الباب الأول
1 - ترجمة موجزة لأبي محمد بن حزم.
هو الإمام المحدث الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل الأندلسي القرطبي الأموي مولاهم.
ولد بقرطبة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وسمع من جماعة بعدما تربّى وتأدب وسمع الشعر وتعلم القراءة والكتابة على يد النساء.
فسمع من أبن وجه الجنة وابن الجسور وحمام بن أحمد القاضي وأبي عمر الطلمنكي ناصر السنة، وتدبج مع حافظ المغرب أبي عمر بن عبد البر، رحمهم الله تعالى.
وحدث عنه ولده الشهيد أبو رافع والحافظ أبو عبد الله الحميدي صاحب " جذوة المقتبس" وغيرهما.
وقد عاش ابن حزم أول حياته مترفاً منعماً في قصر الوزارة، إذ كان والده وزيراً في دولة المنصور بن أبي عامر أواخر الدولة المروانية بالأندلس، وخلف هو والده كذلك في الوزارة، ثم زهد في كل ذلك وانصرف بكليته للعلم والدعوة إلى العمل به.
ولم يقتصر على العلوم الشرعية بل طلب علوم الأوائل كذلك. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: >> وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك>>.
وقال: >> قيل إنه تفقه أولاً للشافعي ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب>>.
وأول سماعه من أبي عمر أحمد بن الجسور في حدود سنة 400 هـ وهي السنة التي يتأهل فيها الطالب لأخذ العلم بعد حفظه للقرآن وتأدبه.
قال جدي، سلمه الله تعالى: >> فتكون السن التي ابتدأ فيها ابن حزم دراسة الحديث والفقه هي عمر الغلام اليافع: سن الخامسة عشرة وأين هذا من عمر رجل في الثامنة والعشرين؟ وإن بين السنين والعمرين لمفاوز تتيه فيها القطا، ويعيش فيها جيل >>.
قلت : وإنما ذكرت هذا ردّاً على من زعم أنه ما طلب العلم إلا عن كبر لقصة ذكروها في ذلك ليس هذا مجال إيرادها.
وقال العلامة أبو زهرة، رحمه الله تعالى، بعد كلام عن طلب ابن حزم للعلم: << لذلك لا نستطيع أن نقبل مثل هذه الأخبار كابتداء لتعلم ابن حزم الفقه، لأنها في ذاتها موضع نظر، لأنها تناقض سياق حياته، ولأنها فيما يظهر قد دخلها التصحيف>>. وأطال الكلام، رحمه الله تعالى، في توجيه مسألة بداية طلب ابن حزم للعلم بما لم يسبق إليه.
هذا، وقد أوذي ابن حزم بسببين : سياسي وعلمي.
فأما السياسي فلمناصرته للدولة الأموية المروانية بالأندلس وتأييده لشرعيتها بالأدلة الشرعية، فنقم عليه ملوك الفتنة والطوائف وانتقل من سجن لآخر في محن طويلة ذكر هو نفسه طرفاً منها في "طوق الحمامة".
وأمّا العلمي فلمخالفته لفقهاء المالكية المقلِّدين، وتشنيعه عليهم وتشدده في ذلك، بل بلغ به الحال في ذمِّه للتقليد الذي كان قد انتشر في زمانه انتشاراً كبيراً أن عنف على المتقدمين والمعاصرين.
قال الذهبي : << ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسبَّ وجدَّع فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت..>>.
واتهم ابن حزم أعداؤه بأنه لم يتأدب على المشايخ ولم يأخذ العلم على أهله، وبأنه كان به مرض عصبي. وكل ذلك من تعصبهم عليه، ولعمر الله أي تربية وتأديب خير من تأديب النساء الناعمات إلى عمر البلوغ، ثم إنه معروف أنه كان لابن حزم شيخ مؤدب يدعى الفارسي.
هذا ناهيك عن مشيخته الذين روى عنهم وتفقه على يدهم كل واحد منهم إمام في العلم والعمل.
قال رحمه الله تعالى:
قالـــــــوا تحفَّظْ فإن الناس قد كثـُـرت........أقـوالـهـم، وأقاويل الــورى مـِحــــــنُ
فقـلـت: هــــل عيبهم لي غـير أنـّـيَ لا......أقـول بالــرأي إذ في رأيهــم فـــــتــــنُ
وأننـي مـولـع بالـنـصِّ لـسـت إلــــــــــــى......سواه أنـحـو ولا فـي نصــــــره أهِـنُ
لا أنـْثـَنـي لـمـقايـيـسٍ يـقـال بــهـــــــــــــــا.......في الدين بل حسبيَ القرآنُ والسـننُ
يا برد ذا القول في قلبي وفي كبــــــــدي...... ويا سـروري به لـو أنهـم فـطِنـــــــوا
دعهم يعضُّوا على صَمّ الحصى كمداً...... من مات مِن قوله عندي له كفــــنُ*
وأقول : سأناقش بحول الله تعالى عنف ابن حزم في نقد "المحلى". والله المستعان.
وإذا كان أعداء ابن حزم حُرموا معرفة حقّه وقدره، فقد عرفه المنصفون وأتباع الحق.
قال أبو حامد الغزالي، حجة الإسلام رحمه الله تعالى، <<وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً ألفه أبو محمد ابن حزم، يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه>>.
وقال تلميذه وحامل راية مذهبه من بعده الحافظ الحميدي: << كان ابن حزم حافظاً للحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه>>.
وقال أبو القاسم صاعد بن أحمد: << أقبل على علوم الإسلام حتى نال من ذلك ما لم ينله أحد بالأندلس قبله >>.
ووصفه الحافظ الذهبي ب<< الإمام الأوحد، البحر ذو الفنون والمعارف، أبو محمد >>. وقال: << كان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة ومصنفاته مفيدة. وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكِبّاً على العلم.. >>.
وقال اليسع الغافقي: << أما محفوظه فبحر عجاج، وماء ثجاج، يخرج من بحره مروج الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين وأربى على أهل كل دين >>.
ووصفه الحافظ ابن حجر بأنه : << كان واسع الحفظ جداً >>.
قلت: ولم يخرج ابن حزم من الأندلس، ولو خرج لكان له أمر آخر، قال رحمه الله:
أنــــا الشمــس في جو العـــلوم مـنــيرةٌ..........لكـنَّ عيــبي أن مـطـلــــعيَ الـــغــــــــــربُ
ولــو أنـني مـن جـانـب الـشـرق طــالعٌ .........لجـدّ عـلي ما ضـاع مـن ذكـرىَ النـهْبُ
ولي نـحوَ أكـنـاف العـــــراق صَـــبابــةٌ......... ولا غروَ أن يستوحش الكَلِفُ الصـبُّ
فـإن نــزَّلَ الرحمـن رحــليَ بيـنــهـــــــم........ فـحـيـنـئذ يـــبـدو التأسـف والـــكـَــرْبُ
هـــنالك يُـــــــدري أن للبـعـد قـصـــةً...........وأن كــــــسـاد الـــعــلـم آفـتُـهُ الـــــقُــــرْبُ
قلت : رحمك الله يا أبا محمد، صدقت في قولك، ولكن الله تعالى علم جميل قصدك فوفق من أراد به الخير للاستفادة من كتبك.
ولابن حزم مصنفات حافلة في جملة من العلوم بلغت حوالي الأربعمائة. أهمها: " الإحكام في أصول الأحكام" و" الفصول في الملل والنحل" و" الإيصال" و" المحلى" وكتب عديدة في الرد على اليهود والنصارى والدفاع عن الإسلام بأقوى حجة.
وتوفي رحمه الله تعالى في بادية لبلة منفياً مكباً على العلم سنة 456هـ. رضوان الله تعالى عليه.
يتبع إن شاء الله