العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

عرض لكتاب" وصف المحلى" للشريف أبي محمد الحسن الكتاني

إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي


هذا كتاب "وصف المحلى" للشريف الحسن الكتاني، والكتاب تحدث فيه مؤلفه عن كتاب "المحلى" وتحدث عن مؤلف الكتاب أبي محمد علي بن حزم -رحمه الله.
سأنزله على سلسلة هنا تباعاً إن شاء الله.



"مقدمة الكتاب"

الحمد لله رب العالمين.. صلواته وسلامه على المبعوث رحمة للثقلين، محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن سلك مسلكهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد، فهذا بحث صغير على كتاب " المحلَّى" للإمام الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري، رحمه الله تعالى، دعاني إلى كتابته حبّي له ولكتابه هذا خاصة، لما حواه من علم جم وتشدد في الاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
>> ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلماء، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه>>.
هذا، وقد ورثت هذا الحب عن جدّي العلامة الشريف محمد المنتصر الكتاني شفاه الله تعالى، وراثة قناعة وفهم لا تقليد جاهل غر، والله يجازي علماء المسلمين ويتجاوز عن زلاتنا أجمعين.
وقد قسمت هذا البحث المختصر إلى بابين:
الأول : ويتعلق بالكلام المجمل عن الكاتب والكتاب، وفيه خمسة فصول.
الثاني : تفصيل الإجمال عن " المحلّى" وضرب الأمثال المختصرة لمباحثه، وفيه تقويم للكتاب ونقد له.
وأسأل الله أن يكون عملي هذا مخلصاً له سبحانه موفقاً في مباحثه، وما رأيت من صواب فمن الله تعالى، وما رأيت من خطأ فمني ومن الشيطان والله المستعان وعليه التكلان وبه التوفيق.
وكتب : الحسن بن علي بن المنتصر الكتاني
عفا الله عنه تعالى بمنه​
 
التعديل الأخير:

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
جزاك الله خيراً
اختيار طيب
تسجيل متابعة
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
الباب الأول
1 - ترجمة موجزة لأبي محمد بن حزم.
هو الإمام المحدث الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل الأندلسي القرطبي الأموي مولاهم.
ولد بقرطبة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وسمع من جماعة بعدما تربّى وتأدب وسمع الشعر وتعلم القراءة والكتابة على يد النساء.
فسمع من أبن وجه الجنة وابن الجسور وحمام بن أحمد القاضي وأبي عمر الطلمنكي ناصر السنة، وتدبج مع حافظ المغرب أبي عمر بن عبد البر، رحمهم الله تعالى.
وحدث عنه ولده الشهيد أبو رافع والحافظ أبو عبد الله الحميدي صاحب " جذوة المقتبس" وغيرهما.
وقد عاش ابن حزم أول حياته مترفاً منعماً في قصر الوزارة، إذ كان والده وزيراً في دولة المنصور بن أبي عامر أواخر الدولة المروانية بالأندلس، وخلف هو والده كذلك في الوزارة، ثم زهد في كل ذلك وانصرف بكليته للعلم والدعوة إلى العمل به.
ولم يقتصر على العلوم الشرعية بل طلب علوم الأوائل كذلك. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: >> وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك>>.
وقال: >> قيل إنه تفقه أولاً للشافعي ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب>>.
وأول سماعه من أبي عمر أحمد بن الجسور في حدود سنة 400 هـ وهي السنة التي يتأهل فيها الطالب لأخذ العلم بعد حفظه للقرآن وتأدبه.
قال جدي، سلمه الله تعالى: >> فتكون السن التي ابتدأ فيها ابن حزم دراسة الحديث والفقه هي عمر الغلام اليافع: سن الخامسة عشرة  وأين هذا من عمر رجل في الثامنة والعشرين؟ وإن بين السنين والعمرين لمفاوز تتيه فيها القطا، ويعيش فيها جيل  >>.
قلت : وإنما ذكرت هذا ردّاً على من زعم أنه ما طلب العلم إلا عن كبر لقصة ذكروها في ذلك ليس هذا مجال إيرادها.
وقال العلامة أبو زهرة، رحمه الله تعالى، بعد كلام عن طلب ابن حزم للعلم: << لذلك لا نستطيع أن نقبل مثل هذه الأخبار كابتداء لتعلم ابن حزم الفقه، لأنها في ذاتها موضع نظر، لأنها تناقض سياق حياته، ولأنها فيما يظهر قد دخلها التصحيف>>. وأطال الكلام، رحمه الله تعالى، في توجيه مسألة بداية طلب ابن حزم للعلم بما لم يسبق إليه.
هذا، وقد أوذي ابن حزم بسببين : سياسي وعلمي.
فأما السياسي فلمناصرته للدولة الأموية المروانية بالأندلس وتأييده لشرعيتها بالأدلة الشرعية، فنقم عليه ملوك الفتنة والطوائف وانتقل من سجن لآخر في محن طويلة ذكر هو نفسه طرفاً منها في "طوق الحمامة".
وأمّا العلمي فلمخالفته لفقهاء المالكية المقلِّدين، وتشنيعه عليهم وتشدده في ذلك، بل بلغ به الحال في ذمِّه للتقليد الذي كان قد انتشر في زمانه انتشاراً كبيراً أن عنف على المتقدمين والمعاصرين.
قال الذهبي : << ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسبَّ وجدَّع فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت..>>.
واتهم ابن حزم أعداؤه بأنه لم يتأدب على المشايخ ولم يأخذ العلم على أهله، وبأنه كان به مرض عصبي. وكل ذلك من تعصبهم عليه، ولعمر الله أي تربية وتأديب خير من تأديب النساء الناعمات إلى عمر البلوغ، ثم إنه معروف أنه كان لابن حزم شيخ مؤدب يدعى الفارسي.
هذا ناهيك عن مشيخته الذين روى عنهم وتفقه على يدهم كل واحد منهم إمام في العلم والعمل.
قال رحمه الله تعالى:
قالـــــــوا تحفَّظْ فإن الناس قد كثـُـرت........أقـوالـهـم، وأقاويل الــورى مـِحــــــنُ
فقـلـت: هــــل عيبهم لي غـير أنـّـيَ لا......أقـول بالــرأي إذ في رأيهــم فـــــتــــنُ
وأننـي مـولـع بالـنـصِّ لـسـت إلــــــــــــى......سواه أنـحـو ولا فـي نصــــــره أهِـنُ
لا أنـْثـَنـي لـمـقايـيـسٍ يـقـال بــهـــــــــــــــا.......في الدين بل حسبيَ القرآنُ والسـننُ
يا برد ذا القول في قلبي وفي كبــــــــدي...... ويا سـروري به لـو أنهـم فـطِنـــــــوا
دعهم يعضُّوا على صَمّ الحصى كمداً...... من مات مِن قوله عندي له كفــــنُ*

وأقول : سأناقش بحول الله تعالى عنف ابن حزم في نقد "المحلى". والله المستعان.
وإذا كان أعداء ابن حزم حُرموا معرفة حقّه وقدره، فقد عرفه المنصفون وأتباع الحق.
قال أبو حامد الغزالي، حجة الإسلام رحمه الله تعالى، <<وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً ألفه أبو محمد ابن حزم، يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه>>.
وقال تلميذه وحامل راية مذهبه من بعده الحافظ الحميدي: << كان ابن حزم حافظاً للحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه>>.
وقال أبو القاسم صاعد بن أحمد: << أقبل على علوم الإسلام حتى نال من ذلك ما لم ينله أحد بالأندلس قبله >>.
ووصفه الحافظ الذهبي ب<< الإمام الأوحد، البحر ذو الفنون والمعارف، أبو محمد >>. وقال: << كان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة ومصنفاته مفيدة. وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكِبّاً على العلم.. >>.
وقال اليسع الغافقي: << أما محفوظه فبحر عجاج، وماء ثجاج، يخرج من بحره مروج الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين وأربى على أهل كل دين >>.
ووصفه الحافظ ابن حجر بأنه : << كان واسع الحفظ جداً >>.

قلت: ولم يخرج ابن حزم من الأندلس، ولو خرج لكان له أمر آخر، قال رحمه الله:

أنــــا الشمــس في جو العـــلوم مـنــيرةٌ..........لكـنَّ عيــبي أن مـطـلــــعيَ الـــغــــــــــربُ
ولــو أنـني مـن جـانـب الـشـرق طــالعٌ .........لجـدّ عـلي ما ضـاع مـن ذكـرىَ النـهْبُ
ولي نـحوَ أكـنـاف العـــــراق صَـــبابــةٌ......... ولا غروَ أن يستوحش الكَلِفُ الصـبُّ
فـإن نــزَّلَ الرحمـن رحــليَ بيـنــهـــــــم........ فـحـيـنـئذ يـــبـدو التأسـف والـــكـَــرْبُ
هـــنالك يُـــــــدري أن للبـعـد قـصـــةً...........وأن كــــــسـاد الـــعــلـم آفـتُـهُ الـــــقُــــرْبُ

قلت : رحمك الله يا أبا محمد، صدقت في قولك، ولكن الله تعالى علم جميل قصدك فوفق من أراد به الخير للاستفادة من كتبك.
ولابن حزم مصنفات حافلة في جملة من العلوم بلغت حوالي الأربعمائة. أهمها: " الإحكام في أصول الأحكام" و" الفصول في الملل والنحل" و" الإيصال" و" المحلى" وكتب عديدة في الرد على اليهود والنصارى والدفاع عن الإسلام بأقوى حجة.
وتوفي رحمه الله تعالى في بادية لبلة منفياً مكباً على العلم سنة 456هـ. رضوان الله تعالى عليه.
يتبع إن شاء الله
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
ما شاء الله تبارك الله
عيني عليك باردة
هذه الرسالة على وجازتها فهي نافعة جداً لاسيما مَنْ أبصر قدر ابن حزم رحمه الله وإشرافه في العلم.
جزاك الله خيرا أخي أبا عبد الله
لقد حلّقتَ بي بعيدا إلى حيث كان ابن حزم
وإلى الزمان الذي كان فيه ابن حزم
فذكّرتني والذكرى تهيج بالفتى.....
أنــــا الشمــس في جو العـــلوم مـنــيرةٌ..........لكـنَّ عيــبي أن مـطـلــــعيَ الـــغــــــــــربُ
ولــو أنـني مـن جـانـب الـشـرق طــالعٌ .........لجـدّ عـلي ما ضـاع مـن ذكـرىَ النـهْبُ
ولي نـحوَ أكـنـاف العـــــراق صَـــبابــةٌ......... ولا غروَ أن يستوحش الكَلِفُ الصـبُّ
فـإن نــزَّلَ الرحمـن رحــليَ بيـنــهـــــــم........ فـحـيـنـئذ يـــبـدو التأسـف والـــكـَــرْبُ
هـــنالك يُـــــــدري أن للبـعـد قـصـــةً...........وأن كــــــسـاد الـــعــلـم آفـتُـهُ الـــــقُــــرْبُ
 
التعديل الأخير:
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
يواصل الحديث العلامة أبو محمدالكتاني في كتابه هذا عن " المحلى" مستعرضاً في هذا المبحث المذهب الظاهري الذي ينتمي إليه صاحب المحلى، وعن تأسيسه ومراحل تطوره.
يقول رحمه الله:


2 - ذكر المذهب الظاهري وتطوره

اعلم - رحمك الله تعالى- أن أول متكلم بهذا المذهب وناشر لوائه هو الإمام أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني، رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 270 هـ. وكان هو معدوداً في أصحاب الشافعي، وصنف المصنفات الجليلة في فضائله حتى وصفه الإمام أبو إسحاق الشيرازي بقوله: << وكان من المتعصبين للشافعي >>.
ولما ذكر القاضي عياض، رحمه الله تعالى، انتشار المذاهب في البلدان قال: << وغلب على بلاد فارس مذهب داود >>. ثم قال: << وكان بالقيروان قوم قلة في القديم أخذوا بمذهب الشافعي ودخلها شيء من مذهب داود >>.
وقال عن الأندلس: << وأدخل بها قوم من الرحالين والغرباء شيئاً من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود فلم يمكنوا من نشره، فمات بموتهم على اختلاف أزمانهم >>.
ومن أئمة المذهب ورجاله أبو بكر محمد بن داود، أحد الأذكياء العلماء الأدباء، وله مصنفات عديدة في المذهب الظاهري ونصرته. وقتل سنة 295 هـ، وهو ابن داود بن علي كما ترى.
ومنهم أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المغَلس البغدادي، وإليه انتهت رياسة أصحاب داود في بغداد وقته. أخذ عن أبي بكر بن داود وصنف العديد من الكتب في الفقه وغيره. توفي سنة 324 هـ.
ومنهم أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخرزي ألصبهاني، النظّار القاضي، وعنه أخذ فقهاء بغداد مذهب الظاهر. توفي سنة 391 هـ.
ومنهم أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل، أبو بكر الشيباني الإمام الحافظ الكبير قاضي أصبهان.
قال أبو نعيم الحافظ: << كان ظاهري المذهب>>.

وقال ابن الأعرابي: << فأما ابن أبي عاصم فسمعت من يذكر أنه كان يحفظ لشقيق البلخي ألف مسألة، وكان من حفاظ الحديث والفقه، وكان مذهبه القول بالظاهر وترك القياس>>.
قلت: وكان إمام سنة فهو مصنف "السنّة" في نصرتها والذب عنها على طريقة السلف. وتوفي رحمه الله تعالى سنة 287 هـ.
ومنهم عبد المؤمن بن خلف، أبو يعلى التميمي النسفي، الإمام الحافظ، سمع من أبي حاتم الرازي وطبقته.
قال الحافظ ابن عبد الهادي: << وكان من علماء الظاهرية، أخذ الكتب عن محمد بن داود الظاهري وكان شديد الحب للآثار، صالحاً ناسكاً >>.
قلت: وكان صلباً في السنة شديداً على المبتدعة، توفي سنة 346 هـ بنسف رحمه الله تعالى.
ومنهم أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي. الفقيه البليغ والخطيب الجريء وكان إمام قرطبة بل والأندلس في زمانه علماً وأمانة وزهداً وذا مكانة عند الناصر الأموي.
وكان ظاهرياً ساعياً بجد في نشر مذهبه. توفي سنة 355 هـ وهو من تلاميذ الإمام ابن المنذر رحمهما الله تعالى.
ومنهم أبو الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت الأندلسي.
قال الضبي: << مسعود فقيه عالم ظاهري يميل إلى الاختيار والقول بالظاهر ذكره أبو محمد بن حزم، وكان أحد شيوخه >>.
قلت : أثر أبو الخيار في ابن حزم تأثيراً غيّر مجرى حياته فهو شيخه في الفقه الظاهري وتوفي رحمه الله تعالى سنة 426 هـ.
وظهر بعد هذا أبو محمد بن حزم القرطبي فحمل لواء المذهب وجادل عنه أشد المجادلة. وفي الحقيقة فإن ابن حزم هو المنظر الحقيقي للمذهب الظاهري أصولاً وفروعاً ولولاه لما عرف هذا المذهب ألبتة.
وقد كان له تلامذة أخذوا بقوله وانشر مذهبه بعد وفاته رحمه الله تعالى. والدليل عليه ما قاله أبو بكر بن العربي المالكي عن الظاهرية - وما أنصف-: << هي أمة سخيفة تسورت على مرتبة ليست لها، وتكلمت بكلام لم تفهمه، تلقوه عن إخوانهم () الخوارج وكان أول بدعة لقيت في رحلتي القول بالباطن، فلما عدت وجدت القول بالظاهر قد ملأ به المغرب سخيف من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم ()>>.
والشاهد هو أن مذهب ابن حزم انتشر بعده في المغرب أما جملة ابن العربي الظالمة فسيأتي بيان ما فيها.
فمِن أصحاب ابن حزم الخلص الأوفياء الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي الأندلسي صاحب " جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس" وغيرها من المصنفات المفيدة.
وقال عنه أبو عامر العبدري فيما روى عنه الحافظ السلفي: << لا يُرى قط مثله، وعن مثله لا يسأل. جمع بين الحديث والفقه والأدب ورأى علماء الأندلس. وكان حافظاً >>.
قلت : فرّ الحميدي للمشرق لمّا ضيق على شيخه وشدد على أصحابه فنفع الله تعالى به وعرف فضله رحمه الله تعالى. توفي سنة 488 هـ ودفن ببغداد.
ومنهم - أي الظاهرية - الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون العبدري الأندلسي. ولد بقرطبة وسكن بغداد وبها مات سنة 524 هـ.
ومن تلاميذ الحميدي الحافظ المكثر الجوال محمد بن طاهر المقدسي المتوفى سنة 507 هـ.
قلت : تبنت دولة بني عبد المومن المسماة بدولة (الموحدين) بالمغرب الأقصى مذهب الظاهرية وغلت في ذلك فأمر يعقوب المنصور بإحراق كتب الفروع والمعاقبة على وجودها أو الاهتمام بها وكان من علماء ذلك الوقت أبو الخطاب بن دحية وابن عربي الأندلسي وكلاهما كانا على مذهب الظاهرية.
ثم إن هذا المذهب اضمحل شأنه وانقرض إلا في النادر جداً لعدة أسباب سيأتي ذكرها بإيجاز شديد إن شاء الله تعالى.
ومع هذا في زماننا ظهر الاهتمام بآثار ابن حزم ومصنفاته، وأعجب الناس بالعديد من اختياراته. والعديد من أهل الحديث المعاصرين يهتمون بمذهب ابن حزم ويعجبون به.
فممن تأثر به في الغرب آل الصديق الغماريون وخاصة الشريف محمد الزمزمي رحمه الله تعالى.
وفي الجزيرة العربية يوجد علمان في الأدب واللغة والعلم يتظاهران بمذهب ابن حزم هما أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وأبو تراب الظاهري.
وفي اليمن أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي الذي كان زيدياً ثم انتمى إلى السنة وأخذ بالظاهر ونفى القياس وله جماعة يتبعونه.
فهذا ما ظهر لي من تطور المذهب الظاهري. أما سبب عدم انتشاره فعدة أسباب أجملها فيما يلي:
1 - أنه مذهب يشدد في تحريم التقليد وإيجاب الاجتهاد، فيحتاج إلى علماء حفاظ فحول دائمي البحث والفكر، وهذا أمر تتقاصر عنه همة غالب الناس.
2 - أنه لم يجد دولة تنصره وتقوم به، ولما نصرته دولة بني عبد المومن ازدهر لكن عنف الدولة وانغراس مذهب مالك في نفوس المغاربة جعل جهود الحكام تذهب هباء منثوراً بعد زوالها، خاصة وباقي دول المغرب رجعت لمذهب مالك رحمه الله تعالى.
3 - عنف ابن حزم مع المخالفين نفر منه الناس.

وأقول : إن المذهب الظاهري ليس ببدع من المذاهب بل هو مذهب من مذاهب أهل الحديث، نضر الله وجوههم، إلا أن أصحابه جمدوا على أمور ما كان لهم أن يجمدوا عليها.
" وقد نقل عن الحافظ ابن حجر أن أبا حيان كان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه.
" قال الإمام الشوكاني - في "البدر الطالع" بعد نقله: << ولقد صدق في ذلك؛ فمذهب الظاهر، أي العمل بظاهر الكتاب والسنّة، هو أول الفكر وآخر العمل عند من منح الإنصاف ولم يرد على فطرته ما يغيرها. وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابر العلماء المقتدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداود واحد منهم. وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله.

<< وبالجملة، فمذهب الظاهر، وهو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات وعدم التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليها بوجه من وجوه الدلالة وأنت إذا أمعنت في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من مذهب الظاهر بعينه بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم الاجتهادية كما ينبغي ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهرياً، أي عاملاً بظاهر الشرع منسوباً إليه لا إلى داود الظاهري فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة، وهذه النسبة هي مُساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل الصلوات والتسليم.
وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه أشار ابن حزم بقوله:
وما أنا إلا ظــاهـري وإنـــني ......على ما بدا حتى يقوم دليل>>.
يتبع إن شاء الله​
 
التعديل الأخير:
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
- أصول كتاب المحلى

" المُحَلَّى" واحد من أربعة كتب صنفها ابن حزم في أحكام الحلال والحرام.
أكبرها كتاب أسماه "الإيصال إلى فهم الخصال" شرح فيه بتفصيل وبسط كتابه الآخر " الخصال الحافظ لجمل شرائع الإسلام". قال ابن حزم عن كتابه "الإيصال" : << كل ما روي في ذلك - من نصوص القرآن والسنة والإجماع - من أربعمائة عام ونيف وأربعين عاماً من شرق الأرض إلى غربها، قد جمعناه في كتابنا الكبير المعروف "الإيصال">>.اهـ
وقال تلميذه الحافظ الحميدي :
<< أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين في مسائل الفقه والحجة لكل طائفة وعليها والأحاديث الواردة في ذلك من الصحيح والسقيم بالأسانيد وبيان ذلك وتحقيق القول فيه >>.
وقال القاضي صاعد الأندلس عنه في "أخبار الحكماء" إنه رآه في أربعة وعشرين مجلداً بخط ابن حزم نفسه، فقال: <<وكان في غاية الإدماج <<.
قال الحافظ الذهبي: << كتاب "الإيصال" في خمسة وعشرين ألف ورقة >>.
ثم أوسط هذه الكتب كتاب " الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام" وذكر الذكر عنه أنه في مجلدين.
وأصغرها " المجلى" وهو مسائل فقهية مختصرة. كأنه متن في الفقه الظاهري على اجتهاد أبي محمد رحمه الله تعالى.
أما " المحلى" فهو شرح ل" المجلى".
قال ابن حزم :
<< وفقنا الله وإياكم لطاعته، فإنكم رغبتم أن نعمل للمسائل المختصرة التي جمعناها في كتابنا الموسوم ب "المحلى" شرحاً مختصراً أيضاً. نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار، ليكون مأخذه سهلاً على الطالب والمبتدئ، ودرجاً إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف، وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه، والإشراف على أحكام القرآن، والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله ، وتمييزها مما لم يصح، والوقوف على الثقات من رواة الأخبار، وتمييزهم من غيرهم<<.
وقال في مكان آخر :
<< وإنما كتبنا كتابنا هذا للعامي والمبتدئ وتذكرة للعالم>>.
قلت : وهذه الكتب كلها حاشا " المحلى" ضاعت فيما ضاع من كنوز المسلمين في الأندلس، أعادها الله تعالى دار إسلام، إلا أن "المجلى" يمكن استخلاصه من "المحلى" نفسه، أما " الإيصال" فقد كمل به أبو رافع بن علي بن حزم "المحلى" مختصراً له.
قال جدنا العلامة، جزاه الله تعالى كل خير، عن "الإيصال":
<< هي موسوعة يتيمة، لم يسبق لها نظير ولا مثيل في تاريخ الإسلام، لا قبل ابن حزم ولا بعده، وإذا قال العز بن عبد السلام سلطان العلماء رحمه الله عن مختصر " الإيصال" : ("المحلى" لم يكتب في الإسلام مثله)، وضم إليه "المغني" لابن قدامة، فماذا يقول لو رأى "الإيصال"؟
وبلا شك لأفرده بقوله: لم يكتب في الإسلام مثله - على الأقل- ولما ضم إليه في الشبه والنظير لا "مغني" ابن قدامة ولا غيره من كتب أهل الأرض جميعاً >>.

4 - طبعات المحلى الموجودة

قال شيخنا الجد، أمتع الله به:
<< طبع "المحلى" لأول مرة بمطبعة النهضة بمصر، بدئ بطبعه سنة 347 وانتهى سنة 1256 في أحد عشر مجلداً، طبع في ورق جيد واعتنى بتصحيحه وتحقيق طبعه الشيخ محمد منير الدمشقي، رحمه الله.
وقد علق على هذه الطبعة وصححها وحققها صديقنا محدث مصر وحافظها أحمد محمد شاكر، رحمه الله، فكانت تعاليقه عامرة علماً وحديثاُ، يخرج يصحح ويضعف ويحيل إلى مراجع قيمة، ولكنه اعتذر عن متابعة ذلك في المجلد السادس ص 219، فطبعت باقي الأجزاء ناقصة تحقيقاً وتصحيحاً، ليس فيها تعاليق إلا نادراً، وفيها أخطاء مطبعية لا تحتمل أحياناً، فيها حذف كلمة وتصحيف أخرى، وتكثر تلك الأخطاء في المجلدات الثلاث الأخيرة: التاسع والعاشر والحادي عشر.
ولهذه الطبعة فهارس دقيقة عقب كل مجلد، يبلغ مجموعها نحواً من تسعين صفحة تدل على علم وفهم.
وطبع "المحلى" للمرة الثانية طبعة تجارية في مطبعة الإمام بمصر، أخذت تعاليق الطبعة الأولى وأخطاؤها، وقد زادت عليها أخطاء لعلها أكثر من الضعف، وعليها تعاليق أخرى للشيخ محمد خليل هراس، وليس للطبعة الثانية تاريخ<<. اهـ
قلت : والطبعة الأولى صورتها العديد من المكتبات وأعادت طبعها كدار الفكر ودار الآفاق الجديدة.
وللكتاب طبعة أخرى طبعتها دار الكتب العلمية بلبنان بتحقيق الدكتور محمد عبد الغفار البنداري وعليها تعليقات له وتخريجات للأحاديث.
وهذه الطبعة سيئة للغاية لأن التخريجات لا منهج لها فمرة يطيل التخريج بلا فائدة، ومرة أخرى يمر على الحديث والأثر بدون أن يتكلم عليه. ثم تعليقاته العلمية لا معنى لها في الغالب بل فيها تعليقات غير مستساغة.
وبالجملة فإن هذا الكتاب النفيس يحتاج إلى تحقيق جديد لعالم مجيد يخرج أحاديثه وآثاره ويدقق نصه ويرقم أحاديثه ترقيماً سيسهل الرجوع إليها والإحالة عليها، ويعلق على ما لابد له من تعليق، دون قصور في ذلك كله ولا طول ممل.
وأختم هذا الباب بقصة طريفة تدلك على مدى هجران الناس لهذا الكتاب النفيس تعصباً للمذاهب.
قال العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن صديقه إمام الشام العلامة محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) رحمه الله تعالى:
<< ومن عظيم همته أنه شد الرحال إلى البلاد الحجازية في غير موسم الحج للاطلاع على كتاب "المحلى" لابن حزم لعدم وجوده في دمشق. فدخل المكتبة العمومية في المدينة المنورة بعدما زار الحرم النبوي - على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم- وسلم على الرسول العظيم ()، وطلب من القيم الكتاب المذكور، فأجابه : إن هذا الكتاب ممنوع الإطلاع عليه، لأنه لا يتقيد بمذهب، ويأخذ بمن هو أقوى دليلاً من الأئمة.
فاحتال القاسمي على القيم وقال له: إنني أريد أن أناقشه وأرد عليه إذا اقتضى الأمر
فسُرَّ القيم، وقال له: على هذه النية أعطيك الكتاب.
 
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي



يتابع الشيخ الكتاني حديثه عن المحلى فيتحدث في هذا الباب عن ثلاثة مباحث اعتبرها هي زبدة رسالته هذه:
1- منهج المحلى
2-فقه المحلى.
3- الحديث رواية ودراية عند المحلى.


يقول:
1- منهج المحلى بالجملة
قال شيخنا الجد، سلمه الله : << فقه ابن حزم هو فقه القرآن وفقه السنة، وفقه الإجماع، لا فقه له غيره، ولا يدين الله بفقه سواه، ويرفض كل فقه عداه>>.
ويبدأ " المحلى" بمقدمة مختصرة يقول فيها:
<< أما بعد، وفقنا الله وإياكم لطاعته، فإنكم رغبتم أن نعمل للمسائل المختصرة التي جمعناها في كتابنا الموسوم ب "المحلى" شرحاً مختصراً أيضاً. نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار، ليكون مأخذه سهلاً على الطالب والمبتدئ، ودرجاً إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف، وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه، والإشراف على أحكام القرآن، والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله .. >>.
ثم افتتح الكتاب بكتاب التوحيد، حيث بين فيه عقيدته بدلائلها، ثم كتاب الأصول فبين فيه أصوله الفقهية التي شرحها في "الإحكام في أصول الأحكام" ولخصها في "النبذ".
وبعد ذلك يدخل على الترتيب الفقهي المعتاد بادئاً بكتاب الطهارة منتهياً إلى كتاب الحدود والتعزير.
ويفتتح ابن حزم كل كتاب من كتب "المحلى" بمسألة تلو مسألة. فيقول مسألة: ويذكر الحكم الذي يراه مجرداً ثم يستدل عليه بآية إن وجدت ثم يقول: قال أبو محمد أو قال علي، يعني نفسه، ولا أدري هل هذا من قوله أو من قول أحد تلاميذه.
ثم يبدأ الاستدلال بالحديث بذكر سنده وبالآثار السلفية الموافقة لما ذهب إليه والمخالفة له ويذكر دلائل أصحابها بالأسانيد المتصلة ويتكلم على إسنادها ورجالها.
ويقوي حجته كذلك بالأصول التي رسمها في البداية، ويطيل النفس في المسألة الواحدة حتى تبلغ الصفحات ذوات العدد ويعنف على المخالف خاصة المقلدين للأئمة لأنه يعتبرهم قد استبصروا الحق لكن أعماهم التقليد.
ولا يخفاك أن ابن حزم يحرم التقليد تحريماً باتّاً ويرى أنه بدعة منكرة حدثت بعد القرون الفاضلة، ولذلك تراه لا يفتأ يشتد نكيره على المقلدة للأئمة رحمهم الله تعالى.
ومما يجدر ذكره أن ابن حزم مات ولم يكمل "المحلى" فأكمله ولده أبو رافع الفضل، رحمه الله تعالى، وذلك من المجلد العاشر إلى آخر الكتاب، من المسألة رقم (2023) إلى (2308).
قال جدي، حفظه الله تعالى، في ذكر طريقة ابن حزم : <<وقد يذكره - الحديث- من طرق متعددة، وكلها مسندة، وقد يستدل بالإجماع، والإجماع عنده هو إجماع علماء كل عصر إذا لم يتقدم قبله في تلك المسألة خلاف. ويعني بالعلماء: المجتهدين الذين حفظت عنهم الفتيا..>>.
وقال، أمتع الله به : << لا يذكر فقهاً لأحمد إلا نادراً جداً، إذ أحمد عند الأندلسيين إمام في الحديث فقط، ومن ذلك كتاب الحافظ ابن عبد البر الأندلسي: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء"، وقد يذكر فقه من جاء بعد الثلاثة إلى منتصف القرن الخامس>>.
قلت : والتحقيق أن أحمد إمام في الحديث والفقه معاً وإن كان غلب عليه الأثر لشدة تعلقه بآثار الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وقد شهد له بالفقه والإمامة فيه شيخه الشافعي، رحمة الله عليهم أجمعين.
وممّا يجدر ذكره أن ابن حزم كان أديباً شاعراً من الطبقة الأولى، ويظهر ذلك من أسلوبه الماتع في مناقشته لأئمة العلم ومن مصطلحاته المنتقاة.
قال جدي، بارك الله فيه: << وفي ثنايا "المحلى" وبين مسائله صفحات في أدبها بلاغة وبياناً عن أدب الجاحظ وابن المقفع وإنها لجديرة بأن تجرد للطلاب في المدارس ليحتذوا حذوها، ولتكون لهم هادياً ومعلماً في الإنشاء والبيان والأدب>>.
وقال : << وابن حزم الأديب العنيف اللفظ والكلمة، حين يكون لفظه وتكون كلمته عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، يذوب رقة ولطفاً، وينقلب الأديب الحاني الظريف، فهو يكثر من ذكر الكلمات المهذبة، يصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاتاً وأعضاءً، مثل: بنفسي أفديه هو - صلى الله عليه وآله وسلم - بأبي وبأمي.. ووجهه المقدس .
ولا يذكر أحداً من الصحابة - رجلاً أو امرأة- إلا وترضّى عنه، فيقول: رضي الله عنه، ولا يذكر أحداً غيرهم من السلف الصالح إلا وترحم عليه، رجلاً كان أو امرأة >>.

2 - فقه المحلى
قال العلامة محمد أبو زهرة، رحمه الله تعالى :
<< لابن حزم فقه له لون خاص امتاز به، وله آراء فقهية ليست في فقه الأئمة الأربعة ولا غيرهم. وهو يتفق في كثير من الأحوال مع المنقول، وإنا نذكر مثلاً من هذه الآراء التي يخالف بها الأربعة:
إنه يرى أن تصرف المريض مرض الموت تبرعاً أو غير تبرع كتصرف الصحيح، لا فرق بينهما، ويرى أن تصدق المرأة من مال زوجها جائز، ويرى أيضاً أنه يجوز للقاضي أن يعدل في وصية أوصى بها شخص إذا كان فيها حيف وإثم، وأنه يجوز للقاضي أن ينفذ وصية بقدر معلوم لبعض أقارب المتوفى الضعاف الذين لا يرثون..
وابن حزم يخالف جمهور الفقهاء في مسألة مهمة من مسائل الطهارة فهو يقرر أنه يجوز للجنب والحائض والنفساء أن تمس المصحف وتقرأ القرآن الكريم، ويجوز بالأولى ذلك لغير المتوضئ، ويحاول أن يدحض كل الأدلة التي يسوقها الفقهاء في لإثبات تحريم ذلك >>.
قلت: وخالفهم في مسائل في الصلاة، ومنها أنه يبطلها بكل ما هو منهي عنه وإن لم يكن منها، وكذا الصيام والحج عنده يفسدان بالذنوب مطلقاً إن تعمدها صاحبها.
والمرأة عنده تصلي في الجماعة كالرجل ولها مثل أجره.
والحج عند ابن حزم مختلف في مفسداته عند الجمهور، وعنده أمور أخرى لا تفسد الحج ولا توجب فدية كقص الشعر والأظافر.
والزكاة عنده واجبة في أصناف معدودة من الزروع وهي ثلاثة: التمر والحنطة والشعير لا غير، وكذلك الربا لا يكون إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها.
وعند ابن حزم لا يطلق أحد من أحد، فلا يملك القاضي تطليق زوجة من زوجها إلا إذا صرح زوجها بطلاقها، ولو توصلنا إلى ذلك بضربه حتى الموت 
وعنده يجوز الزواج من الربيبة إذا لم تكن في حجر الرجل، ويحشد على ذلك أدلة من المنقول والمأثور.
وعنده أن النكاح لا يفسخ بالعيوب بحال.
وعنده أن الاحتياط في الفروج كما يكون بترك النكاح على حاله فإنه يكون بفسخه لأن في كليهما تحليل فرج حرام لمن يحرم عليه وتحريمه ممن يستحقه.ثم إن الطلاق في مرض الموت عنده واقع ولا ولا يعتبر ما يذكره غيره من المعاملة بالضد وتوريث الزوجة على ذلك.
وفي المواريث له اختيارات عديدة خالف فيها الجمهور، ومنها إنكاره للعول، ووجوب إعطاء الأقارب واليتامى عند القسمة.
أقول : وفي "المحلى" جملة وافرة مباركة من فقه آل البيت، عليهم السلام وفقه الصحابة والتابعين، وفقه أصحاب المذاهب المنقرضة والأئمة المجتهدين إلى عصر ابن حزم.
ولم يذكر في "المحلى" إلا مذهب مجتهد، أمّا من لم يخرج عن قول إمامه فإنه لا يعتد به ولا يدرجه في العلماء.
وكذلك اهتم ابن حزم في "المحلى" بذكر أقوال الأئمة الأربعة، وناقشهم بحجج قوية. قال جدي، سلّمه الله تعالى: << وقلّ أن تذكر فيه مسألة إلا وفيها من فقههم جميعاً، أو فقه واحد منهم أو اثنين>>.
قال : << ويمكن أن يجرد من "المحلى" مجلدان في فقه الأحناف والرد عليه، ، ومجلدان في فقه المالكية والرد عليه ومجلد في فقه الشافعي وداود بن علي وغيرهما والرد عليه.
أما فقه أحمد فليس في "المحلى" منه إلا قضايا محدودة، ومسائل محسوبة >>.
قال : << وفي مناقشته فقه الثلاثة والرد عليه يكون ابن حزم قاسياً عنيفاً مع الحنفية والمالكية، ويكون براً لطيفاً مع الشافعية، وأما الظاهرية فهم عنده أبعد الناس عن التقليد، فمن قلد أحداً ممن يدعى أنه منهم فليس منهم ولم يعصم أحداً من الخطأ >>.
قلت : وفي "المحلى" من فقه النساء شيء كثير في سائر الأبواب وقد لاحظت ملاحظة لم أقرأها في كتاب ذكرها قبلي - والله أعلم- أنه ما من مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مشدد على المرأة وميسّر فإن ابن حزم يسلك سبيل التيسير، وعنده أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما خصّه الدليل.
وهذه الملاحظة على سبيل الإجمال والأغلبية.
ويمكن أن أقول : إن العديد من المسائل التي يذكرها الكثير من المعاصرين المسلمين من العلماء والدعاة في حقوق المرأة والنص على التشديد عليها والعلاقة بينها وبين الرجل ومدى صلاحيتها، فإن لابن حزم في ذلك قصب السبق وكلامه فيه متين.
ولست صاحب هوى - إن شاء الله تعالى- لكن العديد من اختيارات ابن حزم أجدها قوية الحجة واضحة الدليل في هذا الباب. والله الموفق والهادي.
وأنظر إلى كثير من الفقهاء، خاصة المتأخرين منهم، فإنهم يلمح من كلامهم استنقاص المرأة والتحجير عليها مرة بحجة قصورها وأخرى بحجة سد الذرائع، وهذا ما لم أجده عند ابن حزم، بل الصالحات منهن عنده صالحات والفاسدات بحسب فسادهن، مثلهن في ذلك مثل الرجال. والله المؤيد.

3 - الحديث رواية ودراية عند المحلى

اتفق المترجمون لابن حزم أنه كان واسع الرواية جداً، حتى إنهم قارنوه بابن جرير الطبري في سعة محفوظه.
وفي "المحلى" من رواية ابن حزم المسندة شيء كثير في كل أبواب العلم، إلا أنها في المجلدات الأولى تكاد تكون أكثر، ولعله حصل له نوع ملل بعد ذلك من تطويل الإسناد في كل مرة، مع أنه ذكره في كتابه "الإيصال" كما بينت لك آنفاً.
هذا وقد خدم شيخنا الجد، أمتع الله به، هذا الإمام خدمة جليلة بأن جمع له " مسنده" مجرداً من "المحلى"، وأسأل الله تعالى أن ييسر له طبعه بمنه وكرمه. قال، سلمه الله :
<< وأحاديثه تعد بالألوف، جردت منه نحواً من سبعمائة حديث بسند ابن حزم إلى النبي  ، وإلى قائليها من الصحابة والتابعين. وهذه الأحاديث المسندة جردتها من أحاديثه المسندة إلى أربعة حفاظ أندلسيين، وهم أئمة الحديث في الأندلس، وهم في غرب ديار الإسلام كالبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي في شرق ديار الإسلام>>.
ثم قال: << وهذه الأحاديث تبلغ مجلداً، وهي بإسناد ابن حزم إلى أصحابها >>.
قلت : الأئمة الأربعة الذين ذكرهم جدي هم: بقي بن مخلد وقاسم بن أصبغ وأحمد بن خالد ومحمد بن أيمن وكلهم أندلسيون، وغلبت عليهم السنة والآثار، وأوذي بعضهم لأجل شيء من ذلك.
ثم قال جدي : << فمسند ابن حزم الذي جردته من "المحلى" بسنده إلى هؤلاء الأندلسيين الأربعة، أئمة العلم والحديث بالأندلس، قد ناقش بعض أحاديثه، وحاج في بعض رجالها، وسكت عن الأكثر مصححاً شن عليها جملة وتفصيلاً. وقد قال في "المحلى" : << وليعلم من قرأ كتابنا هذا أنّنا لم نحتجّ إلا بخبر صحيح، ومن رواية الثقات، مسند، ولا خالفنا إلا خبراً ضعيفاً مبيناً ضعفه أو منسوخه فأوضحنا نسخه>> >>.
قلت : إلا أن ابن حزم سريع إلى تضعيف الأحاديث، كأنه ظاهري في ذلك أيضاً، وله حكم على الرجال يخالفه فيه الأئمة. وقد جمع شيئاً من ذلك الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" وانتقده وبين خطأه.
قال الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي (ت 744 هـ): <<وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه وعلى أحوال الرواة >>.
و" المحلى" مليء بالأحاديث المتواترة لأنها عند ابن حزم ما رواه اثنان فأكثر يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب.
قال الجد : << في "المحلى" منه الكثير الطيب، وفيه نحو من ثمانين حديثاً، أو ثمانية وسبعون بالعد والحساب، منشورة بين صفحاته، وخلال جميع أجزائه إلا الأول فليس فيه من المتواتر حديث >>.
ثم بين، حفظه الله، أن أهل العلم مشرقاً ومغرباً اعتمدوا متواتر ابن حزم لكن قال إن الوصول إلى حديث واحد منها عزيز المنال، إذ يحتاج إلى مطالعة جزء كامل أو أقل أو أكثر.
ومما يستغرب أن ابن حزم قد يورد الحديث من طرق عديدة قد تصل إلى غايته ثم يبقى ضعيفاً عنده.
وعلى ذلك يمكن القول إنه من المتشددين في التصحيح وأنه يؤخذ بتصحيحه دون تضعيفه. والله أعلم.
يتبع إن شاء الله​

 
التعديل الأخير:
إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
نأتي أخيرا إلى خاتمة هذا الكتاب الماتع الذي الذي حلق بنا في حياة ابن حزم ومع مؤلفاته.


4 - تقويم المحلى ونقده
وهو خاتمة هذه الرسالة
وإذ قد وصلنا إلى هذه الخاتمة فلنبين مؤاخذات أهل العلم على "المحلى" بشيء من الإيجاز، على ما شرطنا في أول الرسالة. ويمكن أن نجمل أهم ما انتقده به ابن حزم في كتابه في مسألتين :
1- شدة عبارته على المخالف.
2- ظاهريته وجموده.
ولننقل بعض كلام الأئمة في نقد وتقويم هذا الإمام ثم نوضح ذلك بحول الله تعالى بإيجاز، والله المستعان في كل ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمة الله عليه، مقوماً ابن حزم في الاعتقاد والفقه والمنهج :
<< .. وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى.
وبمثل هذا صار يذم من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب، مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر.
وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كثير من كثرة الإطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء >>.
قلت : ما رأيت أحداً أعدل في كلامه على الرجال من ابن تيمية والذهبي، رحمهما الله تعالى.
وقال الإمام أبو عبد الله بن القيم، رحمه الله تعالى: << وأما أبو محمد فإنه على قدريبوسته وقسوته في التمسك بالظاهر وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة فوسّع هذا الباب جداً وضيق باب المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جداً، وهو من انحرافه في الطرفين>>.
وقال الإمام الذهبي، رحمه الله تعالى: << ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسبَّ وجدَّع فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت.. >>.
وقال: << وقد امتحن لتطويل لسانه في العلماء، وشرد عن وطنه، فنزل بقرية له ، وجرت له أمور، وقام عليه جماعة من المالكية >>.
وقال : << ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة، تقع له المسائل المحررة والمسائل الواهية كما يقع لغيره، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد امتحن هذا الرجل وشد عليه وشرد عن وطنه وجرت له أمور وقام عليه الفقهاء لطول لسانه واستخفافه بالكبار ووقوعه في أئمة الاجتهاد بأفج عبارة وأفظ محاورة وأيشع رد>>.
قلت : والإمام الذهبي كتاب اختصر فيه "المحلى" لكن لم نقع له أثر، ولعله هذّب عباراته واختصر أدلته، ولو وقع لنا لكان مفيداً في بابه، فالذهبي كان إماماً كم أئمة الحديث وحفاظه.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي، رحمه الله تعالى، عنه كلاماً قاسياً من أجل العقيدة، وقد أنصفه بعد ذلك بكلام حسن.
وقال قبل ذلك: << أبو محمد بن حزم من بحور العلوم، له اختيارات كثيرة حسنة، وافق فيها غيره من الأئمة، وله اختيارات انفرد بها في الأصول والفروع، وجميع ما انفرد به خطأ، وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه >>.
قلت : فتبين من هذا أنهم آخذوه على:
1 - مخالفته لاعتقاد السلف في مسائل.
وأقول : هذه المصيبة الكبيرة، والحرقة في القلب، ولست أدري كيف غفل هذا الإمام المحدث المادح لطريقة أهل الحديث عن منهجهم؟
ولكن الكمال لله تعالى، وقد رأيت كلام الأئمة في الرجل، فما ضللوه ولا بدعوه وإن كان قد وقع في بدع عظيمة ووافق الجهمية في أمور، لكنّه لما كان مجتهداً معظّما للسنة وأهلها كان معذوراً، إن شاء الله، والله يغفر له بحسناته وحبه للحق ونصرته لله ورسوله  ، ويكفر عنه بمحنته التي أصيب بها.
2 - أما عنفه في الرد.
فقال جدي، سلمه الله: " وابن حزم مواطن أندلس، والإنسان ابن بيئته بالطبع كما يقول ابن خلدون، فالأندلسيون كالمغاربة اعترفوا من قديم: بأن في طباعهم وفي خلقهم شكاسة، فإذا أرادوا أن يصفوا لطيفاً من بينهم، وادع النفس سمحها قالوا: هو على رقة أهل المشرق>>.
ثم قال: << نعم  حدة ابن حزم سليمة الطوية، طيبة العاقبة، وهي منه صلابة في الدين، وغيرة على الحق سرعان ما يرجع بعدها ويفيء إلى الموادعة والمؤانسة فأبو حنيفة ومالك والشافعي عم عنده - كما عند الناس- أئمة هدى وخير مجتهدون مأجورون على أي حال ناصحون للإسلام والمسلمين يدعو لهم برحمة الله ورضوان>>.
ثم نقل عنه ما يدل على ذلك.
ويرجع محمد أبو زهرة حدة ابن حزم لسببين:
1- الظلم الذي وقع عليه وعدم إعطائه حقه في المجتمع، مع سعة علمه.
2- ما ذكره هو نفسه في "مداواة النفوس" من أنه مرض بربو في الطحال شديد مما جعله ضيق الخاطر ضجراً، حتى إنه نفسه أنكر تبدل خلقه.
3- شاعرية ابن حزم مما تجعله مرهف الحس صادق الفراسة قوي الإحساس وأختم كلامي بكلام شيخنا الجد، سلمه الله تعالى، في نقد "المحلى" قال حفظه الله وشافاه:
<< ففي "المحلى" ثلاثمائة وألف مسألة ونيف، فإذا أخطأ في بضع عشرات منها أو أدنى فهذا لا يشين الكتاب، بل يزينه، فالإنسان خطاء بالطبع، والعصمة ليست إلا للأنبياء.
فابن حزم بنى ما مضى له من مذهبه فيتناقض ويكتب غيره.
ويستدرك المسألة فيذكرها وهو ناسي أنه قد ذكرها قبل، فيعود إلى ذكرها.
ويرجع عن الحكم في آخر المسألة بعد أن يكون قد في أولها خلافه.
ويتمحل الاحتجاج لرأي ويتكلف البراهين لتدعيمه.
ويتقعر في الاستنباط ويتعسف ويبعد النجعة.
ويجمد على الظاهر ويلغي المعاني البينة والعلل الواضحة.
ويقع في القياس، ومذهبه قائم على أن القياس بدعة لا تجوز، وهو لا يشعر، ويحكي عن المذهب الشيء وضده في مسألة واحدة وفي مسائل متباعدة.
ولاين حزم شواذ في فقهه، ومسائل واهية لا يمكن قبولها.
والفضل أبو رافع قد يحيل في التكملة التي أتم بها "المحلى" من كتاب "الإيصال" لأبيه على مسألة ستأتي في باب، وهذه المسألة إحالتها في "الإيصال" لا في "المحلى" فيبقيها في التكملة على ما هي عليه في الإيصال، وينسى أن يحذفها، فتبقى الإحالة في "المحلى" وليس بينها وبين آخر الكتاب إلا ورقات، وهي غير موجودة فيه>>.
3 - وأما ظاهرية ابن حزم فما ذكره ابن تيمية صحيح، لكن لك من كلام الشوكاني أنها في مسائل معدودة، وبالله التوفيق.
وهذا آخر ما تيسر لي الآن في الكتابة عن "المحلى"، فقد بان أنه لا يستغني عنه عالم، وتحتاج إليه كل مكتبة.
رزقنا الله العمل بالكتاب والسنة في كل كبيرة وصغيرة وجليلة ودقيقة، وحشرنا مع إمام السنة حبيبنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ، نفسي له الفداء وأبي وأمي. والحمد لله رب العالمين.
وكتبه الحسن بن علي بن المنتصر بن الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي الحسني عفا الله عنه في مدينة عمان من بلاد الأردن 6 ذي الحجة الحرام سنة 1416 هـ.
 
أعلى