون نزعت بك حاجة، فإن شئت فأقم بمكانك مدة شـهر أو شـهرين، فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زماناً من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون ديناراً فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر.
فاستوعب أهل الفقه الخلاف، فلم تمنعهم الأخوة وطلب اجتماع المسلمين من الرد على بعضهم، وبيان أرائهم في صواب صاحبه وخطئه، ولم يؤد بهم الرد ولا الاختلاف في الاجتهاد إلى التنازع والتناحر والوقيعة فيما بينهم، وتمزيق عرى أخوتهم... وبقي بعضهم يثني على بعض.[/COLOR]
 
إنضم
2 نوفمبر 2008
المشاركات
4
التخصص
دراسات اسلامية
المدينة
صنعاء
المذهب الفقهي
متحرر
بارك الله في يمينك التي كتبت هذا ونقلته إلى هنا يا شيخنا العزيز ، فالشيخ عبد السلام المجيدي من مشائخنا الأفاضل في جامعة الأندلس التي نحن ندرس فيها ، وقد كان يدرسنا هو في أول سنة ، لكني لم أعرف كتابه هذا إلى الآن ، فجزاك الله كل خير يا شيخ محمد السعيدي .
 
أعلى